الموسوعة الفقهية

الفصل الخامس: ما يَحْرُمُ على المُحْرِم، وما يُباحُ له


المبحث الأوَّل: ما يجِبُ على المُحْرِم تَوَقِّيه
يجب على المُحْرِمِ أن يتَوَقَّى ما يلي:
أوَّلًا: الفُحْشُ مِنَ القَوْلِ والفعْلِ ((تفسير الطبري)) (4/125). ، وذلك منهيٌّ عنه في الإحرامِ وغيرِ الإحرامِ، إلَّا أنَّ الحَظْرَ في الإحرامِ أشَدُّ؛ لحُرمةِ العبادةِ.
ثانيًا: الفُسُوقُ: وهو جميعُ المعاصي، ومنها محظوراتُ الإحرامِ ((تفسير الطبري)) (4/135).
ثالثًا: الجِدالُ في الحَجِّ: وهو المخاصَمةُ في الباطِلِ، لاسيما مع الرُّفقاءِ والخَدَمِ، أو الجدلُ فيما لا فائدةَ فيه؛ لأنَّ ذلك يُثيرُ الشَّرَّ ويوقِعُ العداوةَ، ويَشْغَلُ عن ذكْرِ اللهِ، أمَّا الجدالُ بالتي هي أحسَنُ لإظهارِ الحَقِّ ورَدِّ الباطِلِ؛ فلا بأسَ به ((مراتب الإجماع)) لابْن حَزْمٍ (ص: 43)، ((نقد مراتب الإجماع)) لابن تيميَّة(ص: 292)، ((المحلى)) لابْن حَزْمٍ (7/186، 195)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (19/55)، ((المبسوط)) للسرخسي (4/7)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/439)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/134)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/348)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/13)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/56، 57، 17/144- 147).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قولُه تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ هذا نهيٌ بصيغةِ النَّفيِ، وهو آكَدُ ما يكون مِنَ النَّهيِ، كأنه قيل: فلا يكونَنَّ رفَثٌ ولا فُسوقٌ ولا جِدالٌ في الحَجِّ ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/438)، ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/385)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/13).
2- قولُه تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج: 25] (وفي هذه الآيةِ الكريمةِ وجوبُ احترامِ الحَرَم، وشِدَّة تعظيمِه، والتحذيرُ من إرادةِ المعاصي فيه وفِعْلِها) ((تيسير الكريم الرحمن)) لعبد الرحمِنَ السعدي (ص: 536).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((مَن حَجَّ للهِ فلم يَرْفُثْ، ولم يفْسُقْ، رَجَعَ كيومَ وَلَدَتْه أمُّه )) رواه البخاري (1521) واللفظ له، ومسلم (1350).
2- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((العُمْرةُ إلى العُمْرةِ كفَّارةٌ لِمَا بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزَاءٌ إلَّا الجنَّةُ )) رواه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ مِن جُملةِ ما فُسِّرَ به الحجُّ المبرورُ: أنَّه الحجُّ الذي لم يخالِطْه شَيءٌ مِنَ المَأثَمِ قال أبو عبدالله القرطبي: (قال الفقهاء: الحجُّ المبرورُ هو الذي لم يُعْصَ اللهُ تعالى فيه أثناءَ أدائه، وقال الفرَّاء: هو الذي لم يُعْصَ الله سبحانه بعدَه، ذكر القولين ابنُ العربي رحمه الله، قلت: الحجُّ المبرورُ هو الذي لم يُعْصَ اللهُ سبحانه فيه لا بعده، قال الحسن: الحجُّ المبرورُ هو أن يرجِعَ صاحبُه زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة. وقيل غيرُ هذا) ((تفسير القرطبي)) (2/408).. وقال أبو العباس القرطبي: (الأقوالُ في تفسيرِ الحجِّ المبرورِ متقارِبَةُ المعنى وحاصِلُها أنَّه الحجُّ الذي وُفِّيَت أحكامُه، فوقع موافِقًا لِمَا طُلِبَ مِنَ المكَلَّف على الوَجْهِ الأكمَلِ) ((المفهم)) (3/ 463). وقال النووي: (الأصحُّ الأشهَرُ أنَّ المبرورَ هو الذي لا يخالِطُه إثمٌ؛ مأخوذٌ مِنَ البِرِّ وهو الطاعةُ، وقيل: هو المقبولُ، ومن علامة القَبولِ أنْ يَرجِعَ خيرًا ممَّا كان ولا يعاوِدَ المعاصي، وقيل: هو الذي لا رياءَ فيه، وقيل: الذي لا يَعْقُبُه معصيةٌ، وهما داخلان فيما قبلهما، ومعنى: (ليس له جَزَاءٌ إلَّا الجنَّةُ) أنَّه لا يُقتصَر لصاحبه مِنَ الجزاءِ على تكفيرِ بعضِ ذُنوبِه، بل لا بدَّ أن يدخُلَ الجنَّةَ) ((شرح النووي على مسلم)) (9/119). ويُنْظَر: ((الاستذكار)) لابن عَبْدِ البَرِّ (4/104)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (22/39)، ((شرح السنة)) للبغوي (7/6)، ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (5/1741)، ((مرعاة المفاتيح)) لأبي الحسن المباركفوري (8/390)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (71/74، 75).
المبحث الثاني: ما يباح للمحرم
المطلب الأول: التِّجارةُ والصِّناعةُ
للمُحْرِمِ أن يتَّجِرَ ويَصْنَعَ في الحَجِّ لكنِ استحَبَّ أهلُ العلم أن تكون يدُه فارغةً مِنَ التجارة ليكون قلْبُه مشغولًا بما هو بصَدَدِه، متعرِّيًا عن شوائِبِ الدنيا وتعَلُّقِ القلب بها، وإن كان لا يخرُجُ به المكلَّف عن رَسْمِ الإخلاصِ المفتَرَض عليه. يُنْظَر: ((المجموع)) للنووي (7/76)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/501).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قولُه تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ قال ابنُ العربي: (قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198] وذلك هو التِّجارة بإجماعٍ مِنَ العُلَماء). ((أحكام القرآن)) (3/ 283). قال الجصاص: (قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ **البقرة: 198** فهذا في شأن الحاج؛ لأنَّ أوَّلَ الخطاب فيهم وسائر ظواهر الآي المبيحة لذلك دالةٌ على مِثْلِ ما دلت عليه هذه الآية؛ نحو قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ **المزمل: 20**) ((أحكام القرآن)) (1/386). [البقرة: 198]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّها نزلتْ في التِّجارةِ في الحجِّ، فعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (كانت عُكاظٌ، ومَجَنَّةُ، وذو المَجازِ أسواقًا في الجاهليَّة، فتأَثَّموا أن يتَّجِروا في المواسِمِ، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198] في مواسِمِ الحجِّ) أخرجه البخاري (4519).
1- قولُه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِر... لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج: 27-28]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنه لم يُخَصِّصْ شيئًا مِنَ المنافِعِ دون غيرِها؛ فهو عامٌّ في جميعِها مِنْ منافِعِ الدُّنيا والآخِرةِ ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/386).
2- قولُه تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنه لم يُخَصِّصْ منه حالَ الحَجِّ، فيبقى البيعُ على أصلِ الإباحةِ ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/386).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبى أُمامَةَ التَّيمِيِّ قال: ((كنتُ رجلًا أَكْرِي في هذا الوَجهِ، وإنَّ ناسًا يقولون: ليس لك حَجٌّ، فقال ابنُ عُمَرَ: أليسَ يُحْرِمُ ويُلَبِّي ويطوفُ بالبيتِ، ويُفْضي من عرفاتٍ، ويرمي الجِمارَ؟ قلتُ: بلى، قال: فإنَّ لك حجًّا، جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأَلَه عمَّا سألْتَني عنه، فسَكَت رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يُجِبْه حتى نزلت هذه الآيةُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198] ، فأرسل إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقرأ عليه هذه الآيةَ، وقال: لك حَجٌّ )) رواه أبو داود (1733)، والحاكم (1647)، والبيهقي (11995). صحَّح إسنادَه النووي في ((المجموع)) (7/77)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1733)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (741).
ثالثًا: مِنَ الإجماعِ
نقل الإجماعَ على جوازِ ذلك ابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (أمَّا التِّجارة والصناعة فلا نعلم في إباحَتِهما اختلافًا) ((المغني)) (3/313). ، والنوويُّ ((المجموع)) للنووي (7/76). ، والشنقيطيُّ قال الشنقيطي: (لا خلاف بين العُلَماء في أنَّ المرادَ بالفضلِ المذكورِ في الآية رِبْحُ التِّجارة) ((أضواء البيان)) (1/89). ، والجصَّاصُ، ووَصَفَ القولَ بِسِواه بالشُّذُوذِ قال الجصاص: (وعلى هذا أَمْرُ النَّاسِ، من عصرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى يومِنا هذا في مواسِمِ مِنًى ومكَّةَ في أيَّامِ الحَجِّ). وقال أيضًا: (روي نحو ذلك عن جماعة مِنَ التابعين؛ منهم: الحسن وعطاء ومجاهد وقتادة، ولا نعلم أحدًا روي عنه خلافُ ذلك إلا شيئًا رواه سفيان الثوري عن عبد الكريم عن سعيد بن جبير؛ قال: سأله رجل أعرابي، فقال: إني أكري إبلي وأنا أريد الحجَّ أفيَجْزِيني؟ قال: لا، ولا كرامةَ، وهذا قولٌ شاذٌّ خلاف ما عليه الجمهور، وخلاف ظاهرِ الكتاب) ((أحكام القرآن)) (1/386).
المطلب الثاني: الحِجامةُ
تجوزُ الحِجامةُ للمُحرِم إذا كان له عُذرٌ في ذلك، ولا شيءَ عليه إذا لم يَحلِقْ شَعرًا.
الدليل من الإجماع:
 نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبدِ البَر [1495] قال ابنُ عبد البَرِّ في الحِجامة للمُحرِم: (إذا لم يحلق المحرمُ شعرًا، فهو كالعِرق يقطعُه، أو الدُّمَّل يبطُّه [يشقُّه]، أو الدُّمَّل ينكزُها [يضربُها، أو يطعنُها بغَرْز شيء محدَّد الطَّرَف]، ولا يضرُّه ذلك، ولا شيءَ عليه فيه عند جماعة العلماء). ((الاستذكار)) (4/121). ، والبَغَويُّ [1496] قال البغويُّ: (رخَّص عامَّةُ أهل العِلم في الحجامة للمحرِم من غير أنْ يقطع شعرًا، فإنْ قطَع شعرًا، فعليه الفديةُ). ((شرح السنة)) (7/258). ، والقُرْطُبيُّ [1497] قال القرطبيُّ: (لا خلافَ بين العلماء في جواز الحِجامة للمحرِم، حيثُ كانتْ من رأس، أو جسد للضَّرورة). ((المفهم)) (3/289). ، والنَّوويُّ [1498] قال النوويُّ: (وفي هذا الحديثِ دليلٌ لجواز الحِجامة للمحرِم، وقد أجمع العلماءُ على جوازها له في الرأس وغيرِه، إذا كان له عذرٌ في ذلك، وإن قُطع الشَّعر حينئذٍ، لكن عليه الفديةُ لقطعِ الشَّعر، فإنْ لم يقطع فلا فِديةَ عليه). ((شرح النووي على مسلم)) (8/123). ، والصَّنعانيُّ [1499] قال الصنعانيُّ: (دلَّ على جواز الحِجامة للمحرم، وهو إجماعٌ في الرأس وغيرِه إذا كان لحاجةٍ، فإنْ قَلَع من الشعر شيئًا، كان عليه فديةُ الحَلْق، وإنْ لم يقلع فلا فِديةَ عليه). ((سبل السلام)) (2/195).
المطلب الثالث: التَّداوي بما ليس بطِيب
يَجوزُ للمُحرِمِ مُباشرةُ ما ليسَ بطِيبٍ والتَّداوي به.
الدليل من الإجماع:
 نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابن عبد البر [1500] قال ابن عبد البَرِّ: (ما ليس بطِيب، فلا يختلفُ العلماءُ في أنَّه مباح، ويحلُّ للمُحرِم مباشرتُه، والتداوي به). ((الاستذكار)) (4/162).
المطلب الرابع: السِّواكُ
يَجوزُ السِّواكُ للمُحرِمِ.
الدليل من الإجماع:
 نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابن المنذر [1501] قال ابنُ المُنذر: (وأجمَعوا أنَّ للمُحرِم أن يستاك). ((الإجماع)) (ص: 110). ، والحطاب [1502] قال الحَطَّاب: (قال التادَليُّ في مناسك ابن الحاجِّ: وأجمع أهلُ العلم أن للمحرِم أن يتسوَّك، وإنْ دمِي فمُه). ((مواهب الجليل)) (3/146).
المطلب الخامس: ذَبحُ بَهيمةِ الأنعامِ ونَحْوِها
يجوزُ للمُحْرِم ذَبحُ بهيمةِ الأنعامِ والدَّجاجِ ونَحْوِها.
الدليل من الإجماع:
 نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ حزمٍ [1503] قال ابنُ حزم: (اتَّفقوا أنَّ له أن يذبحَ مِن الأنعام والدجاج الإنسيِّ ما أحبَّ، ممَّا يملك، أو يأمر مالكَه وهو محرمٌ في الحَرَم). ((مراتب الإجماع)) (ص: 44). ولم يتعقبه ابن تيميَّة. ، وابنُ قُدامة [1504] قال ابنُ قُدامة: (ما ليس بوحشيٍّ لا يحرُم على المحرِمِ ذبحُه، ولا أكْلُه، كبهيمة الأنعام كلِّها، والخيل، والدَّجاج، ونحوها، لا نعلم بين أهل العلم في هذا خِلافًا). ((المغني)) (3/440).
المبحث الثَّالث: آدابُ دُخولِ مكَّةَ والمسجِدِ الحَرامِ
المطلب الأوَّل: دخولُ مكَّةَ مِن أعلاها والخُروجُ مِن أسفَلِها
يُستحَبُّ للمُحْرمِ أن يدخُلَ مكَّةَ مِن أعلاها مِن ثنيَّة كَداء: بفتح الكاف، وهي بأعلى مكَّة، ينحدِرُ منها إلى المقابر. يُنْظَر: ((المجموع)) للنووي (8/5)، ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 437). ، ويخرُجَ مِن أسفَلِها من ثنيَّة كُدَا: بضمِّ الكاف، وهي بأسفَلِ مكَّةَ بقُرْب جبل قُعَيْقِعَان. يُنْظَر: ((المجموع)) للنووي (8/5)، ((فتح الباري)) لابن حجر (3/ 437). ، إن تيسَّرَ له ذلك قال ابنُ عثيمين: (الذي يظهَرُ أنَّه يُسَنُّ إذا كان ذلك أرفَقَ لدُخولِه، ودليلُ هذا أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يأمُرْ أن يدخُلَ النَّاسُ مِن أعلاها) ((الشرح الممتع)) (7/228). وإلَّا فله أن يدخُلَ من أيِّ طريقٍ شاء قال الألباني: (ولْيَدْخُلْ مِنَ الناحية العليا التي فيها اليومَ بابُ المعلاة؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَلَها مِنَ الثَّنيَّة العليا (كَداء) المُشْرِفَة على المقبرة، ودخل المسجدَ من باب بني شيبة؛ فإن هذا أقرب الطُّرُق إلى الحَجَر الأسود، وله أن يدخُلَها من أيِّ طريقٍ شاء؛ لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (كلُّ فِجاجِ مكَّة طريقٌ ومَنحَرٌ". وفي حديث آخَرَ: "مكَّةُ كلُّها طريقٌ: يدخُلُ من ههنا ويخرُجُ من ههنا") ((مناسك الحج والعُمْرة)) (ص: 18). وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/350). ، والمالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (2/42)، ويُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/799). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/2)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/74). ، والحَنابِلة ((الإقناع)) للحجاوي (1/379)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/ 336).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ العُلْيا، ويخرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلى )) أخرجه البخاري (1575) واللفظ له، ومسلم (1257)
المطلب الثَّاني: الغُسْلُ قبلَ دُخولِ مَكَّة
يُستحَبُّ للمُحْرمِ أن يغتَسِلَ قبل دُخولِه إلى مكَّةَ، وذلك عند ذي طُوًى، أو غيرِه من مداخِلِ مكَّةَ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/350). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/145). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/2). ، والحَنابِلة ((الإقناع)) للحجاوي (1/379)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لابن قُدامة (1/212).
الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ:
 عن نافعٍ قال: ((كان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما إذا دخل أدنى الحَرَمِ أمسَكَ عن التَّلبيةِ، ثُمَّ يبيتُ بذي طُوًى، ثم يصلِّي به الصُّبحَ، ويغتَسِل ويُحَدِّثُ أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يفعَلُ ذلك )) البخاري (1573) واللفظ له، ومسلم (1259).
المطلب الثَّالث: دخولُ مكَّةَ نهارًا
يُستحَبُّ للمُحْرمِ أن يدخُلَ مكَّةَ نهارًا، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (2/42)، ويُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/799). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/2)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/74). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (4/5) ((الإقناع)) للحجاوي (1/379). ، وقولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ قال النووي: (فمِمَّنِ استحَبَّ دخولَها نهارًا ابنُ عُمَرَ وعطاء والنخعي وإسحاق بن راهويه وابن المُنْذِر) ((المجموع)) (8/2).
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((بات النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذي طُوًى حتى أصبَحَ، ثم دخلَ مكَّةَ، وكان ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما يفعَلُه )) البخاري (1574) واللفظ له، ومسلم (1259).
المطلب الرابع: أن يكون أوَّلَ ما يشتَغِلُ به عند دُخولِه الطَّوافُ بالبَيتِ
يُستحَبُّ للمُحْرمِ عند دخولِه إلى مكَّة أن يبدأ بالطَّواف وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/15)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/ 350). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/376). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (8/11)، ((روضة الطالبين)) للنووي (3/76). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (4/6)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لابن قُدامة (3/382).
الأدِلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((أوَّلُ شيءٍ بدأَ به حين قَدِمَ مكَّةَ أنَّه توضَّأَ، ثم طاف بالبيتِ )) البخاري (1641)، ومسلم (1235) واللفظ له.
ثانيًا: مِنَ الآثار
عن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ قال: ((حَجَّ أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فكان أوَّلَ شيءٍ بدأ به الطَّوافُ بالبيت، ثم لم تكُنْ عُمْرةً، ثمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه مثل ذلك، ثم حَجَّ عُثمانُ رَضِيَ اللهُ عنه، فرأيتُه أوَّلُ شيءٍ بدأَ به الطَّوافُ بالبيتِ، ثم لم تكنْ عُمْرةً، ثمَّ معاويةُ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، ثم حجَجْتُ مع أبي الزُّبيرِ بنِ العوَّامِ، فكان أولَّ شيءٍ بدأ به الطَّوافُ بالبيتِ، ثم لم تكن عُمْرةً، ثم رأيتُ المهاجرينَ والأنصارَ يفعلون ذلك، ثمَّ لم تكن عُمْرةً، ثم آخِرُ مَن رأيتُ فَعَلَ ذلك ابنُ عُمَرَ، ثم لم يَنْقُضْها عُمْرةً، وهذا ابنُ عُمَرَ عندهم فلا يسألونَه، ولا أحَدَ مِمَّن مضى، ما كانوا يبدَؤونَ بشيءٍ حتى يضعوا أقدامَهم مِنَ الطَّوافِ بالبيتِ، ثم لا يَحِلُّون، وقد رأيتُ أمِّي وخالتي حين تَقْدَمان، لا تَبْتَدِئان بشيءٍ أوَّلَ مِنَ البيت؛ تطوفانِ به، ثمَّ إنَّهما لا تَحِلَّان )) رواه البخاري (1641) واللفظ له، ومسلم (3060).
المطلب الخامس: ما يُقالُ عند دخولِ المسجِدِ الحرامِ
 يُسَنُّ أن يدعوَ عندَ دُخولِ المسجدِ الحرامِ، كغيرِه مِنَ المساجِدِ، فيقول: أعوذُ باللهِ العظيمِ، وبوجْهِه الكريمِ، وبِسلطانِه القديمِ، مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم، اللهُمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحْمَتِك، وعند الخروجِ يقول: اللهمَّ إني أسألُكَ مِن فَضْلِك.
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي حُمَيد أو أبي أُسَيدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دخل أحدُكم المسجِدَ فلْيَقُل: اللهمَّ افتَحْ لي أبوابَ رَحْمَتِك، وإذا خرج فلْيَقُل: اللهُمَّ إنِّي أسألُك مِن فَضْلِك )) رواه مسلم (713).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول إذا دخل المسجد: ((أعوذُ باللهِ العظيمِ، وبوَجْهِه الكريمِ، وسُلطانِه القديمِ، مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ )) رواه أبو داود (466)، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)) (68). حسنه النووي في ((الأذكار)) (46)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (814)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح أبي داود)) (466)، وحسن إسناده ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (26/37).
المطلب السادس: تقديمُ الرِّجْلِ اليُمْنى
يُسَنُّ أن يُقَدِّمَ رِجْلَه اليُمْنى عند دُخولِ المسجِدِ الحرامِ؛ كغيرِه مِنَ المساجد.
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:
عمومُ ما جاء عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها؛ حيث قالت: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّ التيمُّنَ ما استطاعَ، في شأنِه كُلِّه: في طُهُورِه، وتَرَجُّلِه، وتَنَعُّلِه )) رواه البخاري (426)، واللفظ له، ومسلم (268). وأورد البخاريُّ في باب التيمُّنِ في دخول المسجِدِ وغيره فِعْلَ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مُعَلَّقًا، فقال: (وكان ابنُ عُمَرَ يبدأُ برِجْلِه اليُمِنًى، فإذا خرجَ بدأَ برِجْلِه اليُسرى).

انظر أيضا: