المَطْلَب السَّادِسُ: عُيُونُ الجَنَّةِ
قال
ابنُ كَثيرٍ: (قَد وصَفَ اللهُ سُبحانَه عُيُونَ الجَنَّةِ بكَثرةِ الجَريانِ، وأنَّ أهلَ الجَنةِ حيثُ شاءُوا فجَّرُوها، أيِ استَنبَطُوها، وفي أيِّ المَحالِّ أحَبُّوا نَبعَت لَهمُ العُيُونُ بفُنُونِ المَشارِب والمياهِ)
[4582] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (20/ 303). .
قال اللهُ تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الحجر: 45] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (العُيُونُ: عُيُونُ الماءِ المُطَّرِد في أُصولِ أشجارِ الجَناتِ)
[4583] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 64). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات: 41] .
قال
السَّعْديُّ: (
وعُيُونٍ جاريةٍ مِنَ السَّلْسَبيلِ والرَّحيقِ وغيرِهما)
[4584] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 905). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ في وصفِ الجَنتينِ اللَّتينِ أعَدَّهما لِمَن خاف مَقامَ رَبِّه:
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن: 50].
قال
السَّمعاني: (هما التَّسنيمُ والسَّلْسَبيلُ، وعَن بَعضِهم: تَجريانِ بكُلِّ خيرٍ وبركةٍ)
[4585] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 334). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ أي: تَسرَحانِ لِسَقيِ تِلكَ الأشجارِ والأغصانِ، فتُثْمِرُ مِن جَميعِ الألوانِ،
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قال
الحَسَنُ البَصْريُّ: إحداهما يُقالُ لَها: تَسنيمٌ، والأُخرى السَّلْسبيلُ)
[4586] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 503). .
وقال اللهُ تعالى في وَصفِ الجنَّتينِ اللَّتينِ دونَهما:
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن: 66].
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه في هاتينِ الجَنَّتينِ اللَّتينِ مِن دُونِ الجَنَّتينِ اللَّتينِ: هما لِمَن خافَ مَقامَ رَبِّه، عينانِ نَضاخَّتانِ، يَعني فوَّارَتانِ، واختَلَفَ أهلُ التَّأويلِ في المَعنى الَّذي تَنضَخانِ به. فقال بَعضُهم: تَنضَخانِ بالماءِ... وقال آخَرُونَ: بَل مَعنى ذَلِكَ أنَّهما مُمتَلِئَتانِ... وقال آخَرُونَ: تَنضَخانِ الماءَ والفاكِهةَ... وقال آخَرُونَ: نَضَّاخَتانِ بألوانِ الفاكِهةِ... وقال آخَرُونَ: نَضَّاخَتانِ بالخيرِ... وأَولى الأقوالِ في ذَلِكَ بالصَّوابِ قَولُ مِن قال: عُنِيَ بذَلِكَ أنَّهما تَنضَخانِ بالماءِ، لِأنَّه المَعرُوفُ بالعُيُونِ إذ كانَت عُيُونَ ماءٍ)
[4587] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 258-260). .
وقال
السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى:
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ أي: فوَّارَتانِ، والنَّضْخُ فوقَ النَّضحِ ودُونَ الجَريِ. ويُقالُ: نَضَّاخَتانِ بالعَنبَرِ والمِسْكِ)
[4588] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 337). .
والمَنصُوصُ عليه أنَّ في الجَنَّةِ ثَلاثةَ عُيُونٍ يَشرَبُ المُقَرَّبُونَ ماءَها صِرفًا غيرَ مَخلُوطٍ، ويَشرَبُ مِنها الأبرارُ الشَّرابَ مَخلُوطًا مَمزُوجًا بغيرِه.العينُ الأُولى: عينُ الكافُورقال اللهُ تعالى:
إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 5-6] .
قال
الزَّمَخشَريُّ: (
مِزَاجُهَا ما تُمزَجُ به
كَافُورًا ماءَ كافُورٍ، وهو اسمُ عينٍ في الجَنةِ، ماؤُها في بياضِ الكافُورِ ورائِحَتِه وبَردِه)
[4589] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/667). .
وقال
ابنُ الجَوزي: (
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي: مِن إناءٍ فيه شَرابٌ
كَانَ مِزَاجُهَا يَعني: مِزاجَ الكَأسِ
كافُورًا وفيه ثَلاثةُ أقوالٍ:
أحَدُها: أنَّه الكافُورُ المَعرُوفُ... فعلى هذا في المُرادِ «بالكافُور» ثَلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: بَردُه... والثَّاني: ريحُه... والثَّالِثُ: طَعمُه...
والثَّاني: أنَّه اسمُ عينٍ في الجَنةِ...
والثَّالِثُ: أنَّ المَعنى: مِزاجُها كالكافُور لِطيبِ ريحِه...
قَولُه عَزَّ وجَلَّ:
عَيْنًا قال الفَرَّاءُ: هي المُفَسِّرةُ لِلكافُور، وقال الأخفَشُ: هي مَنصُوبةٌ على مَعنى: أعني عينًا. وقال
الزَّجَّاجُ: الأجودُ أن يَكُونَ المَعنى: مِن عينٍ...
وفي هذه العَينِ قَولانِ:
أحَدُهما: أنَّها الكافُورُ الَّذي سَبَقَ ذِكرُه. والثَّاني: التَّسنيمُ.
وعِبَادُ اللهِ هاهنا: أولياؤُه يُفجِّرُونَها تَفجيرًا، قال مُجاهِدٌ: يَقُودُونَها إلى حيثُ شاؤُوا مِنَ الجَنَّةِ. قال الفرَّاءُ: حيثُ ما أحَبَّ الرَّجُلُ مِن أهلِ الجَنَّةِ فجَّرها لِنَفسِه)
[4590] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 375). .
وقال ابنُ عَطيةَ: (قَولُه تعالى:
عينًا هو بَدَلٌ مِن قَولِه:
كافُورًا)
[4591] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/409). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (قال
يَشرَبُ بِهَا ولَم يَقُل: يَشرَبُ مِنها؛ لِأنَّه ضمَّنَ ذَلِكَ قَولَه: يَشرَبُ، يَعني: يَروى بها؛ فإنَّ الشَّارِبَ قَد يَشرَبُ ولا يَروى، فإذا قيلَ: يَشرَبُونَ مِنها، لَم يَدُلَّ على الرِّيِّ، فإذا قيلَ يَشرَبُونَ بها، كانَ المَعنى يَروَونَ بها؛ فالمُقَرَّبُونَ يَروَونَ بها فلا يَحتاجُونَ مَعَها إلى ما دُونَها؛ فلِهذا يَشرَبُونَ مِنها صِرفًا، بخِلافِ أصحابِ اليَمينِ؛ فإنَّها مُزِجَت لَهم مَزْجًا، وهو كَما قال تعالى في سُورةِ الإنسانِ:
كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بها عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا فعِبادُ الله همُ المُقَرَّبُون المَذكُورُون في تِلكَ السُّورةِ)
[4592] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 178). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا وقَد عُلِمَ ما في الكافُور مِنَ التَّبريدِ والرَّائِحةِ الطَّيبةِ، مَعَ ما يُضافُ إلى ذَلِكَ مِنَ اللَّذاذةِ في الجَنةِ. قال الحَسَنُ: بَردُ الكافُور في طيب الزَّنجَبيلِ؛ ولِهذا قال:
عَيْنًا يَشْرَبُ بها عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا أي: هذا الَّذي مُزجَ لِهَؤُلاءِ الأبرارِ مِنَ الكافُور هو عينٌ يَشرَبُ بها المُقَرَّبُونَ مِن عِبادِ الله صِرفًا بلا مَزجٍ ويَروَونَ بها؛ ولِهذا ضَمَّنَ يَشرَبُ يَروى، حَتَّى عَداه بالباءِ، ونُصِب
عَيْنًا على التَّمييزِ.
قال بَعضُهم: هذا الشَّرابُ في طِيبِه كالكافُور.
وقال بَعضُهم: هو مِن عينِ كافُورٍ.
وقال بَعضُهم: يَجُوزُ أن يَكُونَ مَنصُوبًا بـ
يَشْرَبُ...
وقَولُه:
يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا أي: يَتَصَرَّفُونَ فيها حيثُ شاؤُوا وأينَ شاؤُوا، مِن قُصُورِهم ودُورِهم ومجالِسِهم ومَحالِّهم)
[4593] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 287). .
وقال
السَّعْديُّ: (أخبَرَ أنَّهم
يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي: شَرابٍ لَذيذٍ مِن خَمرٍ قَد مُزِجَ بكافُورٍ، أي: خُلِطَ به ليُبرِّدَه ويَكسِرَ حِدَّتَه، وهذا الكافُور في غايةِ اللَّذَّةِ قَد سَلِمَ مِن كُلِّ مُكَدِّرٍ ومُنغِّصٍ مَوجُودٍ في كافُورِ الدُّنيا؛ فإنَّ الآفةَ المَوجُودةَ في الأسماءِ الَّتي ذَكَرَ اللهُ أنَّها في الجَنةِ، وهي في الدُّنيا، تُعدَمُ في الآخِرةِ. كَما قال تعالى:
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنضُودٍ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ.
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ أي: ذَلِكَ الكَأسُ اللَّذيذُ الَّذي يَشرَبُونَ به لا يخافُونَ نَفادَه، بَل لَه مادَّةٌ لا تَنقَطِعُ، وهي عينٌ دائِمةُ الفيضانِ والجَريانِ، يُفجِّرُها عِبادُ اللهِ تَفجيرًا أنَّى شاؤوا، وكيفَ أرادُوا، فإنْ شاؤوا صَرفُوها إلى البَساتينِ الزَّاهراتِ، أو إلى الرِّياضِ النَّاضِراتِ، أو بينَ جَوانِبِ القُصُورِ والمَساكِنِ المُزَخْرَفاتِ، أو إلى أيِّ جِهةٍ يرَونَها مِن الجِهاتِ المُونِقاتِ)
[4594] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 901). .
العَينُ الثَّانيةُ: عَينُ السَّلسَبيلِقال اللهُ تعالى:
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان: 17-18] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: عينًا في الجَنَّةِ تُسَمَّى سَلسبيلًا. قيلَ: عُنيَ بقَولِه:
سَلْسَبِيلًا: سَلِسةً مُنقادًا ماؤُها... وقال آخَرُونَ: عُنِيَ بذَلِكَ أنَّها شَديدةُ الجَرْيَةِ)
[4595] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 561). .
وقال
السَّمعاني: (يُقالُ: إنَّ السَّلْسبيلَ هي عينُ الزَّنجَبيلِ أيضًا، ونُصِبَ على المَدْحِ، ومَعناه: أعني عينًا.
وقَولُه:
تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أي: سَلْسَبيلَ الجَريِ في حُلُوقِهم.
وفي بَعضِ الآثارِ: أنَّها إذا أُدنيتَ مِن أفواههم تَسَلسلَت في حُلُوقِهم...
وروى سُفيانُ عَنِ ابنِ أبي نجيحٍ عَن مُجاهدٍ قال: سَلْسبيلًا، أي: شَديدةُ الجَرْيِ.
وقال قَتادةُ: سَلِسةً، أي: تَجري في حُلُوقِهم على غايةِ السُّهولةِ.
وقال ثَعلَبٌ: سَلْسَبيلًا، أي: لَيِّنًا... وفي قَولِه:
كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا كَلامٌ آخَرُ، وهو أنَّه تُمزَجُ لِسائِرِ أهلِ الجَنَّةِ، ويَشرَبُه المُقَرَّبُونَ صِرفًا، وهو مِثلُ التَّسنيمِ على ما يَأتي مِن بُعدُ... وقيلَ في السَّلْسبيلِ أيضًا: إنَّه يَسيلُ عليهم في قُصُورِهم وغُرفِهم وعلى مَجالِسِهم)
[4596] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/ 119). .
وقال
ابنُ القيِّمِ: (أخبَرَ سُبحانَه عَن مِزاجِ شَرابهم بشيئينِ؛ بالكافُور في أولِ السُّورةِ، والزَّنجَبيلِ في آخِرِها؛ فإنَّ في الكافُور مِنَ البَردِ وطيبِ الرَّائِحةِ، وفي الزَّنجَبيلِ مِنَ الحَرارةِ وطيبِ الرَّائِحةِ ما يَحدُثُ لَهم باجتِماعِ الشَّرابينِ ويَجيءُ أحَدُهما على أثَرِ الآخَرِ حالةً أُخرى أكمَلَ وأطيبَ وألَذَّ مِن كُلٍّ مِنهما بانفِرادِه، ويُعَدَّلُ كيفيَّةُ كُلٍّ مِنهما بكيفيَّةِ الآخَرِ، وما ألطَفَ مَوقِعَ ذِكرِ الكافُور في أولِ السُّورةِ، والزَّنجَبيلِ في آخِرِها؛ فإنَّ شَرابَهم مُزِجَ أولًا بالكافُورِ، وفيه مِنَ البَردِ ما يَجيءُ الزَّنجَبيلُ بَعدَه فيُعَدِّلُه.
والظَّاهِرُ أنَّ الكَأسَ الثَّانيةَ غيرُ الأُولى، وأنَّهما نَوعانِ لَذيذانِ مِنَ الشَّرابِ.
أحَدُهما مُزجَ بكافُورٍ، والثَّاني مُزِجَ بزِنجَبيلٍ، وأيضًا فإنَّه سُبحانَه أخبَر عَن مَزجِ شَرابهم بالكافُورِ وبَردِه في مُقابَلةِ ما وصَفَهم به مِن حَرارةِ الخَوفِ والإيثارِ والصَّبرِ والوفاءِ بجَميعِ الواجِباتِ الَّتي نَبَّه على وفائِهم بأضعَفِها، وهو ما أوجَبُوه على أنفُسِهم بالنَّذرِ على الوفاءِ، بأعلاها وهو ما أوجَبَه الله عليهم؛ ولِهذا قال:
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا؛ فإنَّ في الصَّبرِ مِنَ الخُشُونةِ وحَبسِ النَّفسِ عَن شَهواتِها ما اقتَضى أن يَكُونَ في جَزائِهم مِن سَعةِ الجَنةِ ونَعُومةِ الحَريرِ ما يُقابلُ ذَلِكَ الحَبسَ والخُشُونةَ، وجَمعَ لَهم بينَ النَّضرةِ والسُّرُورِ، وهذا جمالُ ظَواهرِهم، وهذا حالُ بواطِنِهم، كَما جَمَّلُوا في الدُّنيا ظَواهِرَهم بشَرائِعِ الإسلامِ، وبواطِنَهم بحَقائِقِ الإيمانِ)
[4597] يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 185). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه:
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا أي: ويُسْقَونَ -يَعني الأبرارَ أيضًا- في هذه الأكوابِ
كَأسًا أي: خَمرًا،
كانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا فتارةً يُمزَجُ لَهمُ الشَّرابُ بالكافُورِ وهو بارِدٌ، وتارةً بالزَّنجَبيلِ وهو حارٌّ؛ ليَعتَدِلَ الأمرُ، وهَؤُلاءِ يُمزَجُ لَهم مِن هذا تارةً ومِن هذا تارةً. وأمَّا المَقَرَّبُونَ فإنَّهم يَشرَبُونَ مِن كُلٍّ مِنهما صِرفًا، كَما قاله قَتادةُ وغيرُ واحِدٍ. وقَد تقَدَّم قَولُه:
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ، وقال هاهنا:
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أي: الزَّنجَبيلُ عينٌ في الجَنةِ تُسَمَّى سَلْسبيلًا. قال عِكرِمةُ: اسمُ عينٍ في الجَنَّةِ. وقال مُجاهِدٌ: سُمِّيَت بذَلِكَ لِسَلاسةِ سَيْلِها وحِدَّةِ جَرْيِها. وقال قَتادةُ:
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا عينٌ سَلِسةٌ مُستَقيدٌ ماؤُها. وحَكى
ابنُ جَريرٍ عَن بَعضِهم أنَّها سُمِّيَت بذَلِكَ لِسَلاسَتِها في الحَلقِ. واختارَ هو أنَّها تَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّه، وهو كَما قال)
[4598] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 291). .
العَينُ الثَّالِثةُ: عينُ التسنيمِقال اللهُ سُبحانَه:
إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين: 22-28] .
وقال
ابنُ جَريرٍ: (يَقُولُ تعالى ذِكرُه: ومِزاجُ هذا الرَّحيقِ مِن تَسنيمٍ، والتَّسنيمُ: التَّفعيلُ مِن قَولِ القائِلِ: سَنَّمتُهمُ العينَ تَسنيمًا: إذا أجريتَها عليهم مِن فوقِهم، فكانَ مَعناه في هذا المَوضِعِ: ومِزاجُه مِن ماءٍ يَنزِلُ عليهم مِن فوقِهم فيَنحَدِرُ عليهم. وقَد كانَ مُجاهِدٌ والكَلبيُّ يَقُولانِ في ذَلِكَ كَذَلِكَ... وأمَّا سائِرُ أهلِ التَّأويلِ، فقالُوا: هو عينٌ يُمزَجُ بها الرَّحيقُ لِأصحاب اليَمينِ، وأمَّا المُقَرَّبُونَ فيَشرَبُونَها صِرفًا)
[4599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 220). .
وقال
القُرطُبيُّ: (
وَمِزَاجُهُ أي: ومِزاجُ ذَلِكَ الرَّحيقِ
مِنْ تَسْنِيمٍ وهو شَرابٌ يَنصَبُّ عليهم مِن عُلوٍ، وهو أشرَفُ شَرابٍ في الجَنةِ. وأصلُ التَّسنيمِ في اللُّغةِ: الِارتِفاعُ، فهي عينُ ماءٍ تَجري مِن عُلوٍ إلى أسفَلَ، ومِنه سَنامُ البَعيرِ؛ لِعُلُوه مِن بَدَنِه، وكَذَلِكَ تَسنيمُ القُبُورِ... وقيلَ: التَّسنيمُ عينٌ تَجري في الهَواءِ بقُدرةِ الله تعالى، فتَنصَبُّ في أواني أهلِ الجَنَّةِ على قَدرِ مائِها، فإذا امتَلَأتْ أُمسِكَ الماءُ، فلا تَقَعُ مِنه قَطرةٌ على الأرضِ، ولا يَحتاجُونَ إلى الِاستِقاءِ، قاله قَتادةُ. ابنُ زيد: بَلَغَنا أنَّها عينٌ تَجري مِن تَحتِ العَرْشِ... عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
أي: يَشرَبُ مِنها أهلُ جَنَّةِ عَدَنٍ، وهم أفاضِلُ أهلِ الجَنَّةِ، صِرفًا، وهي لِغَيرِهم مِزاجٌ) [4600] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/ 266). .وقال ابنُ جُزَيٍّ: (
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ تَسنيمٌ: اسمٌ لِعينٍ في الجَنةِ، يَشرَبُ مِنها المُقَرَّبُونَ صِرفًا، ويُمزَجُ مِنه الرَّحيقُ الَّذي يَشرَبُ مِنه الأبرارُ، فدَلَّ ذَلِكَ على أنَّ دَرَجةَ المُقَرَّبينَ فوقَ دَرَجةِ الأبرارِ، فالمُقَرَّبُونَ همُ السَّابقُونَ، والأبرارُ هم أصحابُ اليَمينِ)
[4601] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 462). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه:
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ أي: ومِزاجُ هذا الرَّحيقِ المَوصُوفِ مِن تَسنيمٍ، أي: مِن شَرابٍ يُقالُ لَه تَسنيمٌ، وهو أشرَفُ شَرابِ أهلِ الجَنَّةِ وأعلاه. قاله أبُو صالِحٍ والضَّحَّاكُ؛ ولِهذا قال:
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي: يَشرَبُها المُقَرَّبونَ صِرفًا، وتُمزَجُ لِأصحابِ اليَمينِ مَزجًا. قاله
ابنُ مَسعُودٍ، و
ابنُ عَبَّاسٍ، ومَسرُوقٌ، وقَتادةٌ، وغيرُهم)
[4602] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 353). .
وقال
السَّعْديُّ: (مِزاجُ هذا الشَّراب مِن تَسنيمٍ، وهي عينٌ
يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرفًا، وهي أعلى أشرِبةِ الجَنَّةِ على الإطلاقِ؛ فلِذَلِكَ كانَت خالِصةً لِلمُقَرَّبِينَ الَّذينَ هم أعلى الخَلقِ مَنزِلةً، ومَمزُوجةً لِأصحاب اليَمينِ، أي: مَخلُوطةً بالرَّحيقِ وغيرِه مِنَ الأشرِبةِ اللَّذيذةِ)
[4603] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 916). .