المَبحَثُ الثَّاني: الإسلامُ ورِوايةُ الشِّعْرِ
لم يَمنَعِ الإسلامُ مِن رِوايةِ ذلِك الشِّعْرِ الجاهِليِّ، بل حَضَّ على رِوايةِ ما حَسُنَ مَعناه وجَزُلَ لَفْظُه؛ فازْدادَ اهْتِمامُ العَربِ المُسلِمينَ بالشِّعْرِ الجاهِليِّ ورِوايتِه، حتَّى كانَ بعضُ الصَّحابةِ رُواةً للشِّعْرِ الجاهِليِّ، فكانَت
عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها مِن رُواةِ الشِّعْرِ، وكانَت مِن أعلَمِ النَّاسِ بالشِّعرِ الجاهِليِّ، لا يَرِدُ عليها شيءٌ إلَّا تَمثَّلَتْ فيه شِعْرًا
[90] يُنظر: ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (6/ 124)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (18/ 175). .
وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَستَمِعُ إلى الشِّعْرِ ويُحِبُّ رِوايتَه؛ قالَ الشَّريدُ بنُ سُوَيدٍ الثَّقَفيُّ:
((استنشدني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشدته بيتا، فقال: هيه. ثم أنشدته بيتا، فقال: هيه. حتى أنشدته مائة بيت. إن كاد ليسلم. وفي رواية: فلقد كاد يسلم في شعره )) [91] أخرجه مسلم (2255) .
وقالَ جابِرُ بنُ سَمُرةَ:
((جالَسْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ أَكْثَرَ مِن مِئةِ مرَّةٍ، فكانَ أصْحابُه يَتَناشَدونَ الشِّعر ويَتَذاكرون أشياءً مِن أمْرِ الجاهِليَّةِ، وهو ساكتٌ فربما تبَسَّم معهم )) [92] أخرجه الترمذي (2850) واللفظ له، وأحمد (21010) والحديث أصله في صحيح مسلم (670) دون ذكر تناشد الشِّعر. .
وكانَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يَستمِعُ لرِوايةِ الشِّعْرِ؛ فقدْ رُوِيَ عنه أنَّه قالَ ل
ابنِ عبَّاسٍ: (أنْشِدْني لأشْعَرِ شُعَرائِكم. قلتُ: مَن هو يا أميرَ المُؤْمِنينَ؟ قالَ: زُهَيرٌ. قيل: بمَ كانَ ذاك؟ قال: كانَ لا يُعاظِلُ بيْنَ الكَلامِ، ولا يَتَتبَّعُ حُوشيَّه، ولا يَمدَحُ الرَّجُلَ إلَّا بما فيه)
[93] ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 137)، ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 98). .
فاسْتَمرَّتِ الرِّوايةُ في الإسلامِ كما كانَت عليه في الجاهِليَّةِ، إلَّا أنَّ العِنايةَ بالشِّعْرِ في عَصْرِ صَدْرِ الإسلامِ قلَّتْ عن العِنايةِ به في الجاهِليَّةِ؛ لانْشِغالِ الصَّحابةِ بالدَّعْوةِ إلى اللهِ والغَزَواتِ والفُتوحاتِ، حتَّى إذا ما انْتَشرَ الإسلامُ وفُتِحتِ البِلادُ ودخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أفْواجًا، رجَعَ العَربُ إلى رِوايةِ الشِّعْرِ على نِطاقٍ واسِعٍ، وأعْطَوْه قِسْطًا كَبيرًا مِنِ اهْتِمامِهم.
يقولُ ابنُ سَلَّامٍ: (لَمَّا كَثُرَ الإسلامُ وجاءَتِ الفُتوحُ واطْمأنَّتِ العَربُ بالأمْصارِ، راجَعوا رِوايةَ الشِّعْرِ، فلم يَؤولوا إلى ديوانٍ مُدوَّنٍ، ولا كِتابٍ مَكْتوبٍ، وألْفَوا ذلِك وقد هلَكَ مِن العَربِ مَن هلَكَ بالمَوْتِ والقَتْلِ، فحَفِظوا أقَلَّ ذلِك، وذهَبَ عليهم مِنه كَثيرٌ)
[94] ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام الجمحي (1/25). .
وتَنبُعُ أهمِّيَّةُ الشِّعْرِ الجاهِليِّ بالنِّسبةِ للإسلامِ -فَضْلًا عن كُلِّ ما سبَقَ -في أنَّه ديوانُ العَربيَّةِ، المُفسِّرُ لغَريبِ ما في القُرآنِ، وبه يَعتضِدُ المُفسِّرونَ في تَأويلِ ألفاظِ القُرآنِ الكَريمِ، وفي هذا يقولُ
ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: (إذا سَألتُموني عن شيءٍ مِن غَريبِ القُرآنِ فالتَمِسوه في الشِّعرِ؛ فإنَّ الشِّعرَ ديوانُ العَربِ)
[95] يُنظر: ((صبح الأعشى)) للقلقشندي (1/123). .
وسُؤالاتُ نافِعِ بنِ الأزْرَقِ ل
ابنِ عبَّاسٍ خَيْرُ شاهِدٍ على حَفاوَتِهم بالشِّعْرِ وتَحرِّيهم في رِوايتِه؛ فعنِ الضَّحَّاكِ بنِ مُزاحِمٍ الهِلاليِّ قالَ: خرَجَ نافِعُ بنُ الأزْرَقِ ونَجْدةُ بنُ عُوَيْمِرٍ في نَفَرٍ مِن رُؤوسِ
الخَوارِجِ يُنَقِّرونَ عنِ العِلمِ ويَطلُبونَه، حتَّى قَدِموا مَكَّةَ، فإذا هم ب
عَبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ قاعِدًا قَريبًا مِن زَمْزَمَ، وعليه رِداءٌ أحْمَرُ وقَميصٌ، وإذا ناسٌ قِيامٌ يَسْألونَه عنِ التَّفْسيرِ، يقولونَ: يا
بنَ عبَّاسٍ، ما تقولُ في كَذا وكَذا؟ فيقولُ: هو كَذا أو كَذا، فقالَ له نافِعُ بنُ الأزْرَقِ: ما أجْرَأكَ يا
بنَ عبَّاسٍ على ما تُجْريه مُنْذُ اليومِ، فقالَ له
ابنُ عبَّاسٍ: ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يا نافِعُ، وعَدِمَتْكَ، ألَا أُخبِرُك مَن هو أجرَأُ منِّي؟ قال: مَن هو يا
بنَ عبَّاسٍ؟ قالَ: رَجُلٌ تَكلَّمَ بما ليس له به عِلمٌ، ورَجُلٌ كتَمَ عِلمًا عنْدَه، قالَ: صدَقْتَ يا
بنَ عبَّاسٍ، أتَيتُكَ لأسْألَكَ، قالَ: هاتِ يا بنَ الأزْرَقِ فسَلْ، قالَ: أَخْبِرْني عن قولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ [الرحمن: 35] ما الشُّواظُ؟ قالَ: اللَّهَبُ الَّذي لا دُخانَ فيه، قالَ: وهل كانَتِ العَربُ تَعرِفُ ذلِك قبْلَ أن يَنزِلَ الكِتابُ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالَ: نَعمْ، أمَا سمِعْتَ قولَ أمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ:
ألَا مَنْ مُبلِغٌ حَسَّانَ عَنِّي
مُغَلْغَلَةً تَدِبُّ إلى عُكاظِ
أليسَ أَبوكَ قَيْنًا كانَ فينا
إلى القَيْناتِ فَسْلًا في الحِفاظِ
يَمانِيًّا يَظَلُّ يَشُدُّ كِيرًا
ويَنفُخُ دَائِبًا لَهَبَ الشُّواظِ
قالَ: صدَقْتَ، فأَخْبِرْني عن قولِه:
وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ [الرحمن: 35]، ما النُّحاسُ؟ قالَ: الدُّخانُ الَّذي لا لَهَبَ فيه، قالَ: وهل كانَتِ العَربُ تَعرِفُ ذلِك؟ قالَ: نَعمْ، أمَا سمِعْتَ قولَ نابِغةِ بَني ذُبيانَ يقولُ:
يُضيءُ كضَوْءِ سِراجِ السَّلي
طِ لم يَجعَلِ اللهُ فيهِ نُحَاسا
قالَ: صدَقْتَ، فأخْبِرْني عن قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان: 2] ، قالَ: ماءُ الرَّجُلِ وماءُ المَرأةِ إذا اجْتَمعا في الرَّحِمِ كان مَشَجًا، قالَ: وهل كانَتِ العَربُ تَعرِفُ ذلِك قبْلَ أن يَنزِلَ الكِتابُ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالَ: نَعمْ، أمَا سمِعْتَ قولَ أبي ذُؤَيبٍ الهُذَليِّ وهو يقولُ:
كأنَّ النَّصْلَ والفُوقَيْنِ مِنهُ
خِلالَ الرِّيشِ سِيطَ بهِ مَشيجُ
قالَ: صدَقْتَ، فأخْبِرْني عن قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة: 29] ، ما السَّاقُ بالسَّاقِ؟ قالَ: الحَرْبُ، قالَ: وهل كانَتِ العَربُ تَعرِفُ ذلِك؟ قالَ: نَعمْ، أمَا سمِعْتَ قولَ أبي ذُؤَيبٍ الهُذَليِّ:
أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ بهِ الحَرْبُ عَضَّها
وإنْ شَمَّرَتْ عن ساقِها الحَرْبُ شَمَّرا
قالَ: صدَقْتَ، فأخْبِرْني عن قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل: 72] ، ما البَنونَ والحَفَدةُ؟ قالَ: بَنوكَ؛ فإنَّهم يُعاطونَكَ، وأمَّا حَفَدَتُكَ فإنَّهم خَدَمُكَ، قالَ: وهل كانَتِ العَربُ تَعرِفُ ذلِك قبْلَ أن يَنزِلَ الكِتابُ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالَ: نَعمْ، أمَا سمِعْتَ قولَ أُمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ الثَّقَفيِّ:
حَفَدَ الْوَلَائِدُ حَولَهُنَّ وأُلقِيَتْ
بأَكُفِّهنَّ أَزِمَّةُ الأحْمالِ
قالَ: صدَقْتَ، فأخْبِرْني عن قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [الشُّعَراء: 153] ، ما المُسحَّرونَ؟ قالَ: مِن المَخْلوقينَ، قالَ: فهل كانَتِ العَربُ تَعرِفُ ذلِك قبْلَ أن يَنزِلَ الكِتابُ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالَ: نَعمْ، أمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بنِ أبي الصَّلْتِ وهو يقولُ:
فإِنْ تَسْألينا مِمَّ نحن فإِنَّنا
عَصافيرُ مِن هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ
وهكذا كلَّما سألَه عن شيءٍ أخْبَرَه بمَعناه وأتى له بمِصْداقِه مِن كَلامِ العَربِ
[96] أخرجه الطبرانيُّ في ((المعجم الكبير)) (10597) وأبو بكر الأنباري في ((إيضاح الوقف والابتدا)) (1/176)، والسُّيوطِيُّ في ((الإتقان)) (2/68). .
واسْتمَرَّ الحالُ على هذا زَمانَ الصَّحابةِ في عُصورِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، كذلك حرَصَ أُمَراءُ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ على ذلِك؛ فقدْ كانَ
عبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ كَثيرًا ما يُنشِدُ في مَجلِسِه بَيْتًا مِن الشِّعْرِ، ويَسألُ النَّاسَ عن صاحِبِه، فمَن أجابَ أخَذَ جائِزةً على ذلِك
[97] يُنظر: ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (9/ 117). .
وقد كانَ
مُعاوِيةُ رَضيَ اللهُ عنه يَحُثُّ على رِوايةِ الشِّعْرِ، ويَنتقِصُ مَن لا يَروي مِنه، وقد قالَ: (يَجِبُ على الرَّجُلِ تَأديبُ ولَدِه، والشِّعْرُ أعلى مَراتِبِ الأدَبِ). وقالَ: (اجْعَلوا الشِّعْرَ أكْبَرَ همِّكم، وأَكْثَرَ دَأبِكم؛ فلقد رَأيتُني لَيلةَ الهَريرِ بصِفِّينَ وقد أُتيتُ بفَرَسٍ أغَرَّ مُحجَّلٍ بَعيدِ البَطْنِ مِن الأرْضِ، وأنا أُريدُ الهَرَبَ لشِدَّةِ البَلوى، فما حمَلَني على الإقامةِ إلَّا أبْياتُ عَمْرِو بنِ الإطْنابةِ:
أبَتْ لي هِمَّتي وأبى بَلائي
وأخْذي الحَمْدَ بالثَّمَنِ الرَّبيحِ
وإعْطائي على الإعْدامِ مالي
وإقْدامي على البَطَلِ المُشيحِ
وقَولي كلَّما جشَأتْ وجاشَتْ
مَكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتَريحي
[98] ينظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (1/ 29)، ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (1/252).