المَبْحَثُ الثَّاني: العَلاقاتُ
المَقْصودُ بالعَلاقةِ هنا هو الصِّلَةُ الَّتي تَربِطُ بينَ الفِعلِ أو ما يَقومُ مَقامَه، وبينَ ما يُسنَدُ إليه ذلك الفِعلُ أو ما يَقومُ مَقامَه.
وأبرَزُ تلك العَلاقاتِ هي:
1- الزَّمانيَّةُ: وهِي إسْنادُ الفِعلِ أو ما يَقومُ مَقامَه إلى الزَّمانِ الَّذي يَحدُثُ فيه، كقولِ طَرفَةَ بنِ العَبْدِ: الطويل
ستُبْدي لك الأيَّامُ ما كُنتَ جاهِلًا
ويَأتيكَ بالأخْبارِ مَن لم تُزوِّدِ
فقولُ الشَّاعِرِ: "ستُبدي لك الأيَّامُ" مَجازٌ عقْليٌّ؛ أسنَدَ الشَّاعرُ فيه الفِعلَ إلى الأيَّامِ، والأيَّامُ ليس مِن شأنِها أنْ تُبديَ شيئًا أو تُخْفيَه، وإنَّما هي ظَرفٌ ووِعاءٌ يَحدُثُ فيه ذلك، أيْ: سيَبدو لك في الأيَّامِ ذلك.
ومنه قولُ أبي البَقاءِ الرَّنْديِّ: البسيط
لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نُقْصانُ
فلا يُغَرُّ بطِيبِ العَيشِ إنْسانُ
هي الأمورُ كما شاهدْتُها دُوَلٌ
مَنْ سرَّه زمَنٌ ساءتْه أزْمانُ
ففي البيتِ الثَّاني إسْنادُ السُّرورِ والإساءَةِ إلى الزَّمانِ، والزَّمانُ لا يسُرُّ أحدًا ولا يُسِيءُ إلى أحدٍ، وإنَّما السُّرورُ والإساءَةُ واقِعانِ فيه؛ فأصْلُ الكَلامِ مَنْ سُرَّ في زمَنٍ أُسيءَ إليه في أزْمانٍ، فأسنِدَ الفِعلُ مَجازًا عقليًّا إلى الزَّمانِ.
2- المَكانيَّةُ: وهِي إسْنادُ الفِعلِ أو ما يَقومُ مَقامَه إلى المَكانِ الَّذي يَقعُ فيه الحدَثُ، كقَولِه تعالى:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة: 25] ؛ فإنَّ إسْنادَ الجَريانِ إلى الأنْهارِ هو مِن قَبيلِ المَجازِ العقْليِّ؛ فإنَّ الَّذي يَجري إنَّما هو الماءُ، والأنْهارُ هي تلك الأماكِنُ الَّتي يَجْري الماءُ فيها.
ومنْها قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
نُبِّئتُ أنَّ النَّارَ بعدَك أُوقِدتْ
واسْتَبَّ بعدَك يا كُلَيبُ المَجلِسُ
ففي عَجُزِ البيتِ إسْنادُ السَّبِّ إلى المَجلِسِ، وهُو مَكانُ الجُلوسِ، فلا يُسَبُّ المَكانُ ولا يُمدَحُ، وإنَّما أراد سَبَّ الجُلوسِ نفْسِه والاجْتماعِ بعدَه، أو سَبَّ الجالِسينَ فيه، فأوْقَع الفِعلَ على المَكانِ وأراد إيْقاعَه على مَنْ فيه.
3- الفاعِليَّةُ والمَفْعوليَّةُ: وهِي تلك الَّتي يحُلُّ فيها اسمُ الفاعِلِ مَحلَّ اسمِ المَفْعولِ، واسمُ المَفْعولِ مَحلَّ اسمِ الفاعِلِ.
فمِن إحْلالِ اسمِ الفاعِلِ مَحلَّ المَفْعولِ قولُه تعالى:
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة: 21] ، فإسْنادُ الرِّضا إلى العِيشَةِ إسْنادٌ مَجازيٌّ؛ فإنَّ العِيشَةَ لا تَرضَى، وإنَّما الَّذي يَرضى هو صاحِبُها، فهِي في الأصْلِ مَفْعولَةٌ، والأصْلُ: عِيشَةٌ مَرْضِيَّةٌ.
ومنه قولُ الحُطيئَةِ: البسيط
دعِ المَكارِمَ لا تَرحَلْ لبُغيتِها
واقْعُدْ فإنَّك أنت الطَّاعِمُ الكاسي
هذا البيتُ قاله الحُطيئَةُ في هِجاءِ رجُلٍ، ويَصِفُه بعدَمِ الهِمَّةِ؛ لذا يَطلُبُ منه أنْ يظَلَّ قابِعًا في بيتِه لا يَطلُبُ المَكارِمَ ولا يَرحَلُ إليها، ويَكتفي بأنْ يَجلِسَ في بيتِه يأكُلُ ويَشرَبُ ويَلبَسُ.
والمَجازُ هنا في قولِه: "أنت الطَّاعِمُ الكاسي"؛ فإنَّ أصْلَ الكَلامِ: "المَطْعومُ المَكسُوُّ"، فحوَّل الصِّيغةَ مِنِ اسمِ الفاعِلِ إلى اسمِ المَفْعولِ على سَبيلِ المَجازِ العقْليِّ، مُبالَغةً في السُّخريةِ، والقَرينةُ المانِعةُ مِن إرادةِ المَعْنى الحَقيقيِّ هي حالُ المُتكلِّمِ مِنَ الهِجاءِ والسُّخريةِ، ما يُنافي أنْ يَصِفَه بالإطْعامِ وكِسوةِ الغيرِ.
ومِن أمْثِلةِ تَحويلِ صِيغةِ المَفْعولِ إلى الفاعِلِ قولُه تعالى:
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61] ؛ فإنَّ الأصْلَ فيها: "وعْدُه آتِيًا"؛ فإنَّ الوعْدَ يأتي ولا يُؤْتى، لكنَّه سُبحانه عدَل عنِ اسْتِخدامِ اسمِ الفاعِلِ إلى اسمِ المَفْعولِ.
ومنه قولُه تعالى أيضًا:
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء: 45] ؛ فالأصْلُ: "حِجابًا ساتِرًا" فشأنُ الحِجابِ أنْ يَستُرَ لا أنْ يُستَرَ، لكنَّ القُرآنَ أتى بلفْظِ المَفْعولِ بدَلًا مِن لفْظِ الفاعِلِ مِن بابِ المَجازِ العقْليِّ، والقَرينةُ هنا الحالُ والعقْلُ؛ فإنَّه مَعْلومٌ لدى كلِّ عاقِلٍ أنَّ الحِجابَ هو السَّاتِرُ. فـ(وصْفُ الحِجابِ بالمَستورِ مُبالَغةٌ في حَقيقةِ جِنْسِه، أيْ: حِجابًا بالِغًا الغايةَ في حجْبِ ما يَحجُبُه هو، حتَّى كأنَّه مَسْتورٌ بساتِرٍ آخَرَ، فذلك في قوَّةِ أنْ يُقالَ: جعَلنا حِجابًا فوقَ حِجابٍ)
[344] ((تفسير ابن عاشور)) (15/ 117). .
4- المَصدريَّةُ: وهِي إسْنادُ الفِعلِ إلى مَصدَرِه، كقولِ
أبي فِراسٍ الحَمْدانيِّ: الطويل
سيَذكُرُني قوْمي إذا جَدَّ جِدُّهم
وفي اللَّيلةِ الظَّلماءِ يُفتقَدُ البَدرُ
فالمَجازُ هنا في إسْنادِ الفِعلِ "جَدَّ" إلى مَصدَرِه؛ فإنَّ الجِدَّ لا يُنسَبُ إليه فِعلٌ، والأصْلُ: جَدَّ القوْمُ جِدًّا، فأسنِدَ الفِعلُ إلى المَصدَرِ تأكِيدًا.
5- السَّببيَّةُ: وهِي إسْنادُ الفِعلِ إلى ما هو سَببٌ له، كقَولِه تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم: 28] ؛ فإسْنادُ الفِعلِ "أحلَّ" إلى الَّذين بدَّلوا نِعمَةَ اللهِ كُفرًا إنَّما هو مِنَ الإسْنادِ المَجازيِّ، فإنَّ الَّذي أحلَّهم هو اللهُ تعالى، وإنَّما كان ذلك بسَببِ كُفرِ هؤلاءِ وجُحودِهم بربِّهم؛ فلذلك أسنَدَ اللهُ تعالى الإحْلالَ إليهم لأنَّهم سَببُه.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: البسيط
إنِّي لمِنْ مَعشَرٍ أفْنى أوائِلَهم
قِيلُ الكُماةِ: ألَا أينَ المُحامُونا؟
يُريدُ أنَّه مِن قوْمٍ أفْنَوا أنفُسَهم في سَبيلِ الدِّفاعِ عن قَومِهم وشَرَفِهم، ونسَب الإفْناءَ إلى قولِ الشُّجعانِ: هل مِن مُدافِعٍ؟ وهذا القولُ ليس هو الَّذي أفْناهم حَقيقةً، وإنَّما هو سَببُ ذلك الإفْناءِ؛ فإنَّهم كلَّما قيل ذلك سارَعوا في اقْتِحامِ المَعركةِ ومُبارَزةِ الأعْداءِ الأقْوياءِ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
أعُميرُ إنَّ أباك غيَّر رأسَه
مَرُّ اللَّيالي واخْتِلافُ الأعْصُرِ
يقولُ: إنَّه قد غيَّر لوْنَ رأسِه وكَساه الشَّيبَ طُولُ العُمرِ، فأسنَدَ الفِعلَ "غيَّر" إلى مُرورِ اللَّيالي، وليس ذلك الَّذي غيَّر لونَ رأسِه حَقيقةً، وإنَّما هو سَببُه، فكلَّما مرَّتِ الأيَّامُ طال عمُرُ الإنْسانِ ودَبَّ إليه الشَّيبُ واقْترَب الأجَلُ
[345] ينظر: ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 291)، ((الصورة البيانية في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص: 112). .
تَنْبيهٌ: ذكَرْنا في تَعْريفِ المَجازِ العَقْليِّ أنَّه إسْنادُ الفِعلِ "أو ما يَقومُ مَقامَه" إلى غيرِ ما هو له، والغَرَضُ مِن قولِ البَلاغيِّينَ: "أو ما يَقومُ مَقامَه" أنَّ الإسْنادَ كما يَقعُ في الفِعلِ والفاعِلِ، فإنَّه يَقعُ كذلك فيما يُشبِهُه، كالإضافةِ، تقولُ: جرَى جرْيَ الأنْهارِ، فإضافةُ الجرْيِ إلى النَّهرِ مَجازٌ عقْليٌّ علاقتُه المَكانيَّةُ، شأنُها شأنُ قَولِه تعالى:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة: 25] .
ومنه أيضًا قولُه تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سبأ: 33] ؛ فإضافَةُ المكْرِ إلى اللَّيلِ والنَّهارِ مَجازٌ عقْليٌّ؛ إذِ اللَّيلُ والنَّهارُ لا يَمكُرانِ، وإنَّما يُمكَرُ فيهما، فالأصْلُ: مَكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ.
وقولُهم: غُرابُ البَينِ؛ فإنَّ الإضافةَ فيه مَجازٌ عقْليٌّ أيضًا، عَلاقتُه السَّببيَّةُ؛ فالغُرابُ هو سَببُ ذلك البَينِ، وهُو الفِراقُ.
ويَدخُلُ فيه أيضًا الخبَرُ؛ كقولِك: نهارُه صائِمٌ وليْلُه قائِمٌ؛ فالأصْلُ: صائِمٌ في نَهارِه، وقائِمٌ في ليلِه، فأُسنِدَ الخبَرُ إلى الزَّمانِ في الجُمْلتَينِ، ولا يَخْفى أنَّ القَرينةَ هنا بَداهةً أنَّ النَّهارَ لا يَصومُ وأنَّ اللَّيلَ لا يَقومُ
[346] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 255). .