المَطلَبُ الثَّاني: من قَواعِدِ صِفاتِ اللهِ: نَفْيُ ما نفاه اللهُ عن نَفْسِه في كتابِه، أو نفاه عنه رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم، مع اعتقادِ ثُبوتِ كَمالِ ضِدِّه للهِ تعالى
فاللهُ تعالى أعلَمُ بنَفْسِه مِن خَلْقِه، ورسولُه أعلَمُ النَّاسِ بربِّه، ومِن بعدِه أصحابُه رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فنَفْيُ الموتِ عنه يتضمَّنُ كمالَ حياتِه، ونَفْيُ الظُّلمِ يتضمَّنُ كمالَ عَدْلِه، ونَفْيُ النَّومِ يتضمَّنُ كمالَ قيُّوميَّتِه
[1261] يُنظر: ((العقيدة التَّدمُرية)) (ص: 57)، ((الجواب الصحيح لمن بدَّل دينَ المسيح)) كلاهما لابن تيمية (3/209). .
قال الحليميُّ: (نَفْيُ المذَامِّ إثباتٌ للمَدائِحِ، كقَولِنا: لا شَريكَ له ولا شَبيهَ له: إثباتٌ أنَّه واحِدٌ أحَدٌ، وكقَولِنا: لا يُعجِزُه شَيءٌ: إثباتٌ أنَّه قادِرٌ قَوِيٌّ، وكقَولِنا: إنَّه لا يَظلِمُ أحدًا: إثباتٌ أنَّه عَدلٌ في حُكمِه، وإثباتُ المدائِحِ له نفيٌ للمَذَامِّ عنه، كقَولِنا: إنَّه عالمٌ: نَفيٌ للجَهلِ عنه، وقَوِلنا: إنَّه قادِرٌ: نَفيٌ للعَجزِ عنه)
[1262] يُنظر: ((المنهاج في شعب الإيمان)) (1/ 197). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (المدحُ إنَّما يكونُ بالأُمورِ الثُّبوتيَّةِ لا بالأمورِ العدَميَّةِ، وإنَّما يحصُلُ المدحُ بالعَدَمِ إذا تضَمَّنَ ثُبوتًا، كقَولِه تعالى:
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] ، فنَزَّه نَفْسَه عن السِّنةِ والنَّومِ؛ لأنَّ ذلك يتضَمَّنُ كَمالَ حياتِه وقيُّوميَّتِه، كما قال تعالى:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] ، فهو سُبحانَه حيٌّ لا يموتُ، قيُّومٌ لا ينامُ، وكذلك قَولُه تعالى:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] ، فنَزَّه نَفْسَه المقَدَّسةَ عن مَسِّ اللُّغوبِ -وهو الإعياءُ والتَّعَبُ-؛ ليتبيَّنَ كمالُ قُدرتِه.
فهو سُبحانَه موصوفٌ بصِفاتِ الكَمالِ، مُنَزَّهٌ عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، موصوفٌ بالحياةِ والعِلْمِ والقُدرةِ والسَّمعِ والبَصَرِ والكَلامِ، مُنَزَّهٌ عن الموتِ والجَهلِ والعَجزِ والصَّمَمِ والعَمى والبَكَمِ، وهو سُبحانَه لا مِثْلَ له في شيءٍ مِن صِفاتِ الكَمالِ، وهو مُنَزَّهٌ عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ؛ فإنَّه قُدُّوسٌ سلامٌ يمتَنِعُ عليه النَّقائِصُ والعُيوبُ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، وهو سُبحانَه لا مِثْلَ له في شيءٍ مِن صِفاتِ كَمالِه، بل هو الأحَدُ الصَّمَدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يكُنْ له كُفُوًا أحَدٌ)
[1263] يُنظر: ((جامع المسائل لابن تيمية - المجموعة الثالثة)) (ص: 207). .
وقال أيضًا: (الصِّفاتُ السَّلبيَّةُ إنَّما تكونُ كَمالًا إذا تضَمَّنَت أمورًا وُجوديَّةً؛ ولهذا كان تَسبيحُ الرَّبِّ يَتضَمَّنُ تنزيهَه وتعظيمَه جميعًا، فقَولُ العَبدِ: «سُبحانَ اللهِ» يَتضَمَّنُ تنزيهَ اللهِ وبَراءتَه مِنَ السُّوءِ، وهذا المعنى يَتضَمَّنُ عَظَمتَه في نَفْسِه، ليس هو عَدَمًا مَحْضًا لا يَتضَمَّنُ وجودًا؛ فإنَّ هذا لا مَدْحَ فيه ولا تعظيمَ، وكذلك سائِرُ ما تنَزَّهَ الرَّبُّ عنه مِنَ الشُّرَكاء والأولادِ وغيرِ ذلك)
[1264] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/ 144). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (كُلُّ نفيٍ يأتي في صِفاتِ اللهِ تعالى في الكِتابِ والسُّنَّةِ إنَّما هو لثُبوتِ كَمالِ ضِدِّه؛ كقَولِه تعالى:
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] لكَمالِ عَدْلِه،
لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] لكَماِل عِلْمِه، وقَولِه تعالى:
وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] لكَمالِ قُدرتِه،
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] لكَمالِ حياتِه وقيومِيَّتِه،
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام: 103] لكَمالِ جَلالِه وعَظَمتِه وكِبريائِه، وإلَّا فالنَّفيُ الصِّرفُ لا مَدْحَ فيه)
[1265] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 68). .
وقال ابنُ الوزيرِ: (اللهُ سُبحانَه موصوفٌ بالإثباتِ والنَّفيِ؛ فالإثباتُ كإخبارِه سُبحانَه أنَّه بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، وعلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وأنَّه سميعٌ بصيرٌ، ونحوِ ذلك.
والنَّفيُ كقَولِه:
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] ، وينبغي أن يُعلَمَ أنَّ النَّفيَ ليس فيه مدحٌ ولا كمالٌ إلَّا إذا تضَمَّن إثباتًا؛ لأنَّ النَّفيَ المحضَ عَدَمٌ محضٌ، والعَدَمُ المحْضُ ليس بشَيءٍ، وما ليس بشَيءٍ هو كما قيل: ليس بشَيءٍ، فضلًا عن أن يكونَ مَدحًا وكمالًا، ولأنَّ النَّفيَ المحْضَ يُوصَفُ به المعدومُ والممتَنِعُ، وهما لا يُوصَفانِ بمَدحٍ ولا كمالٍ؛ فلهذا كان عامَّةُ ما وَصَف اللهُ به نَفْسَه مِن النَّفيِ مُتَضَمِّنًا لإثباتِ مَدحٍ، كقَولِه:
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255] ؛ فإنَّه يَتضَمَّنُ كمالَ الحياةِ والقيامِ، وقَولِه:
وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة: 255] ؛ فإنَّه مُستلزِمٌ لكَمالِ قُدرتِه، وقَولِه:
لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ [سبأ: 3] مُستلزمٌ لعِلْمِه بكُلِّ ذرَّةٍ، وقَولِه:
وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] مُستلزِمٌ كمالَ القُدرةِ ونهايةَ القُوَّةِ، وقَولِه:
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام: 103] نفى الإدراكَ الذي هو الإحاطةُ، كما قال أكثَرُ العُلَماءِ، ولم يَنْفِ مجَرَّدَ الرَّؤيةِ؛ لأنَّ المعدومَ لا يُرى، وليس في كَونِه لا يُرى مدحٌ، وإلَّا لكان المعدومُ ممدوحًا، وإنَّما المدحُ في كونِه لا يحاطُ به وإنْ رُئِيَ، كما أنَّه لا يُحاطُ به وإن عُلِمَ، فكما أنَّه إذا عُلِمَ لا يحاطُ به عِلْمًا، فكذلك إذا رُئِيَ لا يحاطُ به رؤيةً، فكان في نَفيِ الإدراكِ مِن إثباتِ عَظَمتِه ما يكونُ مَدحًا وصِفةَ كَمالٍ.
وإذا تأمَّلْتَ وجَدْتَ كُلَّ نَفيٍ لا يستلزِمُ ثُبوتًا هو مِمَّا لم يَصِفِ اللهُ به نَفْسَه؛ فالذين لا يَصِفونَه إلَّا بالسُّلُوبِ لم يُثبِتوا في الحقيقةِ إلهًا محمودًا، بل ولا موجودًا، وكذلك من شاركَهم في بعضِ ذلك، كالذين قالوا: إنَّه لا يتكَلَّمُ ولا يَرى، أو ليس فوقَ العالمِ، أو لم يَسْتَوِ على العَرشِ، ويَقولون: ليس بداخِلِ العالَمِ ولا خارِجِه، ولا مبايِنٍ للعالَمِ ولا مُحايثٍ له؛ إذ هذه الصِّفاتُ يمكِنُ أن يُوصَفَ بها المعدومُ، وليست هي مستلزِمةً صفةَ ثُبوتٍ؛ ولهذا قيل لِمن ادَّعى ذلك في الخالِقِ: مَيِّزْ لنا بين هذا الرَّبِّ الذي تُثبِتُه، وبين المعدومِ!)
[1266] يُنظر: ((العواصم والقواصم)) (4/ 134). .
وقال
ابنُ باز: (الواجِبُ على جميعِ المكَلَّفينَ الإيمانُ بأسمائِه وصِفاتِه، والإيمانُ بكُلِّ ما أخبَرَ اللهُ به ورَسولُه، من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومن دونِ زيادةٍ أو نَقصٍ، بل يجِبُ إثباتُ ما أثبَتَه اللهُ ورَسولُه، ونَفْيُ ما نفاه اللهُ ورَسولُه)
[1267] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (1/ 117). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الضَّابِطُ في الصِّفاتِ التي نفاها اللهُ تعالى عن نَفْسِه أنَّها تدُلُّ على نفيِ تلك الصِّفةِ، وعلى ثُبوتِ كَمالِ ضِدِّها)
[1268] يُنظر: ((تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة)) (1/ 279). .
وقال أيضًا: (ما نفاه اللهُ تعالى عن نَفْسِه فالمرادُ به بيانُ انتفائِه لثُبوتِ كَمالِ ضِدِّه، لا لمجَرَّدِ نَفْيِه؛ لأنَّ النَّفيَ ليس بكَمالٍ إلَّا أن يَتضَمَّنَ ما يَدُلُّ على الكَمالِ؛ وذلك لأنَّ النَّفيَ عَدَمٌ، والعَدَمُ ليس بشيءٍ فَضلًا عن أن يكونَ كَمالًا، ولأنَّ النَّفيَ قد يكونُ لعدَمِ قابليَّةِ المحَلِّ له، فلا يكونُ كَمالًا، كما لو قُلتَ: الجِدارُ لا يَظلِمُ، وقد يكونُ للعَجزِ عن القيامِ به، فيكونُ نَقصًا، كما في قَولِ الشَّاعِرِ:
قُبَيِّلةٌ لا يَغدِرونَ بذِمَّةٍ ... ولا يَظلِمونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
وقولِ الآخَرِ:
لكِنَّ قومي وإنْ كانوا ذَوِي حَسَبٍ ... لَيسُوا مِنَ الشَّرِّ في شَيءٍ وإنْ هانَا
مِثالُ ذلك: قَولُه تعالى:
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] ، فنفيُ الموتِ عنه يَتضَمَّنُ كَمالَ حياتِه.
مثالٌ آخَرُ: قَولُه تعالى:
وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] نفيُ الظُّلمِ عنه يَتضَمَّنُ كمالَ عَدْلِه.
مثالٌ ثالِثٌ: قَولُه تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ فنَفيُ العَجزِ عنه يَتضَمَّنُ كَمالَ عِلْمِه وقُدرتِه؛ ولهذا قال بَعْدَه:
إِنَّه كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 44] ؛ لأنَّ العَجْزَ سَبَبُه: إمَّا الجَهلُ بأسبابِ الإيجادِ، وإمَّا قُصورُ القُدرةِ عنه؛ فلكَمالِ عِلمِ اللهِ تعالى وقُدرتِه لم يكُنْ لِيُعجِزَه شَيءٌ في السَّمَواتِ ولا في الأرضِ.
وبهذا المثالِ عَلِمْنا أنَّ الصِّفةَ السَّلبيَّةَ قد تتضَمَّنُ أكثَرَ مِن كمالٍ)
[1269] يُنظر: ((القواعد المثلى)) (ص: 23). .