الفَصلُ الثَّالِثُ: اتِّخاذُ القُبورِ مَساجِدَ
قال اللهُ تَعالى عن أصحابِ الكَهفِ وقَومِهم:
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف: 21] .
ففي هذه الآيةِ الكريمة يَتحدَّثُ اللهُ تَعالى عن أصحابِ الكهفِ الذين أنامَهم لسِنينَ طويلةٍ، ثمَّ بَعَثَهم مِن نَومِهم على هَيئتِهم التي كانوا عليها، ثم أطْلَعَ عليهم أهلَ المدينةِ في ذلك الزَّمانِ؛ ليَعلَموا أنَّ وعْدَ اللهِ بإحياءِ المَوتى حقٌّ، فلا يَشُكُّون في قُدرةِ اللهِ على البَعثِ، وأنَّ القيامةَ حَقٌّ لا شَكَّ في مَجيئِها، فقدِ اختَلَفَ أهلُ ذلك الزَّمانِ في البَعثِ بعدَ الموتِ؛ فمِنهم مَن يُؤمِنُ به، ومِنهم مَن يُنكِرُه، فقال الذين أعثَرَهم اللهُ على أصحابِ الكَهفِ حِين ماتُوا: ابنُوا عليهم بُنيانًا يَستُرُهم؛ فربُّهم أعلَمُ بهم وبِشَأنِهم وحالِهم. وقال رُؤساءُ المدينةِ الذين غَلَبوا على أهلِها: لَنَبْنيَنَّ عليهم مَسجِدًا للعِبادةِ فيه؛ لأنَّهم صاروا عِندَهم مَحَلَّ الاحترامِ والإكرامِ، فجَعَلَ اللهُ تَعالى اتِّخاذَ المساجِدِ على القُبورِ مِن فِعْلِ أهلِ الغَلَبةِ على الأُمورِ، وذلك يُشْعِرُ بأنَّ مُستَندَه القَهْرُ والغَلَبةُ واتِّباعُ الهوى، وأنَّه ليس مِن فِعْلِ أهلِ العِلمِ والفَضلِ المُتَّبِعينَ لِمَا أنْزَلَ اللهُ على رُسُلِه مِن الهُدى، فبِناءُ المَساجدِ على القُبورِ مِن الغُلوِّ في أصحابِ تلك القُبورِ
[727] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الكهف)) (ص: 112-115، 133). .
قال
ابنُ باز: (إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أخبَرَ عن الرُّؤَساءِ وأهلِ السَّيطرةِ في ذلك الزَّمانِ أنَّهم قالوا هذه المقالةَ، وليس ذلك على سَبيلِ الرِّضا والتقريرِ لهم، وإنَّما هو على سَبيلِ الذَّمِّ والعَيبِ والتنفيرِ من صنيعِهم، ويدُلُّ على ذلك أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي أُنزِلَت عليه هذه الآيةُ وهو أعلَمُ النَّاسِ بتأويلِها قد نهى أمَّتَه عن اتخاذِ المساجِدِ على القُبورِ، وحَذَّرهم من ذلك، ولعن وذَمَّ مَن فعَلَه، ولو كان ذلك جائِزًا لَمَّا شَدَّد رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه ذلك التشديدَ العظيمَ، وبالغَ في ذلك حتى لعَنَ من فعَلَه، وأخبَرَ أنَّه مِن شِرارِ الخَلقِ عندَ اللهِ عَزَّ وجلَّ، وهذا فيه كفايةٌ ومَقنَعٌ لطالِبِ الحَقِّ، ولو فَرَضْنا أنَّ اتخاذَ المساجدِ على القبورِ جائزٌ لِمن قَبْلَنا لم يجُزْ لنا التأسِّي بهم في ذلك؛ لأنَّ شريعتَنا ناسِخةٌ للشَّرائعِ قَبْلَها، ورَسولُنا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو خاتَمُ الرُّسُلِ وشريعتُه كاملةٌ عامَّةٌ، وقد نهانا عن اتخاذِ المساجِدِ على القُبورِ، فلم تَجُزْ لنا مخالفتُه، ووجَبَ علينا اتباعُه والتمَسُّكُ بما جاء به، وتَرْكُ ما خالف ذلك مِن الشَّرائعِ القديمةِ، والعاداتِ المُستحسَنةِ عند مَن فَعَلَها؛ لأنَّه لا أكمَلَ مِن شَرعِ اللهِ، ولا هَدْيَ أحسَنُ مِن هَدْيِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[728] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/435). .
وعن
عائِشةَ و
ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم قالا: لمَّا نَزَلَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَفِقَ يَطرَحُ خَميصةً على وجْهِه، فإذا اغتَمَّ كَشَفَها عن وجْهِه، فقالَ وهو كذلك:
((لَعنةُ اللَّهِ على اليَهودِ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبِيائِهم مَساجِدَ)) يُحذِّرُ ما صَنَعوا
[729] أخرجه البخاري (3453، 3454)، ومسلم (531). .
يَنهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ، ووقَعَ هذا النَّهيُ قُبَيلَ وفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، في مَرَضِه الأخيرِ الذي مات فيه، فلم يَنسَخْه ناسِخٌ، وقد كان على وَجْهِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَميصةٌ؛ مِنَ الحُمَّى، والخَميصةُ: كِساءٌ أسوَدُ مُعْلَمُ الطَّرَفينِ مِن صُوفٍ ونحْوِه، فكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدفَعُها عن وجهِه الشَّريفِ إذا احتَبَس نَفَسُه عن الخُروجِ، فيسوقُ هذا النَّهيَ بأُسلوبٍ تحذيريٍّ شديدٍ؛ حيثُ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لَعنةُ اللهِ على اليَهودِ والنَّصارى)). واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبعادُ، فهم مطرودون ومُبعَدون من الرَّحمةِ؛ بسَببِ كُفرِهم بالله تعالى، حيثُ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ، فإمَّا أنَّهم كانوا يَسجُدونَ لقبورِ أنبيائِهم؛ تعظيمًا لهم، وذلك هو الشِّركُ الجَلِيُّ، وإمَّا أنَّهم كانوا يتَّخِذونَها أمكِنةً للسُّجودِ يُصَلُّون ويَعبُدون اللهَ تعالى فيها؛ لاعتقادِهم أنَّ الصَّلاةَ إلى قُبورِهم أفضَلُ وأعظَمُ مَوقِعًا عند اللهِ، وذلك هو الشِّركُ الخَفيُّ؛ لتضَمُّنِه ما يرجِعُ إلى تعظيمِ مخلوقٍ فيما لم يؤذَنْ له، فنهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه عن ذلك؛ لمشابهةِ ذلك الفِعلِ سُنَّةَ اليهودِ والنَّصارى، ولأنَّه ذريعةٌ مُوصِلةٌ للشِّركِ باللهِ عزَّ وجلَّ؛ فيَحرُمُ تعظيمُ القُبورِ وتقديسُها
[730] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 91). .
قال
ابنُ حجر: (وكأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلِمَ أنَّه مُرتَحِلٌ من ذلك المرَضِ، فخاف أن يُعَظَّمَ قَبْرُه كما فَعَل من مضى، فلعْنُ اليهودِ والنَّصارى إشارةٌ إلى ذمِّ من يَفعَلُ فِعْلَهم)
[731] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/532). .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ في مَرَضِهِ الذي لَمْ يَقُمْ منه:
((لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ))، لَوْلَا ذلكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ غيرَ أنَّه خَشِيَ -أوْ خُشِيَ- أنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا
[732] أخرجه البخاري (1390)، ومسلم (529). .
وعن جُندُبِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بخَمْسٍ، وهو يقولُ:
((إنِّي أَبرَأُ إلى اللهِ أن يكونَ لي منكم خليلٌ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخَذني خليلًا كما اتَّخَذ إبراهيمَ خليلًا، ولو كنُت متَّخِذًا من أمَّتي خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإنَّ من كان قَبْلَكم كانوا يتَّخِذون قبورَ أنبيائِهم وصالحِيهم مساجِدَ، ألَا فلا تتَّخِذوا القُبورَ مساجِدَ، إنِّي أنهاكم عن ذلك)) [733] أخرجه مسلم (532). .
وعن
أبي عُبَيدةَ بنِ الجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: آخِرُ ما تكَلَّم به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أخرِجوا يهودَ أهلِ الحِجازِ وأهلِ نَجرانَ مِن جزيرةِ العَرَبِ، واعلَموا أنَّ شِرارَ النَّاسِ الذين اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ )) [734] أخرجه أحمد (1691)، والدارمي (2498)، وأبو يعلى (872). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (233)، وصَحَّح إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/146)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1691). وقال الذهبي في ((المهذب)) (7/3775): إسنادُه صالح. وذكر الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/328) أنَّه رُوِيَ بإسنادينِ ورجالُ طريقينِ منها ثقاتٌ متَّصِلٌ إسنادُهما. ووثَّق رجالَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/195). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اللَّهُمَّ لا تجعَلْ قبري وثنًا، لعَن اللهُ قومًا اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ )) [735] أخرجه أحمد (7358)، والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (7823) واللَّفظُ لهما، والحميدي (1025) باختلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه الألباني في ((النصيحة)) (144)، وصَحَّح إسناده أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (13/88)، وقوَّى إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7358)، ووثَّق رجالَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/260)، وذكَرَ ثُبوتَه ابنُ تيمية في ((حقوق آل البيت)) (58). .
وعن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((إنَّ مِن شرارِ النَّاسِ مَن تُدرِكُه السَّاعةُ وهم أحياءٌ، ومن يتَّخِذُ القُبورَ مَساجِدَ )) [736] أخرجه البخاري معلَّقًا مختصَرًا بصيغة الجزم (7067)، وأخرجه موصولًا أحمد (3844) واللَّفظُ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6847)، وابنُ القيم في ((الجواب الكافي)) (101)، والألباني في ((تحذير الساجد)) (26)، وحَسَّنه الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (9/401)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (832). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (اتَّفَق الأئمَّةُ على أنَّه لا يَتمسَّحُ بقبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا يُقبِّلُه. وهذا كُلُّه محافظةٌ على التَّوحيدِ؛ فإنَّ من أصولِ الشِّرْكِ باللهِ: اتخاذَ القُبورِ مَساجِدَ)
[737] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (27/ 191). .
وقال
السيوطيُّ: (اعلَمْ أنَّ مِن الفُقَهاءِ من اعتَقَد أنَّ سَبَبَ الكراهةِ في الصَّلاةِ في المقبرةِ ليس إلَّا كونَها مَظِنَّةَ النجاسةِ، ونجاسةُ الأرضِ مانعٌ من الصَّلاةِ عليها، سواءٌ كانت مقبرةً أو لم تكُنْ. وليس ذلك كُلَّ المقصودِ بالنَّهيِ، وإنَّما المقصودُ الأكبَرُ بالنَّهيِ إنَّما هو مَظِنَّةُ اتِّخاذِها أوثانًا، كما ورد عن الإمامِ
الشَّافعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: وأكرَهُ أن يُعظَّمَ مخلوقٌ حتَّى يُجعَلَ قبَرْهُ مسجدًا؛ مخافةَ الفتنةِ عليه مِن بَعْدِه مِن النَّاسِ)
[738] يُنظر: ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) (ص: 116). .
وقال
الملَّا على القاري الحَنَفي: (سَبَبُ لَعْنِهم: إمَّا لأنَّهم كانوا يسجُدون لقبورِ أنبيائِهم تعظيمًا لهم، وذلك هو الشِّرْكُ الجَلِيُّ، وإمَّا لأنَّهم كانوا يتَّخِذون الصَّلاةَ لله تعالى في مدافِنِ الأنبياءِ والسُّجودَ على مقابِرِهم والتوجُّهَ إلى قبورِهم حالةَ الصَّلاةِ نظرًا منهم بذلك إلى عبادةِ اللهِ والمبالغةِ في تعظيمِ الأنبياءِ، وذلك هو الشِّرْكُ الخفيُّ؛ لتضَمُّنِه ما يرجِعُ إلى تعظيمِ مخلوقٍ فيما لم يؤذَنْ له، فنهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه عن ذلك؛ لمشابهةِ ذلك الفِعِل سُنَّةَ اليهودِ، أو لتضَمُّنِه الشِّرْكَ الخَفيَّ. كذا قاله بعضُ الشُّرَّاحِ مِن أئِمَّتِنا، ويؤَيِّدُه ما جاء في روايةِ:
((يُحذِّر ما صَنَعوا)) [739] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (2/600). .
قال
الألبانيُّ تعليقًا على كلامِ
القاري: (السَّبَبُ الأوَّلُ الذي ذكَرَه -وهو السُّجودُ لقُبورِ الأنبياءِ تعظيمًا لهم- وإن كان غيرَ مستبعَدٍ حُصولُه من اليهودِ والنَّصارى، فإنَّه غيرُ متبادِرٍ مِن قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اتَّخذوا قُبورَ أنبيائِهم مساجِدَ))؛ فإنَّ ظاهِرَه أنَّهم اتَّخذوها مساجِدَ لعبادةِ اللهِ فيها على المعاني السَّابقةِ؛ تبرُّكًا بمن دُفِنَ فيها من الأنبياءِ، وإن كان هذا أدَّى بهم -كما يؤدِّي بغيرِهم- إلى وقوعِهم في الشِّرْكِ الجَلِيِّ. ذكره الشيخُ
القاري)
[740] يُنظر: ((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)) (ص: 32). .
ولا فَرْقَ بين بناءِ المسجِدِ على القبرِ، أو إدخالِ القبرِ في المسجِدِ؛ فالكُلُّ حرامٌ.
فعن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: لمَّا اشْتَكَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعني: مَرِضَ مَرَضَه الذي مات فيه ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بأَرْضِ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، وكانت
أُمُّ سَلَمَةَ، و
أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أتَتَا أرْضَ الحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِن حُسْنِهَا وتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأسَه، فقال:
((أولئكِ إذا مَاتَ منهمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّروا فيه تلك الصُّورةَ، أولئكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ )) [741] أخرجه البخاري (1341) واللفظ له، ومسلم (528). .
قال
ابنُ رجبٍ: (هذا الحديثُ يدلُّ على تحريمِ بناءِ المساجِدِ على قُبورِ الصَّالحينَ، وتصويرِ صُوَرِهم فيها، كما يفعَلُه النَّصارى، ولا رَيبَ أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما محرَّمٌ على انفرادٍ؛ فتصويرُ صُوَرِ الآدميِّين محَرَّمٌ، وبناءُ القُبورِ على المساجِدِ بانفرادِه محرَّمٌ، كما دلَّت عليه نصوصٌ أُخَرُ)
[742] يُنظر: ((فتح الباري)) (2/404). .
وعن
جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجصَّصَ القَبرُ، وأن يُقعَدَ عليه، وأن يُبنى عليه)) [743] أخرجه مسلم (970). .
فعمومُ هذا الحديثِ يشمَلُ بناءَ المسجِدِ على القبرِ، كما يشمَلُ بناءَ القُبَّةِ عليه.
والنَّهيُ عن بناءِ المساجِدِ على القبورِ يستلزِمُ النَّهيَ عن الصَّلاةِ فيها؛ لأنَّ النَّهيَ عن الوسيلةِ يستلزِمُ النهيَ عن المقصودِ بها، و
التوسُّلِ بها إليه
[744] يُنظر: ((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)) (ص: 31). .
قال
الألبانيُّ: (قد تبيَّن من الأحاديثِ السَّابقةِ خَطَرُ اتخاذِ القُبورِ مساجِدَ، وما على من فَعَل ذلك من الوعيدِ الشَّديدِ عند اللهِ عَزَّ وجلَّ؛ فعلينا أن نفْقَهَ معنى الاتخاذِ المذكورِ حتى نَحْذَرَه، فأقولُ:
الذي يمكِنُ أن يُفهَمَ من هذا الاتخاذِ إنَّما هو ثلاثةُ معانٍ:
الأوَّلُ: الصَّلاةُ على القبورِ بمعنى السُّجودِ عليها.
الثَّاني: السُّجودُ إليها واستقبالُها بالصَّلاةِ والدُّعاءِ.
الثَّالِثُ: بناءُ المساجِدِ عليها وقَصْدُ الصَّلاةِ فيها)
[745] يُنظر: ((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)) (ص: 21). .
وأحاديثُ النَّهيِ عن اتخاذِ القُبورِ مساجِدَ بلَغَت حَدَّ التواتُرِ، كما ذكر ذلك جمعٌ من أهلِ العِلمِ
[746] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (4/ 30)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/184)، ((حقيقه السنة والبدعة)) للسيوطي (ص: 113)، ((نظم المتناثر من الحديث المتواتر)) للكتاني (ص: 103). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (يحرُمُ الإسراجُ على القُبورِ، واتِّخاذُ المساجِدِ عليها وبَيْنَها، ويتعَيَّنُ إزالتُها... ولا أعلَمُ فيه خلافًا بين العُلَماءِ المعروفينَ)
[747] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) (5/361). .
وقال
السيوطيُّ: (فأمَّا بناءُ المساجِدِ عليها، وإشعالُ القناديلِ والشُّموعِ أو السُّرُجِ عندها، فقد لُعِن فاعِلُه... وصَرَّح عامَّةُ عُلَماءِ الطَّوائفِ بالنَّهيِ عن ذلك؛ متابعةً للأحاديثِ الواردةِ في النَّهيِ عن ذلك، ولا ريبَ في القَطْعِ بتحريمِه)
[748] يُنظر: ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) (ص: 113، 114). .
وقد اتَّفَقت المذاهِبُ الأربعةُ على تحريمِ اتخاذِ القُبورِ مساجِدَ، ومنهم من صَرَّح بأنَّه كبيرةٌ:1- مذهَبُ الحَنَفيَّةِ:قال
محمَّدُ بنُ الحسَنِ تلميذُ
أبي حنيفةَ: (لا نَرى أن يُزادَ على ما خَرَج منه، ونَكرَهُ أن يُجَصَّصَ أو يُطَيَّنَ، أو يُجعَلَ عنده مَسجِدٌ، أو عَلَم، أو يُكتَبَ عليه)
[749] يُنظر: ((الآثار)) (1/266). .
2- مَذهَبُ المالكيَّةِ:قال أبو العَبَّاسِ القُرطبي تعليقًا على حديثِ:
((لا تُصَلُّوا إلى القُبورِ ولا تجلِسوا عليها)) [750] أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه. : (أي: لا تتَّخِذوها قِبلةً، وهذا مِثلُ ما قَدَّمْناه في النَّهيِ عن اتخاذِ قَبْرِه مَسجِدًا، وفي ذَمِّ اليهودِ بما فعلوا من ذلك، وكلُّ ذلك لقَطعِ الذَّريعةِ أن يعتَقِدَ الجُهَّالُ في الصَّلاةِ إليها أو عليها الصَّلاةَ لها، فيؤدِّي إلى عبادةِ مَن فيها كما كان السَّبَبُ في عبادةِ الأصنامِ)
[751] يُنظر: ((المفهم)) (2/ 628). .
وقال
أبو عبدِ اللهِ القُرطبيُّ بعد ذِكْرِه حديثَ شِرارِ الخَلْقِ عند اللهِ
[752] الحديث روي بلفظ: (أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). أخرجه البخاري (427) واللفظ له، ومسلم (528) من حديث عائشة رضي الله عنها. : (قال علماؤُنا: وهذا يُحرِّمُ على المسلِمين أن يتَّخِذوا قبورَ الأنبياءِ والعُلَماءِ مَساجِدَ)
[753] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/380). .
وقال أيضًا: (اتخاذُ المساجِدِ على القُبورِ، والصَّلاةُ فيها، والبناءُ عليها، إلى غيرِ ذلك مما تضمَّنَتْه السُّنَّةُ من النَّهيِ عنه: ممنوعٌ لا يجوزُ)
[754] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/379). .
وقال
عبدُ الحميدِ بن باديس في حديثِ
((أولئك شِرارُ الخَلْقِ عندَ اللهِ)) [755] أخرجه البخاري (427)، ومسلم (528) مطولاً من حديث عائشة رضي الله عنها. : (هذا الحديثُ أحَدُ الأحاديثِ الكثيرةِ المستفيضةِ التي جاءت في التحذيرِ من بناءِ المساجِدِ على القبورِ، والتنبيهِ على أنَّ ذلك يؤدِّي إلى عبادتِها، والتأكيدِ لذلك بذِكرِ ما كان ممَّن قَبْلَنا من ذلك، وما أدَّاهم إليه... وذلك لأنَّ القَبرَ المعظَّمَ ببناءِ المسجِدِ عليه، والصُّورةَ المعَظَّمةَ لتمثيلِها ذلك الصَّالحَ: يصيرانِ ممَّا يُعبَدُ ويُعتَقَدُ فيه النَّفعُ والضَّرُّ، والعطاءُ والمنعُ، فيُدعى ويُسألُ، وتُطلَبُ منه الحوائجُ، وتَخَشعُ عنده القلوبُ، وتُنذَرُ له النُّذورُ، وهذه من العبادةِ التي لا تكونُ إلَّا لله، وقد جاء في صحيحِ
البُخاريِّ عن
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: «أنَّ وَدًّا وسُواعًا ويَغوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا التي كانت أصنامًا لقومِ نوحٍ، وعَبَدَتْها العربُ من بَعْدِهم: كانت أسماءَ رِجالٍ صالحينَ من قومِ نوحٍ، فلمَّا هلكوا أوحى
الشَّيطانُ إلى قومِهم أن انصِبوا إلى مجالِسِهم التي كانوا يجلِسون أنصابًا وسَمُّوها بأسمائِهم، ففعلوا، فلم تُعبَدْ، حتى إذا هلك أولئك -الذين نَصَبوها- وتنَسَّخَ -تغَيَّرَ- العِلمُ عُبِدَت»
[756] أخرجه البخاري (4920) باختلاف يسير ، فعُلِمَ مِن هذا أنَّ ما يكون موضوعًا في أصلِه بقَصدٍ حَسَنٍ يُمنَعُ ويُنهى عنه إذا كان يؤدِّي بعد ذلك إلى مَفسَدةٍ.
هذا الحديثُ نَصٌّ صريحٌ في المنعِ مِن بناءِ المساجدِ على قبورِ الصَّالحين، وتصويرِ صُوَرِهم، وفيه الوَعيدُ الشَّديدُ على ذلك، ونظيرُه حديثُ جُندُبٍ رَضِيَ الله عنه عند
مُسلمٍ سَمِعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ -قبل أن يموتَ عليه السَّلامُ بخمسةِ أيَّامٍ-:
((ألا وإنَّ من كان قَبْلَكم يتَّخِذون قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجِدَ، ألا فلا تتَّخِذوا القُبورَ مَساجِدَ، إنِّي أنهاكم عن ذلك)) [757] أخرجه مسلم (532) بنحوه. .
هذه هي حالتُنا اليومَ مَعشَرَ مُسلِمي الجزائِرِ، وأحسَبُ غَيرَنا مِثْلَنا؛ تجِدُ أكثَرَ أو كثيرًا من مساجِدِنا مَبنيَّةً على القبورِ المنسوبِ أصحابُها إلى الصَّلاحِ، ومنهم من كانوا معروفين بذلك، ومنهم المجهولون. إن قيل: إنما بُنِيَت المساجِدُ على تلك القبورِ للتبَرُّكِ بأصحابها لا لعبادتِهم. قُلْنا: إنَّ النَّهيَ جاء عامًّا لبناءِ المسجِدِ على القَبرِ، بقَطعِ النَّظَرِ عن قَصدِ صاحِبِه به، ولو كانت صورةُ البناءِ للتبرُّكِ مرادةً بالنَّهيِ لاستثناها الشَّرعُ، فلمَّا لم يستَثنِها عَلِمْنا أنَّ النهيَ على العمومِ؛ وذلك لأنَّها وإن لم تؤَدِّ إلى عبادةِ المخلوقِ في الحالِ فإنَّها في مَظِنَّةِ أن تؤدِّيَ إلى ذلك في المآلِ. وذرائِعُ الفَسادِ تُسَدُّ، لا سيَّما ذريعةِ الشِّركِ ودعاءِ غيرِ اللهِ التي تهدِمُ صُروحَ التوحيدِ، وانظُرْ إلى ما جاء في حديثِ
ابنِ عَبَّاسٍ في أصنامِ قَومِ نوحٍ، وكيف كان أصلُ وَضْعِها، وكيف كان مآلُها، وتعالَ إلى الواقِعِ المُشاهَدِ نتحاكَمْ إليه، فإنَّنا نشاهِدُ جماهيرَ العوامِّ يتوجَّهون لأصحابِ القُبورِ ويَسألونهم، ويَنذِرون لهم، ويتمسَّحون بتوابيتِهم، وقد يطوفون بها، ويحصُلُ لهم من الخُشوعِ والابتِهالِ والتضَرُّعِ ما لا يُشاهَدُ منهم إذا كانوا في بيوتِ اللهِ التي لا مقابِرَ فيها! فهذا هو الذي حَذَّر منه الشَّرعُ قد أدَّت إليه كُلِّه، وهَبْها لم تؤَدِّ إلى شَيءٍ منه أصلًا، فكفانا عمومُ النَّهيِ وصراحتُه، والعاقِلُ من نظر بإنصافٍ ولم يغتَرَّ بكُلِّ قَولٍ قيلَ)
[758] يُنظر: ((مجالس التذكير من حديث البشير النذير)) (ص: 147-149). .
3- مَذهَبُ الشَّافعيَّةِ:قال
الشَّافعيُّ: (أكرَهُ أن يُبنى على القبرِ مسجِدٌ، وأن يُسوَّى، أو يُصلَّى عليه وهو غيرُ مُسوًّى -يعني: أنَّه ظاهِرٌ معروفٌ- أو يُصلَّى إليه، وإن صلَّى إليه أجزأه وقد أساء... وأكرَهُ هذا؛ للسُّنَّةِ والآثارِ، وأنَّه كَرِهَ -واللهُ تعالى أعلَمُ- أن يُعظِّمَه أحدٌ من المسلمين، يعني: يتَّخِذُ قَبْرَه مسجدًا، ولم تؤمَنْ في ذلك الفتنةُ والضَّلالُ على من يأتي بَعْدُ)
[759] يُنظر: ((الأم)) (2/632). .
قال
الألبانيُّ: (لا أستَبعِدُ حَمْلَ الكراهةِ في عبارةِ
الشَّافعيِّ المتقَدِّمةِ خاصَّةً على الكراهةِ التحريميَّةِ؛ لأنَّه هو المعنى الشَّرعيُّ المقصودُ في الاستعمالِ القرآنيِّ، ولا شَكَّ أنَّ الشَّافعيَّ متأثِّرٌ بأسلوبِ القُرآنِ غايةَ التأثُّرِ، فإذا وقَفْنا في كلامِه على لفظٍ له معنًى خاصٌّ في القرآنِ الكريمِ، وجب حملُه عليه، لا على المعنى المصطَلَحِ عليه عند المتأخِّرين؛ فقد قال تعالى:
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وهذه كُلُّها محرَّماتٌ، فهذا المعنى -والله أعلمُ- هو الذي أراده الشافعيُّ رحمه الله بقولِه المتقَدِّمِ: «وأكرَهُ»، ويؤيِّدُه أنَّه قال عَقِبَ ذلك: «وإن صلَّى إليه أجزأه وقد أساء»؛ فإنَّ قولَه: «أساء» معناه: ارتكب سيِّئةً، أي: حرامًا؛ فإنَّه هو المرادُ بالسيِّئةِ في أسلوبِ القُرآنِ، أيضًا فقد قال تعالى في سورةِ الإسراءِ بعد أن نهى عن قَتلِ الأولادِ، وقِرْبانِ الزِّنا، وقَتلِ النَّفسِ، وغيرِ ذلك:
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا أي: محَرَّمًا، ويؤكِّدُ أنَّ هذا المعنى هو المرادُ مِن الكراهةِ في كلامِ
الشَّافعيِّ في هذه المسألةِ أنَّ مَذهَبَه أنَّ الأصلَ في النَّهيِ التحريمُ إلَّا ما دلَّ الدليلُ على أنَّه لمعنًى آخَرَ، كما صَرَّح بذلك في رسالتِه... ومن المعلومِ لدى كُلِّ من درس هذه المسألةَ بأدِلَّتِها أنَّه لا يُوجَدُ أيُّ دليلٍ يَصرِفُ النَّهيَ الواردَ في بعضِ الأحاديثِ المتقَدِّمةِ إلى غيرِ التحريمِ، كيف والأحاديثُ تؤكِّدُ أنَّه للتحريمِ كما سبق؟ ولذلك فإني أقطَعُ بأنَّ التحريمَ هو مذهَبُ
الشَّافعيِّ، لا سِيَّما وقد صَرَّح بالكراهةِ بعد أن ذكَرَ حديثَ:
((قاتَلَ اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مساجِدَ)) كما تقَدَّم، فلا غَرابةَ إذَنْ إن صَرَّح الحافِظُ العراقيُّ -وهو شافِعيُّ المذهَبِ- بتحريمِ بناءِ المسجِدِ على القَبْرِ كما تقَدَّمَ. واللهُ أعلَمُ)
[760] يُنظر: ((تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)) (ص: 35). .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (السَّلَفُ كانوا يَستعمِلونَ الكراهَةَ في معناها الذي استُعمِلَت فيه في كلامِ اللهِ ورَسولِه، ولكِنِ المتأخِّرون اصطلحوا على تخصيصِ الكراهةِ بما ليس بمحَرَّمٍ، وتركُهُ أرْجَحُ من فِعْلِه، ثمَّ حَمَل من حَمَل منهم كلامَ الأئمَّةِ على الاصطلاحِ الحادِثِ، فغَلِطَ في ذلك، وأقْبَحُ غَلطًا منه مَنْ حمل لفظَ الكراهةِ أو لفظَ «لا ينبغي» في كلامِ اللهِ ورَسولِه على المعنى الاصطلاحيِّ الحادِثِ!)
[761] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (2/81). .
وقال
النوويُّ في حديثِ
((ألَا فلا تتَّخِذوا القُبورَ مَساجِدَ، إنِّي أنهاكم عن ذلك)) [762] أخرجه مسلم (532) مطولاً. : (قال العُلَماءُ: إنَّما نهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن اتخاذِ قَبرِه وقَبْرِ غَيرِه مَسجِدًا؛ خَوفًا من المبالغةِ في تعظيمِه والافتتانِ به، فرُبَّما أدَّى ذلك إلى الكُفرِ، كما جرى لكثيرٍ مِن الأُمَمِ الخاليةِ)
[763] يُنظر: ((شرح مسلم)) (5/ 13). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ في حديثِ
((لعن اللهُ اليَهودَ؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ)) [764] أخرجه البخاري (1330)، ومسلم (529) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، بلَفظِ: ((لَعَن اللهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مَسجِدًا)). ورُوِيَ بلفظِ: ((وإنَّ من كان قبلَكم كانوا يتَّخِذون قبورَ أنبيائِهم وصالحِيهم مساجِدَ، ألَا فلا تتَّخِذوا القبورَ مَساجِدَ)). أخرجه مسلم (532) من حديثِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. : (إنَّ الوعيدَ على ذلك يتناوَلُ من اتخذ قُبورَهم مساجِدَ؛ تعظيمًا ومغالاةً كما صنع أهلُ الجاهليَّةِ، وجَرَّهم ذلك إلى عبادتِهم، ويتناوَلُ من اتخذ أمكِنةَ قُبورِهم مساجِدَ بأن تُنبَشَ وتُرمى عِظامُهم)
[765] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/ 524). .
وقال
ابن حجر الهيتمي: (الكبيرةُ الثَّالِثةُ والرَّابعةُ والخامِسةُ والسَّادِسةُ والسَّابعةُ والثَّامنةُ والتِّسعونَ: اتخاذُ القُبورِ مساجِدَ، وإيقادُ السُّرُجِ عليها، واتخاذُها أوثانًا، والطَّوافُ بها، واستلامُها، والصَّلاةُ إليها)
[766] يُنظر: ((الزواجر)) (1/244). .
ثمَّ قال: (عَدُّ هذه السِّتَّةِ من الكبائِرِ وَقَع في كلامِ بعضِ الشَّافعيَّةِ، وكأنَّه أخذ ذلك ممَّا ذكرتُه من هذه الأحاديثِ، ووجهُ أخْذ اتخاذِ القبرِ مسجِدًا منها واضِحٌ؛ لأنَّه لَعَن من فَعَل ذلك بقبورِ أنبيائِه، وجَعَل مَن فعل ذلك بقبورِ صُلَحائِه شَرَّ الخَلقِ عند اللهِ يومَ القيامةِ؛ ففيه تحذيرٌ لنا كما في روايةِ: «يُحَذِّرُ ما صَنَعوا»: أي: يحَذِّرُ أمَّتَه بقَولِه لهم ذلك من أن يَصنَعوا كصُنعِ أولئك، فيُلعَنوا كما لُعِنوا. واتخاذُ القبرِ مَسجِدًا معناه الصَّلاةُ عليه أو إليه، وحينئذٍ فقَولُه: «والصَّلاةُ إليها» مكَرَّرٌ، إلَّا أن يُرادَ باتِّخاذِها مساجِدَ الصَّلاةُ عليها فقط، نعَمْ، إنَّما يتَّجِهُ هذا الأخذُ إن كان القبرُ قبرَ مُعَظَّمٍ من نبيٍّ أو وليٍّ، كما أشارت إليه روايةُ: «إذا كان فيهم الرَّجُلُ الصَّالحُ»، ومِن ثمَّ قال أصحابُنا: «تَحرُمُ الصَّلاةُ إلى قُبورِ الأنبياءِ والأولياءِ تبرُّكًا وإعظامًا»، فاشتَرَطوا شيئينِ: أن يكونَ قَبْرَ مُعَظَّمٍ، وأن يُقصَدَ بالصَّلاةِ إليه -ومِثلُها الصَّلاةُ عليه- التبَرُّكُ والإعظامُ، وكونُ هذا الفِعلِ كبيرةً ظاهِرٌ من الأحاديثِ المذكورةِ؛ لِما عَلِمْتَ، وكأنَّه قاس على ذلك كُلَّ تعظيمٍ للقبرِ، كإيقادِ السُّرُجِ عليه تعظيمًا له وتبَرُّكًا به، والطَّوافُ به كذلك، وهو أخذٌ غيرُ بعيدٍ، سِيَّما وقد صَرَّح في الحديثِ المذكورِ آنفًا بلَعْنِ من اتَّخَذ على القبرِ سُرُجًا، فيُحمَلُ قَولُ أصحابِنا بكراهةِ ذلك على ما إذا لم يَقصِدْ به تعظيمًا وتبَرُّكًا بذي القَبرِ، وأمَّا اتخاذُها أوثانًا فجاء النَّهيُ عنه بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تتَّخِذوا قَبْري وَثَنًا يُعبَدُ بَعْدي)) [767] أخرجه مالك (1/172)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2141) مطولاً باختلاف يسير من حديثِ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ. صحَّحه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/41)، والألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (715). أي: لا تُعَظِّموه تعظيمَ غَيرِكم لأوثانِهم بالسُّجودِ له أو نحوِه، فإن أراد ذلك الإمامُ بقَولِه: «واتخاذُها أوثانًا» هذا المعنى، اتجَه ما قاله من أنَّ ذلك كبيرةٌ، بل كُفرٌ بشَرْطِه، وإن أراد أنَّ مُطلَقَ التعظيمِ الذي لم يُؤذَنْ فيه: كبيرةٌ، ففيه بُعْدٌ، نعم قال بعضُ الحنابلةِ: قَصْدُ الرَّجُلِ الصَّلاةَ عند القبِر متَبَرِّكًا بها عينُ المحادَّةِ للهِ ورَسولِه، وإبداعُ دينٍ لم يأذَنْ به اللهُ؛ للنَّهيِ عنها، ثمَّ إجماعًا؛ فإنَّ أعظَمَ المحَرَّماتِ وأسبابِ الشِّرْكِ الصَّلاةُ عندها واتخاذُها مساجِدَ أو بناؤها عليها. والقَولُ بالكراهةِ محمولٌ على غير ذلك؛ إذ لا يُظَنُّ بالعُلَماءِ تجويزُ فِعل ٍتواتَرَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَعْنُ فاعِلِه! وتجب المبادرةُ لهَدْمِها، وهَدْمِ القبابِ التي على القبورِ؛ إذ هي أضَرُّ مِن مَسجِدِ الضِّرارِ؛ لأنَّها أُسِّسَت على معصيةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه نهى عن ذلك، وأمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهَدْمِ القبورِ المُشرِفةِ، وتجِبُ إزالةُ كُلِّ قنِديلٍ أو سِراجٍ على قبرٍ، ولا يَصِحُّ وَقْفُه ونَذْرُه)
[768] يُنظر: ((الزواجر)) (1/245). .
4- مَذهَبُ الحنابلةِ:قال البهوتي: («و» يَحرُمُ «اتخاذُ المسجِدِ عليها» أي: القبورِ «وبيْنها»؛ لحديثِ أبي هُرَيرةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لَعَن اللهُ اليهودَ؛ اتَّخذوا قُبوَر أنبيائهم مساجِدَ)) مُتَّفَقٌ عليه «وتتعَيَّنُ إزالتُها» أي: المساجِدُ، إذا وُضِعَت على القُبورِ، أو بيْنَها «وفي كتابِ الهَدْيِ» النبويِّ ل
ابنِ قَيِّمِ الجوزيَّةِ «لو وُضِعَ المسجِدُ والقبرُ معًا لم يجُزْ، ولم يَصِحَّ
الوقفُ ولا الصَّلاةُ» تغليبًا لجانبِ الحَظرِ)
[769] يُنظر: ((كشاف القناع)) (4/220). .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (حَرَق رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَسجِدَ الضِّرارِ، وأمَرَ بهَدْمِه، وهو مسجِدٌ يُصلَّى فيه ويُذكَرُ اسمُ اللهِ فيه، لَمَّا كان بناؤُه ضَرَرًا وتفريقًا بين المؤمنينَ، ومأوًى للمُنافقين، وكُلُّ مكانٍ هذا شأنُه فواجِبٌ على الإمامِ تعطيلُه؛ إمَّا بهدمٍ أو تحريقٍ، وإمَّا بتغييرِ صُورتِه وإخراجِه عما وُضِعَ له، وإذا كان هذا شأنَ مَسجِدِ الضِّرارِ، فمَشاهِدُ الشِّرْكِ التي تدعو سَدَنَتُها إلى اتِّخاِذ من فيها أندادًا مِن دُونِ اللهِ: أحقُّ بذلك وأوجَبُ)
[770] يُنظر: ((زاد المعاد)) (3/500). .
ثم قال: (
الوَقفُ لا يَصِحُّ على غيرِ برٍّ ولا قُربةٍ، كما لم يصحَّ وَقفُ هذا المسجِدِ، وعلى هذا فيُهدَمُ المسجِدُ إذا بُنِيَ على قبرٍ، كما يُنبَشُ الميِّتُ إذا دُفِنَ في المسجِدِ، نصَّ على ذلك
الإمامُ أحمدُ وغيرُه؛ فلا يجتَمِعُ في دينِ الإسلامِ مَسجِدٌ وقبرٌ، بل أيُّهما طرأ على الآخَرِ مُنِعَ منه، وكان الحُكمُ للسَّابِقِ، فلو وُضِعا معًا لم يَجُزْ ولا يصحُّ هذا
الوَقفُ، ولا يجوزُ ولا تصحُّ الصَّلاةُ في هذا المسجِدِ؛ لنَهْيِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، ولَعْنِه من اتَّخَذ القَبرَ مَسجِدًا، أو أَوقَدَ عليه سِراجًا، فهذا دينُ الإسلامِ الذي بعث اللهُ به رسولَه ونبيَّه، وغُربتُه بين النَّاسِ كما ترى)
[771] يُنظر: ((زاد المعاد)) (3/501). .
وقد سُئِلَ
ابنُ تيميَّةَ: هل تصِحُّ الصَّلاةُ في المسجِدِ إذا كان فيه قَبرٌ والنَّاسُ تجتَمِعُ فيه لصلاتَيِ الجماعةِ والجُمُعةِ أم لا؟ وهل يُمهَّدُ القبرُ أو يُعمَلُ عليه حاجزٌ أو حائِطٌ؟
فأجاب: (الحَمدُ للهِ، اتَّفَق الأئمَّةُ أنَّه لا يُبنى مسجِدٌ على قبرٍ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخِذون القُبورَ مساجِدَ، ألا فلا تتَّخِذوا القبورَ مَساجِدَ؛ فإنِّي أنهاكم عن ذلك)) [772] أخرجه مسلم (532) مطوَّلًا من حديثِ جُندُبِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه بلفظِ: ((وإنَّ من كان قَبْلَكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائِهم وصالحيهم مساجِدَ، ألا فلا تتَّخِذوا القُبورَ مساجِدَ؛ إنِّي أنهاكم عن ذلك)). . وأنَّه لا يجوزُ دَفنُ مَيِّتٍ في مسجدٍ، فإن كان المسجِدُ قبل الدَّفنِ غُيِّر إمَّا بتسويةِ القبرِ، وإمَّا بنبشِه إن كان جديدًا، وإن كان المسجِدُ بُني بعد القَبرِ فإمَّا أن يُزالَ المسجِدُ، وإمَّا أن تُزالَ صُورةُ القبرِ؛ فالمسجِدُ الذي على القَبرِ لا يُصلَّى فيه فَرضٌ ولا نَفلٌ؛ فإنَّه مَنهيٌّ عنه)
[773] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (22/194). .
قال
السيوطيُّ: (هذه المساجِدُ المبنيَّةُ على القُبورِ يتعيَّنُ إزالتُها، هذا ممَّا لا خلافَ فيه بين العُلَماءِ المعروفين، وتُكرَهُ الصَّلاةُ فيها من غيرِ خِلافٍ، ولا تصِحُّ عند
الإمامِ أحمدَ في ظاهِرِ مذهَبِه؛ لأجْلِ النَّهيِ واللَّعنِ الواردِ في ذلك)
[774] يُنظر: ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) (ص: 115). .
وقال
الشوكانيُّ: (في صحيحِ
مسلمٍ وغيرِه عن أبي الهيَّاجِ الأسدِيِّ قال: «قال لي عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ألَا أبعَثُك على ما بعَثَني عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألَّا أدَعَ تمثالًا إلا طَمَسْتُه، ولا قبرًا مُشرِفًا إلَّا سَوَّيتُه». وفي صحيحِ
مسلمٍ أيضًا عن ثُمامةَ بنِ شُفَيٍّ نحوُ ذلك. وفي هذا أعظَمُ دَلالةٍ على أنَّ تسويةَ كُلِّ قبرٍ مُشرِفٍ بحيثُ يرتفِعُ زيادةً على القَدرِ المشروعِ واجبةٌ متحَتِّمةٌ؛ فمِن إشرافِ القُبورِ: أن يُرفَعَ سُمكُها أو يُجعَلَ عليها القِبابُ أو المساجِدُ؛ فإنَّ ذلك من النَّهيِ عنه بلا شَكٍّ ولا شُبهةٍ؛ ولهذا فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَث لهدمِها أميرَ المؤمنينَ عَلِيًّا، ثمَّ أميرُ المؤمنين بَعَث لهَدْمِها أبا الهَيَّاجِ الأسديَّ في أيامِ خلافتِه)
[775] يُنظر: ((شرح الصدور بتحريم رفع القبور)) (ص: 13). .
وقال
الشوكانيُّ أيضًا: (قد صَحَّ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: "كُلُّ أمرٍ ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ"، ورفعُ القُبورِ وبناءُ القِبابِ والمساجِدِ عليها: ليس عليها أمرُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فهو رَدٌّ على قائِلِه، أي: مَردودٌ عليه)
[776] يُنظر: ((شرح الصدور بتحريم رفع القبور)) (ص: 21). .
وقال
ابنُ باز: (إشادةُ المساجِدِ على قُبورِ الأنبياءِ والصَّالحين وآثارِهم: ممَّا جاءت الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ الكامِلةُ بالمنعِ منه والتحذيرِ عنه، ولَعْنِ من فعَلَه؛ لكَونِه من وسائِلِ الشِّرْكِ والغُلُوِّ في الأنبياءِ والصَّالحين، والواقِعُ شاهِدٌ بصِحَّةِ ما جاءت به الشَّريعةُ، ودليلٌ على أنَّها من عندِ اللهِ عَزَّ وجلَّ، وبرهانٌ ساطِعٌ وحُجَّةٌ قاطِعةٌ على صِدقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما جاء به عن اللهِ وبلَّغَه الأمَّةُ، وكُلُّ من تأمَّل أحوالَ العالَمِ الإسلاميِّ وما حصَلَ فيه من الشِّرْكِ والغُلُوِّ بسَبَبِ إشادةِ المساجِدِ على الأضرِحةِ، وتعظيمِها وفَرْشِها وتجميلِها، واتخاذِ السَّدَنةِ لها؛ عَلِمَ يقينًا أنَّها من وسائِلِ الشِّركِ، وأنَّ من محاسِنِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ المنعَ منها، والتَّحذيرَ مِن إشادتِها)
[777] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/434). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الدَّفنُ في المساجِدِ نهى عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونهى عن اتِّخاذِ المساجدِ على القُبورِ، ولَعَن من اتخَذَ ذلك، وهو في سياقِ الموتِ، يحَذِّرُ أمَّتَه، ويَذكُرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ هذا مِن فِعلِ اليَهودِ والنَّصارى، ولأنَّ هذا وسيلةٌ إلى الشِّرْك باللهِ عَزَّ وجلَّ؛ لأنَّ إقامةَ المساجِدِ على القُبورِ، ودَفْنَ الموتى فيها: وسيلةٌ إلى الشِّرْكِ باللهِ عَزَّ وجلَّ في أصحابِ هذه القُبورِ، فيعتَقِدُ النَّاسُ أنَّ أصحابَ هذه القُبورِ المدفونين في المساجِدِ ينفَعون أو يضُرُّون، أو أنَّ لهم خاصيَّةً تستوجِبُ أن يُتقرَّبَ إليهم بالطَّاعاتِ مِن دُونِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ فيجِبُ على المسلمين أن يحذَروا من هذه الظَّاهِرةِ الخطيرةِ، وأن تكونَ المساجِدُ خاليةً مِن القُبورِ، مُؤَسَّسةً على التَّوحيدِ والعقيدةِ الصَّحيحةِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، فيجِبُ أن تكونَ المساجِدُ لله سُبحانَه وتعالى خاليةً مِن مظاهِرِ الشِّركِ، تؤدَّى فيها عبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، هذا هو واجِبُ المسلمين. واللهُ الموفِّقُ)
[778] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/234). .
وقد نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن اتِّخاذِ قَبْرِه عِيدًافعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تجعَلوا بيوتَكم قُبورًا، ولا تجعَلوا قبري عيدًا، وصَلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتَكم تَبلُغُني حيثُ كُنتُم)) [779] أخرجه أبو داود (2042) واللَّفظُ له، وأحمد (8804). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2042)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2042)، وحَسَّنه ابنُ تيمية في ((الإخنائية)) (265)، ومحمدُ بنُ عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (207)، وابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/314). ووَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ قَبرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ قَبرٍ على وَجهِ الأرضِ، وقد نهى عن اتخاذِه عيدًا، فقَبرُ غيرِه أَولى بالنَّهيِ كائنًا من كان، ثمَّ إنَّه قَرَن ذلك بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ولا تتَّخِذوا بُيوتَكم قبورًا)) أي: لا تُعَطِّلوها عن الصَّلاةِ فيها والدُّعاءِ والقراءةِ، فتكونُ بمنزلةِ القُبورِ، فأمرَ بتحَرِّي العبادةِ في البيوتِ، ونهى عن تحَرِّيها عند القُبورِ، بعَكسِ ما يفعَلُه المُشرِكون من النَصارى ومن تشَبَّه بهم
[780] يُنظر: ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) (ص: 110). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ في حديث
((اللَّهُمَّ لا تجعَلْ قبري وَثَنًا يُعبَدُ)) [781] أخرجه مالك (1/172)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2141) مطولاً من حديثِ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ. صحَّحه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/41)، والألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (715). : (الوَثَنُ: الصَّنَمُ، وهو الصُّورةُ من ذَهَبٍ كان أو من فِضَّةٍ أو غير ِذلك من التِّمثالِ، وكُلُّ ما يُعبَدُ من دونِ اللهِ فهو وَثَنٌ، صنمًا كان أو غيرَ صنمٍ، وكانت العَرَبُ تصَلِّي إلى الأصنامِ وتعبُدُها، فخَشِيَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمَّتِه أن تصنَعَ كما صنع بعضُ من مضى من الأُمَمِ؛ كانوا إذا مات لهم نبيٌّ عَكَفوا حولَ قَبرِه كما يُصنَعُ بالصَّنَمِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهُمَّ لا تجعَلْ قبري وثنًا يصلَّى إليه، ويُسجَدُ نَحوَه، ويُعبَدُ؛ فقد اشتَدَّ غَضَبُ اللهِ على من فعل ذلك، وكان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحذِّرُ أصحابَه وسائِرَ أمَّتِه من سوءِ صَنيعِ الأُمَمِ قَبْلَه، الذين صَلَّوا إلى قبورِ أنبيائهم واتَّخَذوها قبلةً ومَسجِدًا، كما صنعت الوثَنيَّةُ بالأوثانِ التي كانوا يَسجُدون إليها ويُعَظِّمونها، وذلك الشِّركُ الأكبَرُ؛ فكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخبرُهم بما في ذلك من سَخَطِ اللهِ وغَضَبِه، وأنَّه ممَّا لا يرضاه؛ خشيةً عليهم امتثالَ طُرُقِهم، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحِبُّ مخالفةَ أهلِ الكِتابِ وسائِرِ الكُفَّارِ، وكان يخافُ على أمَّتِه اتِّباعَهم)
[782] يُنظر: ((التمهيد)) (5/45). .
وجاء في كتابِ
((التوضيح عن توحيد الخلَّاق)): (في الصَّحيحينِ مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ وسَعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ: المسجِدِ الحرامِ، والمسجِدِ الأقصى، ومَسْجدي هذا)) [783] أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397) باختلاف يسير. ، فالسَّفَرُ إلى هذه المساجِدِ الثَّلاثةِ للصَّلاةِ فيها والدُّعاءِ والذِّكرِ وقراءةِ القرآنِ والاعتكافِ: هو من الأعمالِ الصَّالحةِ، وما سِوى هذه المساجِدِ لا يُشرَعُ السَّفَرُ إليه باتِّفاقِ أهلِ العِلمِ، حتَّى مَسجِدُ قُباءٍ يُستحَبُّ قَصدُه من المكانِ القريبِ كالمدينةِ، ولا يُشرَعُ شَدُّ الرِّحالِ إليه من بَعيدٍ... فإذا كان السَّفَرُ إلى مسجدٍ غيرِ المساجِدِ الثلاثةِ ممتَنِعٌ شرعًا مع أنَّ قَصْدَه لأهلِ مِصرٍ يجِبُ تارةً، ويُستحَبُّ أخرى، وقد جاء في قَصدِ المساجِدِ ما لا يُحصى من الفَضلِ؛ فالسَّفَرُ إلى مجَرَّدِ القُبورِ أَولى بالمنعِ، ولا يُغتَرَّ بكثرةِ العاداتِ الفاسدةِ؛ فإنَّ هذا من التشَبُّهِ بأهلِ الكِتابِ المتَّخِذين قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ وأعيِدَةً، الذي أخبَرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كائِنٌ في هذه الأمَّةِ لا محالةَ، وأصلُ ذلك إنَّما هو اعِتقادُ فَضلِ الدُّعاءِ عِندَها، وإلَّا فلو لم يقُمْ عندها هذا الاعتقادُ بالقُلوبِ لانمحى ذلك كُلُّه، وإذا كان قَصْدُها للدُّعاءِ يجُرُّ هذه المفاسِدَ كان حرامًا، كالصَّلاةِ عِندَها، وأَولى، وكان ذلك فتنةً للخَلقِ... وقد آلَ الأمرُ إلى قَصدِ مجَرَّدِ القبرِ واتخاذِه عيدًا ومَجمَعًا للنِّساءِ مع الرِّجالِ، حتى ترتفِعَ الأصواتُ عنده، ويَكثُرَ الضَّجيجُ أضعافًا مُضاعفةً على تلبيةِ الحَجيجِ، كُلٌّ يسألُ حاجتَه، وتفريجَ كُربتِه، وهم يعتَقِدون أنَّ زيارتَه يحصُلُ بها الغُفرانُ، والنَّجاةُ مِن النِّيرانِ، وأنَّها تَجُبُّ ما قبلها من الآثامِ! ألَا ترى أنَّ أكثَرَ الفَجَرةِ السَّاكِنين بمكَّةَ المشَرَّفةِ وجُدَّةَ طولَ أيَّامِ السَّنَةِ لا يتُركونَ ذنبًا مُوبِقًا إلَّا ارتَكبوه، ولا إثمًا كبيًرا إلَّا اكتَسَبوه، فإذا جاء شَهرُ رجبٍ أخَذَ على ذِمَّتِه المعسِرُ منهم واستدان، وذَهَب إلى القبرِ يسألُ المغفرةَ مِن خاتَمِ الرُّسُلِ وأفضَلِ ولَدِ عَدْنانَ، فأخَذوا بالهَتْفِ بذِكْرِه وبكُنيَتِه قائِلينَ: جِئْنا إليك قاصِدينَ تائبينَ، لا ترُدَّنا أبا إبراهيمَ، منذ يفارِقونَ بلادَهم إلى أن يرجِعوا يسألونَه المغفرةَ، وقَضاءَ الدُّيونِ، وتفريجَ الكُروبِ، فإذا رجعوا خائبين اعتَقَدوا أنَّهم خَرَجوا من آثامِهم كيَوَم ولَدَتْهم أمَّهاتُهم مسرورينَ، فعادوا على ما كانوا عليه من الباطِلِ والطُّغيانِ، ويقولون: هم متوكِّلون على سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنانَ! ولا نعني العوامَّ، بل هم ذوو العقائدِ مِن أهلِ العِلمِ غيرِ التَّامِّ، فهذا السَّفَرُ إليه وقَصْدُه لفِعلِ العِبادةِ عِندَه مِن الدُّعاءِ والصَّلاةِ: لا رَيبَ في حرمتِه والإثمِ فيه عندَ أهلِ العِلمِ، لا يتخَلَّفُ عنه متقَدِّمُهم ولا متأخِّرُهم؛ لِلَعْنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المتَّخِذين قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ)
[784] يُنظر: (ص: 248 - 250). .
وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((اجعَلوا من صلاتِكم في بيوتِكم، ولا تتَّخِذوها قبورًا)) [785] أخرجه البخاري (432)، ومسلم (777) واللَّفظُ له. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تجعَلوا بيوتَكم مقابِرَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَنفِرُ من البيتِ الذي يَسمَعُ سورةَ البقرةِ تُقرَأُ فيه)) [786] أخرجه مسلم (780). .
ثمَّ إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعقَبَ النَّهيَ عن اتخاذِ قَبْرِه عيدًا بقَولِه:
((صَلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صَلاتَكم تبلُغُني حيثُ كُنتم)) [787] أخرجه مطولاً أبو داود (2042) واللَّفظُ له، وأحمد (8804). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2042)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2042)، وحَسَّنه ابنُ تيمية في ((الإخنائية)) (265)، ومحمدُ بنُ عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (207)، وابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/314). ، وفي الحديثِ الآخَرِ:
((فإنَّ تسليمَكم يبلُغُني أينما كُنتُم)) [788] أخرجه مطولاً ابن أبي شيبة (7624) باختلاف يسير، وأبو يعلى (469)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (428) واللفظ لهما من حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه. حَسَّنه السخاوي في ((القول البديع)) (228)، وجَوَّده محمد بن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (206)، وقال ابن تيمية في ((الإخنائية)) (346): من وجوهٍ حِسانٍ يُصَدِّقُ بعضُها بعضًا. أي: أنَّ ما ينالُني منكم من الصَّلاةِ والسَّلامِ يحصُلُ مع قُرْبِكم من قبَري وبُعْدِكم منه؛ فلا حاجةَ بكم إلى اتخاذِه عيدًا
[789] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)) لابن تيمية (2/172). .
قال البركوي الحنفي: (لَمَّا كان مبدَأُ عبادةِ الأصنامِ ومَنشَؤُها من فتنةِ القُبورِ، نهى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه عن الافتتانِ بها، بوُجوهٍ كثيرةٍ:
منها: أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نهى عن اتِّخاذِها مَساجِدَ، فقال قبل أن يموتَ بخَمسٍ:
((ألا وإنَّ من كان قَبْلَكم كانوا يتَّخِذون قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ، ألَا فلا تتَّخِذوا القبورَ مَساجِدَ؛ فإنِّي أنهاكم عن ذلك )) [790] أخرجه مسلم (532) بنحوه. ... ومنها: أنَّه عليه السَّلامُ نهى عن تجصيصِها، والبناءِ عليها، أو الكتابةِ عليها، أو الزِّيادةِ عليها من غيرِ ترابِها، كما في حديثِ
جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، نهى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُبنى على القَبِر، أو يُجَصَّصَ، أو يُكتَبَ عليه)
[791] أخرجه مسلم (970) بلفظ: ((نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجصَّصَ القَبرُ، وأن يُقعَدَ عليه، وأن يُبنى عليه). .
ومنها: أنَّه عليه السَّلامُ نهى عن الصَّلاةِ عندها؛ لقَولِه:
((لا تجلِسوا على القُبورِ، ولا تُصَلُّوا إليها)) [792] أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه. ، والأحاديثُ في النَّهيِ عن ذلك والتغليظِ فيه كثيرةٌ؛ وذلك لأنَّ تخصيصَ القُبورِ بالصَّلاةِ عِندَها يُشبِهُ تعظيمَ الأصنامِ بالسُّجودِ لها والتقَرُّبِ إليها.
ومنها: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن اتِّخاذِ قَبْرِه عيدًا، فقال:
((لا تجعَلوا بُيوتَكم قُبورًا، ولا تجعَلوا قبري عِيدًا، وصَلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صَلاتَكم تَبلُغُني حيث كنتم)) [793] أخرجه أبو داود (2042) واللَّفظُ له، وأحمد (8804). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2042)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2042)، وحَسَّنه ابنُ تيمية في ((الإخنائية)) (265)، ومحمدُ بنُ عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (207)، وابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (3/314). ... وبالجملةِ: إنَّ من له معرفةٌ بالشِّركِ وأسبابِه وذرائِعِه، وفَهِمَ عن الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مقاصِدَه، جزم جزمًا لا يحتَمِلُ النَّقيضَ أنَّ هذه المبالغةَ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، واللَّعنَ والنَّهيَ بالصيغةِ التي هي: «لا تفعَلوا»، وصيغة: «إنِّي أنهاكم»، ليس لأجْلِ النجاسةِ الحاصِلةِ بالنَّبشِ، بل هو لأجْلِ نجاسةِ الشِّركِ اللَّاحقةِ بمن عصاه، وارتكَبَ ما نهاه عنه واتَّبَع هواه، ولم يخْشَ رَبَّه ومولاه، وقَلَّ نصيبُه أو عُدِمَ من تحقيقِ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ هذا وأمثالَه من النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صيانةٌ لحِمى التوحيدِ مِن أن يلحَقَه الشِّركُ ويَغشاه، وتجريدٌ له أن يُعدَلَ به سِواه)
[794] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 9-16) باختصار. .
وقال أبو السُّعود السويدي الشافعي: (لَمَّا كان مَنشَأُ عبادةِ الأصنامِ مِن جهةِ القُبورِ نهى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه في أوَّلِ الإسلامِ عن زيارةِ القُبورِ؛ سدًّا لذريعةِ الشِّركِ)
[795] يُنظر: ((العقد الثمين في بيان مسائل الدين)) (ص: 431). .
والزِّيارةُ الشَّرعيَّةُ للقُبورِ، هي: التي يريدُ بها الزَّائِرُ التذكُّرَ والاتِّعاظَ والدُّعاءَ للأمواتِ، دونَ شَدِّ الرِّحالِ لتلك القُبورِ، ودونَ إتيانِ محظورٍ شَرعيٍّ فيها.
قال
الغزالي في المستحَبِّ في زيارةِ القُبورِ: (وأن يُسَلِّمَ، ولا يمسَحَ القَبْرَ، ولا يمسَّه، ولا يُقَبِّلَه؛ فإنَّ ذلك من عادةِ النَّصارى)
[796] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) (4/491). .
وقال
المقريزي: (والنَّاسُ في هذا البابِ -أعني: زيارةَ القُبورِ- على ثلاثةِ أقسامٍ: قومٌ يَزورون الموتى فيَدْعُون لهم، وهذه الزِّيارةُ الشَّرعيَّةُ، وقومٌ يَزورونَهم يَدْعون بهم، فهؤلاء هم المُشرِكون في الألوهيَّةِ والمحبَّةِ، وقومٌ يَزورونَهم فيَدْعونَهم أنفُسَهم، وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:
((اللَّهُمَّ لا تجعَلْ قبري وَثَنًا يُعبَدُ)) [797] أخرجه مالك (1/172)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2141) مطولاً من حديثِ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ. صحَّحه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/41)، والألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (715). ، وهؤلاء هم المُشرِكون في الرُّبوبيَّةِ)
[798] يُنظر: ((تجريد التوحيد المفيد)) (ص: 19). .
وقال
السيوطيُّ: (الذي يُستحَبُّ للرَّجُلِ الزَّائِرِ للقُبورِ أن يتذَكَّرَ بزيارتِه الآخِرةَ، وأن يسَلِّمَ عليهم، ويدعوَ لهم... وما سِوى ذلك من المحدَثاتِ، كالصَّلاةِ عِندَها، واتخاذِها مَساجِدَ، وبناءِ المساجِدِ عليها؛ فقد تواترت النُّصوصُ عن النَّبيِّ بالنَّهيِ عن ذلك، والتَّغليظِ على فاعِلِه)
[799] يُنظر: ((الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع)) (ص: 112). .
وقال البركويُّ الحنفيُّ: (أمَّا الزِّيارةُ الشَّرعيَّةُ التي أَذِنَ فيها رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فالمقصودُ منها شيئانِ:
أحَدُهما: راجِعٌ إلى الزَّائِرِ، هو الاعتبارُ والاتِّعاظُ.
ثانيهما: راجِعٌ إلى الميِّتِ، وهو أن يُسَلِّمَ عليه الزَّائِرُ، ويدعوَ له، ولا يَطولَ عَهدُه به، فيَهجُرَه ويتناساه، كما أنَّه إذا ترك زيارةَ أحدٍ مِن الأحياءِ يتناساه، وإذا زاره فَرِح بزيارتِه، وسُرَّ بذلك؛ فالميِّتُ أَولى به؛ لأنَّه قد صار في دارٍ هَجَر أهلَها إخوانُهم ومعارِفُهم، فإذا زاره أحدٌ وأهدى إليه هَدِيَّةً مِن سلامٍ ودُعاءٍ، ازداد بذلك سرورُه وفَرَحُه)
[800] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 32). .
وقال أيضًا: (زيارةُ القُبورِ لأجْلِ الصَّلاةِ عِندَها، والطَّوافِ بها، وتقبيلِها، واستلامِها، وتعفيرِ الخُدودِ عليها، وأخْذِ تُرابِها... فليس شيءٌ من ذلك مَشروعًا باتِّفاقِ أئمَّةِ المُسلِمين؛ إذ لم يفعَلْه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أحَدٌ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعين، وسائِرِ أئمَّةِ الدِّينِ)
[801] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 33). .
وعن بُرَيدةَ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((قد كنتُ نهيتُكم عن زيارةِ القُبورِ، فقد أُذِنَ لمحمَّدٍ في زيارةِ قَبرِ أُمِّه فزُوروها؛ فإنَّها تُذَكِّرُ الآخِرةَ)) [802] أخرجه الترمذي (1054) واللفظُ له، وأحمد (23016) مطَوَّلًا. صَحَّحه الترمذي، وابنُ حبان في ((صحيحه)) (3168)، وابن شاهين في ((الناسخ والمنسوخ)) (279). . وفي روايةٍ:
((فمن أراد أن يزورَ فلْيَزُرْ، ولا تقولوا هُجْرًا)) [803] أخرجه من طُرُقٍ: النسائي (2033) مطوَّلًا، وأحمد (23052) واللَّفظُ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2033)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23052). .
وعن بُرَيدةَ أيضًا قال: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُهم إذا خرجوا إلى المقابِرِ أن يقولَ قائِلُهم:
((السَّلامُ عليكم أهلَ الدِّيارِ مِن المؤمنينَ والمسلمين، وإنَّا إن شاء اللهُ للاحِقونَ، أسألُ اللهَ لنا ولكم العافيةَ)) [804] أخرجه مسلم (975). .
وفي روايةٍ زيادةُ:
((يَرحَمُ اللهُ المُستَقدِمين منا والمُستأخِرينَ)) [805] أخرجها مسلم (974) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ الله عنها. .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّما كان ليلتُها مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخرُجُ من آخِرِ اللَّيلِ إلى البَقيعِ، فيقولُ:
((السَّلامُ عليكم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ، وأتاكم ما تُوعَدون، غدًا مُؤجَّلون، وإنَّا إن شاء اللهُ بكم لاحِقون، اللَّهمَّ اغفِرْ لأهلِ بَقيعِ الغَرقَدِ )) [806] أخرجه مسلم (974). .
وعن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يخرُجُ إلى البقيعِ فيدعو لهم، فسألَتْه
عائشةُ عن ذلك؟ فقال:
((إني أُمِرْتُ أن أدعوَ لهم)) [807] أخرجه أحمد (26148)، وإسحاق بن راهويه في ((المسند)) (1115)، وابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (1/95). حَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (26148)، وصَحَّح إسنادَه على شرط الشيخين الألبانيُّ في ((أحكام الجنائز)) (239)، وقال: ومعناه عند مسلمٍ. .
وكان الصَّحابةُ إذا أتَوا قَبْرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّوا وسَلَّموا عليه فحَسْبُ، كما كان
ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما يقولُ:
((السَّلامُ عليك يا رَسولَ اللهِ، السَّلامُ عليك يا أبا بَكرٍ، السَّلامُ عليك يا أبتاه)) [808] أخرجه عبد الرزاق (6724)، وابن أبي شيبة (11915)، والبيهقي (10570). صَحَّحه ابنُ حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/34)، وصَحَّح إسناده البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/259)، والألباني في ((فضل الصلاة)) (100). .
قال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (وكذا التابعون ومَن بَعْدَهم من أعلامِ الهُدى ومصابيحِ الدُّجى، لم يُذكَرْ عنهم في زيارةِ القُبورِ غيرُ العَمَلِ بهذه الأحاديثِ النبَوِيَّةِ وأفعالِ الصَّحابةِ، لم يَعدِلوا عنها، ولم يَستَبدِلوا بها غَيرَها، بل وَقَفوا عندها، فهذه الزِّيارةُ الشَّرعيَّةُ المستفادةُ مِن الأحاديثِ النبَويَّةِ، وعليها دَرَج الصَّحابةُ والتَّابعون وتابِعوهم بإحسانٍ، إنَّما فيها التذَكُّرُ بالقُبورِ، والاعتبارُ بأهلِها، والدُّعاءُ لهم، والترَحُّمُ عليهم، وسُؤالُ اللهِ العَفْوَ عنهم)
[809] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/518). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (الدُّعاءُ عند القُبورِ وغَيرِها مِن الأماكِنِ ينقَسِمُ إلى نوعينِ:
أحَدُهما: أن يحصُلَ الدُّعاءُ في البُقعةِ بحُكمِ الاتِّفاقِ، لا لقَصْدِ الدُّعاءِ فيها، كمن يدعو اللهَ في طريقِه، ويتَّفِقُ أن يمُرَّ بالقبورِ، أو كمن يزورُها، فيُسَلِّمُ عليها، ويسألُ اللهَ العافيةَ له وللموتى، كما جاءت به السُّنَّةُ؛ فهذا ونحوُه لا بأسَ به.
الثَّاني: أن يتحَرَّى الدُّعاءَ عِندَها، بحيثُ يستَشعِرُ أنَّ الدُّعاءَ هناك أجوَبُ منه في غيرِه، فهذا النَّوعُ مَنهيٌّ عنه، إمَّا نهيَ تحريمٍ أو تنزيهٍ، وهو إلى التحريمِ أقرَبُ، والفَرقُ بين البابينِ ظاهِرٌ؛ فإنَّ الرَّجُلَ لو كان يدعو اللهَ، واجتاز في ممَرِّه بصَنَمٍ، أو صَليبٍ، أو كنيسةٍ، أو كان يدعو في بُقعةٍ، وهناك صليبٌ هو عنه ذاهِلٌ، أو دَخَل كنيسةً ليبيتَ فيها مَبِيتًا جائزًا، ودعا اللهَ في اللَّيلِ، أو بات في بيتِ بعضِ أصدقائِه ودعا اللهَ؛ لم يكُنْ بهذا بأسٌ.
ولو تحرَّى الدُّعاءَ عندَ صَنَمٍ أو صليبٍ، أو كنيسةٍ يرجو الإجابةَ بالدُّعاءِ في تلك البقعةِ، لكان هذا من العظائِمِ، بل لو قَصَد بيتًا أو حانوتًا في السُّوقِ، أو بعضَ عواميدِ الطُّرُقاتِ يدعو عندها، يرجو الإجابةَ بالدُّعاءِ عِندَها، لكان هذا من المُنكَراتِ المحَرَّمة؛ إذ ليس للدُّعاءِ عِندَها فَضلٌ، فقَصْدُ القُبورِ للدُّعاءِ عِندَها من هذا البابِ، بل هو أشَدُّ مِن بَعْضِه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن اتخاذِها مساجِدَ، واتخاذِها عيدًا، وعن الصَّلاةِ عِندَها، بخلافِ كثيرٍ مِن هذه المواضِعِ، وما يرويه بعضُ النَّاسِ مِن أنَّه قال: «إذا تحَيَّرتُم في الأمورِ فاستَعينوا بأهلِ القُبورِ»، أو نحو هذا؛ فهو كلامٌ موضوعٌ مكذوبٌ باتِّفاقِ العُلَماءِ)
[810] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)) (2/195). .
وقال
ابنُ القَيِّم: (لو كان الدُّعاءُ عند القبورِ، والصَّلاةُ عندها، والتبرُّكُ بها: فضيلةً أو سُنَّةً أو مُباحًا، لنَصَب المهاجرون والأنصارُ هذا القَبْرَ عَلَمًا لذلك، ودَعَوا عنده، وسَنُّوا ذلك لمن بَعْدَهم، ولكن كانوا أعلَمَ باللهِ ورَسولِه ودينِه من الخُلُوفِ التي خَلَفَت بَعْدَهم، وكذلك التابعون لهم بإحسانٍ راحوا على هذا السَّبيلِ، وقد كان عندهم من قبورِ أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمصارِ عَدَدٌ كثيرٌ، وهم متوافِرون، فما منهم من استغاث عند قبرِ صاحِبٍ، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلومِ أنَّ مِثلَ هذا ممَّا تتوفَّرُ الهِمَمُ والدواعي على نَقْلِه، بل على نَقْلِ ما هو دونَه)
[811] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (1/ 369). .
وقال البركوي الحنفي: (من المُحالِ أن يكونَ دُعاءُ الموتى والدُّعاءُ بهم والدُّعاءُ عند قُبورِهم مَشروعًا وعَمَلًا صالحًا، ويُصرَفَ عنه القُرونُ الثلاثةُ المفَضَّلةُ بنَصِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ يَظفَرَ به الخُلُوفُ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون. فإن كنتَ في شَكٍّ من هذا فانظُرْ: هل يمكِنُ بَشَرًا على وَجهِ الأرضِ أن يأتيَ عن أحدٍ منهم بنَقلٍ صَحيحٍ أو حَسَنٍ أو ضَعيفٍ أو مُنقَطِعٍ أنَّهم كانوا إذا كان لهم حاجةٌ قَصَدوا القُبورَ فدَعَوا عندها وتمسَّحوا بها؟! فضلًا أن يُصَلُّوا عندها ويسألوا اللهَ تعالى بأصحابِها ويسألوهم حوائِجَهم، فلْيُوقِفونا على أثرٍ واحدٍ منها في ذلك)
[812] يُنظر: ((زيارة القبور الشرعية والشركية)) (ص: 43). .
وجاء في كتاب
((التوضيح عن توحيدِ الخَلَّاق)): (أمَّا غيرُ المشروعِ فهو قَصْدُه للدُّعاءِ، واتخاذُه عيدًا بالاجتماعِ عنده، والسَّفَرِ إليه؛ لِما في الصَّحيحَينِ وغَيرِهما من المسانيدِ والسُّنَنِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى أن يُتَّخَذَ قَبرُه مَسجِدًا، وقال:
((اشتَدَّ غَضَبُ اللهِ على قَومٍ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائهم مساجِدَ )) بعدَ قَولِه:
((اللَّهُمَّ لا تجعَلْ قَبري وَثَنًا يُعبَدُ)) [813] أخرجه مالك (1/172)، وابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (2141) من حديثِ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ. صحَّحه ابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/41)، والألباني في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (715). ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَنْهَ عن الصَّلاةِ عند القُبورِ واتخاذِها مساجِدَ استهانةً بأهلِها، بل لِمَا يخافُ على القاصِدينَ لها من الفِتنةِ بدُعائِها أو الدُّعاءِ عِندَها)
[814] يُنظر: (ص: 245). .
وقال
صِدِّيق حسن خان: (الدُّعاءُ عند القُبورِ ليس بمأثورٍ)
[815] يُنظر: ((رحلة الصديق إلى البلد العتيق)) (ص: 20). .