المَطْلَبُ الأوَّلُ: الخَطابةُ
تَوارَثَ العَربُ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ خَصائِصَ الخَطابةِ في عَصْرِ النُّبوَّةِ وصَدْرِ الإسلامِ، فجاءَت على مِنْوالِها في سُهولةِ الألْفاظِ، ووُضوحِ المَعاني، والتَّأثُّرِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ، والاسْتِشْهادِ بالحِكَمِ والأمْثالِ، دونَ الاهْتِمامِ بالسَّجْعِ والمُحسِّناتِ البَديعيَّةِ والتَّنْميقِ اللَّفْظيِّ.
وقد لاحَتْ في الأُفُقِ آياتُ السُّمُوِّ البَلاغيِّ، والاهْتِمامِ بالمُحَسِّناتِ البَديعيَّةِ، والتَّنْسيقِ بَيْنَ الجُمَلِ، وحُسْنِ تَرابُطِها فيما بيْنَها في خُطَبِ العَصْرِ الأُمَوِيِّ، ولم يكنْ هذا الأمْرُ عَجيبًا إذا وَضَعْنا في الاعْتِبارِ ماهيَّةَ الصِّراعِ بَيْنَ الأطْرافِ المُتَناحِرةِ سِياسيًّا وعَقَديًّا، ورَغْبةَ كلِّ طَرَفٍ في دَحْرِ خَصْمِه أدَبيًّا وعَقْليًّا وحَرْبيًّا، فكما كانَ لكلِّ فَريقٍ شاعِرٌ يُذيعُ مَناقِبَهم، ويَدفَعُ عنهم أقْوالَ الخُصومِ، ويُخيفُ سائِرَ الشُّعَراءِ مِن هِجائِهم، فكذلك حَرَصَ كلُّ حِزْبٍ على تَقْديمِ خُطَبائِه المُفَوَّهينَ الفُصَحاءِ، الَّذين يُحْسِنونَ شَجَّ الرُّؤوسِ بالكَلِماتِ والخُطَبِ الرَّنَّانةِ، كما تَشُجُّها السُّيوفُ والرِّماحُ.
ولأهمِّيَّةِ الخَطابةِ في ذلك الوَقْتِ كانَ القادةُ أرْبابُ السِّلاحِ يَحرِصونَ أشَدَّ الحِرْصِ على أن تَتَوافَرَ فيهم مَزيَّةُ الفَتْكِ بالبَيانِ والبَنانِ، فلا يُشَقُّ لأحَدِهم غُبارٌ في ساحةِ الحَرْبِ أو قاعةِ الأَدَبِ؛ ولِهذا تَجِدُ مُعاوِيةَ رَضيَ اللهُ عنه خَطيبًا بَليغًا، وكذلك كانَ ابنُه يَزيدُ، فَضْلًا عن كِبارِ قادةِ الجُيوشِ والأمَراءِ، مِثلُ
الحَجَّاجِ بنِ يوسُفَ، وعبْدِ الرَّحْمنِ بنِ الأشْعَثِ، و
المُهَلَّبِ بنِ أبي صُفْرةَ، وغيْرِهم، وقد سَمِعَ
عَمْرُو بنُ العاصِ زِيادَ بنَ أبيه يَخطُبُ في النَّاسِ فقالَ: (للهِ دَرُّ هذا الغُلامِ، أمَا واللهِ لو كانَ أبوه قُرَشيًّا لساقَ العَربُ النَّاسَ بعَصاه!)، وذلك في حَضْرةِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ وأبي سُفْيانَ بنِ حَرْبٍ
[489] يُنظر: ((وفيات الأعيان)) (6/ 357)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (20/ 303). .
وهكذا كانتِ الخُطْبةُ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ مِرآةً لذلك الزَّمانِ؛ تُناقِشُ مُشْكلاتِه، وتَتَحدَّثُ عن قَضاياه بلُغةٍ عَصْريَّةٍ وأُسلوبٍ يُناسِبُ العَصْرَ، وتُصوِّرُ الحالةَ الاجْتِماعيَّةَ والسِّياسيَّةَ والعِلميَّةَ للنَّاسِ في ذلك الزَّمانِ، بلَهْجةٍ صادِقةٍ وعاطِفةٍ طاغيةٍ وأُسلوبٍ مُؤثِّرٍ
[490] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/405)، ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 63). .
أغْراضُ الخَطابةِ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ:تَنَوَّعَتْ أغْراضُ الخَطابةِ في العَصْرِ الأُمَوِيِّ تَنوُّعًا كَبيرًا، إلَّا أنَّها تَتَشعَّبُ جَميعًا عن أصْلَينِ اثْنَينِ:
أوَّلًا: الخُطَبُ السِّياسيَّةُ:وهي تلك الخُطَبُ الَّتي يُبيِّنُ فيها الخَطيبُ صِحَّةَ مَذهَبِه السِّياسيِّ، ويُعَضِّدُ مَذهَبَه بالأدِلَّةِ والبَراهينِ العَقْليَّةِ والشَّرْعيَّةِ، ويُفَنِّدُ فيها آراءَ المَذاهِبِ المُخالِفةِ، يُريدُ فيها أن يَسْتميلَ قُلوبَ المُسْتَمِعينَ وعُقولَهم إليه، ويُرَغِّبَهم عن اتِّباعِ سائِرِ المَذاهِبِ والأحْزابِ.
ومِنها تلك الخُطَبُ الَّتي يُدافِعُ فيها الخَطيبُ عن مَذهَبِه، ويَرُدُّ ما وُجِّهَ إليه مِن الانْتِقاداتِ والمَزاعِمِ، كما يَدخُلُ فيها أيضًا خُطَبُ القادةِ والأُمَراءِ في اسْتِهلالِ فَتْرةِ حُكْمِهم وولايتِهم، يُبيِّنُ فيها مَلامِحَ حُكْمِه، ويَعرِضُ لهم طَريقتَه معَ مُحسِنِهم ومُسيئِهم، يُرَغِّبُهم في الطَّاعةِ، ويُحذِّرُهم مَغَبَّةَ مَعْصيتِه ومُخالَفةَ أمْرِه.
وقد بَرَزَ في ذلك النَّوعِ مِن الخُطَبِ خُطَباءُ كَثيرونَ مِن سائِرِ الأحْزابِ السِّياسيَّةِ، وهذه بعضُ النَّماذِجِ والأمْثِلةِ على اخْتِلافِ تلك الأحْزابِ:
الحِزْبُ الأُمَوِيُّ:أسَّسَ مُعاوِيةُ بنُ أبي سُفْيانَ رَضيَ الله عنهما الدَّوْلةَ الأُمَوِيَّةَ بعْدَ فِتْنتِه معَ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، الَّتي انْتَهَتْ بمَقتَلِ عليٍّ، وما لبِثَ
الحَسَنُ أن تَنازَلَ عن الخِلافةِ لمُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ في سَنَةِ 41ه، وهو العامُ الَّذي اشْتَهرَ بَيْنَ المُؤَرِّخينَ ب "عامِ الجَماعةِ".
وقد كانَ مُعاوِيةُ خَطيبًا مُفوَّهًا ومُتحدِّثًا بَليغًا، وهو أوَّلُ مَن خَطَبَ على المِنبَرِ وهو جالِسٌ، وذلك لبَدانتِه وثِقَلِ جِسْمِه معَ كِبَرِ سِنِّه، ومِن أشْهَرِ خُطَبِه خُطْبتُه في أهْلِ المَدينةِ، وذلك أنَّه لمَّا قَدِمَ المَدينةَ عامَ الجَماعةِ تَلقَّاه رِجالٌ مِن قُرَيشٍ، فقالوا: الحَمْدُ لله الَّذي أعَزَّ نَصْرَك وأعلى كَعْبَك، فلم يَرُدَّ عليهم شيئًا حتَّى صَعِدَ المِنبَرَ، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بما هو أهْلُه، ثُمَّ قالَ: (أمَّا بعْدُ، فإنِّي واللهِ ما وَليتُها بمَحبَّةٍ عَلِمْتُها مِنكم، ولا مَسَرَّةٍ بوِلايتي، ولكنِّي جالَدْتُكم بسَيْفي هذا مُجالَدةً، ولقد رُضْتُ لكم نفْسي على عَمَلِ
ابنِ أبي قُحافةَ، وأرَدْتُها على عَمَلِ عُمَرَ، فنَفَرْتُ مِن ذلك نِفارًا شَديدًا، وأرَدْتُها مِثلَ ثَنيَّاتِ عُثْمانَ، فأبَتْ عَلَيَّ، فسَلَكْتُ بها طَريقًا لي ولكم فيه مَنْفعةٌ: مُؤاكَلةٌ حَسَنةٌ، ومُشارَبةٌ جَميلةٌ، فإن لم تَجِدوني خَيْرَكم؛ فإنِّي خَيْرٌ لكم وِلايةً، واللهِ لا أحْمِلُ السَّيْفَ على مَن لا سَيْفَ له، وإن لم يكنْ مِنكم إلَّا ما يَسْتَشْفي به القائِلُ بلِسانِه، فقدْ جَعَلْتُ ذلك له دَبْرَ أذُني وتحتَ قَدَمي، وإن لم تَجِدوني أقومُ بحَقِّكم كلِّه فاقْبَلوا مِنِّي بعضَه، فإن أتاكم مِنِّي خَيْرٌ فاقْبَلوه؛ فإنَّ السَّيْلَ إذا زادَ عَنَّى، وإذا قلَّ أغْنى، وإيَّاكم والفِتْنةَ؛ فإنَّها تُفسِدُ المَعيشةَ، وتُكدِّرُ النِّعْمةَ).
ولمَّا ولَّى مُعاوِيةُ زيادَ بنَ أبيه البَصْرةَ، وقد اسْتَشْرى فيها الفَسادُ، خَطَبَ زِيادٌ خُطْبةً طَويلةً بَليغةً، غيْرَ أنَّه لم يَبْدأْها بالحَمْدِ والثَّناءِ على اللهِ؛ ولِهذا سُمِّيَتْ خُطْبتُه "البَتْراءَ"، وقيلَ: بلْ بدَأَها ب: (الحَمْدُ للهِ على إفْضالِه وإحْسانِه، ونَسْألُه المَزيدَ مِن نِعَمِه وإكْرامِه، اللَّهُمَّ كما زِدْتَنا نِعَمًا فألْهِمْنا شُكرًا)، إلَّا أنَّ المَشْهورَ أنَّه دَخَلَ في الخُطْبةِ مُباشَرةً فقالَ: (أمَّا بعْدُ، فإنَّ الجَهالةَ الجَهْلاءَ، والضَّلالةَ العَمْياءَ، والعَمى المُوفيَ بأهْلِه على النَّارِ- ما فيه سُفَهاؤُكم، ويَشْتَمِلُ عليه حُلَماؤُكم مِن الأُمورِ العِظامِ، يَنبُتُ فيها الصَّغيرُ ولا يَتَحاشى عنها الكَبيرُ، كأنَّكم لم تَقْرَؤوا كِتابَ اللهِ، ولم تَسْمَعوا بما أعَدَّ اللهُ مِن الثَّوابِ الكَريمِ لأهْلِ طاعتِه، والعَذابِ العَظيمِ لأهْلِ مَعْصيتِه، في الزَّمَنِ السَّرْمديِّ الَّذي لا يَزولُ، أتَكونونَ كمَن طَرَفَتْ عَيْنَيه الدُّنيا، وسَدَّتْ مَسامِعَه الشَّهَواتُ، واخْتارَ الفانِيةَ على الباقِيةِ؟! ولا تَذكُرونَ أنَّكم أحْدَثْتُم في الإسلامِ الحَدَثَ الَّذي لم تُسبَقوا إليه؛ مِن تَرِكَتِكم هذه المَواخيرَ المَنْصوبةَ، والضَّعيفةَ المَسْلوبةَ، في النَّهارِ المُبصِرِ، والعَدَدُ غيْرُ قَليلٍ، ألم يكنْ مِنكم نُهاةٌ تَمنَعُ الغُواةَ عن دَلَجِ اللَّيلِ وغارةِ النَّهارِ؟! قَرَّبْتُم القَرابةَ، وباعَدْتُم الدِّينَ، تَعتَذِرونَ بغيْرِ العُذْرِ، وتَغُضُّونَ على المُخْتلِسِ، كلُّ امْرِئٍ مِنكم يَذُبُّ عن سَفيهِه صَنيعَ مَن لا يَخافُ عاقِبةً ولا يَرْجو مَعادًا!
ما أنتم بالحُلَماءِ، ولقد اتَّبَعْتُم السُّفَهاءَ، فلم يَزَلْ بكم ما تَرونَ مِن قِيامِكم دونَهم، حتَّى انْتَهَكوا حُرَمَ الإسلامِ، ثُمَّ أطْرَقوا وَراءَكم كُنوسًا في مَكانِسِ الرِّيَبِ، حَرامٌ عليَّ الطَّعامُ والشَّرابُ حتَّى أسَوِّيَها بالأرْضِ هَدْمًا وإحْراقًا.
إنِّي رَأيْتُ آخِرَ هذا الأمْرِ لا يَصلُحُ إلَّا بما صَلَحَ به أوَّلُه: لينٌ في غيْرِ ضَعْفٍ، وشِدَّةٌ في غيْرِ عُنْفٍ، وإنِّي أقْسِمُ باللهِ لآخُذَنَّ الوَليَّ بالمَوْلى، والمُقيمَ بالظَّاعِنِ، والمُقْبِلَ بالمُدْبِرِ، والصَّحيحَ بالسَّقيمِ، حتَّى يَلقى الرَّجُلُ مِنكم أخاه فيقولَ: انْجُ سَعْدُ فقدْ هَلَكَ سَعيدٌ، أو تَسْتقيمَ لي قَناتُكم)
[491] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 40)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 199). .
ومِنها أيضًا خُطْبةُ
الحَجَّاجِ بنِ يوسُفَ حينَ وَلِيَ الكوفةَ؛ فإنَّه لمَّا بَعَثَه
عبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ على الكوفةِ، دَخَلَ المَسجِدَ وهو مُتلثِّمٌ، وأمَرَ أن يُجمَعَ له النَّاسُ، فاجْتَمَعوا وقامَ خَطيبًا في النَّاسِ فنَزَعَ اللِّثامَ عن وَجْهِه وأنْشَدَ:
أنا ابنُ جَلا وطَلَّاعُ الثَّنايا
متى أضَعِ العِمامةَ تَعْرِفوني
ثُمَّ قالَ:
((يا أهْلَ الكوفةِ، أمَا واللهِ إنِّي لأحْمِلُ الشَّرَّ بحمْلِه، وأحْذوه بنَعْلِه، وأجْزيه بمِثلِه، وإنِّي لَأرى رُؤوسًا قد أيْنَعَتْ وحانَ قِطافُها، وإنِّي لصاحِبُها، وكأنِّي أنْظُرُ إلى الدِّماءِ بَيْنَ العَمائِمِ واللِّحى، ثُمَّ قالَ:
هذا أوانُ الشَّدِّ فاشْتَدِّي زِيَمْ
قد لفَّها اللَّيلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ
ليس براعي إبِلٍ ولا غَنَمْ
ولا بجَزَّارٍ على ظَهْرِ وَضَمْ
إنِّي واللهِ يا أهْلَ العِراقِ، ومَعدِنَ الشِّقاقِ والنِّفاقِ، ومَساوِئِ الأخْلاقِ، ما يُقَعْقَعُ لي بالشِّنانِ، ولا يُغمَزُ جانِبي كتَغْمازِ التِّينِ، ولقد فُرِزْتُ عن ذَكاءٍ، وفُتِّشْتُ عن تَجرِبةٍ، وإنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ -أطالَ اللهُ بقاءَه- نَثَرَ كِنانتَه بَيْنَ يَديه، فعَجَمَ عيدانَها، فوَجَدني أمَرَّها عُودًا، وأصْلَبَها مَكسَرًا، فرَماكم بي؛ لأنَّكم طالما أوْضَعْتُم في الفِتْنةِ، واضْطَجعْتُم في مَراقِدِ الضَّلالِ، واللهِ لأحْزِمنَّكم حَزْمَ السَّلَمةِ، ولأضْرِبنَّكم ضَرْبَ غَرائِبِ الإبِلِ، فإنَّكم لكأهْلِ قَريةٍ كانت آمِنةً مُطْمَئنَّةً يَأتيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كلِّ مَكانٍ، فكَفَرَتْ بأنْعُمِ اللهِ، فأذاقَها اللهُ لِباسَ الجوعِ والخَوْفِ بما كانوا يَصْنعونَ، وإنِّي واللهِ ما أقولُ إلَّا وَفَيْتُ، ولا أهُمُّ إلَّا أمْضَيْتُ، ولا أخْلُقُ إلا فَرَيْتُ، فإيَّاي وهذه الشُّفَعاءَ، والزَّرافاتِ والجَماعاتِ، وقالًا وقيلًا، وما يقولونَ؟ وفيمَ أنتم وذاك؟ واللهِ لتَسْتقيمُنَّ على طَريقِ الحَقِّ، أو لأدَعَنَّ لكلِّ رَجُلٍ مِنكم شُغْلًا في جَسَدِه، وإنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ أمَرَني بإعْطائِكم أُعْطياتِكم، وأن أوَجِّهَكم لمُحارَبةِ عدُوِّكم معَ المُهَلَّبِ بنِ أبي صُفْرةَ، وإنِّي أقْسِمُ باللهِ لا أجِدُ رَجُلًا تَخلَّفَ بعْدَ أخْذِ عَطائِه بثَلاثةِ أيَّامٍ إلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَه ...)) [492] ((الكامل في اللُّغة والأدب)) للمبرد (1/ 298)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 208). .
الشِّيعةُ:اعْتَمَدَتْ خُطَبُ الشِّيعةِ على القَدْحِ في بَني أُمَيَّةَ، وأنَّهم اغْتَصَبوا الخِلافةَ مِن آلِ البَيْتِ، وهُمْ أصْحابُها الشَّرْعيُّونَ، ووَرَثةُ النُّبوَّةِ، وحَمَلةُ الرِّسالةِ، وقدْ اشْتَهرَ مِن خُطَبائِهم: الحُسينُ بنُ عليٍّ، وزيدُ بنُ عليٍّ، و
عليُّ بنُ الحُسَينِ، وعبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرِ بنِ أبي طالِبٍ، والمُخْتارُ الثَّقَفيُّ، وسُلَيْمانُ بنُ صُرَدٍ، وعبْدُ اللهِ بنُ مُطيعٍ، وعُبَيْدُ اللهِ المُرِّيُّ، وغيْرُهم.
ومِن خُطَبِهم المَشْهورةِ ما رُوي من خُطْبةِ عبْدِ اللهِ بنِ جَعْفَرِ بنِ أبي طالِبٍ، وذلك أنَّه لمَّا قامَ مُعاوِيةُ رَضيَ اللهُ عنه خَطيبًا فقالَ: (الحَمْدُ للهِ الَّذي أمَرَنا بحَمْدِه، ووَعَدَنا عليه ثَوابَه، نَحمَدُه كَثيرًا كما أنْعَمَ علينا كَثيرًا، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، وأنَّ مُحمَّدًا عبْدُه ورَسولُه، أمَّا بعْدُ؛ فإنِّي قد كَبِرَ سِنِّي، ووَهَنَ عَظْمي، وقَرُبَ أجَلي، وأوْشَكْتُ أن أُدْعى فأجيبَ، وقد رأيْتُ أن أسْتَخْلِفَ عليكم بعْدي يَزيدَ، ورأيْتُه لكم رِضًا، وأنتم عَبادِلةُ قُرَيشٍ وخِيارُها وأبْناءُ خِيارِها، ولم يَمنَعْني أن أُحْضِرَ حَسَنًا وحُسَيْنًا إلَّا أنَّهما أوْلادُ أبيهما، على حُسْنِ رأيي فيهما، وشَديدِ مَحبَّتي لهما، فرُدُّوا على أميرِ المُؤْمِنينَ خَيْرًا يَرحَمْكم اللهُ).
فقامَ عبْدُ اللهِ بنُ جَعْفَرٍ وقالَ: (الحَمْدُ للهِ أهْلِ الحَمْدِ ومُنْتهاه، نَحمَدُه على إلْهامِنا حَمْدَه، ونَرغَبُ إليه في تَأديةِ حَقِّه، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ واحِدًا صَمَدًا، لم يَتَّخِذْ صاحِبةً ولا وَلَدًا، وأنَّ مُحمَّدًا عبْدُه ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أمَّا بعْدُ: فإنَّ هذه الخِلافةَ إن أُخِذَ فيها بالقُرآنِ: ف
أُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ رَسولِ اللهِ فأولو رَسولِ اللهِ، وإن أُخِذَ بسُنَّةِ الشَّيْخَينِ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، فأيُّ النَّاسِ أفْضَلُ وأكْمَلُ وأحَقُّ بِهذا الأمْرِ مِن آلِ الرَّسولِ؟! وايمُ اللهِ لو وَلُوه بعْدَ نَبيِّهم لوَضَعوا الأمْرَ مَوضِعَه، لِحَقِّه وصِدْقِه، ولَأُطيعَ اللهُ، وعُصِيَ الشَّيْطانُ، وما اخْتَلَفَ في الأمَّةِ سَيْفانِ، فاتَّقِ اللهَ يا مُعاوِيةُ؛ فإنَّك قد صِرْتَ راعِيًا ونحن رَعيَّةٌ، فانْظُرْ لِرَعيَّتِك؛ فإنَّك مَسؤولٌ عنها غدًا، وأمَّا ما ذَكَرْتَ مِن ابنَيْ عَمِّي، وتَرْكِك أن تُحضِرَهما، فواللهِ ما أصَبْتَ الحَقَّ، ولا يَجوزُ لك ذلك إلَّا بِهما، وإنَّك لتَعلَمُ أنَّهما مَعدِنُ العِلمِ والكَرَمِ، فقُلْ أو دَعْ، وأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم) [493] ((جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)) لأحمد زكي صفوت (2/ 246). .ومِن تلك الخُطَبِ أيضًا خُطْبةُ الصَّحابيِّ الجَليلِ سُلَيمانَ بنِ صُرَدٍ الخُزاعيِّ رَضيَ اللهُ عنه، وهو أحَدُ شيعةِ الحُسَينِ، وأميرُ التَّوَّابينَ الَّذين أظْهَروا النَّدَمَ على تَقْصيرِهم في نُصْرةِ الحُسَينِ والانْخِذالِ عنه، فألَّفَ جَماعةً مِن أصْحابِه وعَقَدوا العَزْمَ على طَلَبِ الثَّأرِ مِن قَتَلةِ الحُسَينِ، وقد اسْتُشهِدَ معَ أكْثَرِ أصْحابِه سَنَةَ 65ه.
قالَ سُلَيمانُ مُحَفِّزًا أصْحابَه على الجِهادِ: (أُثْنيَ على اللهِ خَيْرًا، وأحْمَدُ آلاءَه وبَلاءَه، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُه، أمَّا بعْدُ؛ فإنِّي واللهِ لخائِفٌ ألَّا يكونَ أَخَّرَنا إلى هذا الدَّهرِ الَّذي نَكِدَتْ فيه المَعيشةُ، وعَظُمَتْ فيه الرَّزيَّةُ، وشَمِلَ فيه الجَورُ أُولي الفَضْلِ مِن هذه الشِّيعةِ- لِما هو خَيْرٌ؛ إنَّا كنَّا نَمُدُّ أعْناقَنا إلى قُدومِ آلِ نَبيِّنا، ونُمنِّيهم النَّصْرَ، ونَحُثُّهم على القُدومِ، فلمَّا قَدِموا وَنِينا وعَجَزْنا، وادَّهنَّا وتَربَّصْنا، وانْتَظَرْنا ما يكونُ حتَّى قُتِلَ فينا وَلَدُ نَبيِّنا وسُلالتُه وعُصارتُه وبَضْعةٌ مِن لَحْمِه ودَمِه؛ إذ جَعَلَ يَسْتَصْرِخُ فلا يُصرَخُ، ويَسألُ النَّصَفَ فلا يُعْطاه، اتَّخَذَه الفاسِقونَ غَرَضًا للنَّبْلِ، ودَريَّةً للرِّماحِ حتَّى أقْصَدوه، وعَدَوْا عليه فسَلَبوه، ألَا انْهَضوا فقدْ سَخِطَ رَبُّكم، ولا تَرجِعوا إلى الحَلائِلِ والأبْناءِ حتَّى يَرْضى اللهُ، واللهِ ما أظُنُّه راضِيًا دونَ أن تُناجِزوا مَن قَتَلَه أو تُبيروا، ألَا لا تَهابوا المَوْتَ؛ فواللهِ ما هابَه امْرُؤٌ قَطُّ إلَّا ذَلَّ، كونوا كالأُولى مِن بَني إسْرائيلَ إذ قالَ لهم نَبيُّهم:
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ [البقرة: 54] ، فما فَعَلَ القَوْمُ؟ جَثَوا على الرُّكَبِ واللهِ، ومَدُّوا الأعْناقَ ورَضُوا بالقَضاءِ حتَّى حينَ عَلِموا أنَّه لا يُنْجيهم مِن عَظيمِ الذَّنْبِ إلَّا الصَّبْرُ على القَتْلِ، فكيف بكم لو قد دُعيتُم إلى مِثلِ ما دُعِيَ القَوْمُ إليه! اشْحَذوا السُّيوفَ، ورَكِّبوا الأسِنَّةَ
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال: 60] ، حتَّى تُدْعَوا حينَ تُدْعَونَ وتُستَنْفَرونَ)
[494] ((تاريخ الطبري)) (5/ 554)، ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (3/ 250). .
الخَوارِجُ:اشْتَهَرَ عن
الخَوارِجِ كَثْرةُ عِبادتِهم، وتَنْسُّكُهم، وقِيامُ اللَّيلِ، وصِيامُ النَّهارِ، وهُمْ كما وَصَفَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
((قَوْمٌ تَحْقِرونَ صَلاتَكم معَ صَلاتِهم، فيَقْرَؤونَ القُرآنَ، لا يُجاوِزُ حُلوقَهم -أو حَناجِرَهم- يَمرُقونَ مِن الدِّينِ مُرُوقَ السَّهمِ مِن الرَّميَّةِ )) [495] أخرجه مطولاً البخاري (5058)، ومسلم (1064) واللفظ له من حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه .
ولِهذا كانت أكْثَرُ خُطَبِ
الخَوارِجِ السِّياسيَّةِ تُندِّدَ بالأُمَوِيِّينَ، وتَذكُرُ مَثالِبَهم، وتَصِفُ جَوْرَهم في أحْكامِ اللهِ تعالى، وتَعْطيلِ الحُدودِ والشَّرْعِ، ويَفخَرونَ بعِبادتِهم ووَرَعِهم وتَقْواهم، ويَصِفونَ عِبادةَ القَوْمِ، وكيف اسْتَحالَ شَبابُهم شَيْبًا مِن خَوْفِ اللهِ وخَشيتِه.
ومِن أشْهَرِ خُطَبائِهم زَعيمُهم قَطَريُّ بنُ الفُجاءةِ، وأبو حَمْزةَ الإباضيُّ، وزيدُ بنُ جُنْدُبٍ خَطيبُ الأزارِقةِ، و
عِمْرانُ بنُ حِطَّانَ، والضَّحَّاكُ بنُ قَيْسٍ، والطِّرِمَّاحُ، وغيْرُهم الكَثيرُ.
ومِن خُطَبِهم خُطبةُ أبي حَمْزةَ الإباضيِّ في أهْلِ مَكَّةَ؛ حيثُ قامَ فصَعِدَ المِنبَرَ، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه ثُمَّ قالَ: (أيُّها النَّاسُ، إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ لا يَتَأخَّرُ ولا يَتَقدَّمُ إلَّا بإذْنِ اللهِ وأمْرِه ووَحْيِه، أنْزَلَ اللهُ كِتابًا بيَّنَ له فيه ما يَأتي وما يَتَّقي، ولم يَكُ في شَكٍّ مِن دينِه، ولا في شُبْهةٍ مِن أمْرِه، ثُمَّ قَبَضَه اللهُ وقد عَلَّمَ المُسلِمينَ مَعالِمَ دينِهم، ووَلَّى
أبا بَكْرٍ صَلاتَهم، فولَّاه المُسلِمونَ أمْرَ دُنْياهم حينَ ولَّاه رَسولُ اللهِ أمْرَ دينِهم، فقاتَلَ أهْلَ
الرِّدَّةِ، وعَمِلَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، فمَضى لسَبيلِه رَحْمةُ اللهِ عليه.
ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَحِمَه اللهُ، فسارَ بسيرةِ صاحِبِه، وعَمِلَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، وجَبى الفَيءَ، وفَرَضَ الأُعْطِيةَ، وجَمَعَ النَّاسَ في شَهْرِ رَمضانَ، وجَلَدَ في الخَمْرِ ثَمانينَ، وغَزا العَدُوَّ في بِلادِهم، ومَضى لسَبيلِه رَحْمةُ اللهِ عليه.
ثُمَّ وَلِيَ عُثْمانُ بنُ عفَّانَ فسارَ سِتَّ سنينَ بسيرةِ صاحِبَيه، وكانَ دونَهما، ثُمَّ سارَ في السِّتِّ الأواخِرِ بما أحْبَطَ به الأوائِلَ، ثُمَّ مَضى لسَبيلِه.
ثُمَّ وَلِيَ عليُّ بنُ أبي طالِبٍ، فلم يَبلُغْ مِن الحَقِّ قَصْدًا، ولم يَرْفَعْ له مَنارًا، ثُمَّ مَضى لسَبيلِه.
ثُمَّ اقَتَصَّ خُلفاءَ بني أُمَيَّةَ خَليفةً خَليفةً، فلمَّا انْتَهى إلى
عُمَرَ بنِ عبْدِ العَزيزِ أعْرَضَ عنه، ولم يَذكُرْه، ثُمَّ قالَ:
(ثُمَّ وَلِيَ يَزيدُ بنُ عبْدِ المَلِكِ الفاسِقُ في دينِه، المأبونُ في فَرْجِه، الَّذي لم يُؤنَسْ مِنه رُشْدٌ، وقد قالَ اللهُ تعالى في أمْوالِ اليَتامى:
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] ، فأمْرُ أمَّةِ مُحمَّدٍ عليه السَّلامُ أعْظَمُ، يَأكُلُ الحَرامَ ويَشرَبُ الخَمْرَ، ويَلبَسُ الحُلَّةَ قُوِّمَتْ بألْفِ دينارٍ، قد ضُرِبَتْ فيها الأبْشارُ، وهُتِكَتْ فيها الأسْتارُ، وأُخِذَتْ مِن غيْرِ حِلِّها، حُبابةُ عن يَمينِه، وسَلَّامةُ عن يَسارِه تُغَنِّيانِه، حتَّى إذا أخَذَ الشَّرابُ مِنه كلَّ مَأخَذٍ قَدَّ ثَوْبَه، ثُمَّ الْتَفَتَ إلى إحْداهما فقالَ: ألَا أطيرُ ألَا أطيرُ! نَعمْ فَطِرْ إلى لَعْنةِ اللهِ وحَريقِ نارِه وأليمِ عَذابِه.
ثُمَّ أقْبَلَ على أهْلِ الحِجازِ فقالَ:
(يا أهْلَ الحِجازِ، أتُعَيِّرونَني بأصْحابي وتَزعُمونَ أنَّهم شَبابٌ؟! وهلْ كانَ أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا شَبابًا؟ أمَا واللهِ إنِّي لعالِمٌ بتَتايُعِكم فيما يَضُرُّكم في مَعادِكم، ولولا اشْتِغالي بغيْرِكم عنكم ما تَرَكْتُ الأخْذَ فوْقَ أيْديكم.
شَبابٌ واللهِ مُكْتَهِلونَ في شَبابِهم، غَبيَّةٌ عن الشَّرِّ أعْيُنُهم، ثَقيلةٌ عن الباطِلِ أرْجُلُهم، أنْضاءُ عِبادةٍ وأطْلاحُ سَهَرٍ، يَنظُرُ اللهُ إليهم في جَوْفِ اللَّيلِ مُنْحَنيةً أصْلابُهم على أجْزاءِ القُرآنِ، كلَّما مَرَّ أحَدُهم بآيةٍ مِن ذِكْرِ الجَنَّةِ بَكى شَوْقًا إليها، وإذا مَرَّ بآيةٍ مِن ذِكْرِ النَّارِ شَهَقَ شَهْقةً كأنَّ زَفيرَ جَهَنَّمَ بَيْنَ أذُنِه، مَوْصولٌ كَلالُهم بكَلالِهم: كَلالُ اللَّيلِ بكَلالِ النَّهارِ، قد أكَلَتِ الأرْضُ رُكَبَهم وأيْديَهم، وأنوفَهم وجِباهَهم، واسْتَقلُّوا ذلك في جَنْبِ اللهِ، حتَّى إذا رأَوُا السِّهامَ قد فُوِّقَتْ، والرِّماحَ قد أُشْرِعَتْ، والسُّيوفَ قد انْتُضيَتْ، ورَعَدَتِ الكَتيبةُ بصَواعِقِ المَوْتِ وبَرَقَتْ؛ اسْتَخفُّوا بوَعيدِ الكَتيبةِ لوَعْدِ اللهِ، ولم يَسْتَخِفُّوا بوَعْدِ اللهِ لوَعيدِ الكَتيبةِ، ومَضى الشَّبابُ مِنهم قُدُمًا حتَّى اخْتَلَفَتْ رِجْلاه على عُنُقِ فَرَسِه، وتَخضَّبَتْ بالدِّماءِ مَحاسِنُ وَجْهِه، فأسَرَعَتْ إليه سِباعُ الأرْضِ، وانْحَطَّتْ عليه طَيْرُ السَّماءِ، فكم مِن عَيْنٍ في مِنْقارِ طائِرٍ طالَما بَكى صاحِبُها في جَوْفِ اللَّيلِ مِن خَوْفِ اللهِ، وكم مِن كَفٍّ زالَتْ عن مِعصَمِها طالَما اعْتَمَدَ عليها صاحِبُها في جَوْفِ اللَّيلِ بالسُّجودِ للهِ)
[496] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 84)، ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (2/ 271). .
الزُّبَيْريُّونَ:لمَّا بويعَ يَزيدُ بنُ مُعاوِيةَ بالخِلافةِ نَقَمَ عليه
عبْدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه، وذلك لِما اشْتَهرَ عنه مِن الفِسْقِ والمُجونِ، فَضْلًا عن أنَّه ليس أهْلًا للخِلافةِ وفي المُؤْمِنينَ مِن كِبارِ الصَّحابةِ وشَبابِهم، وقد أيَّدَ
عبْدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ كَثيرٌ مِن أهْلِ مَكَّةَ، فتَحصَّنَ بهم وقَوِيَتْ شَوْكتُه فيهم، فتَتابَعَتْ جُيوشُ يَزيدَ لقَهْرِ
عبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ في مَكَّةَ، إلَّا أنَّه اسْتَطاعَ أنْ يَظفَرَ بها بمَعونةِ أهْلِ مَكَّةَ، فأرْسَلَ إليه بعْدَ ذلك جَيْشًا على رأسِه الحُصَيْنُ بنُ نُمَيْرٍ السَّكونيُّ، فحاصَرَ مَكَّةَ حِصارًا شَديدًا، غيْرَ أنَّه جاءَه نَعْيُ يَزيدَ سَنَةَ 64ه، فرَجَعَ جَيْشُ الحُصَيْنِ، وبعْدَ ذلك نَفَضَ مُعاوِيةُ الثَّاني بنُ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ يَدَه مِن الخِلافةِ، حينَها وَجَدَ
ابنُ الزُّبَيْرِ السَّاحةَ مُتأهِّبةً لاسْتِقبالِه، فأعْلَنَ نفْسَه خَليفةً على مَكَّةَ، حتَّى إنَّ الأُمَوِيِّينَ أنفْسَهم انْقَسَموا فَريقَينِ؛ فَريقٌ بايَعَه، وفَريقٌ لم يَزَلْ على وَلائِه للأُمَوِيِّينَ، حتَّى إنَّ مَرْوانَ بنَ الحَكَمِ نفْسَه كانَ قد سارَعَ في الرُّجوعِ للحِجازِ لمُبايَعةِ
عبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، إلَّا أنَّ رَسائِلَ الأُمَوِيِّينَ صَرَفَتْه عن ذلك، واجْتَمَعَ الأُمَوِيُّونَ بعْدَها في مُؤْتَمَرِ الجابِيةِ وقرَّروا تَوْليةَ مَرْوانَ الخِلافةَ الأُمَوِيَّةَ، لتَبدَأَ الحَرْبُ على الزُّبَيْريِّينَ في الحِجازِ والعِراقِ ومِصْرَ، وتَمتَدَّ الحَرْبُ بيْنَهم مُدَّةً حتَّى تَنْتَهيَ دَولةُ
ابنِ الزُّبَيْرِ نِهائِيًّا بمَقْتَلِه على يَدِ
الحَجَّاجِ بنِ يوسُفَ الثَّقَفيِّ في زَمانِ
عبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ سَنَةَ 73ه
[497] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (3/ 372)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 71). .
وقد كَثُرَتْ خُطَبُ الزُّبَيْريِّينَ السِّياسيَّةُ، وكانَ
ابنُ الزُّبَيْرِ نفْسُه خَطيبًا بَليغًا، فلمَّا بَلَغَه خَبَرُ مَقتَلِ أخيه مُصْعَبٍ في العِراقِ -وكانَ مُصْعَبٌ نائِبًا عنه عليها- قامَ فصَعِدَ المِنبَرَ، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه ثُمَّ سَكَتَ، وظَلَّ وَجْهُه يَتَغيَّرُ لونُه؛ يَحْمَرُّ مَرَّةً ويَصْفَرُّ أخرى، حتَّى قالَ النَّاسُ: ما له لا يَتَكلَّمُ؟! فواللهِ إنَّه لَلَبيبُ الخُطَباءِ، لعلَّه يُريدُ أن يَتَذكَّرَ مَقتَلَ سيِّدِ العَربِ فيَشتَدَّ ذلك عليه، وهو غيْرُ مَلومٍ، فتَكلَّمَ عبْدُ اللهِ فقالَ: (الحَمْدُ للهِ، له الخَلْقُ والأمْرُ والدُّنيا والآخِرةُ، يُؤْتي المُلْكَ مَن يَشاءُ، ويَنزِعُ المُلْكَ ممَّن يَشاءُ، ويُعِزُّ مَن يَشاءُ، ويُذِلُّ مَن يَشاءُ، أمَّا بعْدُ؛ فإنَّه لم يُعِزَّ اللهُ مَن كانَ الباطِلُ معَه، وإن كانَ معَه الأنامُ طُرًّا، ولم يُذِلَّ مَن كانَ الحَقُّ معَه وإن كانَ فَرْدًا، ألَا وإنَّ خَبَرًا مِن العِراقِ أتانا فأحْزَنَنا وأفْرَحَنا، فأمَّا الَّذي أحْزَنَنا فإنَّ لِفِراقِ الحَميمِ لَوْعةً يَجِدُها حَميمُه، ثُمَّ يَرْعوي ذَوو الألْبابِ إلى الصَّبْرِ وكَريمِ العَزاءِ، وأمَّا الَّذي أفْرَحَنا فإنَّ قَتْلَ المُصْعَبِ له شَهادةٌ ولنا ذَخيرةٌ، أسْلَمَه النَّعامُ المُصلِمُ الآذانِ.
ألَا وإنَّ أهْلَ العِراقِ باعوه بأقَلَّ مِن الثَّمَنِ الَّذي كانوا يَأخُذونَ مِنه، فإن يُقتَلْ فقدْ قُتِلَ أخوه وأبوه وابنُ عَمِّه، وكانوا الخِيارَ الصَّالِحينَ، وإنَّا واللهِ لا نَموتُ حَتْفًا، ولكن قَعْصًا بالرِّماحِ، ومَوْتًا تحتَ ظِلالِ السُّيوفِ، ليس كما يَموتُ بَنو مَرْوانَ!
ألَا إنَّما الدُّنيا عارِيَّةٌ مِن المَلِكِ الأعلى الَّذي لا يَبيدُ ذِكْرُه ولا يَزولُ سُلْطانُه، فإن تُقبِلِ الدُّنيا عَلَيَّ لم آخُذْها أخْذَ الأَشِرِ البَطِرِ، وإن تُدبِرْ عنِّي لم أبْكِ عليها بُكاءَ الخَرِقِ المَهينِ)
[498] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 198)، ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصبهاني (19/ 90). .
وقد كانَ مِن أمْرِ
الخَوارِجِ معَه أنَّهم لمَّا سَمِعوا بخَبَرِه قالوا: اخْرُجوا بنا نأتِ البَيْتَ، ونَلْقَ هذا الرَّجُلَ، فإن يكُنْ على رأيِنا جاهَدْنا معَه العَدُوَّ، وإن يكُنْ على غيْرِ رأيِنا دافَعْنا عن البَيْتِ ما اسْتَطَعْنا، ونَظَرْنا بعْدَ ذلك في أُمورِنا، فخَرَجوا حتَّى قَدِموا على
عبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ، فسُرَّ بمَقْدَمِهم ونَبَّأهم أنَّه على رأيِهم، وأعْطاهم الرِّضا مِن غيْرِ تَوَقُّفٍ ولا تَفْتيشٍ، فقاتَلوا معَه حتَّى ماتَ يَزيدُ بنُ مُعاوِيةَ، وانْصَرَفَ أهْلُ الشَّامِ عن مَكَّةَ.
ثُمَّ إنَّ القَوْمَ لَقيَ بعضُهم بعضًا فقالوا: إنَّ هذا الَّذي صَنَعْتُم أمْسِ بغيْرِ رأيٍ ولا صَوابٍ مِن الأمْرِ، تُقاتِلونَ معَ رَجُلٍ لا تَدْرونَ لعلَّه ليس على رأيِكم، إنَّما كانَ أمْسِ يُقاتِلُكم هو وأبوه، يُنادي: "يا لَثاراتِ عُثْمانَ"، نَدخُلُ إليه، فنَنظُرُ ما عنْدَه؛ فإن قَدَّمَ
أبا بَكْرٍ وعُمَرَ، وبَرِئَ مِن عُثْمانَ وعليٍّ، وكَفَّرَ أباه و
طَلْحةَ بايَعْناه، وإن تكُنِ الأُخرى ظَهَرَ لنا ما عنْدَه، فتَشاغَلْنا بما يُجْدي علينا.
فدَخَلوا على
ابنِ الزُّبَيْرِ وهو مُبْتَذِلٌ، وأصْحابُه مُتَفرِّقونَ عنه، فقالوا: إنَّا جِئْناك لتُخبِرَنا رأيَك، فإن كنْتَ على الصَّوابِ بايَعْناك، وإن كنْتَ على غَيْرِه دَعَوْناك إلى الحَقِّ، ما تقولُ في الشَّيْخَينِ؟ قالَ: خَيْرًا، قالوا: فما تقولُ في عُثْمانَ الَّذي أحْمى الحِمى، وآوى الطَّريدَ، وأظْهَرَ لأهْلِ مِصْرَ شيئًا، وكَتَبَ بخِلافِه، وأوْطأَ آلَ أبي مُعَيطٍ رِقابَ النَّاسِ، وآثَرَهم بفَيءِ المُسلِمينَ، وفي الَّذي بعْدَه، الَّذي حَكَّمَ في دينِ اللهِ الرِّجالَ، وأقامَ على ذلك غيْرَ تائِبٍ ولا نادِمٍ، وفي أبيك وصاحِبِه، وقد بايعا عليًّا وهو إمامٌ عادِلٌ مَرْضيٌّ لم يَظهَرْ مِنه كُفْرٌ، ثُمَّ نَكَثا بعَرَضٍ مِن أعْراضِ الدُّنيا، وأخْرَجا
عائِشةَ تُقاتِلُ، وقد أمَرَها اللهُ وصَواحِبَها أن يَقَرْنَ في بُيوتِهنَّ، وكانَ لك في ذلك ما يَدْعوك إلى التَّوبةِ، فإن أنت قلْتَ كما نقولُ فلك الزُّلْفى عنْدَ اللهِ والنَّصْرُ على أيْدينا، ونَسألُ اللهَ لك التَّوْفيقَ، وإن أبَيْتَ إلَّا نَصْرَ رأيِك الأوَّلِ، وتَصْويبَ أبيك وصاحِبِه، والتَّحْقيقَ بعُثْمانَ والتَّولِّي في السِّنينَ السِّتِّ الَّتي أحَلَّتْ دَمَه، ونَقَضَتْ أحْكامَه، وأفْسَدَتْ إمامتَه، خَذَلَك اللهُ وانْتَصَرْنا مِنك بأيْدينا.
فقالَ
ابنُ الزُّبَيْرِ: إنَّ اللهَ أمَرَ -وله العِزَّةُ والقُدرةُ- في مُخاطَبةِ أكْفَرِ الكافِرينَ، وأعْتى العُتاةِ، بأرْأَفَ مِن هذا القَوْلِ، فقالَ لموسى ولأخيه صلَّى الله عليهما:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43، 44].
فنَهى عن سَبِّ أبي جَهْلٍ مِن أجْلِ عِكْرِمةَ ابنِه، وأبو جَهْلٍ عَدُوُّ اللهِ وعَدُوُّ الرَّسولِ، والمُقيمُ على الشِّرْكِ، والجادُّ في المُحارَبةِ، والمُتَبغِّضُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قبْلَ الهِجرةِ، والمُحارِبُ له بعْدَها، وكَفى بالشِّرْكِ ذَنْبًا! وقد كانَ يُغْنيكم عن هذا القَولِ الَّذي سَمَّيتُم فيه
طَلْحةَ وأبي أن تقولوا: أتَبْرَأُ مِن الظَّالِمينَ؟ فإن كانا مِنهم دَخَلا في غِمارِ المُسلِمينَ، وإن لم يكونا مِنهم لم تُحفِظُوني بسَبِّ أبي وصاحِبِه، وأنتم تَعلَمونَ أنَّ اللهَ جَلَّ وعَزَّ قالَ للمُؤمِنِ في أبوَيه:
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15]، وقالَ جَلَّ ثَناؤُه:
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] ، وهذا الَّذي دَعَوْتُم إليه أمْرٌ له ما بعْدَه، وليس يُقنِعُكم إلَّا التَّوْقيفُ والتَّصْريحُ، ولَعَمْري إنَّ ذلك لأحْرى بقَطْعِ الحُجَجِ، وأوْضَحُ لمِنهاجِ الحَقِّ، وأَوْلى أن يَعْرِفَ كُلٌّ صاحِبَه مِن عَدُوِّه، فروحوا إليَّ مِن عَشيَّتِكم هذه، أكْشِفْ لكم ما أنا عليه إن شاءَ اللهُ تعالى.
فلمَّا كانَ العَشِيُّ راحوا إليه، فخَرَجَ إليهم وقد لَبِسَ سِلاحَه، فلمَّا رأى ذلكم نَجْدةُ قال: هذا خُروجُ مُنابِذٍ لكم، فجَلَسَ على رَفيعٍ مِن الأرْضِ، فحَمِدَ اللهَ، وأثْنى عليه، وصلَّى على نَبيِّه، ثُمَّ ذَكَرَ
أبا بَكْرٍ وعُمَرَ أحْسَنَ ذِكْرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ عُثْمانَ في السِّنينَ الأوائِلِ مِن خِلافتِه، ثُمَّ وَصَلَهنَّ بالسِّنينَ الَّتي أنْكَروا سيرتَه فيها، فجَعَلَها كالماضِيةِ، وخَبَّرَ أنَّه آوى الحَكَمَ بنَ أبي العاصِ بإذْنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذَكَرَ الحِمى وما كانَ فيه مِن الصَّلاحِ، وأنَّ القَوْمَ اسْتَعْتَبوه مِن أمورٍ، وكانَ له أن يَفعَلَها أو لا مُصيبًا، ثُمَّ أعْتَبَهم بعْدَ ذلك مُحسِنًا، وأنَّ أهْلَ مِصْرَ لمَا أتَوه بكِتابٍ ذَكَروا أنَّه مِنه، بعْدَ أن ضَمِنَ لهم العُتْبى، ثُمَّ كَتَبَ لهم ذلك الكِتابَ بقَتْلِهم، فدَفَعوا الكِتابَ إليه، حَلَفَ باللهِ أنَّه لم يَكتُبْه، ولم يَأمُرْ به، وقد أمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بقَبولِ
اليَمينِ ممَّن ليس له مِثلُ سابِقتِه، ومعَ ما اجْتَمعَ له مِن صِهْرِ رَسولِ اللهِ، ومَكانِه مِن الإمامةِ، وأنَّ بَيْعةَ الرِّضوانِ تحتَ الشَّجرةِ إنَّما كانت بسَبَبِه، وعُثْمانُ الرَّجُلُ الَّذي لَزِمَتْه يَمينٌ لو حَلَفَ عليها لحَلَفَ على حَقٍّ، فافْتَداها بمِئةِ ألْفٍ ولم يَحلِفْ، وقد قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ:
((مَن حَلَفَ باللهِ فلْيَصدُقْ، ومَن حُلِفَ له باللهِ فلْيَرْضَ )) [499] أخرجه ابن ماجه (2101)، والبيهقي (21240) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ، فعُثْمانُ أميرُ المُؤْمِنينَ كصاحِبَيه، وأنا وَليُّ ولِيِّه، وعَدُوُّ عَدُوِّه، وأبي وصاحِبُه صاحِبا رَسولِ اللهِ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ عن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ أحُدٍ، لمَّا قُطِعَتْ إصْبَعُ
طَلْحةَ:
((سَبَقَتْه إلى الجَنَّةِ))، وقالَ:
((أوْجَبَ طَلْحةُ)) [500]أخرجه الترمذي (3738)، وأحمد (1417) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. ، وكانَ
الصِّدِّيقُ إذا ذَكَرَ يَوْمَ أحُدٍ قالَ:
((ذاك يَوْمٌ كلُّه أو جُلُّه لطَلْحةَ)) [501] ذكره قوام السنة في ((سير السلف الصالحين)) (ص215) ،
والزُّبَيْرُ حَواريُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصَفوتُه، وقد ذَكَرَ أنَّهما في الجَنَّةِ، فقالَ جَلَّ وعَزَّ:
لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] ، وما أخْبَرَنا بعْدُ أنَّه سَخِطَ عليهم، فإن يكنْ ما سَعَوا فيه حَقًّا، فأهْلُ ذلك هُمْ، وإن يكُنْ زَلَّةً ففي عَفْوِ اللهِ تَمْحيصُها، وفيما وَفَّقَهم له مِن السَّابِقةِ معَ نَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَهْما ذَكَرْتُموهما فقدْ بَدَأْتم بأمِّكم
عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، فإن أبى آبٍ أن تكونَ له أمًّا نَبَذَ اسمَ الإيمانِ عنه، وقدْ قالَ اللهُ جلَّ ذِكْرُه، وقَوْلُه الحَقُّ:
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحْزاب: 6] ، فنَظَرَ بعضُهم إلى بعضٍ، ثُمَّ انْصَرفوا عنه
[502] ((الكامل في اللُّغة والأدب)) للمبرد (3/ 202)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (2/ 235). .
ويَدخُلُ في هذا النَّوْعِ مِن الخُطَبِ السِّياسيَّةِ تلك الخُطَبُ الَّتي تُقالُ في الوُفودِ والمَحافِلِ، وهو أن يَفِدَ على الخَليفةِ أو الأميرِ رَجُلٌ أو وَفْدٌ فيَقومَ رَجُلٌ مِنهم يَخطُبُ في المَجلِسِ، على نَحْوِ ما عُرِفَ في العُصورِ السَّابِقةِ.
وقدْ كانَ مُعاوِيةُ أوَّلَ مَن فَتَحَ بابَه لاسْتِقْبالِ الوُفودِ مِن الخُلَفاءِ الأُمَوِيِّينَ، فكانت تَرِدُ تِباعًا إلى ساحتِه، تُعلِنُ تارةً ولاءَها، وتارةً تَعرِضُ ظُلامةً لها، وهو دائِمُ الحَفاوةِ بها، يُضْفي عليها مِن نَوالِه الغَمْرِ، وتَبِعَه الخُلَفاءُ الأُمَوِيُّونَ مِن بعْدِه يَسْتنُّونَ سُنَّتَه.
وقد اشْتَهرَ الخُطَباءُ بالخَطابةِ بَيْنَ يَدَيه في تلك المَحافِلِ والوُفودِ، فقدْ خَطَبَ سَحْبانُ وائِلٍ خُطبتَه المَشْهورةَ ب "الشَّوْهاءِ" بَيْنَ يَدَيه، وكذلك الأحْنَفُ بنُ قَيْسٍ التَّميميُّ، وعبْدُ العَزيزِ بنُ زُرارةَ الكِلابيُّ.
ومِن نَماذِجِ تلك الخُطَبِ أنَّ مُعاوِيةَ بنَ أبي سُفْيانَ رضي الله عنهما لمَّا ماتَ وتَولَّى مِن بعْدِه ابنُه يَزيدُ، عَجَزَ الشُّعَراءُ والأُدَباءُ عن الدُّخولِ عليه، فكيف يُعَزُّونَه في أبيه ويُهنِّئونَه بالخِلافةِ؟! حتَّى وَفَدَ عليه عبْدُ اللهِ بنُ همَّامٍ السَّلوليُّ الكوفيُّ، فدَخَلَ عليه وخَطَبَ بَيْنَ يَدَيه، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه ثُمَّ قالَ: (يا أميرَ المُؤْمِنينَ، آجَرَك اللهُ على الرَّزيَّةِ، وبارَكَ لك في العَطيَّةِ، وأعانَك على الرَّعيَّةِ، فلقد رُزِئْتَ عَظيمًا، وأُعْطيتَ جَسيمًا، فاشْكُرِ اللهَ على ما أُعْطيتَ، واصْبِرْ له على ما رُزيتَ، فقدْ فَقَدْتَ خَليفةَ اللهِ، ومُنِحْتَ خِلافةَ اللهِ، ففارَقْتَ جَليلًا، ووُهِبْتَ جَزيلًا؛ إذ قَضى مُعاوِيةُ نَحْبَه، فغَفَرَ اللهُ ذَنْبَه، ووُلِّيتَ الرِّياسةَ، فأُعْطيتَ السِّياسةَ، فأوْرَدَك اللهُ مَوارِدَ السُّرورِ، ووَفَقَك لصالِحِ الأمورِ، وأنْشَدَ:
فاصْبِرْ يَزيدُ فقدْ فارَقْتَ ذا ثِقةٍ
واشْكُرْ حِباءَ الَّذي بالمُلْكِ أصْفاكا
لا رُزْءَ أصْبَحَ في الأقْوامِ نَعلَمُه
كما رُزِئْتَ ولا عُقْبى كعُقْباكا
أصْبَحْتَ والِيَ أمْرِ النَّاسِ كلِّهمُ
فأنتَ تَرْعاهمُ واللهُ يَرْعاكا
وفي مُعاوِيةَ الباقي لنا خَلَفٌ
إذا نُعيتَ ولا نَسْمَعْ بمَنْعاكا
[503] ((الكامل في اللُّغة والأدب)) للمبرد (4/ 93)، ((العمدة في محاسن الشِّعْر وآدابه)) لابن رشيق (2/ 155). الثَّاني: الخُطَبُ الدِّينيَّةُنَشِطَ الوَعْظُ والقَصَصُ الدِّينيُّ في هذا العَصْرِ نَشاطًا عَظيمًا، شَجَّعَ على ذلك حِرْصُ النَّاسِ على طَلَبِ العِلمِ والحَديثِ، فبادَرَ كَثيرٌ مِنهم إلى الصَّحابةِ وكِبارِ التَّابِعينَ، يَنهَلون مِن عِلمِهم وما تَحمَّلوه مِن كِتابِ اللهِ وأحاديثِ رَسولِ اللهِ، كما انْصَرَفَتْ أهْواءُ كَثيرٍ مِنهم إلى ما عنْدَ أهْلِ الكِتابِ مِن أخْبارِ السَّابِقينَ ممَّا ليس في كِتابِ اللهِ، ولا أخْبَرَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد حَرَصَ هؤلاء على تَبْليغِ رِسالةِ اللهِ إلى جَميعِ النَّاسِ، وتَذْكيرِ النَّاسِ باليَوْمِ الآخِرِ، وحَضِّهم على الطَّاعةِ، والأمْرِ بالمَعْروفِ والنَّهْيِ عن المُنكَرِ، خاصَّةً معَ فَسادِ الزَّمانِ وما أصابَ المُسلِمينَ مِن التَّرَفِ والنَّعيمِ الَّذي ألْهاهم عن دينِهم والتَّفَكُّرِ في مَصيرِهم.
وقد كانَ في زَمانِ بَني أُمَيَّةَ -خاصَّةً في أوَّلِه- كَثيرٌ مِن الصَّحابةِ، مِثلُ: أبي هُرَيرةَ، و
عائِشةَ، و
أنسِ بنِ مالِكٍ، و
عبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ،
وعبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ،
والحَسَنِ، والحُسَيْنِ، والنُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ، والمُغيرةِ بنِ شُعْبةَ، و
عَمْرِو بنِ العاصِ، ومَسْلَمةَ بنِ مَخلَدٍ الأنْصاريِّ، وفَضالةَ بنِ عُبَيدٍ، فَضْلًا عن مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ مُؤسِّسِ الدَّولةِ الأُمَوِيَّةِ.
كما اشْتَهرَ في هذا الزَّمانِ كَثيرٌ مِن التَّابِعينَ، أمْثالُ
الحَسَنِ البَصْريِّ، و
ابنِ سيرينَ، و
الزُّهْريِّ، و
سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، ومَسْروقٍ، وعِكْرمةَ مَولى ابنِ عبَّاسٍ، ونافِعٍ مَوْلى ابنِ عُمَرَ، وسالِمِ بنِ عبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وعَطاءِ بنِ رَباحٍ، وغيْرِهم.
ومِن صُوَرِ تلك الخُطَبِ قَولُ
الحَسَنِ البَصْريِّ: (يا بنَ آدَمَ: بِعْ دُنياك بآخِرَتِك تَرْبَحْهما جَميعًا، ولا تَبِعْ آخِرتَك بدُنياك فتَخْسَرَهما جَميعًا، يا بنَ آدَمَ، إذا رأيْتَ النَّاسَ في الخَيْرِ فنافِسْهم فيه، وإذا رأيْتَهم في الشَّرِّ فلا تَغبِطْهم عليه، الثَّواءُ هاهنا قَليلٌ، والبَقاءُ هناك طَويلٌ، أمَّتُكم آخِرُ الأمَمِ، وأنتم آخِرُ أمَّتِكم، وقد أُسرِعَ بخِيارِكم، فماذا تَنْتَظِرونَ؟ آلمُعايَنةَ؟ فكأنْ قد، هَيْهاتَ هَيْهاتَ! ذَهَبَتِ الدُّنيا بحالَيها، وبَقيَتِ الأعْمالُ قَلائِدَ في أعْناقِ بَني آدَمَ.
فيا لها مَوْعِظةً لو وافَقَتْ مِن القُلوبِ حَياةً! أمَا إنَّه واللهِ لا أمَّةَ بعْدَ أمَّتِكم، ولا نَبيَّ بعْدَ نَبيِّكم، ولا كِتابَ بعْدَ كِتابِكم، أنتم تَسوقونَ النَّاسَ والسَّاعةُ تَسوقُكم، وإنَّما يَنْتظِرُ أوَّلُكم أن يَلحَقَه آخِرُكم، مَن رأى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقدْ رآه غادِيًا ورائِحًا، لم يَضَعْ لَبِنةً على لَبِنةٍ، ولا قَصَبةً على قَصَبةٍ، رُفِعَ له عَلَمٌ، فشَمَّرَ إليه، فالوَحاءَ الوَحاءَ والنَّجاءَ النَّجاءَ، عَلامَ تُعَرِّجونَ؟ أُتيتُم ورَبِّ الكَعْبةِ! قد أُسرِعَ بخِيارِكم وأنتم كُلَّ يَوْمٍ تَرذُلونَ، فماذا تَنْتَظِرونَ؟ إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى بَعَثَ مُحمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على عِلمٍ مِنه، اخْتارَه لنفْسِه، وبَعَثَه برِسالتِه، وأنْزَلَ عليه كِتابَه، وكانَ صَفْوتَه مِن خَلْقِه، ورَسولَه إلى عِبادِه، ثُمَّ وَضَعَه مِن الدُّنيا مَوضِعًا يَنظُرُ إليه أهْلُ الأرْضِ، وآتاه مِنها قوتًا وبُلْغةً، ثُمَّ قالَ:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحْزاب: 21] فرَغِبَ أقْوامٌ عن عَيْشِه، وسَخِطوا ما رَضيَ له رَبُّه، فأبْعَدَهم اللهُ وأسْحَقَهم!
يا بنَ آدَمَ، طأِ الأرْضَ بقَدَمِك، فإنَّها عن قَليلٍ قَبْرُك، واعْلَمْ أنَّك لم تَزَلْ في هَدْمِ عُمرِك منْذُ سَقَطْتَ مِن بَطْنِ أمِّك، رَحِمَ اللهُ رَجُلًا نَظَرَ فتَفكَّرَ، وتَفكَّرَ فاعْتَبَرَ، وأبْصَرَ فصَبَرَ، فقدْ أبْصَرَ أقْوامٌ ولم يَصْبِروا، فذَهَبَ الجَزَعُ بقُلوبِهم، ولم يُدرِكوا ما طَلَبوا، ولم يَرجِعوا إلى ما فارَقوا.
يا بنَ آدَمَ، اذْكُرْ قَوْلَه:
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
عَدَلَ واللهِ عليك مَن جَعَلَك حَسيبَ نفْسِك، خُذوا صَفاءَ الدُّنيا، وذَروا كَدَرَها، فليس الصَّفْوُ ما عادَ كَدَرًا، ولا الكَدَرُ ما عادَ صَفْوًا، دَعوا ما يَريبُكم إلى ما لا يَريبُكم، ظَهَرَ الجَفاءُ وقَلَّتِ العُلَماءُ، وعَفَتِ السُّنَّةُ، وشاعَتِ
البِدْعةُ، لقد صَحِبْتُ أقْوامًا ما كانت صُحْبتُهم إلَّا قُرَّةَ العَيْنِ وجَلاءَ الصُّدورِ، ولقد رأيْتُ أقْوامًا كانوا مِن حَسَناتِهم أن تُرَدَّ عليهم أشْفَقَ مِنكم مِن سَيِّئاتِكم أن تُعَذَّبوا عليها، وكانوا فيما أحَلَّ اللهُ لهم مِن الدُّنيا أزْهَدَ مِنكم فيما حَرَّمَ اللهُ عليكم مِنها، ما لي أسْمَعُ حَسيسًا، ولا أرى أنيسًا، ذهَبَ النَّاسُ وبَقيَ النَّسْناسُ!
لو تَكاشَفْتم ما تَدافَنْتم، تَهادَيْتم الأطْباقَ، ولم تَتَهادَوا النَّصائِحَ، قالَ ابنُ الخَطَّابِ:
((رَحِمَ اللهُ امْرَأً أهْدى إلينا مَساوينا)) أعِدُّوا الجَوابَ؛ فإنَّكم مَسْؤولونَ، المُؤْمِنُ مَن لم يَأخُذْ دينَه عن رأيِه، ولكنَّه أخَذَه مِن قِبَلِ رَبِّه، إنَّ هذا الحَقَّ قد جَهَدَ أهْلَه، وحالَ بيْنَهم وبَيْنَ شَهَواتِهم، وما يَصبِرُ عليه إلَّا مَن عَرَفَ فَضْلَه، ورَجا عاقِبتَه، فمَن حَمِدَ الدُّنيا ذَمَّ الآخِرةَ، وليس يَكرَهُ لِقاءَ اللهِ إلَّا مُقيمٌ على سَخَطِه، يا بنَ آدَمَ، الإيمانُ ليس بالتَّحلِّي ولا بالتَّمنِّي، ولكنَّه ما وَقَرَ في القُلوبِ، وصَدَّقَه العَمَلُ)
[504] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (3/ 90)، ((نثر الدر في المحاضرات)) لأبي سعد الآبي (5/ 129). .
على أنَّ الخُطْبةَ الدِّينيَّةَ لم تكن حِكرًا على الوُعَّاظِ والقُصَّاصِ، بل شارَكَهم فيها الخُلَفاءُ والأُمَراء كذلك، فهذا مُعاوِيةُ بنُ أبي سُفْيانَ رَضيَ الله عنهما لمَّا حَضَرَته الوَفاةُ قال لمَوْلًى له: مَن بالبابِ؟ قالَ: نَفَرٌ مِن قُرَيشٍ يَتَباشَرونَ بمَوْتِك، فقالَ: وَيْحَك، ولِمَ؟ قال: لا أدْري، قالَ: فوَاللهِ ما لهم بعْدي إلَّا الَّذي يَسوءُهم، وأَذِنَ للنَّاسِ فدَخَلوا، فحَمِدَ وأثْنى عليه وأوْجَزَ ثُمَّ قالَ:
(أيُّها النَّاسُ، إنَّا قد أصْبَحْنا في دَهْرٍ عَنودٍ، وزَمَنٍ شَديدٍ، يُعَدُّ فيه المُحسِنُ مُسيئًا، ويَزدادُ فيه الظَّالمُ عُتُوًّا، ولا نَنْتفِعُ بما عَلِمْناه، ولا نَسْألُ عمَّا جَهِلْناه، ولا نَتَخوَّفُ قارِعةً حتَّى تَحُلَّ بنا، فالنَّاسُ على أرْبَعةِ أصْنافٍ؛ مِنهم مَن لا يَمْنَعُه الفَسادَ في الأرْضِ إلَّا مَهانةُ نفْسِه، وكَلالُ حَدِّه، ونَضيضُ وَفْرِه، ومِنهم المُصْلِتُ لسَيْفِه، المُجلِبُ بخَيلِه ورَجِلِه، المُعلِنُ بِسِرِّه، قد أشْرَطَ لذلك نفْسَه، وأوْبَقَ دينَه لحُطامٍ يَنتَهِزُه، أو مِقْنَبٍ يَقودُه، أو مِنبَرٍ يَفرَعُه، ولبِئْسَ المَتجَرُ أن تَراها لنفْسِك ثَمَنًا، وممَّا لك عنْدَ اللهِ عِوَضًا.
ومِنهم مَن يَطلُبُ الدُّنيا بعَمَلِ الآخِرةِ، ولا يَطلُبُ الآخِرةَ بعَمَلِ الدُّنيا، قد طامَنَ مِن شَخْصِه، وقارَبَ مِن خَطْوِه، وشَمَّرَ مِن ثَوْبِه، وزَخْرَفَ نفْسَه للأمانةِ، واتَّخَذَ سِتْرَ اللهِ ذَريعةً إلى المَعصيةِ، ومِنهم مَن أقْعَدَه عن طَلَبِ المُلْكِ ضُؤولةُ نفْسِه، وانْقِطاعٌ مِن سَبَبِه، فقَصَّرَتْ به الحالُ عن أمَلِه، فتَحلَّى باسمِ القَناعةِ، وتَزيَّنَ بلِباسِ الزَّهادةِ، وليس مِن ذلك في مَراحٍ ولا مَغْدًى، وبَقيَ رِجالٌ غَضَّ أبْصارَهم ذِكْرُ المَرجِعِ، وأراقَ دُموعَهم خَوْفُ المَحشَرِ، فهُمْ بَيْنَ شَريدٍ نادٍّ، وخائِفٍ مُنْقمِعٍ، وساكِتٍ مَكْعومٍ، وداعٍ مُخلِصٍ، ومُوجَعٍ ثَكْلانَ، قد أخْمَلَتْهم التَّقيَّةُ، وشَمِلَتْهم الذِّلَّةُ، فهُمْ في بَحْرٍ أُجاجٍ، أفْواهُهم ضامِزةٌ، وقُلوبُهم قَرِحةٌ، وقد وُعِظوا حتَّى مَلُّوا، وقُهِروا حتَّى ذَلُّوا، وقُتِلوا حتَّى قَلُّوا، فلتكنِ الدُّنيا في عُيونِكم أصْغَرَ مِن حُثالةِ القَرَظِ، وقُراضةِ الجَلَمَينِ، واتَّعِظوا بمَن كانَ قبْلَكم قبْلَ أن يَتَّعِظَ بكم مَن يَأتي بعْدَكم، فارْفُضوها ذَميمةً؛ فإنَّها رَفَضَتْ مَن كانَ أشْغَفَ بها مِنكم)
[505] (البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 40)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 176). .
وخَطَبَ
عُمَرُ بنُ عبْدِ العَزيزِ خُطْبةً بخُناصِرةَ، فقالَ بعْدَ أن حَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه: (أيُّها النَّاسُ، إنَّكم لم تُخْلَقوا عَبَثًا ولم تُتْرَكوا سُدًى، وإنَّ لكم مَعادًا يَحكُمُ اللهُ بيْنَكم فيه، فخابَ وخَسِرَ مَن خَرَجَ مِن رَحْمةِ اللهِ الَّتي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُها السَّمواتُ والأرْضُ، واعْلَموا أنَّ الأمانَ غَدًا لمَن يَخافُ اليَوْمَ، وباعَ قَليلًا بكَثيرٍ وفانِيًا بباقٍ.
ألَا تَرَوْنَ أنَّكم في أصْلابِ الهالِكينَ، وسيَخلُفُها مِن بعْدِكم الباقونَ، حتَّى يُرَدُّوا إلى خَيْرِ الوارِثينَ، إنَّكم في كلِّ يَوْمٍ تُشَيِّعونَ غادِيًا ورائِحًا إلى اللهِ، قد قَضى نَحْبَه وبَلَغَ أجَلَه، ثُمَّ تُغَيِّبونَه في صَدْعٍ مِن الأرْضِ، ثُمَّ تَدَعونَه غيْرَ مُوسَّدٍ ولا مُمهَّدٍ، قد خَلَعَ الأسْبابَ، وفارَقَ الأحْبابَ، وواجَهَ الحِسابَ، غَنِيًّا عمَّا تَرَكَ فَقيرًا إلى ما قَدَّمَ.
وايمُ اللهِ إنِّي لَأقولُ لكم هذه المَقالةَ وما أعْلَمُ عنْدَ أحَدٍ مِنكم أكْثَرَ ممَّا عندي، وأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم، وما تَبلُغُنا حاجةٌ يَتَّسِعُ لها ما عنْدَنا إلَّا سَدَدْناها، ولا أحَدٌ مِنكم إلَّا وَدِدْتُ أنَّ يَدَه معَ يَدي، ولُحْمتي الَّذين يَلونَني حتَّى يَسْتويَ عَيْشُنا وعَيْشُكم، وايمُ اللهِ إنِّي لو أرَدْتُ غيْرَ هذا مِن عَيْشٍ أو غَضارةٍ لكانَ اللِّسانُ به ناطِقًا ذَلولًا عالِمًا بأسْبابِه، ولكنَّه مَضى مِن اللهِ سُنَّةٌ عادِلةٌ دَلَّ فيها على طاعتِه ونَهى عن مَعْصيتِه) ثُمَّ بَكى فتَلقَّى دُموعَ عَيْنَيه برِدائِه، فلم يُرَ بعْدَها على المِنبَرِ حتَّى لَقيَ اللهَ تعالى
[506] ((البَيان والتبيين)) للجاحظ (2/ 82)، ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 182). !
ومِن أبْلَغِ تلك الخُطَبِ وأوْفَرِها بَيانًا خُطْبةُ زَعيمِ
الخَوارِجِ الأزارِقةِ قَطَريِّ بنِ الفُجاءةِ، حينَ ارْتَقى المِنبَرَ فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه، ثُمَّ قالَ: (أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أحَذِّرُكم الدُّنيا؛ فإنَّها حُلوةٌ خَضِرةٌ حُفَّتْ بالشَّهَواتِ وراقَتْ بالقَليلِ، وتَجلبَبَتْ بالعاجِلِ وغُمِرَتْ بالآمالِ، وتَحلَّتْ بالأمانيِّ وزُيِّنَتْ بالغُرورِ، لا تَدومُ زَهْرَتُها ولا تُؤمَنُ فَجْعَتُها، غَرَّارةٌ ضَرَّارةٌ، وحائِلةٌ زائِلةٌ، ونافِدةٌ بائِدةٌ، لا تَعْدو إذا تَناهَتْ إلى أمْنِيةِ أهْلِ الرَّغْبةِ فيها، والرِّضا بها أن تكونَ كما قيلَ:
كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبات الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا [الكهف: 45]. معَ أنَّ امْرَأً لم يكنْ مِنها في حَبْرةٍ إلَّا أعْقَبَتْه بعْدَها عَبْرةً، ولم يَلْقَ مِن سَرَّائِها بَطْنًا إلَّا مَنَحَتْه مِن ضَرَّائِها ظَهْرًا، ولم تَطُلَّه مِنها دِيمةُ رَخاءٍ إلَّا هَطَلَتْ عليه مُزْنةُ بَلاءٍ، وحَرِيٌّ إذا أصْبَحَتْ له مُنْتصِرةً أن تُمْسيَ له خاذِلةً مُتَنكِّرةً، وإنْ جانِبٌ مِنها اعْذَوْذَبَ واحْلَوْلى أَمَرَّ عليه مِنها جانِبٌ فأَوْبا، وإن لَبِسَ امْرُؤٌ مِن غَضارتِها ورَفاهيتِها نِعَمًا أرْهَقَتْه مِن نَوائِبِها غَمًّا، ولم يُمسِ امْرُؤٌ مِنها في جَناحِ أمْنٍ إلَّا أصْبَحَ مِنها في قَوادِمِ خَوْفٍ.
غَرَّارةٌ غَرورٌ ما فيها، فانيةٌ فانٍ ما عليها، لا خَيْرَ في شيءٍ مِن زادِها إلَّا التَّقْوى، مَن أقَلَّ مِنها اسْتَكثَرَ ممَّا يُؤمِنُه، ومَن اسْتَكثَرَ مِنها لم يَدُمْ له، وزالَ عمَّا قَليلٍ عنه، كم واثِقٍ بها قد فَجَعَتْه! وذي طُمأنينةٍ إليها قد صَرَعَتْه! وكم مِن مُخْتالٍ بها قد خَدَعَتْه! وكم ذي أبَّهةٍ فيها قد صيَّرَتْه حَقيرًا! وذي نَخْوةٍ فيها قد رَدَّتْه ذَليلًا! وذي تاجٍ قد كبَّتْه لليَدَينِ والفَمِ!
سُلطانُها دُوَلٌ، وعَيْشُها رَنْقٌ، وعَذْبُها أُجاجٌ، وحُلْوُها مُرٌّ، وغِذاؤُها سِمامٌ، وأسْبابُها زِحامٌ، وقِطافُها سَلَعٌ، حيُّها بعَرَضِ مَوْتٍ وصَحيحُها بعَرَضِ سُقْمٍ، ومَنيعُها بعَرَضِ اهْتِضامٍ، مَليكُها مَسْلوبٌ، وعَزيزُها مَغْلوبٌ، وسَليمُها مَنْكوبٌ، وجارُها وجامِعُها مَحْروبٌ، معَ أنَّ مِن وَراءِ ذلك سَكَراتِ المَوْتِ وزَفرَاتِه، وهَوْلَ المَطلَعِ والوُقوفَ بَيْنَ يَدَي الحَكَمِ العَدْلِ؛
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] ، ألسْتُم في مَساكِنِ مَن كانَ مِنكم أطْوَلَ أعْمارًا وأوْضَحَ آثارًا وأعَدَّ عَديدًا وأكْثَفَ جُنودًا وأعْتَدَ عَتادًا وأطْوَلَ عِمادًا؟ تَعبَّدوا الدُّنيا أيَّ تَعبُّدٍ، وآثَروها أيَّ إيثارٍ، وظَعَنوا عنها بالكُرْهِ والصَّغارِ، فهلْ بَلَغَكم أنَّ الدُّنيا سَمَحَتْ لهم نَفَسًا بفِديةٍ، بلْ أرْهَقَتْهم بالفَوادِحِ وضَعْضَعَتْهم بالنَّوائِبِ، وعَفَرَتْهم للمَناخِرِ، وأعانَتْ عليهم رَيْبَ المَنونِ، وأرْهَقَتْهم بالمَصائِبِ، وقد رأيْتُم تَنَكُّرَها لمَن دانَ لها وآثَرَها وأخْلَدَ إليها، حتَّى ظَعَنوا عنها لفِراقِ الأبَدِ إلى آخِرِ الأمَدِ، هلْ زَوَّدَتْهم إلَّا الشَّقاءَ وأحلَّتْهم إلَّا الضَّنْكَ، أو نوَّرَتْ لهم إلَّا الظُّلْمةَ، وأعْقَبَتْهم إلَّا النَّدامةَ؟!
أفهذه تُؤْثِرونَ، أو على هذه تَحرِصونَ، أو إليها تَطْمَئِنُّونَ؟ فبِئْسَتِ الدَّارُ لمَن لم يَتَّهِمْها ولم يكنْ فيها على وَجَلٍ مِنها!)
[507] ((البَيان والتبيين (2/ 86)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/ 250). .
خَصائِصُ الخَطابةِ:يَسْتطيعُ القارِئُ بعْدَ التَّفرُّسِ في تلك النَّماذِجِ السَّابِقةِ للخُطَبِ العَربيَّةِ في زَمانِ بَني أُمَيَّةَ على اخْتِلافِ أغْراضِها السِّياسيَّةِ والدِّينيَّةِ أن يَقِفَ على مَجْموعةٍ مِن الخَصائِصِ الَّتي تُميِّزُها، مِنها ما يَتعلَّقُ بالمَعنى والمَوْضوعِ، ومِنها ما يَتعلَّقُ باللَّفْظِ والصِّيغةِ، على النَّحْوِ التَّالي:
الخَصائِصُ المَعنويَّة:1- التَّأثُّرُ بالقُرآنِ الكَريمِ والحَديثِ الشَّريفِ، إمَّا بالاقْتِباسِ وإمَّا بالتَّأثُّرِ في المَعنى وطُرُقِ التَّعْبيرِ.
2- الجَرْيُ على مِنْوالِ القُدماءِ في سُهولةِ اللَّفْظِ ووُضوحِ المَعنى مِن غيْرِ تَعْقيدٍ أو إغْرابٍ أو تَعْريضٍ.
3- صِدْقُ العاطِفةِ وحَرارةُ اللَّهْجةِ الَّتي تُؤثِّرُ في المُسْتمِعينَ.
4- الاعْتِمادُ أحْيانًا على الشِّعْرِ، وسَوْقُه لتأكيدِ الكَلامِ وتَنْميقِه.
الخَصائِصُ اللَّفْظيَّةُ:1- اسْتِهلالُ الخُطَبِ بالحَمْدِ والثَّناءِ والصَّلاةِ والسَّلامِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ولِهذا سُمِّيَتْ خُطْبةُ زِيادِ بنِ أبيه "البَتْراءَ" لِخُلُوِّها مِن ذلك.
2- قِصَرُ الجُمَلِ وإيجازُها مِن غيْرِ إخْلالٍ.
3- الاهْتِمامُ شيئًا فشيئًا بالمُحسِّناتِ البَديعيَّةِ، فقدْ كَثُرَ في خُطَبِهم اسْتِعمالُ التَّضادِّ والمُقابَلةِ والتَّرادُفِ ونَحْوِ ذلك.
4- الاهْتِمامُ بالجِناسِ والأسْجاعِ الموسيقيَّةِ، مِن غيْرِ إسْرافٍ أو مُغالاةٍ، بلْ كانَ ذلك يُؤدِّي الغَرَضَ المَنْشودَ، ولم يكنْ على حِسابِ المَعنى وسُهولةِ إبْلاغِه.
5- الإكْثارُ مِن الاعْتِمادِ على الصُّوَرِ البَيانيَّةِ مِن تَشْبيهٍ واسْتِعارةٍ وكِنايةٍ ومَجازٍ.
6- الاعْتِمادُ على الأُسلوبِ البَلاغيَّ المُطرِبِ للأذُنِ والقَلْبِ
[508] ينظر: ((الأدب الأموي تاريخه وقضاياه)) لزكريا النوتي (ص: 147) .