المَطلَبُ السَّادِسُ: مِن قواعِدِ أسْماءِ اللهِ عَدَمُ الإلحادِ فيها
قال اللهُ تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] .
قال
القُرطبي: (فيه مسألتان: الأولى: قَولُه تعالى:
يُلْحِدُونَ... والإلحادُ يكونُ بثلاثةِ أوجُهٍ: أحَدُها: بالتغييرِ فيها، كما فعله المشركون، وذلك أنهم عدَلوا بها عمَّا هي عليه، فسَمَّوا بها أوثانَهم، فاشتَقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ، ومناةَ مِنَ المنَّانِ. قاله
ابنُ عَبَّاسٍ وقتادةُ. الثاني: بالزيادةِ فيها. الثالثُ: بالنُّقصانِ منها، كما يفعله الجُهَّالُ الذين يخترعون أدعيةً يُسَمُّون فيها اللهَ تعالى بغيرِ أسمائِه، ويَذكُرون بغيرِ ما يُذكَرُ من أفعالِه، إلى غيرِ ذلك ممَّا لا يليقُ به... الثانية: معنى الزِّيادةِ في الأسماءِ التشبيهُ، والنُّقصانُ
التعطيلُ)
[1216])) يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/328). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (فالأصلُ في هذا البابِ أن يُوصَفَ اللهُ بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَتْه به رُسُلُه نفيًا وإثباتًا؛ فيُثبِتُ للهِ ما أثبَتَه لنَفْسِه، وينفي عنه ما نفاه عن نَفْسِه. وقد عُلِمَ أنَّ طَريقةَ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِها إثباتُ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، وكذلك يَنْفونَ عنه ما نفاه عن نَفْسِه، مع إثباتِ ما أثبَتَه من الصِّفاتِ، مِن غيرِ إلحادٍ لا في أسمائِه ولا في آياتِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى ذمَّ الذين يُلحِدونَ في أسمائِه وآياتِه، كما قال تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] ، وقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: 40] الآية. فطريقتُهم تتضَمَّنُ إثباتَ الأسماءِ والصِّفاتِ مع نَفْيِ مماثَلةِ المخلوقاتِ؛ إثباتًا بلا تشبيهٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ، كما قال تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . ففي قَولِه:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ردٌّ للتَّشبيهِ و
التَّمثيلِ، وقَولِه:
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ردٌّ للإلحادِ و
التعطيلِ)
[1217] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/3). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (الإلحادُ في أسمائِه هو العدولُ بها وبحقائِقِها ومعانيها عن الحَقِّ الثَّابِتِ لها، وهو مأخوذٌ مِن المَيلِ)
[1218] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (1/297)، ((مدارج السالكين)) (1/54) كلاهما لابن القيم. .
وقال أيضًا: (نَفْيُ معاني أسمائِه الحُسْنى من أعظَمِ الإلحادِ فيها؛ قال تعالى:
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180] ، ولأنَّها لو لم تَدُلَّ على معانٍ وأوصافٍ لم يَجُزْ أن يُخبَرَ عنها بمصادِرِها ويُوصَفَ بها، لكِنَّ اللهَ أخبَرَ عن نَفْسِه بمصادِرِها، وأثبَتَها لنَفْسِه، وأثبَتَها له رَسولُه، كقَولِه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58]، فعُلِمَ أنَّ القَوِيَّ مِن أسمائِه، ومعناه: الموصوفُ بالقُوَّةِ، وكذلك قَولُه:
فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] ، فالعزيزُ من له العِزَّةُ، فلولا ثُبوتُ القُوَّةِ والعِزَّةِ له لم يُسَمَّ قَوِيًّا ولا عزيزًا، وكذلك قَولُه:
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ،
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 14] ،
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] .
وفي الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ اللهَ لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يَخفِضُ القِسْطَ ويَرفَعُه، يُرفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيلِ قَبلَ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قبل اللَّيلِ، حِجابُه النُّورُ، لو كَشَفَه لأحرَقَت سُبُحاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُه مِنْ خَلْقِه )) [1219] أخرجه مسلم (179) من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فأثبت المصدَرَ الذي اشتُقَّ منه اسمُه البصيرُ)
[1220] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/ 52). .
وقال أبو السُّعودِ في تفسيرِ قَولِه تعالى:
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] : (أي: يَميلون في شَأنِها عن الحَقِّ إلى الباطِلِ، إمَّا بأن يُسَمُّوه تعالى بما لا توقيفَ فيه، أو بما يوهِمُ معنًى فاسدًا، كما في قَولِ أهلِ البَدْوِ: يا أبا المكارِمِ، يا أبيضَ الوَجهِ... وإمَّا بأن يَعدِلوا عن تسميتِه تعالى ببعضِ أسمائِه الكريمةِ، كما قالوا: وما الرَّحمنُ؟ ما نَعرِفُ سِوى رحمانِ اليمامةِ... وإمَّا بأن يُطلِقوها على غيرِه تعالى كما سَمَّوا أصنامَهم آلهةً، وإمَّا بأن يَشتَقُّوا من بعضِها أسماءَ أصنامِهم، كما اشتقُّوا اللَّاتَ مِنَ اللهِ، والعُزَّى من العزيزِ)
[1221])) يُنظر: ((إرشاد العقل السليم)) (3/296). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (قَولُه:
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف:180] يُشرِكونَ، أي: يُشرِكونَ غَيرَه في أسمائِه، كتَسميتِهم الصَّنَمَ إلهًا، ويحتَمِلُ أنَّ المرادَ الشِّرْكُ في العبادةِ؛ لأنَّ أسماءَه تعالى تدُلُّ على التَّوحيدِ، فالإشراكُ بغيرِه إلحادٌ في معاني أسمائِه سُبحانَه وتعالى، لا سِيَّما مع الإقرارِ بها، كما كانوا يُقِرُّونَ باللهِ ويَعبُدونَ غَيرَه، فهذا الاسمُ وَحْدَه أعظَمُ الأدِلَّةِ على التَّوحيدِ، فمَن عَبَد غَيرَه فقد ألحَدَ في هذا الاسمِ، وعلى هذا بقيَّةُ الأسماءِ)
[1222] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 562). .
والإلحادُ في أسْماءِ اللهِ أنواعٌ:1- أن يُسَمَّى الأصنامُ بها، كتَسميتِهم اللَّاتَ مِنَ الإلهِ، والعُزَّى مِنَ العَزيزِ.
2- تَسميتُه بما لا يليقُ بجَلالِه، كتَسميةِ النَّصارى له أبًا، وتسميةِ الفلاسِفةِ له مُوجِبًا بذاتِه، أو عِلَّةً فاعِلةً بالطَّبعِ، ونحوِ ذلك.
3- وَصْفُه بما يتعالى عنه ويتقَدَّسُ مِن النَّقائِصِ؛ كقَولِ اليَهودِ: إنَّه فقيرٌ، وقَولِهم: إنَّه استراحَ بعد أنْ خَلَق خَلْقَه، وقَولِهم: يَدُ اللهِ مَغلولةٌ.
4- تعطيلُ الأسماءِ عن معانيها وجَحْدُ حقائِقِها، كقَولِ من يَقولُ مِنَ
الجَهْميَّةِ وأتباعِهم: إنَّها ألفاظٌ مُجَرَّدةٌ لا تتضَمَّنُ صِفاتٍ ولا معانيَ، فيُطلِقونَ عليه اسمَ السَّميعِ، والبَصيرِ، والحَيِّ، والرَّحيمِ، والمتكَلِّمِ، والمريدِ، ويَقولون: لا حياةَ له، ولا سَمْعَ، ولا بَصَرَ، ولا كلامَ، ولا إرادةَ تقومُ به. وهذا من أعظَمِ الإلحادِ فيها عَقلًا وشَرعًا ولُغةً وفِطرةً! وهو يُقابِلُ إلحادَ المُشرِكينَ؛ فإنَّ أولئك أعطَوا أسماءَه وصِفاتِه لآلهتِهم، وهؤلاء سَلَبوه صِفاتِ كَمالِه وجَحَدوها وعَطَّلوها؛ فكِلاهما مُلحِدٌ في أسمائِه.
5- تَشبيهُ صِفاتِه بصِفاتِ خَلْقِه، تعالى اللهُ عمَّا يَقولُ المُشَبِّهونَ عُلُوًّا كبيرًا
[1223] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) (1/298)، ((مدارج السالكين)) (1/54) كلاهما لابن القيم، ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 16). .