المَبحَثُ الثَّالثُ: إنكارُ الكُتُبِ المُنَزَّلةِ أو شَيءٍ منها أو الاسْتِهْزاءُ بها
الإيمانُ بالكُتُبِ المنَزَّلةِ من عندِ اللهِ على رُسُلِه عليهم السَّلامُ أحدُ أركانِ الإيمانِ.
قال اللهُ تعالى:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] .
وقال اللهُ سُبحانَه:
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [آل عمران: 84] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (أرشد اللهُ تعالى عبادَه المؤمنين إلى الإيمانِ بما أُنزِلَ إليهم بواسِطةِ رَسولِه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مفصَّلًا، وبما أُنزِلَ على الأنبياءِ المتقَدِّمين مجمَلًا، ونصَّ على أعيانٍ مِن الرُّسُلِ، وأجمَلَ ذِكرَ بقيَّةِ الأنبياءِ، وألَّا يُفَرِّقوا بين أحَدٍ منهم، بل يُؤمِنون بهم كُلِّهم)
[2159] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 448). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 136] .
قال
ابنُ جريرٍ: (
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ؛ فإنَّكم قد عَلِمْتُم أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ تَجِدون صِفَتَه في كُتُبِكم
وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ الذي تَزعُمون أنَّكم به مؤمنون، فإنَّكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمُحَمَّدٍ مُكَذِّبون؛ لأنَّ كِتابَكم يأمُرُكم بالتصديقِ به وبما جاءكم به، فآمِنوا بكِتابكم في اتِّباعِكم مُحَمَّدًا، وإلَّا فأنتم به كافِرون)
[2160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/595). .
وقال
السَّعديُّ في تفسيرِ هذه الآيةِ: (اعلَمْ أنَّ الكُفْرَ بشَيءٍ مِن هذه المذكوراتِ كالكُفْرِ بجَميعِها؛ لتلازُمِها وامتناعِ وُجودِ الإيمانِ ببَعضِها دونَ بَعضٍ)
[2161] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 209). .
وقال اللهُ تعالى:
وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ [الشورى: 15] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: وقُلْ لهم يا مُحَمَّدُ: صَدَّقْتُ بما أنزل اللهُ من كِتابٍ، كائِنًا ما كان ذلك الكِتابُ؛ توراةً كان أو إنجيلًا، أو زَبورًا أو صُحُفَ إبراهيمَ، لا أُكَذِّبُ بشَيءٍ من ذلك)
[2162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 485). .
ومعنى
الإيمانِ بالكُتُبِ: التصديقُ بأنَّ جميعَ هذه الكُتُبِ مُنَزَّلةٌ من عندِ اللهِ تعالى على رُسُلِه عليهم السَّلامُ إلى عبادِه، وأنَّها كلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وأنَّ الإيمانَ بكُلِّ ما فيها من الأحكامِ كان واجبًا على الأُمَمِ التي نزلت إليهم تلك الكُتُبُ، وكذا الانقيادُ لها، والحُكْمُ بما فيها.
قال اللهُ تعالى:
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44] .
والإيمان بكتب الله عَزَّ وجَلَّ يجب إجمالًا فيما أجمل، وتفصيلًا فيما فصّل.
وممَّا يجِبُ الإيمانُ به مُفَصَّلًا: الإيمانُ بالقرآنِ الكريمِ؛ بتصديقِه واتِّباعِه، وتحقيقِ النصيحةِ لهذا القُرآنِ العظيمِ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الدِّينُ النَّصيحةُ. قُلْنا لِمن؟ قال: للهِ ولكِتابِه ولرَسولِه ولأئِمَّةِ المُسلِمينَ وعامَّتِهم )) [2163] أخرجه البخاري معلَّقًا قبل حديث (57)، وأخرجه مسلم موصولًا (55) واللَّفظُ له. من حديث تميم الداري رضي الله عنه. .
قال النووي: (أمَّا النَّصيحةُ لكِتابِه سُبحانَه وتعالى: فالإيمانُ بأنَّه كلامُ اللهِ تعالى وتنزيلُه، ولا يُشبِهُه شَيءٌ من كلامِ الخَلْقِ، ولا يَقدِرُ على مِثْلِه أحدٌ مِن الخَلْقِ، ثمَّ تعظيمُه وتلاوتُه حَقَّ تلاوتِه، وتحسينُها والخشوعُ عندها، وإقامةُ حُروفِه في التلاوةِ، والذَّبُّ عنه لتأويلِ المحَرِّفين، وتعَرُّضِ الطَّاعنين، والتصديقُ بما فيه، والوقوفُ مع أحكامِه، وتفَهُّمُ عُلومِه وأمثالِه، والاعتبارُ بمواعِظِه، والتفَكُّرُ في عجائِبِه، والعَمَلُ بمحُكَمِه، والتسليمُ لِمُتشابِهِه، والبَحثُ عن عُمومِه وخُصوصِه، وناسِخِه ومنسوخِه، ونَشْرُ عُلومِه والدُّعاءُ إليه، وإلى ما ذَكَرْنا من نصيحتِه)
[2164] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/38). .
وقال
ابنُ رجب: (أمَّا النصيحةُ لكِتابِ اللهِ: فشِدَّةُ حُبِّه، وتعظيمُ قَدْرِه؛ إذ هو كلامُ الخالِقِ، وشِدَّةُ الرَّغبةِ في فَهْمِه، وشِدَّةُ العنايةِ لتدَبُّرِه، والوقوفُ عند تلاوتِه لطَلَبِ معاني ما أحَبَّ مولاه أن يَفهَمَه عنه، ويقومَ به له بعد ما يفهَمُه، وكذلك النَّاصِحُ من العبادِ يفهَمُ وَصِيَّةَ من ينصَحُه، وإن ورد عليه كِتابٌ منه عُنِيَ بفَهْمِه ليَقومَ عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك النَّاصِحُ لكِتابِ رَبِّه يُعنَى بفَهْمِه؛ ليقومَ للهِ بما أمره به، كما يحِبُّ رَبُّنا ويرضى، ثم ينشُرُ ما فَهِمَ في العبادِ، ويُديمُ دراستَه بالمَحبَّةِ له، والتخَلُّقِ بأخلاقِه، والتأَدُّبِ بآدابِه)
[2165] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 221). .
إنَّ الأقوالَ التي تُناقِضُ
الإيمانَ بالكُتُبِ المُنزَّلة لها صُوَرٌ مُتعَدِّدةٌ، ومن أظهَرِها الإنكارُ والاستهزاءُ بها.
والإنكارُ: هو الجُحودُ وعَدَمُ الاعترافِ. والاستهزاءُ: هو السُّخْريةُ والاستِخفافُ.
ووَجهُ كَونِ إنكارِ الكُتُبِ المُنَزَّلةِ أو الاستهزاءِ بها كُفرًا وناقِضًا من نواقِضِ الإيمانِ عِدَّةُ أُمورٍ؛ منها:1- أنَّ هذا الإنكارَ أو الاستهزاءَ تكذيبٌ للقُرآنِ؛ حيث أمر اللهُ تعالى بالإقرارِ بآياتِه وتصديقِها، وعَدَمِ اتخاذِها هُزُوًا، وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى قد حكم بالكُفْرِ على من جحد آياتِه، كما توعَّده بالعذابِ المُهين، وأخبَرَ تعالى أنَّه لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن كَذَّب بآياتِ الله تعالى، وأنَّهم لا تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ، ولا يدخُلون الجنَّةَ.
قال اللهُ تعالى:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام: 157] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ جَلَّ ثناؤه: فمَن أخطَأُ فِعلًا وأشَدُّ عُدوانًا منكم أيُّها المُشْرِكون المُكَذِّبون بحُجَجِ اللهِ وأدِلَّتِه، وهي آياتُه
وَصَدَفَ عَنْهَا يقولُ: وأعرَضَ عنها بعد ما أتَتْه، فلم يؤمِنْ بها ولم يصَدِّقْ بحقيقتِها)
[2166] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/10). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف: 36] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ جَلَّ ثناؤه: وأمَّا من كَذَّب بأنباءِ رُسُلي التي أرسَلْتُها إليه، وجَحَد توحيدي، وكفر بما جاء به رُسُلي، واستكبر عن تصديقِ حُجَجي وأدِلَّتي فـ
أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يقول: هم في نارِ جَهنَّم ماكِثون، لا يَخرُجون منها أبدًا)
[2167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 167). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: إنَّ الذين كَذَّبوا بحُجَجِنا وأدِلَّتِنا فلم يُصَدِّقوا بها ولم يتَّبِعوا رُسُلَنا،
وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف: 36] يقول: وتكَبَّروا عن التصديقِ بها وأَنِفُوا من اتِّباعِها والانقيادِ لها تكَبُّرًا؛
لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ لأرواحِهم إذا خرجت من أجسادِهم، أبوابُ السَّماءِ، ولا يصعَدُ لهم في حياتهم إلى اللهِ قَولٌ ولا عَمَلٌ؛ لأنَّ أعمالَهم خبيثةٌ، وإنَّما يُرفَعُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَّالحُ)
[2168] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 182). .
وقال
الشَّوكانيُّ: (المعنى: أنَّها لا تُفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لأرواحِهم إذا ماتوا، وقد دَلَّ على هذا المعنى وأنَّه المرادُ من الآيةِ ما جاء في الأحاديثِ الصَّحيحةِ: أنَّ الملائِكةَ إذا انتَهَوا برُوحِ الكافِرِ إلى السَّماءِ الدُّنيا يَستَفتِحون، فلا تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ، وقيل: لا تُفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لأدعِيَتِهم إذا دَعَوا. قاله مجاهِدٌ و
النخعيُّ. وقيل: لأعمالِهم، أي: لا تُقبَلُ، بل تُرَدُّ عليهم فيُضرَبُ بها في وُجوهِهم. وقيل المعنى: أنَّها لا تُفَتَّحُ لهم أبوابُ الجنَّةِ يَدخُلونها؛ لأنَّ الجنَّةَ في السَّماءِ، فيكونُ على هذا القَولِ العَطفُ لجُملةِ
وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِن عَطفِ التفسيرِ، ولا مانِعَ مِن حَملِ الآيةِ على ما يَعُمُّ الأرواحَ والدُّعاءَ والأعمالَ، ولا ينافيه ورودُ ما ورد من أنَّها لا تُفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ لواحدٍ مِن هذه؛ فإنَّ ذلك لا يدُلُّ على فَتْحِها لغيره مِمَّا يدخُلُ تحت عُمومِ الآيةِ. قَولُه:
وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ أي: أنَّ هؤلاء الكُفَّارَ المكَذِّبين المُستَكبرين لا يَدخُلون الجنَّةَ بحالٍ مِن الأحوالِ؛ ولهذا علَّقه بالمستحيلِ، فقال:
حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، وهو لا يَلِجُ أبدًا، وخُصَّ الجَمَلُ بالذِّكرِ؛ لكَونِه يُضرَبُ به المَثَلُ في كِبَرِ الذَّاتِ، وخُصَّ سَمُّ الخِياطِ -وهو ثُقبُ الإبْرةِ- بالذِّكرِ؛ لكَونِه غايةً في الضِّيقِ)
[2169] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/ 233). .
وقال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الحج: 57] .
قال
ابنُ جريرٍ: (
وَالَّذِينَ كَفَرُوا باللهِ ورَسولِه،
وَكَذَّبُوا بآياتِ كِتابِه وتنزيلِه، وقالوا: ليس ذلك من عندِ اللهِ، إنَّما هو إفكٌ افتراه مُحَمَّدٌ، وأعانه عليه قومٌ آخَرون
فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يقولُ: فالذين هذه صِفَتُهم لهم عند اللهِ يومَ القيامةِ عَذابٌ مُهِينٌ، يعني عذابٌ مُذِلٌّ في جَهنَّمَ)
[2170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/ 618). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:27، 28].
قال
ابنُ جريرٍ: (يعني: لهؤلاءِ المُشْرِكين باللهِ في النَّارِ دارُ الخُلدِ، يعني: دارَ المكْثِ واللُّبثِ إلى غيرِ نهايةٍ ولا أمدٍ، والدَّارُ التي أخبَرَ جَلَّ ثناؤه أنَّها لهم في النَّارِ هي النَّارُ، ... وقَولُه:
جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ يقولُ: فعَلْنا هذا الذي فعَلْنا بهؤلاء من مجازاتِنا إيَّاهم النَّارَ على فِعْلِهم؛ جزاءً مِنَّا بجُحودِهم في الدُّنيا بآياتِنا التي احتجَجْنا بها عليهم)
[2171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/ 419). .
ومن الآياتِ الواردةِ في شَأنِ المستهزِئين: قَولُه تعالى:
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [الجاثية: 9].
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه:
وَإِذَا عَلِمَ هذا الأفَّاكُ الأثيمُ
مِنْ آياتِ اللهِ
شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا يقولُ: اتَّخذ تلك الآياتِ التي عَلِمَها هُزُوًا، يَسخَرُ منها، وذلك كفِعْلِ أبي جَهلٍ حين نزلت
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ؛ إذ دعا بتَمرٍ وزُبدٍ، فقال: تزقَّموا من هذا، ما يَعِدُكم مُحَمَّدٌ إلَّا شَهْدًا! وما أشبَهَ ذلك مِن أفعالِهم)
[2172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 76). .
وقوله سُبحانَه:
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية: 34، 35].
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: يقالُ لهم: هذا الذي حَلَّ بكم من عذابِ اللهِ اليومَ
بِأَنَّكُمْ [الجاثية: 35] في الدُّنيا
اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [الجاثية: 35] وهي حُجَجُه وأدِلَّتُه وآيُ كِتابِه التي أنزلها على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
هُزُوًا يعني سُخْريةً تَسخَرونَ منها
وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الجاثية: 35] يقول: وخدعَتْكم زينةُ الحياةِ الدُّنيا فآثَرْتُموها على العَمَلِ لِما يُنجِيكم اليومَ مِن عذابِ اللهِ. يقولُ تعالى ذكره:
فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا [الجاثية: 35] من النَّارِ
وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يقولُ: ولا هم يُرَدُّون إلى الدُّنيا ليتوبوا ويراجِعوا الإنابةَ مِمَّا عُوقِبوا عليه)
[2173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 109). .
وقَولُه عَزَّ وجَلَّ:
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأحقاف: 26] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى: ولقد مَكَّنَّا الأمَمَ السَّالفةَ في الدُّنيا من الأموالِ والأولادِ، وأعطيناهم منها ما لم نُعْطِكم مِثْلَه ولا قريبًا منه،
وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: وأحاط بهم العذابُ والنَّكالُ الذي كانوا يُكَذِّبون به ويَستَبعِدون وقوعَه، أي: فاحذَروا -أيُّها المخاطَبونَ- أن تكونوا مِثْلَهم، فيُصيبَكم مِثلُ ما أصابهم من العذابِ في الدُّنيا والآخِرةِ)
[2174] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 288). .
وقَولُه تعالى:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التَّوبة: 65، 66].
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه لنبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ لهؤلاء الذين وصَفْتُ لك صِفَتَهم:
لَا تَعْتَذِروا [التَّوبة: 66] بالباطِلِ، فتقولوا: كنَّا نخوضُ ونلعَبُ
قَدْ كَفَرْتُمْ [التَّوبة: 66] يقول: قد جَحَدْتُم الحَقَّ بقولِكم ما قُلتُم في رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنين به
بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يقولُ: بعد تصديقِكم به وإقرارِكم به)
[2175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/ 546). .
وقال
السَّعديُّ: (
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عَمَّا قالوه من الطَّعنِ في المُسلِمين وفي دينِهم، يقولُ طائفةٌ منهم في غزوةِ تَبُوك "ما رأَيْنا مِثلَ قُرَّائنا هؤلاء -يعنون النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه- أرغَبَ بُطونًا وأكذَبَ ألسُنًا وأجبَنَ عند اللِّقاءِ"، ونحو ذلك. ولَمَّا بلَغَهم أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد عَلِمَ بكلامِهم جاؤوا يعتَذِرون إليه ويقولون:
إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أي: نتكَلَّمُ بكلامٍ لا قَصْدَ لنا به، ولا قَصَدْنا الطَّعنَ والعَيبَ. قال اللهُ تعالى مُبَيِّنًا عَدَمَ عُذرِهم، وكَذِبَهم في ذلك:
قُلْ لهم:
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؛ فإنَّ الاستهزاءَ باللهِ وآياتِه ورَسولِه كُفرٌ مُخرِجٌ عن الدِّين؛ لأنَّ أصلَ الدِّينِ مَبنيٌّ على تعظيمِ اللهِ وتعظيمِ دينِه ورُسُلِه، والاستهزاءُ بشَيءٍ من ذلك منافٍ لهذا الأصلِ ومناقِضٌ له أشَدَّ المناقَضةِ؛ ولهذا لَمَّا جاؤوا إلى الرَّسولِ يَعتَذِرون بهذه المقالةِ، والرَّسولُ لا يزيدُهم على قَولِه:
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [2176] أخرجه الطبري في ((التفسير)) (16912)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (10515) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (1/94): إسناده فيه مقال. [2177] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 342). .
وقد ذكر أهلُ العِلْمِ أنَّ الاستهزاءَ بآياتِ اللهِ كُفرٌ ورِدَّةٌ.
قال
أبو بكرٍ الجصَّاصُ: (الاستهِزاءُ بآياتِ اللهِ وبشَيءٍ مِن شرائِعِ دينِه، كُفْرٌ مِن فاعِلِه)
[2178] يُنظر: ((أحكام القرآن)) (3/183). .
قال
ابنُ حزمٍ: (صَحَّ بالنَّصِّ أنَّ كُلَّ من استهزأ باللهِ تعالى، أو بمَلَكٍ من الملائكةِ، أو بنبيٍّ من الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، أو بآيـةٍ من القـرآنِ، أو بفريضةٍ من فرائِضِ الدِّينِ؛ فهي كُلُّها آياتُ اللهِ تعالى، بعد بلوغِ الحُجَّةِ إليه- فهو كافِرٌ)
[2179] يُنظر: ((الفصل)) (3/ 142). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (نُقِل عن
الشَّافعيِّ أنَّه سُئِل عمَّن هَزَل بشَيءٍ من آياتِ الله تعالى، أنَّه قال: هو كافِرٌ، واستدَلَّ بقَولِ الله تعالى:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)
[2180] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 956). .
وقال أيضًا عن قَولِه تعالى:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ: (هذا نصٌّ في أنَّ الاستهزاءَ باللهِ وبآياتِه وبرَسولِه: كُفرٌ)
[2181] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (2/ 70). .
2- أنَّ
الإيمانَ بالكُتُبِ المنَزَّلةِ يتضَمَّنُ الإقرارَ بها وتصديقَها، وإنكارُها يناقِضُ قَولَ القَلْبِ، وهو التصديقُ، ويناقِضُ قَولَ اللِّسانِ، وهو الإقرارُ.
و
الإيمانُ بالكُتُبِ المنَزَّلةِ يَتضَمَّنُ كذلك وجوبَ تعظيمِها وإجلالِها وإكرامِها، والاستهزاءُ بها لا يجتَمِعُ مع هذا التعظيمِ والإجلالِ، فهو مناقِضٌ لعَمَلِ القَلْبِ، كما أنَّه يناقِضُ الإيمانَ الظَّاهِرَ باللِّسانِ.
3- أنَّ إنكارَ الكُتُبِ السَّماويَّةِ يَتضَمَّنُ إنكارًا لصِفةِ الكلامِ الإلهيِّ، ونَفْيُ هذه الصِّفةِ من الإلحادِ في أسماءِ الله تعالى، وسُوءَ الظَّنِّ باللهِ تعالى، وعَدَمَ قَدْرِ اللهِ تعالى حَقَّ قَدْرِه.
كما أنَّ هذا الإنكارَ طَعنٌ في الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ، وتنَقُّصٌ لهم، والطَّعنُ في الرُّسُلِ عليهم السَّلامُ وسبُّهم من نواقِضِ الإيمانِ.
كما أنَّ هذا الإنكارَ والاستهزاءَ هو إنكارٌ واستهزاءٌ بشرائعِ الدِّينِ وأحكامِه، والاستهزاءُ بالدِّينِ كُفرٌ؛ فأصلُ الدِّينِ قائِمٌ على التعظيمِ.
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((المِراءُ في القُرآنِ كُفرٌ)) [2182] أخرجه أبو داود (4603)، وأحمد (9479). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (1464)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (2/243)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4603)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7848)، وحسنه ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (12/353) .
قال
الخَطَّابي: (اختلف النَّاسُ في تأويلِه؛ فقال بعضُهم: معنى المِراءِ هنا: الشَّكُّ فيه، كقَولِه تعالى:
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [هود: 17] أي: في شَكٍّ، ويقال: بل المراءُ هو الجِدالُ المشَكِّكُ فيه. وتأوَّله بعضُهم على المراءِ في قراءاتِه دون تأويلِه ومعانيه، مِثلُ أن يقولَ قائِلٌ: هذا قرآنٌ قد أنزله اللهُ تبارك وتعالى، ويقولُ الآخَرُ: لم يُنزِلْه اللهُ هكذا، فيَكفُرُ به من أنكرَه، وقد أنزل سُبحانَه كِتابَه على سبعةِ أحرُفٍ كُلُّها شافٍ كافٍ، فنهاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن إنكارِ القراءةِ التي يَسمَعُ بَعضُهم بعضًا يَقْرَؤُها، وتوعَّدَهم بالكُفْرِ عليها؛ لينتَهوا عن المراءِ فيه والتكذيبِ به)
[2183] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/ 297). .
فإن كان الشَّكُّ في القرآنِ كُفرًا، فإنَّ إنكارَه أشَدُّ كُفرًا.
5- حكى أهلُ العِلْمِ الإجماعَ على كُفرِ من أنكر الكُتُبَ المنَزَّلة أو بعضَها -ولو كانت آيةً واحدةً- وكذا أجمعوا على كُفرِ المستهزئِ بهذه الكُتُبِ المنَزَّلةِ.
قال
ابنُ حزمٍ: (من قال: إنَّ القرآنَ نَقَص منه بعد موتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حرفٌ، أو زِيدَ فيه حرفٌ، أو بُدِّلَ منه حرفٌ، أو أنَّ هذا المسموعَ أو المحفوظَ أو المكتوبَ أو المنَزَّلَ ليس هو القُرآنَ، وإنما هو حكايةُ القُرآنِ، وغيرُ القرآنِ، أو قال: إنَّ القرآنَ لم يَنزِلْ به
جبريلُ على قَلْبِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أنَّه ليس هو كلامَ اللهِ تعالى- فهو كافِرٌ خارجٌ عن دينِ الإسلامِ؛ لأنَّه خالف كلامَ الله عَزَّ وجَلَّ، وسُنَنَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإجماعَ أهلِ الإسلامِ)
[2184] يُنظر: ((الدرة)) (ص: 320 - 322). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (أجمع العُلَماءُ أنَّ ما في مُصحَفِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وهو الذي بأيدي المُسلِمين اليومَ في أقطارِ الأرضِ حيث كانوا: هو القُرآنُ المحفوظُ الذي لا يجوزُ لأحَدٍ أن يتجاوَزَه، ولا تحِلُّ الصَّلاةُ لمُسلِمٍ إلَّا بما فيه،... وإنَّما حلَّ مُصحَفُ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنه هذا المحَلَّ؛ لإجماعِ الصَّحابةِ وسائِرِ الأُمَّة عليه، ولم يُجمِعوا على ما سِواه، وبالله التَّوفيقُ. ويُبَيِّن لك هذا أنَّ من دفع شيئًا مِمَّا في مُصحَفِ عُثمانَ، كَفَر)
[2185] يُنظر: ((التمهيد)) (4/278). .
وقال أيضًا: (قال
إسحاقُ بنُ راهَوَيه: قد أجمع العُلَماءُ أنَّ من سبَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ، أو سبَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو دفع شيئًا أنزله اللهُ، أو قَتَل نبيًّا من أنبياءِ اللهِ، وهو مع ذلك مُقِرٌّ بما أنزل اللهُ؛ أنَّه كافِرٌ)
[2186] يُنظر: ((التمهيد)) (4/ 226). .
فإذا كان دَفْعُ شَيءٍ أنزله اللهُ، كفرًا بالإجماعِ ولو كان مُقِرًّا به، فكيف بمن أنكر هذا الوَحْيَ؟!
وقال عِياضٌ: (اعلَمْ أنَّ من استخفَّ بالقُرآنِ أو المصحَفِ أو بشيءٍ منه، أو سَبَّهما، أو جحَدَه أو حرفًا منه أو آيةً، أو كذَّب به أو بشيءٍ منه، أو كذَّب بشَيءٍ مِمَّا صَرَّح به فيه من حُكمٍ أو خبَرٍ، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبتَه، علـى عِلمٍ منه بذلك، أو شَكَّ في شيءٍ من ذلك- فهو كافِرٌ عند أهلِ العِلْم بإجماعٍ؛ قال اللهُ تعالى:
وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] ... وكذلك إنْ جَحَد التَّوراةَ والإنجيلَ، وكُتُبَ اللهِ المنَزَّلةَ، أو كَفَر بها، أو لعَنَها أو سَبَّها، أو استخَفَّ بها؛ فهو كافِرٌ،... قال أبو عثمانَ الحَدَّادُ: جميعُ من ينتَحِلُ التَّوحيدَ مُتَّفِقون أنَّ الجَحْدَ لحَرفٍ مِن التنزيلِ كُفرٌ)
[2187] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 304). .
وقال
ابنُ قُدامةَ: (لا خِلافَ بين المُسلِمين أجمعين أنَّ من جحد آيةً أو كَلِمةً مُتَّفَقًا عليها، أو حرفًا مُتَّفَقًا عليه؛ أنَّه كافِرٌ)
[2188] يُنظر: ((حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة)) (ص: 33). .
وقد تضافَرَت أقوالُ العُلَماءِ قديمًا وحديثًا على أنَّ الإنكارَ أو الاستهزاءَ بالوَحْيِ مِن نواقِضِ الإيمانِقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (من كَفَر بحَرفٍ مِن القرآنِ، فقد كفر به كُلِّه)
[2189] يُنظر: ((حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة)) (ص: 33). .
وقال
عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (من كفر بحَرفٍ منه، فقد كفر به أجمَعَ)
[2190] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) للالكائي (2/ 258). .
وقال
عبدُ اللهِ بنُ المبارك: (من كفر بحرفٍ مِن القرآنِ، فقد كفر، ومن قال: لا أؤمِنُ بهذه اللامِ فقد كَفَر)
[2191] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/182). .
وقال
ابنُ بطةَ: (وكذلك وجوبُ الإيمانِ والتصديقِ بجميعِ ما جاءت به الرُّسُلُ مِن عند الله، وبجميعِ ما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ فهو حقٌّ لازمٌ، فلو أنَّ رجلًا آمَنَ بجميعِ ما جاءت به الرُّسُلُ إلَّا شيئًا واحدًا، كان برَدِّ ذلك الشَّيءِ كافرًا عند جميعِ العُلَماءِ)
[2192] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 232). .
وقال أيضًا: (من كَذَّب بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن، أو ردَّ شيئًا مِمَّا جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهو كافرٌ)
[2193] يُنظر: ((الإبانة الصغرى)) (ص: 221). .
وقال القاضي عِياض: (وكذلك من أنكر القرآنَ، أو حرفًا منه، أو غيَّر شيئًا منه، أو زاد فيه؛ كفِعلِ الباطنيَّةِ والإسماعيليَّةِ، أو زعم أنَّه ليس بحُجَّةٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو ليس فيه حُجَّةٌ ولا مُعجِزةٌ... وكذلك من أنكر شيئًا مِمَّا نَصَّ فيه القرآنُ -بعد عِلْمِه- أنَّه من القرآنِ الذي في أيدي النَّاسِ ومصاحِفِ المُسلِمين، ولم يكُنْ جاهلًا، ولا قريبَ عَهدٍ بالإسلامِ)
[2194] يُنظر: ((الشفا)) (2/ 289). .
وذكر النووي أنَّ من جحد آيةً من القرآنِ مُجمَعًا عليها، يَكفُرُ
[2195] يُنظر: ((روضة الطالبين)) (10/64). .
وسُئِلَ
ابنُ تيميَّةَ عن رجُلٍ لَعَن اليهودَ، ولعن دينَه وسبَّ التَّوراةَ، فهل يجوزُ لمُسلِم ٍأن يَسُبَّ كِتابَهم أم لا؟ فأجاب: (الحَمدُ لله، ليس لأحدٍ أن يلعَنَ التَّوراةَ، بل من أطلَقَ لَعْنَ التَّوراةِ فإنَّه يُستتابُ فإن تاب، وإلَّا قُتِل، وإن كان ممَّن يَعرِفُ أنَّها مُنَزَّلةٌ من عند الله، وأنَّه يجِبُ الإيمانُ بها، فهذا يُقتَلُ بشَتْمِه لها، ولا تُقبَلُ توبتُه في أظهَرِ قَولَيِ العُلَماءِ، وأمَّا إن لعن دينَ اليَهودِ الذي هم عليه في هذا الزَّمانِ، فلا بأسَ في ذلك، فإنَّهم ملعونون هم ودينُهم، وكذلك إنْ سبَّ التَّوراةَ التي عندهم بما يُبَيِّنُ أنَّ قَصْدَه ذِكْرُ تحريفِها، مِثلُ أن يُقالَ: نُسَخُ هذه التَّوراةِ مُبَدَّلةٌ لا يجوزُ العَمَلُ بما فيها، ومن عَمِلَ اليومَ بشرائعِها المبَدَّلةِ والمنسوخةِ، فهو كافِرٌ، فهذا الكلامُ ونحوُه حَقٌّ لا شَيءَ على قائِلِه. واللهُ أعلَمُ)
[2196] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/200). .
وقال أيضًا: (من زعم أنَّ القرآنَ نُقِصَ منه آياتٌ وكُتِمَت... فلا خِلافَ في كُفْرِه)
[2197] يُنظر: ((الصارم المسلول)) (3/ 1108 - 1110). .
وقال ابنُ نُجَيمٍ: (يَكـفُرُ إذا أنكر آيةً من القرآنِ، أو سَخِـَـر بآيةٍ منه إلَّا المعَوِّذتَينِ؛ ففي إنكارِهما اختلافٌ، والصَّحيحُ كُفْرُه)
[2198] يُنظر: ((البحر الرائق)) (5/131). .
وجاء في (الفتاوى البزَّازيَّة): (إدخالُ القُرآنِ في المزاحِ والدُّعابةِ كُفرٌ؛ لأنَّه استخفافٌ به)
[2199] يُنظر: ((الفتاوى البزازية)) (3/338). .
وجمع مُحَمَّد بن إسماعيلَ الرَّشيد الحَنَفي أقوالَ الأحنافِ في هذه المسألةِ، فكان مِمَّا أورده:
في (الخلاصةِ): من قرأ القرآنَ على ضَرْبِ الدُّفِّ والقَضيبِ، يَكفُرُ، وكذا من لم يؤمِنْ بكِتابٍ من كُتُب الله تعالى، أو جحد وعدًا أو وعيدًا مِمَّا ذكره اللهُ تعالى في القُرآنِ، أو كذَّب شيئًا منه، كَفَر. وفي (يتيمة الفتاوى): من استخَفَّ بالقُرآنِ، أو بالمسجِدِ، أو بنحوه مِمَّا يُعَظَّمُ في الشَّرعِ، كَفَر.
وفي (جواهر الفقه): من قيل له: لمَ لا تقرَأُ القُرآنَ، أو ألَا لَم لا تُكثِرُ قِراءتَه؟ فقال: شَبِعْتُ أو كَرِهْتُ، أو أنكَرَ آيةً من كِتابِ الله، أو عاب شيئًا من القُرآنِ، أو أنكر المعَوِّذتينِ من القُرآن غيرَ مُؤَوِّلٍ، كَفَر. وفي (الفتاوى الظهيرية): من قرأ آيةً من القُرآنِ على وَجهِ الهَزْلِ، يَكفُرُ
[2200] يُنظر: ((ألفاظ الكفر)) (ص: 27 - 30). .
وقال البهوتي الحنبلي: (من جحد كِتابًا من كُتُبِ اللهِ أو شيئًا منه، أو استهزأ باللهِ تعالى، أو بكُتُبِه أو رُسُلِه، فهو كافِرٌ؛ لقَولِه تعالى:
قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التَّوبة: 65، 66].
وكذا إن وُجِد منه امتِهانٌ للقُرآنِ أو طَلَبُ تناقُضِه، أو دعوى أنَّه مختَلِفٌ أو مقدورٌ على مِثْلِه، أو إسقاطٌ لحُرمتِه؛ لقَولِه تعالى:
لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21]؛ وقَولِه:
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] ، وقَولِـه:
قُـلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] )
[2201] يُنظر: ((كشاف القناع)) (14/ 226 - 228). .
وقال
حافظٌ الحَكَميُّ: (نؤمِنُ أنَّه لا يأتي كِتابٌ بَعْدَه، ولا مُغَيِّرَ ولا مُبَدِّلَ لشَيءٍ من شرائعِه بَعْدَه، وأنَّه ليس لأحدٍ الخُروجُ عن شَيءٍ من أحكامِه، وأنَّ من كَذَّب بشَيءٍ منه من الأُمَمِ الأُولى، فقد كَذَّب بكِتابِه، كما أنَّ من كَذَّب بما أخبَرَ عنه القُرآنُ مِن الكُتُبِ، فقد كذَّب به، وأن من اتَّبع غيرَ سَبيلِه، ولم يَقتَفِ أثَرَه، ضَلَّ)
[2202] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/674). .
وقال
ابنُ باز: (عرَفْتَ -أيُّها المُسلِمُ- أنَّ
الإيمانَ بالكُتُبِ يشمَلُ الإيمانَ بجَميعِ الكُتُبِ المفَصَّلةِ والمجمَلةِ، نؤمِنُ بكُتُبِ اللهِ المنَزَّلةِ على رُسُله وأنبيائِه، وما سمَّى اللهُ نُسَمِّيه؛ من التَّوراةِ والإنجيلِ، والزَّبورِ وصُحُفِ إبراهيمَ وصُحُفِ موسى، وما سَمَّى اللهُ نُسَمِّيه، وأعظَمُها القُرآنُ، وهو خاتَمُها)
[2203] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/26). .