الفصلُ الخامِسُ: حُكمُ البِدعةِ
عنِ العِرباضِ بنِ سارِيةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((وإيَّاكُم ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)) [1170] أخرجه أبو داود (4607) واللَّفظُ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5). ، وهذا عامٌّ في كلِّ
بدعةٍ.
قال
الشَّاطِبيُّ: (ثَبَت في الأصولِ أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ خَمسةٌ يَخرُجُ عنها الثَّلاثةُ، فيَبقَى حُكمُ الكَراهيَةِ، وحُكمُ التحريمِ، فاقتَضَى النَّظَرُ انقِسامَ البِدَعِ إلى قِسمَين:
فمنها
بدعةٌ مُحَرَّمةٌ، ومنها
بدعةٌ مَكروهةٌ، وذلك أنَّها داخِلةٌ تَحتَ جِنسِ المَنهيَّاتِ، لا تَعدو الكَراهةَ والتحريمَ، فالبِدَعُ كذلك. هذا وَجهٌ.
ووَجهٌ ثانٍ: أنَّ البِدَعَ إذا تُؤُمِّلَ مَعقولُها وُجِدَت رُتَبُها مُتَفاوِتةً؛ فمنها ما هو كُفرٌ صُراحٌ، كبِدْعةِ الجاهِليَّةِ الَّتي نَبَّه عليها القُرآنُ، كقَولِه تعالى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام: 136] الآية، وقَولِه تعالى:
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ [الأنعام: 139] ، وقَولِه تعالى:
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103] ، وكَذلك بدعةُ المُنافِقِينَ حَيثُ اتَّخَذوا الدِّينَ ذَريعةً لحِفظِ النَّفسِ والمالِ، وما أشبَهَ ذلك مِمَّا لا يُشَكُّ أنَّه كُفرٌ صُراحٌ.
ومنها ما هو من المَعاصي الَّتي لَيسَت بكُفرٍ، أو يُختَلَفُ هل هيَ كُفرٌ أم لا؟ كبِدْعةِ
الخَوارِجِ والقَدَريَّةِ و
المُرجِئةِ ومن أشبَهَهم من الفِرَقِ الضَّالَّةِ.
- ومنها ما هو مَعصيةٌ، ويُتَّفَقُ على أنَّها لَيسَت بكُفرٍ، كبِدعةِ التبَتُّلِ، والصِّيامِ قائِمًا في الشَّمسِ، والخِصاءِ بقَصدِ قَطْعِ شَهوةِ الجِماعِ.
- ومنها ما هو مَكروهٌ، كما يَقولُ
مالِكٌ في إتباعِ رَمضانَ بسِتٍّ مِن شَوَّالٍ، وقِراءةِ القُرآنِ بالإدارةِ، والاجتِماعِ للدُّعاءِ عَشِيَّةَ عَرَفةَ، وذِكرِ السَّلاطِينِ في خُطبةِ الجُمُعةِ -على ما قالهُ ابنُ عَبدِ السَّلامِ الشَّافِعيُّ- وما أشبَهَ ذلك.
فمَعلومٌ أنَّ هذه البِدعَ لَيسَت في رُتبةٍ واحِدةٍ، ولا على نِسبةٍ واحِدةٍ، فلا يَصِحُّ مَعَ هذا أن يُقال: إنَّها على حُكمٍ واحِدٍ، هو الكَراهةُ فقَط، أوِ التحريمُ فقَط.
ووَجهٌ ثالِثٌ: أنَّ المَعاصيَ منها صَغائِرُ ومنها كبائِرُ، ويُعرَفُ ذلك بكَونِها واقِعةً في الضَّروريَّاتِ أوِ الحاجيَّاتِ أوِ التكميليَّاتِ؛ فإن كانت في الضَّروريَّاتِ فهيَ أعظَمُ الكَبائِرِ، وإن وقَعَت في التحسينيَّاتِ فهيَ أدنى رُتبةً بلا إشكالٍ، وإن وقَعَت في الحاجيَّاتِ فمُتَوَسِّطةٌ بَينَ الرُّتبَتَين.
ثُمَّ إنَّ كُلَّ رُتبةٍ من هذه الرُّتَبِ لَها مُكَمِّلٌ، ولا يُمكِنُ للمُكَمِّلِ أن يَكونَ في رُتبةِ المُكَمَّلِ، فإنَّ المُكَمِّلَ مَعَ المُكَمَّلِ في نِسبةِ الوَسيلةِ مَعَ المَقصَدِ، ولا تَبلُغُ الوَسيلةُ رُتبةَ المَقصَدِ، فقد ظَهرَ تَفاوُتُ رُتبةِ المَعاصي والمُخالَفاتِ.
وأيضًا فإنَّ الضَّروريَّاتِ إذا تُؤُمِّلَتْ وُجِدتَ على مَراتِبَ في التأكيدِ وعَدَمِه، فلَيسَت مَرتَبةُ النَّفسِ كمَرتَبةِ الدِّين، ولِذلك تُستَصغَرُ حُرمةُ النَّفسِ في جَنبِ حُرمةِ الدِّينِ، فيُبيحُ الكُفْرُ الدَّمَ، والمُحافَظةُ على الدِّينِ مُبيحٌ لتَعريضِ النَّفسِ للقَتلِ والإتلافِ في الأمرِ بمُجاهَدةِ الكُفَّارِ والمارِقينَ عنِ الدِّينِ.
ومَرتبةُ العَقلِ والمالِ لَيسَت كمَرتَبةِ النَّفسِ، ألا تَرَى أنَّ قَتلَ النَّفسِ يُبيحُ القِصاصَ بالقَتلِ بخِلافِ العَقلِ والمالِ؟ وكَذلك سائِرُ ما بَقِيَ.
وإذا نُظِرَ في مَرتَبةِ النَّفسِ تَبايَنَتِ المَراتِبَ، فلَيسَ قَطْعُ العُضوِ كالذَّبحِ، ولا الخَدشُ كقَطْعِ العُضوِ، وهذا كُلُّه مَحَلُّ بَيانِه الأصولُ.
وإذا كان كذلك فالبِدَعُ من جُملةِ المَعاصي، وقد ثَبَتَ التفاوُتُ في المَعاصي، فكَذلك يُتَصَوَّرُ مِثلُه في البِدَعِ؛ فمنها ما يَقَعُ في رُتبةِ الضَّروريَّاتِ -أي أنَّه إخلالٌ بها-، ومنها: ما يَقَعُ في رُتبةِ الحاجيَّاتِ، ومنها: ما يَقَعُ في رُتبةِ التحسينيَّاتِ، ومنها ما يَقَعُ في رُتبةِ الضَّروريَّاتِ، ومنها ما يَقَعُ في الدِّينِ، أوِ النَّفسِ، أوِ النَّسلِ، أوِ العَقلِ، أوِ المالِ)
[1171] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/354-357). .
وهاهُنا مُلَخَّصٌ للأمثِلةِ الَّتي أورَدها الشَّاطِبيُّ لبَيانِ تَأثيرِ البِدَعِ على الكُلِّيَّاتِ الخَمسِ وغَيرِها من الأضرارِ مَعَ زياداتٍ أُخَرَ:1- مِثالُ الابتِداعِ في الدِّينِتَحريمُ البَحِيرةِ والسَّائِبةِ والوَصيلةِ والحامِ
[1172] قال ابنُ جُزي: (أمَّا البَحيرةُ: فهي فَعيلةٌ بمعنى مفعولة، من بَحَر: إذا شَقَّ، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقُّوا آذانها، وتركوها ترعى ولا يُنتفَعُ بها، وأما السائبة فكان الرجلُ يقول: إذا قَدِمْتُ من سفري أو برِئْتُ من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، وأمَّا الوصيلة فكانوا إذا ولدت الناقةُ ذكرًا وأنثى في بطن واحد قالوا: وصَلَت الناقة أخاها فلم يذبحوها، وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلبِ الجمل عشرةُ بطون قالوا: قد حمى ظهرَه، فلا يُركَب ولا يُحمَل عليه شيءٌ). ((تفسير ابن جزي)) (1/246). ، والمَقصودُ بذلك تَحريمُ ما أحَلَّ اللَّهُ بقَصدِ التقَرُّبِ به إلى اللهِ تعالى مَعَ كونِه حَلالًا.
ويُلحَقُ بهذا نِحلةُ الطَّائِفةِ الَّتي يُسَمَّى أهلُها بالنَّباتيِّينَ الَّذينَ يُحَرِّمونَ اللُّحومَ وكُلَّ ما لم يَكُن نَباتيًّا.
2- مِثالُ وُقوعِ الابتِداعِ في النَّفسِبِدَعُ بَعضِ أهلِ الهِندِ في تَعذيبِهم أنفُسَهم بأنواعِ العَذابِ الشَّنيعِ، والتمثيلِ الفَظيعِ، بأنواعِ القَتْلِ الَّتي تَفزَعُ منها القُلوبُ، وتَقشَعِرُّ منها الجُلودُ، كالإحراقِ بالنَّارِ، كُلُّ ذلك على جِهةِ استِعجالِ المَوتِ لنَيلِ الدَّرَجاتِ العُلَا في زَعمِهم، والفَوزِ الأكمَلِ بَعدَ الخُروجِ من هذه الدَّارِ العاجِلةِ
ويُلحَقُ بهؤلاء بَعضُ غُلاةِ الشِّيعةِ الرَّافِضةِ الَّذينَ يَجتَمِعونَ في اليَومِ العاشِرِ من المُحرَّمِ بمُناسَبةِ استِشهادِ الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه، فيَضرِبونَ أنفُسَهم بالحَديدِ والأخشابِ، بدَعوَى الحُزنِ كُلَّما حانَ وقتُ تِلكَ المُناسَبةِ، وكَذلك بَعضُ المَتَصَوِّفةِ الَّذينَ اختاروا لأنفُسِهم طَريقَ التقَشُّفِ والعَيشِ في الغاباتِ والبَراريِّ حُفاةً عُراةً، وكُلُّ ذلك قَلَّدوا فيه طَوائِفَ الهِندُوسِ، والبُوذيِّين وغَيرَهم.
3- مِثالُ وُقوعِ الابتِداعِ في النَّسلِما ذُكِرَ من أنكِحةِ الجاهِليَّةِ الَّتي كانت مَعهودةً فيها، ومَعمولًا بها، ومُتَّخَذةً فيها ولا عَهدَ بها في شَريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ولا غَيرِه، بَل كانت من جُملةِ ما اختَرَعوا وابتَدَعوا، وهو على أنواعٍ؛ فعن
عائِشةَ أمِّ المُؤمنينَ رَضيَ اللهُ عنها: (أنَّ النِّكاحَ في الجاهِليَّةِ كان على أربَعةِ أنحاءٍ: فنِكاحٌ منها نِكاحُ النَّاسِ اليومَ: يخطُبُ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ وَلِيَّتَه أو ابْنَتَه، فيُصْدِقُها ثمَّ يَنكِحُها، ونكاحٌ آخَرُ: كان الرَّجُلُ يقولُ لامرأتِه إذا طَهُرَت من طَمْثِها: أرسِلي إلى فُلانٍ فاستَبْضِعي منه، ويَعتَزِلُها زَوجُها ولا يَمَسُّها أبدًا، حتى يتبَيَّنَ حَملُها من ذلك الرَّجُلِ الذي تَستبضِعُ منه، فإذا تبَيَّنَ حَمْلُها أصابها زوجُها إذا أحَبَّ، وإنما يفعَلُ ذلك رغبةً في نَجابةِ الوَلَدِ، فكان هذا النِّكاحُ نِكاحَ الاستبضاعِ. ونِكاحٌ آخَرُ: يجتَمِعُ الرَّهطُ ما دونَ العَشَرةِ، فيَدخُلونَ على المرأةِ، كُلُّهم يصيبُها، فإذا حمَلَت ووضَعَت، ومَرَّ عليها ليالٍ بعد أن تَضَعَ حَمْلَها، أرسَلَت إليهم، فلم يَستَطِعْ رجُلٌ منهم أن يمتَنِعَ، حتى يجتَمِعوا عندها، تقولُ لهم: قد عرَفْتُم الذي كان من أمْرِكم، وقد ولَدْتُ، فهو ابنُك يا فُلانُ، تُسَمِّي من أحبَّتْ باسمِه، فيَلحَقُ به ولَدُها، لا يستطيعُ أن يمتَنِعَ به الرَّجُلُ، ونِكاحُ الرَّابِعِ: يجتَمِعُ النَّاسُ الكثيرُ، فيَدخُلونَ على المرأةِ، لا تمتَنِعُ ممَّن جاءها، وهُنَّ البغايا، كُنَّ يَنصِبْنَ على أبوابِهنَّ راياتٍ تكونُ عَلَمًا، فمَن أرادَهنَّ دَخَل عليهنَّ، فإذا حمَلَت إحداهُنَّ ووضَعَت حَمْلَها جمَعوا لها، ودَعَوا لهم القافةَ، ثمَّ ألحَقوا ولَدَها بالذي يَرَونَ، فالتاطَ به، ودُعِيَ ابنَه، لا يمتَنِعُ من ذلك، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَقِّ، هَدَمَ نكاحَ الجاهِليَّةِ كُلَّه إلَّا نكاحَ النَّاسِ اليومَ)
[1173] أخرجه البخاري (5127). .
ويُلحَقُ بهذا نِكاحُ الْمُتعةِ الَّذي حَرَّمَهُ الإسلامُ، كما دَلَّتْ عليه السُّنَّةُ الصَّحيحةُ، ومنها حَديثُ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن مُتعةِ النِّساءِ يَومَ خَيبَرَ، وعن أكلِ لُحومِ الحُمُرِ الإنسيَّةِ )) [1174] رواه البخاري (4216) ومسلم (1407) واللَّفظُ له. .
قال
المُناويُّ: (وهو النِّكاحُ المُؤَقَّتُ بمُدَّةٍ مَعلومةٍ أو مَجهولةٍ سُمِّي به؛ لأنَّ الغَرَضَ منه مُجَرَّدُ التمَتُّعِ دونَ النَّسلِ وغَيرِه... وقد جاءَ عنِ الأوائِلِ الرُّخصةُ، ثُمَّ فيها وقَعَ الإجْماعُ على تَحريمِها إلَّا من لا يُلتَفَتُ إليه من الرَّوافِضِ)
[1175] ينظر: ((فيض القدير)) (6/321). .
4- مِثالُ وُقوعِ الابتِداعِ في جِهةِ العَقلِادِّعاءُ أنَّ العَقلَ لَهُ مَجالٌ في الاستِقلالِ بالتشريعِ، وأنَّه مُحَسِّنٌ ومُقبِّحٌ في دينِ اللَّهِ، فابتَدَعوا في دينِ اللهِ ما لَيسَ منه، ومِمَّا لا شَكَّ فيه أنَّ العَقلَ يُدرِكُ الحُسنَ والقُبحَ في الجُملةِ، لَكِنَّهُ لا يَستَقِلُّ بالحُكمِ دونَ الشَّرعِ كما تَقولُه
المُعتَزِلةُ، فبَعضُ الفَلاسِفةِ الَّذينَ ظَهروا بَينَ المُسلِمينَ تَأوَّلوا حُكمَ شُربِ الخَمرِ وجوَّزوا شُربَها للنَّفعِ لا للَّهوِ، فكَأنَّها عِندَهم من الأدويةِ النَّافِعةِ، أو غِذاءٌ صالِحٌ يَصلُحُ لحِفظِ الصِّحَّةِ.
5- مِثالُ الابتِداعِ فيما يَتَعَلَّقُ بالمالِقَولُ الكُفَّارِ:
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة: 275] ، فإنَّهم لَمَّا استَحَلُّوا العَمَلَ ب
الرِّبا احتَجُّوا بقياسٍ فاسِدٍ، فقالوا: إذا فَسَخَ العَشَرةَ الَّتي اشتَرَى بها إلى شَهرٍ في خَمسةَ عَشَرَ إلى شَهرَينِ فهو كما لَو باعَ بخَمسةَ عَشَرَ إلى شَهرَين، فأكذَبَهمُ اللَّهُ تعالى ورَدَّ عليهم، فقال:
ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] لَيسَ البَيعُ مِثلَ
الرِّبا، فهذه مُحْدَثةٌ أخَذوا بها مُستَنِدينَ إلى رَأيٍ فاسِدٍ، فكان من جُملةِ المُحْدَثاتِ كسائِرِ ما أحدَثوهُ في البُيوعِ الجاريةِ بَينَهمُ المَبنيَّةِ على الخَطَرِ والغَرَرِ
[1176] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/357-376). .
وعن
جابِرٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ عامَ الفَتحِ، وهو بمَكَّةَ:
((إنَّ اللهَ ورَسولَهُ حَرَّمَ بَيعَ الخَمرِ، والمَيتةِ، والخِنزيرِ، والأصنامِ)). فقيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أرأيتَ شُحومَ المَيتةِ، فإنَّها يُطلَى بها السُّفُنُ، ويُدْهَنُ بها الجُلودُ، ويَستَصبِحُ بها النَّاسُ؟ فقال:
((لا، هو حَرامٌ)). ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ ذلك:
((قاتَلَ اللَّهُ اليَهودُ، إنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحومَها جَمَلوهُ، ثُمَّ باعوهُ فأكَلوا ثَمنَه )) [1177] رواه البخاري (2236) واللَّفظُ له، ومسلم (1581). .
كما ظَهرَ في هذا الزَّمانِ كَثيرٌ مِنَ الحِيَلِ بقَصدِ ابتِزازِ أموالِ النَّاسِ وأكْلِها بالباطِلِ؛ مِثلُ ما يُسَمَّى باليانَصيبِ وغَيرِه من ألوانِ القِمارِ، وكَثيرٍ مِمَّا يَجري في البورصاتِ والأسواقِ العالميَّةِ من الحِيَلِ والمُؤامَراتِ، فضلًا عنِ انتِشارِ البُنوكِ الرِّبَويَّةِ في شَتَّى بلادِ العالَمِ الإسلاميِّ في كُلِّ مَدينةٍ وقَريةٍ!
وخُلاصةُ القَولِ: أنَّ البِدَعَ كُلَّها حَرامٌ، وتَتَفاوَتُ رُتَبُها في دائِرةِ الحَرامِ؛ فمنها ما هو كُفرٌ صُراحٌ، ومنها ما هو مَشكوكٌ في كُفرِ صاحِبِه، ومنها ما هو مَعْصيةٌ لا يُكَفَّرُ صاحِبُها بلا نِزاعٍ، ومنها ما هو مَكروهٌ.
ويَجدُرُ التنبيهُ إلى أنَّ ما يَجري عليه حُكمُ المَكروه من البِدَعِ لا يَعني به كراهيَّةَ التنزيهِ، وقد نَبَّه على ذلك
الشَّاطِبيُّ.
قال
الشَّاطِبيُّ: (إنَّما حَقيقةُ المَسألةِ: أنَّ البِدَعَ لَيسَت على رُتبةٍ واحِدةٍ في الذَّمِّ -كما تَقدَّمَ بَيانُه- وأمَّا تَعيينُ الكَراهةِ الَّتي مَعناها نَفيُ إثمِ فاعِلِها، وارتِفاعُ الحَرجِ عنه البَتَّةَ، فهذا مِمَّا لا يَكادُ يوجَدُ عليه دَليلٌ من الشَّرعِ، ولا من كلامِ الأئِمةِ على الخُصوصِ). وفَصَّلَ في تَقريرِ ذلك
[1178] يُنظر: ((الاعتصام)) (2/380). .
فإنَّ إطلاقَ المَكروهِ على ما هو مَكروهٌ تَنزيهًا اصطِلاحٌ للمُتَأخِّرين لم يُعرَفْ عنِ المُتَقدِّمين من السَّلَفِ، فلم يَقولوا فيما لا حَرَجَ فيه: إنَّه مَكروهٌ، ولم يَكُن شَأنُهم أن يَقولوا فيما لا نَصَّ فيه: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ؛ لئَلَّا يَكونوا مِمَّن قال اللَّهُ تعالى فيهم:
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116-117] .
وإنَّما كانوا يَقولونَ فيه: هذا مَكروهٌ، أو أكرَهُ هذا، أو لا أستَحِبُّ هذا
[1179] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/377-387). .
وما أشارَ إليه
الشَّاطِبيُّ هُنا: من استِعمالِ السَّلَفِ لَفظَ المَكروهِ بمَعنى الحَرامِ هو ما وضَّحَهُ
ابنُ القَيِّمِ [1180] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (2/75-81). حَيثُ بَيَّنَ أنَّ في استِعمالِ القُرآنِ والسُّنَّةِ ما يُشيرُ إلى هذا، كقَولِه تعالى:
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32] ، وقَولِه:
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ [الإسراء: 34] إلى أنْ قال تعالى:
كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا، وقَولِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ اللهَ كَرِهَ لكم ثَلاثًا: قيلَ وقال، وإضاعةَ المالِ ..)) [1181] رواه البخاري (2408)، ومسلم (593) مطولًا من حديث المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللهُ عنه. وأخرجه مسلم (1715) مطولًا من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. إلخ.
ومِمَّا يَدُلُّ على أنَّ البِدَعَ إذا عُبِّرَ عنها بالكَراهةِ فإنَّه يُقصَدُ بها كراهةُ التحريمِ: وُرودُ النَّهيِ عنِ البِدَعِ على وجهٍ واحِدٍ، ونِسبَتُها إلى الضَّلالِ على كُلِّ حالٍ، هذا من وَجهٍ.
ووَجهٌ آخَرُ: هو أنَّ حَقيقةَ
البِدعةِ -جَلَّت أو خَفِيَت- مُخالِفةٌ للمَكروهِ مِنَ المَنهيَّاتِ مُخالَفةً تامَّةً؛ فمُرتَكِبُ المَكروهِ من المَنهيَّاتِ يَفعَلُه مُتَّكِلًا على العَفْوِ اللَّازِمِ فيه، ورَفعِ الحَرجِ الثَّابِتِ في الشَّريعةِ لَهُ، كما أنَّ اعتِقادَهُ غَيرُ مُتَزَحزِحٍ، فهو يَعتَقِدُ المَكروهَ مَكروهًا والحَرامَ حَرامًا، ثُمَّ إنَّه يَرَى تَرْكَ المَكروه أَولَى في حَقِّه من الفِعلِ، ويودُّ لَو لم يَفعَلْ، وعلى كُلٍّ فطَمَعُه في الإقلاعِ عن هذا المَكروهِ والتخَلُّصِ من الوُقوعِ فيه لا يَنقَطِعُ، أمَّا مُرتَكِبُ أدنى البِدَعِ فإنَّه يَعُدُّ ما دَخَلَ فيه حَسَنًا، بَل يَراهُ أَولَى مِمَّا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ، ويَزعُمُ أنَّ طَريقَهُ أهدَى سَبيلًا، ونِحلَتَهُ أولَى بالاتِّباعِ، فهو يَفعَلُ ما يُخالِفُ، ولا يَستَشعِرُ سوءَ ما يَفعَلُ، وقد لا يَتَحَرَّكُ قَلبُه نَحوَ التَّوبةِ مِمَّا هو واقِعٌ فيه
[1182] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (2/377-387)، ((تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار)) لصالح السحيمي (ص: 215). .