الفَرعُ الثَّاني: من أمثلةِ الشِّرْكِ الأصغَرِ في العباداتِ القَلبيَّةِ: إرادةُ الإنسانِ بعبادتِه الدُّنيا
أي: أن يَعمَلَ الإنسانُ العِبادةَ المحْضَةَ؛ لِيَحصُلَ على مَصلحةٍ دُنيويَّةٍ مِن ورائِها.
وإرادةُ الإنسانِ بعَمَلِه الدُّنيا ينقَسِمُ مِن حيثُ الأصلُ إلى أقسامٍ كثيرةٍ، أهمُّها:
1- ألَّا يُريدَ بالعِبادةِ إلَّا الدُّنيا وَحْدَها.كمَن يحُجُّ ليأخُذَ المالَ، وكمَنْ يَغْزو من أجْلِ الغَنيمةِ وَحْدَها، وكمن يَطلُبُ العِلْمَ الشَّرعيَّ مِن أجْلِ الشَّهادةِ والوَظيفةِ، ولا يريدُ بذلك كُلِّه وَجْهَ اللهِ، ولا يَخطُرُ ببالِه احتِسابُ الأجرِ عِندَ اللهِ تعالى.
وهذا القِسْمُ مُحَرَّمٌ، وكبيرةٌ مِن كبائِرِ الذُّنوبِ، وهو من الشِّرْكِ الأصغَرِ، ويُبطِلُ العمَلَ الذي يُصاحِبُه.
ومن الأدِلَّةِ على ذلك:قَولُ اللهِ تعالى:
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 15، 16].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من تعَلَّم عِلمًا ممَّا يُبتغى به وَجْهُ اللهِ، لا يتعَلَّمُه إلَّا ليُصيبَ به عَرَضًا من الدُّنيا؛ لم يَجِدْ عَرْفَ الجَنَّةِ)) [346] أخرجه أبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وأحمد (8457). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (78)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (252)، وصَحَّحه لغيره شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3664)، وحَسَّنه ابنُ القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/653). . يعني: رِيحَها.
2- أن يُريدَ بالعِبادةِ وَجْهَ اللهِ والدُّنيا معًا.كمَن يَحُجُّ لوَجهِ اللهِ وللتِّجارةِ، وكمن يقاتِلُ ابتغاءَ وَجْهِ اللهِ وللدُّنيا، وكمن يصومُ لوَجهِ اللهِ وللعِلاجِ، وكمَن يتوضَّأُ للصَّلاةِ وللتبَرُّدِ، وكمن يَطلُبُ العِلمَ لوَجهِ اللهِ وللوَظيفةِ.
فهذا الأقرَبُ أنَّه مُباحٌ؛ لأنَّ الوعيدَ إنَّما وَرَد في حَقِّ مَن طَلَب بالعِبادةِ الدُّنيا وَحْدَها، ولأنَّ اللهَ رَتَّب على كثيرٍ مِن العباداتِ منافِعَ دُنيويَّةً عاجِلةً، كما في قَولِه تعالى:
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وكما في قَولِه تعالى:
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10-12]، والنُّصوصُ في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي تدُلُّ على جوازِ إرادةِ وَجْهِ اللهِ مع ابتغاءِ هذه المنافِعِ الدُّنيويَّةِ معًا بالعبادةِ؛ فهذه المنافِعُ الدُّنيويَّةُ قد ذُكرَت على سبيلِ التَّرغيبِ في تلك العِباداتِ، فلا يَبطُلُ العَمَلُ الذي يصاحِبُها، ولكِنْ أجرُ العِبادةِ يَنقُصُ منه بقَدْرِ ما خالَطَ نيَّتَه الصَّالحةَ مِن إرادةِ الدُّنيا
[347] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (5/180)، ((مختصر منهاج القاصدين)) لابن قدامة (ص: 367)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 461)، ((القول المفيد)) لابن عثيمين (2/136)، ((تسهيل العقيدة الإسلامية)) لعبد الله الجبرين (ص: 375). .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (اعلَمْ أنَّ العَمَلَ لغيرِ اللهِ أقسامٌ: فتارةً يكونُ رِياءً مَحْضًا، بحيثُ لا يرادُ به سِوى مُراءاةِ المخلوقينَ لغَرَضٍ دُنيويٍّ، كحالِ المنافقينَ في صلاتِهم، كما قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142] ، وقال تعالى:
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [الماعون: 4 - 6] ، وكذلك وَصَف اللهُ تعالى الكُفَّارَ بالرِّياءِ في قَولِه:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ [الأنفال: 47] ، وهذا الرِّياءُ المحْضُ لا يَكادُ يَصدُرُ من مُؤمِنٍ في فَرضِ الصَّلاةِ والصِّيامِ، وقد يَصدُرُ في الصَّدَقةِ الواجِبةِ أو الحَجِّ، وغَيرِهما من الأعمالِ الظَّاهِرةِ، أو التي يتعَدَّى نَفْعُها؛ فإنَّ الإخلاصَ فيها عزيزٌ، وهذا العَمَلُ لا يَشُكُّ مُسلِمٌ أنَّه حابِطٌ، وأنَّ صاحِبَه يَستَحِقُّ المقْتَ مِن اللهِ والعُقوبةَ. وتارةً يكونُ العَمَلُ لله، ويشارِكُه الرِّياءُ، فإن شاركَه مِن أصلِه فالنُّصوصُ الصَّحيحةُ تدُلُّ على بُطلانِه وحُبوطِه أيضًا. وفي "صحيح
مسلم" عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّركِ، من عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيه معيَ غيري، ترَكْتُه وشِرْكَه )) [348] أخرجه مسلم (2985). ... وخَرَّج
النَّسائيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ
((أنَّ رجُلًا جاء إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرأَيْتَ رجلًا غزا يلتَمِسُ الأجْرَ والذِّكْرَ؟ فقال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له، فأعادها ثلاثَ مَرَّاتٍ، يقولُ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا شَيءَ له، ثمَّ قال: إنَّ اللهَ لا يقبَلُ مِنَ العَمَلِ إلَّا ما كان له خالِصًا، وابتُغِيَ به وَجْهُه)) [349] أخرجه من طرق النسائي (3140) واللفظ له، والطبراني (8/165) (7628). صححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3140)، وحَسَّن إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/112)، وجَوَّده ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/81)، وابنُ حجر في ((فتح الباري)) (6/35)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (4/68). ... وممَّن رُوِيَ عنه هذا المعنى، وأنَّ العَمَلَ إذا خالَطَه شَيءٌ مِن الرِّياءِ، كان باطِلًا: طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ، منهم عُبادةُ بنُ الصَّامِتِ، وأبو الدَّرداءِ، والحَسَنُ، و
سعيدُ بنُ المسَيِّبِ، وغَيرُهم. ولا نعرِفُ عن السَّلَفِ في هذا خِلافًا، وإن كان فيه خلافٌ عن بعضِ المتأخِّرينَ. فإنْ خالَطَ نِيَّةَ الجِهادِ مثَلًا نيَّةٌ غيرُ الرِّياءِ، مِثْلُ أخْذِه أُجْرةً للخِدْمةِ، أو أخْذِ شَيءٍ مِن الغنيمةِ، أو التِّجارةِ؛ نَقَص بذلك أجرُ جهادِهم، ولم يَبُطْل بالكُلِّيَّةِ، وفي «صحيح
مسلم» عن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ الغُزاةَ إذا غَنِموا غنيمةً، تعَجَّلوا ثُلُثَي أجْرِهم، فإن لم يَغنَموا شيئًا، تمَّ لهم أجْرُهم )) [350] أخرجه مسلم (1906) ولفظُه: ((ما من غازيةٍ تغزو في سبَيلِ اللهِ فيُصيبونَ الغنيمةَ، إلَّا تعَجَّلوا ثُلُثَي أجْرِهم من الآخرةِ، ويبقى لهم الثُّلُثُ، وإن لم يصيبوا غنيمةً تمَّ لهم أجرُهم)). . وقد ذكَرْنا فيما مضى أحاديثَ تدُلُّ على أنَّ من أراد بجِهادِه عَرَضًا مِن الدُّنيا أنَّه لا أجْرَ له، وهي محمولةٌ على أنَّه لم يكُنْ له غَرَضٌ في الجهادِ إلَّا الدُّنيا. وقال
الإمامُ أحمَدُ: التَّاجِرُ والمُستأجِرُ والمُكاري أجْرُهم على قَدْرِ ما يَخلُصُ من نيَّتِهم في غَزاتِهم، ولا يكوُن مِثْلَ من جاهَدَ بنَفْسِه ومالِه لا يخلِطُ به غيرَه. وقال أيضًا فيمن يأخُذُ جُعْلًا على الجهادِ: إذا لم يخرُجْ لأجلِ الدَّراهِمِ، فلا بأسَ أن يأخُذَ، كأنَّه خَرَج لدِينِه، فإنْ أُعطِيَ شيئًا أخَذَه. وكذا رُوِيَ عن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو قال: إذا أجمعَ أحَدُكم على الغزَوْ،ِ فعَوَّضه اللهُ رِزقًا، فلا بأسَ بذلك، وأمَّا إنَّ أحَدَكم إن أُعطِيَ دِرهمًا غزا، وإنْ مُنِعَ دِرهمًا مَكَث، فلا خَيْرَ في ذلك. وكذا قال
الأوزاعيُّ: إذا كانت نِيَّةُ الغازي على الغَزْوِ، فلا أرى بأسًا. وهكذا يقال فيمن أخَذَ شيئًا في الحَجِّ ليَحُجَّ به: إمَّا عن نَفْسِه، أو عن غَيرِه، وقد رُوِيَ عن مجاهدٍ أنَّه قال في حَجِّ الجَمَّالِ وحَجِّ الأجيرِ وحَجِّ التَّاجِرِ: هو تمامٌ لا يَنقُصُ من أجورِهم شيءٌ، وهو محمولٌ على أنَّ قَصْدَهم الأصليَّ كان هو الحَجَّ دون التكَسُّبِ)
[351] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 79، 81، 82). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه:
((من قاتَلَ لِتَكونَ كَلِمةُ اللهِ هي العُليا فهو في سَبيلِ اللهِ )) [352] أخرجه البخاري (123)، ومسلم (1904) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه. المرادُ بكَلِمةِ اللهِ: دَعوةُ اللهِ إلى الإسلامِ، ويحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ أنَّه لا يكونُ في سَبيلِ اللهِ إلَّا من كان سَبَبُ قتالِه طَلَبَ إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ فقط، بمعنى أنَّه لو أضاف إلى ذلك سببًا مِن الأسبابِ المذكورةِ أخَلَّ بذلك، ويحتَمِلُ ألَّا يُخِلَّ إذا حَصَل ضِمنًا لا أصلًا ومقصودًا، وبذلك صَرَّح الطَّبريُّ فقال: إذا كان أصلُ الباعِثِ هو الأوَّلَ لا يضُرُّه ما عَرَض له بعد ذلك، وبذلك قال الجُمهورُ، لكِنْ روى
النَّسائيُّ من حديثِ أبي أُمامةَ بإسنادٍ جَيِّدٍ قال: جاء رجلٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيتَ رجلًا غزا يلتَمِسُ الأجرَ والذِّكرَ، ما له؟ قال: لا شيءَ له، فأعادها ثلاثًا، كُلَّ ذلك يقولُ: لا شيءَ له، ثمَّ قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللهَ لا يقبَلُ مِنَ العمَلِ إلَّا ما كان له خالِصًا، وابتُغِيَ به وَجْهُه
[353] أخرجه من طرقٍ: النسائي (3140) واللفظ له، والطبراني (8/165) (7628). صححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3140)، وحَسَّن إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/112)، وجَوَّده ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (1/81)، وابنُ حجر في ((فتح الباري)) (6/35)، والصنعاني في ((سبل السلام)) (4/68). . ويمكِنُ أن يحمَلَ هذا على من قَصَد الأمرَينِ معًا على حَدٍّ واحدٍ، فلا يخالِفُ المرَجَّحَ أوَّلًا، فتصيرُ المراتِبُ خمسًا: أن يقصِدَ الشَّيئينِ معًا، أو يقصِدَ أحَدَهما صِرْفًا، أو يقصِدَ أحَدَهما ويحصُلَ الآخَرُ ضِمنًا، فالمحذورُ أن يقصِدَ غيرَ الإعلاءِ، فقد يحصُلُ الإعلاءُ ضِمنًا وقد لا يحصُلُ، ويدخُلُ تحته مرتبتانِ، وهذا ما دَلَّ عليه حديثُ أبي موسى، ودونه أن يَقصِدَهما معًا؛ فهو محذورٌ أيضًا على ما دَلَّ عليه حديثُ أبي أُمامةَ، والمطلوبُ أن يَقصِدَ الإعلاءَ صِرْفًا، وقد يحصُلُ غيرُ الإعلاءِ وقد لا يحصُلُ، ففيه مرتبتانِ أيضًا. قال ابنُ أبي جَمرةَ: ذهب المحقِّقون إلى أنَّه إذا كان الباعِثُ الأوَّلُ قَصْدَ إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ، لم يَضُرَّه ما انضاف إليه. اهـ.)
[354] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 28). .