المَطْلَبُ الثَّاني: صُوَرُ الإطْنابِ
ذكَر البَلاغيُّون للإطْنابِ صُورًا كَثيرةً؛ منْها:
1- الإيْضاحُ بعدَ الإبْهامِ:وهُو أنْ يأتيَ لفظٌ مُبهَمٌ أو مُجمَلٌ، فيأتيَ بعدَه ما يُوضِّحُه ويُفسِّرُه ويُفصِّلُ إجْمالَه، كقَولِه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف: 10-11] ، فأتى بلفْظِ "تِجارَة" النَّكرةِ، ثمَّ وصَفها بأنَّها تُنْجي مِنَ العَذابِ، فتَشوَّفتْ لذلك نُفوسُ المُؤمنينَ، ثمَّ جاءتِ الآيةُ الثَّانيةُ مُوضِّحَةً لماهيَّةِ تلك التِّجارةِ المُربِحةِ.
ومِنَ الإيْضاحِ بعدَ الإبْهامِ أيضًا ما اصْطلَحَ البَلاغيُّونَ على تَسميتِه تَوْشيعًا، وهُو أنْ يُؤتَى في عَجُزِ الكَلامِ بمُثنًّى يُفسَّرُ باسمَينِ، كقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((للصَّائِمِ فَرْحتانِ يَفرَحُهما: إذا أفْطر فرِحَ، وإذا لَقِي رَبَّه فرِحَ بصَوْمِه )) [273] أخرجه مطولاً البخاري (1904) واللفظ له، ومسلم (1151) باختلاف يسير من حَديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. .
يقولُ الخَطيبُ القَزْوينيُّ: (إنَّ الشَّيءَ إذا حصَل كَمالُ العلْمِ به دفْعةً لم يَتقدَمْ حُصولَ اللَّذَّةِ به ألَمٌ، وإذا حصَل الشُّعورُ به مِن وجْهٍ دُونَ وجْهٍ، تَشوَّفتِ النَّفسُ إلى العلْمِ بالمَجْهولِ، فيَحصُلُ لها بسَببِ المَعْلومِ لذَّةٌ، وبسَببِ حِرمانِها مِنَ الباقي ألَمٌ، ثمَّ إذا حصَل لها العِلْمُ به حصَلتْ لها لَذَّةٌ أخرى، واللَّذَّةُ عَقِيبَ الألَمِ أقْوى مِنَ اللَّذَّةِ الَّتي لم يَتقدَّمْها ألَمٌ)
[274] ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/ 197). .
ومِن الإيضاحِ بعْدَ الإبهامِ بابُ "نِعمَ وبِئسَ" على قولِ مَن يَجعَلُ المخصوصَ خَبرَ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، مِثلُ: نِعمَ الرَّجلُ محمَّدٌ، وبِئسَ الرَّجلُ أبو لَهَبٍ؛ فلو لم يُقصَدِ الإطنابُ لَقِيلَ: نِعمَ محمَّدٌ، وبِئسَ أبو لَهَبٍ.
وحَسُنَ الإطنابُ أنْ تَرتَّبَ عليه نقيضُه الإيجازُ؛ لأنَّه لوْ قال: "نِعمَ الرَّجلُ" استَشْرَفَت نفسُ السَّامعِ إلى مَن هو؟ واستَأنَفَ بقولِه: "محمَّدٌ" على تَقديرِ مُبتدأٍ مَحذوفٍ؛ أي: هو محمَّدٌ، وفيه مِيزتانِ:
الأُولى: إبرازُ الكلامِ في مَعرضِ الاعتدالِ نَظَرًا إلى إطنابِه مِن وَجهٍ وإلى اختصارِه مِن آخَرَ.
الثَّاني: إيهامُ الجمعِ بيْن المتباينينِ -وهما الإيجازُ والإطنابُ- في جُملةٍ قَصيرة.
2- الإيغالُ:وهُو ختْمُ الكَلامِ بما يُفيدُ فائِدةً يتِمُّ المَعْنى بدُونِها، كقولِ الخنْساءِ في رِثاءِ أخيها صَخْرٍ: البسيط
وإنَّ صَخْرًا لتأتمُّ الهُداةُ بهِ
كأنَّهُ عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ
فقولُها: "في رأسِهِ نارُ" إيْغالٌ يُفيدُ المُبالَغةَ في التَّشْبيهِ، فلم تَكتفِ بأنْ يكونَ أخوها علَمًا -وهُو الجبَلُ العالي الَّذي يُهتَدى به في السَّيرِ لظُهورِه- حتَّى زادت على ذلك أنْ جعَلتْ على قمَّتِه نارًا؛ مُبالَغةً في الوُضوحِ والانْكشافِ.
ومنه أيضًا قولُه تعالى:
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس: 20-21] ؛ فقَولُه:
وَهُمْ مُهْتَدُونَ إيغالٌ يتِمُّ المَعْنى بدونِه؛ إذِ الرُّسلُ -لا مَحالةَ- مُهْتدونَ، لكنَّه أتى بها زِيادةً في الحَثِّ على اتِّباعِ الرُّسلِ والاقْتِداءِ بهم.
3- التَّذْييلُ:وهو أنْ يُذيِّلَ النَّاظِمُ أوِ النَّاثِرُ كَلامَه بعد تمامِه بجُملةٍ تُحقِّقُ ما قبلَها فتَزيدُه تَوْكيدًا، وهو ضَربانِ: ضَربٌ لا يَخرُجُ مَخْرَجَ المثَلِ لعدمِ استقلالِه بإفادةِ المرادِ وتَوقُّفِه على ما قبْلَه، كقولِه تعالى:
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] .
وضَربٌ يَخرُجُ مَخرَجَ المثَلِ، كقولِ النَّابِغةِ الذُّبيانيِّ: الطويل
ولسْتَ بمُسْتبقٍ أخًا لا تلُمُّهُ
على شَعَثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذَّبُ
فجُملةُ: "أيُّ الرِّجالِ المُهذَّبُ" تَذْييلٌ أفاد تَوْكيدَ الجُملةِ السَّابِقةِ، وهُو: لو أنَّك كلَّما أخْطأَ أخٌ لك ترَكتَ وُدَّه لَما بَقِيَ لك أحدٌ، فأيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ؟! أيِ: الخالي مِنَ النَّقصِ والعُيوبِ.
ومنه قولُه تعالى:
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: 81] ، فجُملةُ:
إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا تَذْييلٌ لتَوْكيدِ ما قبلَه.
4- التَّتْميمُ:وهُو: تَوفيةُ المَعْنى بما لا يَتِمُّ المعنى -أو الوزنُ الشِّعريُّ- إلَّا به، وهو أعمُّ مِن الإيغالِ الَّذي يَختَصُّ بالنِّهايةِ؛ فالتَّتميمُ يَأتي في النِّهايةِ، وفي الوسَطِ، ويَختلِفُ عن التَّكميلِ الَّذي يكونُ المعنى تامًّا قبْله، فيَأتي بلَفظةٍ زائدةٍ تُفيدُ نُكتةً ومَزيَّةً، وعن الاحتراسِ الذي يَأتي في كَلامٍ يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ لِيَدفَعَ ذلك التَّوهُّمَ، كقولِه تعالى:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ، فقولُه:
وَهُوَ مُؤْمِنٌ تَتْميمٌ للمَعْنى؛ لأنَّ العمَلَ لا يُقبَلُ ولا يُؤجَرُ الإنْسانُ عليه إلَّا إذا وُجِد معَه الإيْمانُ.
ومنه قولُ نافعِ بنِ خَليفةَ الغنويِّ: الطويل
رِجالٌ إذا لم يُقبَلِ الحقُّ منهمُ
ويُعْطَوْهُ عادُوا بالسُّيوفِ القَواضبِ
فالمعنى تمَّ بقولِه: "ويُعطَوْهُ"، وإلَّا كان ناقصًا؛ حيث يُفْهَمُ منه أنَّ هؤلاء الرِّجالَ يَلجَؤون إلى سُيوفِهم لمُجرَّدِ عدمِ قَبولِ الحقِّ منهم، على حِين أنَّ المعنى المرادَ أنَّهم لا يَفزَعون إلى سُيوفِهم إلَّا في حالةِ عدمِ قَبولِ الحقِّ منهم وامتناعِ العدوِّ عن إعطائهِم إيَّاه.
ومنه أيضًا قولُ عَمرِو بنِ براقٍ: الطويل
فلا تَأمنَنَّ الدَّهرَ حُرًّا ظَلَمْتَه
فما لَيلُ مَظلومٍ كَريمٍ بنائمِ
فالتَّتميمُ بقولِه: "كَريمٍ"؛ إذ اللَّئيمُ يُغضي على العارِ ويَنامُ على الثَّارِ.
5- الاحتراس:وهو أن يُؤتى في كَلامٍ يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ بما يَدفَعُ ذلك الوهَمَ؛ كقولِه تعالى:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [طه: 22] ؛ فإنَّ الكلامَ لوْلا زِيادةُ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ربَّما يُوهِمُ أنْ يكون ذلك البياضُ مِن مَرَضٍ كبَرَصٍ أو نحوِه، فأتى سُبحانه بتلك الزِّيادةِ احتراسًا.
وكقولِ طَرَفةَ: الكامل
فسقَى دِيارَكِ غيرَ مُفْسدِها
صوْبُ الرَّبيعِ ودِيمةٌ تَهْمي
فقولُه: "غيرَ مُفْسدِها" تَحرُّزٌ مِنَ الوُقوعِ في مِثلِ قولِ ذي الرُّمَّةِ: الطويل
ألَا يا اسْلَمي يا دارَ مَيَّ على البِلى
ولا زال مُنْهلًّا بجَرعائِكِ القَطْرُ
قال أبو هِلالٍ العَسْكريُّ: (فهذا بالدُّعاءِ عليها أشْبهُ منه بالدُّعاءِ لها؛ لأنَّ القطْرَ إذا انْهلَّ فيها دائِمًا فسَدَتْ، ومِنَ العجَبِ أنَّ ذا الرُّمَّةِ كان يَسْتحسِنُ قولَ الأعْرابيَّةِ -وقد سألَها عنِ الغَيْثِ، فقالت: «غيْثًا ما شِئْنا»، وهُو يقولُ خِلافَ ما يَسْتحسِنُ!)
[275] ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 390). .
6- التَّكميلُ: وهو أنْ تُوفِّيَ المعنى حظَّه مِن الجودةِ، وتُعطِيَه نَصيبَه مِن الصِّحَّةِ، ثمَّ لا تُغادِرَ معنًى يكونُ فيه تمامُه إلَّا تُورِدُه، أو لَفظًا يكونُ فيه توكيدُه إلَّا تَذكُرُه.
وقد اصطَلَحَ أكثرُ البلاغيِّينَ على مُرادَفةِ التَّكميلِ للاحتراسِ، إلَّا أنَّ بعضَ المتأخِّرين فرَّقوا بيْن التَّكميلِ والاحتراسِ، وجَعَلوا التَّكميلَ لِما يَتِمُّ المعنى بدُونِه، ولا يكونُ في الكلامِ مُوهِمٌ، بخلافِ الاحتراسِ، كما فرَّقوا بيْنه وبيْن التَّتميمِ في أنَّ المعنى قبْلَ التَّتميمِ يكونُ ناقصًا، بخِلافِ التَّكميلِ.
فمِن التَّكميلِ قَولُ زُهَيرِ بنِ أبي سُلْمى في مَدحِ هَرمِ بنِ سِنانٍ: البسيط
مَن يَلْقَ يومًا على عَلَّاتِهِ هرمًا
يلْقَ السَّماحةَ منه والنَّدى خُلُقَا
فقولُه: "على عَلَّاتِه" تَكميلٌ يَصِحُّ المعنى بدونِه، غيرَ أنَّ له وَقعًا حَسنًا في الكلامِ، أراد: أنَّ السَّماحةَ والكرَمَ طِباعٌ تَجِدُها في هَرمِ بنِ سِنانٍ في جميعِ أحوالِه وأوقاتِه.
ومنه أيضًا قولُ عَوفِ بنِ مُحلَّمٍ: السريع
إنَّ الثَّمانينَ وبُلِّغْتُها
قد أحوَجَتْ سَمْعي إلى تَرجمانِ
فمعنى البيتِ بدونِ كلمةِ "وبُلِّغْتُها" واضحٌ، لكنَّ تلك الزِّيادةَ جاءت للمُبالَغةِ وتَوكيدِ الكلامِ؛ فكأنَّ كلامَه صار تَجرِبةً واقعةً.
وقولُ كُثَيِّرٍ: الكامل
لو أنَّ عزَّةَ حاكَمَتْ شَمسَ الضُّحَى
في الحُسْنِ عند مُوَفَّقٍ لَقَضى لها
فلو اعتَضْنا عن كَلمةِ "عندَ مُوفَّقٍ" بـ"عندَ حاكمٍ" مثلًا، أو حَذَفْناها أصلًا وبَنَينا "قَضَى" لغيرِ الفاعلِ؛ لَتمَّ المعنى.
7- الاعْتِراضُ:وهُو أنْ يُؤتَى في أثْناءِ الكَلامِ أو بيْن كلامينِ مُتَّصلَين معنًى بجُملةٍ أو أكْثرَ، لا مَحلَّ لها مِنَ الإعْرابِ؛ لفائِدةٍ.
ومنه في القُرآنِ قولُه تعالى:
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النحل: 101] ؛ فجُملةُ:
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ جُملةٌ مُعْترِضةٌ بَيْنَ الشَّرطِ وجَوابِه، جِيءَ بها لنفْيِ ما يَزعُمُه هؤلاءِ الضَّالونِ مِنِ افتْراءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للقُرآنِ.
ومنها قولُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: الوافر
لوَ انَّ الباخِلينَ وأنتِ منْهم
رأَوكِ تَعلَّموا منكِ المِطالا
فجُملةُ: "وأنتِ منهم" اعْتراضٌ تُفيدُ الإسْراعَ في التَّصْريحِ بلَومِها على جَفائِها له ومُماطلَتِها إيَّاه.
8- التَّكريرُ: وهُو تَكريرُ الكَلمةِ أوِ الجُملةِ مرَّتَينِ أو أكْثرَ لفائِدةٍ مِن الفوائدِ، منها:
- التَّأكيدُ وتقريرُ المعنى، كما في قَولِه تعالى:
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3-4] ؛ فقد كرَّر قولَه:
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ بما فيه مِنَ الزَّجْرِ عنِ اللَّهوِ والانْغِماسِ في المَلذَّاتِ، بما يُفيدُ تأكيدَ الزَّجرِ والإنْذارِ.
- التَّهديدُ والوعيدُ، ومنه قولُه تعالى:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 96-99] ؛ فـ(تكرَّرَ لفْظُ «أَهْلُ الْقُرَى»؛ لِما في ذلك مِنَ التَّسْميعِ والإبْلاغِ والتَّهديدِ والوَعيدِ بالسَّامِعِ ما لا يكونُ في الضَّميرِ لو جاء: (أَوَأمِنوا)؛ فإنَّه متى قُصِد التَّفْخيمُ والتَّعْظيمُ والتَّهويلُ جِيءَ بالاسمِ الظَّاهِرِ)
[276] ((تفسير أبي حيان)) (5/ 120). .
- الحثُّ والاهتمامُ بالمُكَرَّرِ؛ ومن ذلك قولُ الخَنْساءِ:
أعَيْنيَّ جُودا ولا تَجمُدا
ألا تَبْكيَانِ لصَخرِ النَّدى
ألا تَبْكيَانِ الجَوادَ الجَميلَ
ألا تَبْكيَانِ الفَتى السَّيِّدا
وقولُها:
وَابْكِي أخاكِ ولا تَنسَي شَمائِلَهُ
وابْكِي أخاكِ شُجاعًا غيرَ خَوَّارِ
وابْكِي أخاكِ لأيْتامٍ وأرْملةٍ
وابْكِي أخاكِ لحَقِّ الضَّيفِ والجارِ
- الإمعانُ وإثباتُ النِّسبةِ، ومنه قولُ
جَريرٍ يَهْجو قَبيلةَ (سَدُوس) ويُشهِّرُ بها:
أخلَّائي الكرامَ سِوى سَدُوسٍ
وما لي في سَدُوسٍ مِن خَليلِ
إذا أنْزَلْتَ رحْلكَ في سَدُوسٍ
فقد أُنزِلْتَ مَنْزِلةَ الذَّليلِ
وقد علِمَتْ سَدُوسٌ أنَّ فيها
مَنارَ اللُّؤمِ واضِحةَ السَّبيلِ
فما أعْطتْ سَدُوسٌ مِن كَثيرٍ
ولا حامتْ سَدُوسٌ عَن قَليلِ
- طولُ الفصلِ: فيُكرَّرَ لئلَّا يَجِيءَ الكلامُ مُفتقِدًا للصِّلاتِ، كقولِه تعالى:
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4] ، فكَرَّر الفعلَ "رأيتُ" لطُولِ الفصلِ، فلو قال: رأيتُ أحدَ عشرَ كوكبًا والشَّمسَ والقمرَ ساجدِين لي، لَما كان للكلامِ مِثلُ الرَّونقِ والطَّلاوةِ الحاصلةِ بالتَّكرارِ.
- قصدُ الاستيعابِ، كقولِك: قرأتُ الكتابَ بابًا بابًا، وفَهِمتُه كلمةً كلمةً.
- التَّرغيبُ في قَبولِ النُّصحِ، كقولِ مُؤمنِ آلِ فِرعونَ:
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ * وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر: 29-32] ، حيث كرَّر قولَه: "يا قوم" ليُؤكِّدَ لهم أنَّ الباعثَ على نُصحِه هو انتسابُه إليهم وشَفَقتُه عليهم، وذلك أدْعى لإجابتِهِم له.
- التَّلَذُّذ بذِكرِ المُكَرَّرِ، كقولِ مَرْوانَ بنِ أبي حَفْصةَ: الطويل
سَقى اللهُ نَجْدًا والسَّلامُ على نَجْدٍ
ويا حبَّذا نَجْدٌ على القُربِ والبُعدِ
على أنَّ التَّكرارَ المُعتبَرَ هنا هو ما يؤدِّي وظيفتَه التَّعبيريَّةَ في السِّياقِ، فإذا افْتقَد ذلك كان عبَثًا ولَغْوًا، كقولِ
المُتَنبِّي: الطويل
عظُمتَ فلمَّا لم تُكَلَّمْ مَهابةً
تواضَعْتَ وهُو العُظْمُ عُظْمًا على عُظْمِ
حيثُ كرَّر الكَلمةَ غيرَ مرَّةٍ بلا فائِدةٍ، حتَّى قال البَلاغيُّونَ: ما أكْثرَ عِظامَه!
[277] ينظر: ((حاشية الدسوقي على مختصر المعاني)) (2/ 686)، ((علم المعاني في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص:146). 9- ذِكرُ الخاصِّ بعْدَ العامِّ: مِن صُورِ الإطناب عطْفُ الخاصِّ على العامِّ، فيَأتي المتكلِّمُ بكَلمةٍ عامَّةٍ، ثمَّ يَعطِفُ عليها خاصًّا داخلًا في ذلك العامِّ؛ تَنبيهًا على أهمِّيةِ ذلك الخاصِّ وإنزالِه مَنزلتَه، فكأنَّه مُغايرٌ لِما قبْله في الجِنسِ.
ومِن أمثلةِ ذلك قولُه تعالى:
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 98] ؛ حيث أفرَدَ سُبحانه
جِبريلَ ومِيكالَ بالذِّكرِ بعْدَ قولِه:
وَمَلَائِكَتِهِ تَخصيصًا لهما وبيانًا لمنزلتِهما.
ومنه قولُه سُبحانه:
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة: 238] ؛ فلمَّا كان للصَّلاةِ الوُسطى أهمِّيةٌ خاصةٌ، أفرَدَها بالذِّكرِ وإنْ كانت داخلةً في الصَّلواتِ الخمسِ.
10- ذِكرُ العامِّ بعْدَ الخاصِّ: وهو عكسُ الصُّورةِ السَّابقةِ؛ حيث يأتي المتكلِّمُ بشَيءٍ خاصٍّ، ثم يُردِفُه بالعامِّ الذي يَشمَلُه، تَوكيدًا وتَنبيهًا على المتقدِّمِ، ثمَّ شُمولِ بقيَّةِ الأفرادِ بالحكمِ، كقولِ نوحٍ عليه السَّلامُ:
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح: 28] ؛ فدَعا لنَفسِه أولًا، ثمَّ لِوالديْه لِما لهما مِن حقِّ البرِّ والإحسانِ، ثمَّ لأصحابهِ الذين آزَرُوه ونَصَروه، ثمَّ لعُمومِ المؤمنينَ والمؤمناتِ، والثَّلاثةُ داخِلون في عِدَادِهم، لكنَّه أفرَدَهم اهتمامًا وتمييزًا.