الفَصلُ الأوَّلُ: الحِوارُ والمناقَشةُ وإزالةُ الشُّبَهِ
حاور الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم
الخَوارِجَ، وحاولوا من خلالِ هذا الِحوارِ مناقشةَ الأمورِ التي خالفَت فيها
الخَوارِجُ، وكانت سَبَبَ خُروجِهم، وحاوَلوا إزالةَ الشُّبَهِ التي عرضَتْها
الخَوارِجُ وجعَلَتْها مُبَرِّرًا ومُسَوِّغًا لخُروجِهم. وكان هذا الحوارُ وتلك المناقشةُ أكثَرَ من مَرَّةٍ، وفي أكثَرَ من موضِعٍ، ومن أكثَرَ من شخصٍ، وكان الحوارُ ناجِحًا؛ إذ من خلالِه زالت شُبَهُ جماعةٍ من
الخَوارِجِ، وعادوا إلى الحَقِّ، وانضمُّوا إلى أهلِ الحَقِّ.
رُوِيَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ شَدَّادٍ جاء إلى
عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها فقالت: (يا عبدَ اللهِ بنَ شدَّادٍ هل أنت صادِقِي عمَّا أسألُك عنه؟ فحَدِّثْني عن هؤلاء القومِ الذين قتَلَهم عليٌّ، فقال: وما لي لا أَصْدُقُكِ؟ قالت: فحَدِّثْني عن قِصَّتِهم، قال: فإنَّ عَليًّا لَمَّا كاتَبَ
معاويةَ وحَكَّم الحَكَمَينِ؛ خرجَ عليه ثمانيةُ آلافٍ مِن قُرَّاءِ النَّاسِ، فنزلوا بأرضٍ يقالُ لها حَروراءُ من جانِبِ الكوفةِ، وأنَّهم عَتَبوا عليه فقالوا: انسلَخْتَ من قميصٍ ألبَسَكَه اللهُ، واسمٍ سمَّاك اللهُ تَعالى به، ثُمَّ حَكَّمْتَ في دينِ اللهِ تَعالى، فلا حُكْمَ إلَّا للهِ، فلمَّا أن بَلَغَ علِيًّا رَضِيَ اللهُ عنه ما عَتَبوا عليه، وفارَقوه فيه، أمَرَ مُنادِيًا يُنادي: ألَّا يَدخُلَ على أميرِ المُؤمِنينَ إلَّا رَجُلٌ قد حَمَلَ القُرآنَ، فلمَّا امتَلَأَتِ الدَّارُ مِن قُرَّاءِ النَّاسِ دَعا بمُصحَفٍ إمامًا عَظيمًا، فوَضَعَه بَيْنَ يَدَيه فطَفِقَ يَصُكُّه بيَدِه، ويَقولُ: أيُّها المُصحَفُ حَدِّثِ النَّاسَ! فناداه النَّاسُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، ما تَسأَلُ عنه؟! إنَّما هو مِدادٌ في وَرَقٍ! ونحن نَتَكلَّمُ بما رُوينا مِنه، فماذا تُريدُ؟ قال: أصحابُكم الذين خَرَجوا بَيني وبَينَهم كِتابُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، يَقولُ اللهُ في كِتابِه في امرأةٍ ورَجُلٍ:
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء: 35] فأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعظَمُ ذِمَّةً وحُرْمةً مِن امرَأةٍ ورَجُلٍ؟! ونَقَموا علَيَّ أن كاتَبْتُ
مُعاوِيةَ: كَتَبْتُ (علِيُّ بنُ أبي طالِبٍ) وقدْ جاءَنا سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو، ونحن معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحُدَيبِيَةِ، حينَ صالَحَ قومَه قُرَيشًا...)
[893] أخرجه أحمد (656) واللَّفظُ له، والحاكم (2657)، والبيهقي (17187). صَحَّحه الحاكم، وقال: على شرطِ الشيخينِ، والبيهقي، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح من دلائل النبوة)) (601)، وصحَّح إسنادَه ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (7/291)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/66). .
والملاحَظُ أنَّ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه أراد في جمعِ قُرَّاءِ النَّاسِ أن يُلزِمَ
الخَوارِجَ الحُجَّةَ، وأن يُبَيِّنَ للنَّاسِ أنَّ ادِّعاءَ
الخَوارِجِ على عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه حَكَّم الرِّجالَ لا أساسَ له من الصِّحَّةِ، فأراد إيضاحَ حقيقةِ ما حصل من قَبولِ التَّحكيمِ، وأنَّه عينُ ما يريدون من تحكيمِ كتابِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأنَّه رَضيَ اللهُ عنه ما خرَج عن حُكمِ الكتابِ العزيزِ، ولكِنَّ عُقولَ هؤلاء
الخَوارِجِ قاصِرةٌ عن إدراكِ حقيقةِ الأمرِ، ونَظَرُهم محدودٌ، قد غَطَّت الشُّبُهاتُ أعيُنَهم فما عادوا يُبصِرون إلَّا مِن خِلالِها.
ولقد جاء رَضيَ اللهُ عنه بالحُجَّةِ المُقنِعةِ فجاء بالمُصحَفِ فوضَعه بَينَ يديه وقال: أيُّها المُصحَفُ حَدِّثِ النَّاسَ!
إنَّ كُلَّ مَن له عَقلٌ يَعلَمُ أنَّ المُصحَفَ لن يَرُدَّ ولن يتحَدَّثَ أو يَحكُمَ، وإنَّما الحُكمُ بكتابِ اللهِ يكونُ بالرُّجوعِ إلى العُلَماءِ الحافِظين له العالِمين بمعانيه ومقاصِده، وهذا ما فعله عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه من تحكيمِ صَحابيَّينِ جليلَينِ، واشترط عليهما تحكيمَ الكتابِ والسُّنَّةِ، فرجَع إلى مقتضى النُّصوصِ لا إلى الأهواءِ والمصالحِ الشَّخصيَّةِ.
ثمَّ إنَّ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه بعَث
عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما لمناظرةِ
الخَوارِجِ، فيُحتَمَلُ أن
ابنَ عبَّاسٍ سمِعَ عَليًّا رَضيَ اللهُ عنه لَمَّا قال ما قال عِندَ جمعِ قُرَّاءِ النَّاسِ، ثُمَّ سار إلى
الخَوارِجِ في ديارِهم، وناظَرَهم فيما نَقَموا واعتَرَضوا، وهذا نصُّ المناظرةِ التي جرت بَينَ
عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ وبَينَ
الخَوارِجِ:
قال
عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: (لَمَّا خرَجَت
الحَروريَّةُ اجتَمَعوا في دارٍ، وهم سِتَّةُ آلافٍ، أتيتُ عليًّا، فقلتُ: يا أميرَ المؤمِنين، أبرِدْ بالظُّهرِ لعلِّي آتي هؤلاء القومَ فأكلِّمَهم. قال: إنِّي أخافُ عليك. قُلتُ: كَلَّا. قال
ابنُ عَبَّاسٍ: فخرجتُ إليهم ولَبِستُ أحسَنَ ما يكونُ من حُلَلِ اليَمَنِ، فأتيتُهم وهم مجتَمِعون في دارٍ وهم قائِلون، فسَلَّمتُ عليهم، فقالوا: مرحبًا بك يا
أبا عَبَّاسٍ، فما هذه الحُلَّةُ؟ قال: قُلتُ: ما تَعيبون علَيَّ لقد رأيتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسَنَ ما يكونُ من الحُلَلِ، ونَزَلَت
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] قالوا: فما جاء بك؟ قلت: أتيتُكم من عِندِ صحابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من المهاجِرين والأنصارِ لأُبَلِّغَكم ما يقولون وتُخبروني بما تقولون، فعليهم نَزَل القرآنُ وهم أعلَمُ بالوحي منكم، وفيهم أُنزِلَ، وليس فيكم منهم أحَدٌ، فقال بعضُهم: لا تخاصِموا قُرَيشًا؛ فإنَّ اللهَ يقولُ:
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: 58] قال
ابنُ عبَّاسٍ: وأتيتُ قومًا لم أرَ قَومًا قَطُّ أشَدَّ اجتهادًا منهم، مُسْهَمةٌ وُجوهُهم
[894] أي: مُتَغيِّرة. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 429). من السَّهرِ، كأنَّ أيديَهم ورُكَبَهم ثَفِنٌ
[895] قال ابنُ الأثيرِ: (الثَّفِنةُ -بكسرِ الفاءِ- ما وَلِيَ الأرضَ من كلِّ ذاتِ أربَعٍ إذا بَرَكت، كالرُّكبتَينِ وغيرِهما، ويحصُلُ فيه غِلَظٌ من أثرِ البُروكِ) ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (1/ 215). عليهم قُمُصٌ مُرَحَّضةٌ
[896] أي: مغسولةٌ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (2/ 208). ، قال بعضُهم: لنُكَلِّمَنَّه ولنَنظُرَنَّ ما يقولُ. قلتُ: أخبروني ماذا نَقَمتُم على ابنِ عَمِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصِهْرِه والمهاجرين والأنصارِ؟ قالوا: ثلاثًا. قُلتُ: ما هُنَّ؟ قالوا: أمَّا إحداهُنَّ فإنَّه حَكَّم الرِّجالَ في أمرِ اللهِ، قال اللهُ عزَّ وجَلَّ
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] ، وما للرِّجالِ وما للحُكمِ؟ فقلتُ: هذه واحِدةٌ. قالوا: وأمَّا الأُخرى فإنَّه قاتَلَ ولم يَسْبِ ولم يَغنَمْ، فلئِنْ كان الذين قاتَلَ كُفَّارًا لقد حَلَّ سَبْيُهم وغَنيمتُهم، وإن كانوا مُؤمِنين ما حَلَّ قِتالُهم، قُلتُ: هذه ثنتانِ فما الثَّالثةُ؟ قالوا: إنَّه محا اسمَه من أميرِ المُؤمِنينَ فهو أميرُ الكافِرينَ. قلتُ: أعندَكم سوى هذا؟ قالوا: حَسْبُنا هذا. فقُلتُ لهم: أرأيتُم إن قرأتُ عليكم من كتابِ اللهِ ومن سُنَّةِ نبيِّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ما يَرُدُّ به قولَكم أتَرْضَون؟ قالوا: نعم، فقُلتُ لهم: أمَّا قولُكم: حَكَّم الرِّجالَ في أمرِ اللهِ، فأنا أقرأُ عليكم ما قد رُدَّ حُكمُه إلى الرِّجالِ في ثَمَنِ رُبُعِ دِرهَمٍ في أرنَبٍ ونحوِها من الصَّيدِ، فقال
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قَولِه:
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة: 95] فنَشَدْتُكم باللهِ أحُكمُ الرِّجالِ في أرنبٍ ونحوِها من الصَّيدِ أفضَلُ أم حُكمُهم في دمائِهم وإصلاحِ ذاتِ بَينِهم، وأن تَعلَموا أنَّ اللهَ لو شاء لحَكَم ولم يُصَيِّرْ ذلك إلى الرِّجالِ، وفى المرأةِ وزوجِها قال اللهُ عزَّ وجَلَّ
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء: 35] فجَعَل اللهُ حُكمَ الرِّجالِ سُنَّةً ماضيةً، أخرَجْتُ من هذه؟ قالوا: نعم. قال: وأمَّا قولُكم: قاتَلَ فلم يَسْبِ ولم يَغنَمْ، أتَسْبُون أمَّكم
عائشةَ، ثُمَّ تستَحِلُّون منها ما يُستَحَلُّ من غيرِها، فلئِنْ فعَلْتُم لقد كفَرْتُم وهي أمُّكم، ولئِنْ قُلتُم ليسَت بأمِّنا لقد كفَرْتُم؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ:
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] فأنتم تدورون بَينَ ضلالتَينِ أيُّهما صِرتُم إليها صِرتُم إلى ضلالةٍ، فنظَرَ بعضُهم إلى بعضٍ، قلتُ: أخرَجْتُ من هذه؟ قالوا: نعم. وأمَّا قولُكم: محا نفسَه من أميرِ المُؤمِنينَ، فأنا آتيكم بمن تَرْضَون، أُرَيَكُم قد سَمِعتُم أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الحُدَيبيَةِ كاتَبَ المُشرِكين سُهَيلَ بنَ عَمرٍو وأبا سُفيانَ بنَ حَربٍ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأميرِ المُؤمِنين: اكتُبْ يا عليُّ، هذا ما اصطَلَح عليه محمَّدٌ رَسولُ اللهِ. فقال المُشرِكون: لا واللهِ، ما نعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ، لو نعلَمُ أنَّك رسولُ اللهِ ما قاتَلْناك. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهُمَّ إنَّك تعلَمُ أنِّي رَسولُك، اكتُبْ يا عليُّ، هذا ما اصطلح عليه محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ. فواللهِ لرَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيرٌ من عليٍّ، وما أخرجه من النُّبُوَّةِ حينَ محا نفسَه. قال
عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ: فرجع من القومِ ألفانِ، وقُتِل سائِرُهم على ضلالةٍ)
[897] أخرجه أبو داود (4037) مختصرًا إلى قوله: "أحسَنَ ما يكونُ من الحُلَلِ"، وأحمد (3187) مختصَرًا من أوَّلِ قولِه: "اكتُبْ يا عَلِيُّ"، والبيهقي (17186) واللَّفظُ له. صَحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (2656) وقال: على شرط مُسلِم، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (115)، وصحَّح إسنادَه ابن تيمية في ((منهاج السنة)) (8/530)، وابن حجر في ((الدراية)) (2/138)، وحَسَّنه الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (612). .
وقال
جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه: (بَعَثَنا عُثمانُ بنُ عَفَّانَ في خمسينَ راكبًا وأميرُنا محمَّدُ بنُ مَسلَمةَ الأنصاريُّ حتَّى أتينا ذا خُشُبٍ، فإذا رجلٌ مُعَلِّقٌ المُصحَفَ في عُنُقِه، تَذرِفُ عيناه دموعًا، بيَدِه السَّيفُ وهو يقولُ: ألا إنَّ هذا -يعني المُصحَفَ- يأمُرُنا أن نَضرِبَ بهذا -يعني السَّيفَ- على ما في هذا -يعني المُصحَفَ-، فقال محمَّدُ بنُ مَسلَمةَ: اجلِسْ، فقد ضرَبْنا بهذا على ما في هذا قَبْلَك، فجَلَس فلم يَزَلْ يُكَلِّمُهم -أي: ابنُ مَسلَمةَ رَضيَ اللهُ عنه- حتَّى رجَعوا)
[898] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (39/ 322)، ((تحقيق مواقف الصحابة)) لأمحزون (2/198). .
ومن مُناظَراتِ الصَّحابةِ للخَوارِج: ما جرى بَينَ
عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما وبَينَهم؛ حيثُ يقولُ: (لَقِيَني ناسٌ ممَّن كان يَطعَنُ على عُثمانَ ممَّن يرى رأيَ
الخَوارِجِ، فراجَعوني في رأيِهم وحاجُّوني القرآنَ. قال: فلم أقُمْ معهم ولم أقعُدْ، فرجَعْتُ إلى
الزُّبَيرِ منُكَسِرًا، فذكَرتُ ذلك له، فقال
الزُّبَيرُ رَضيَ اللهُ عنه: إنَّ القرآنَ قد تأوَّله كُلُّ قومٍ على رأيِهم وحمَلوه عليه، ولَعَمْرُ اللهِ إنَّ القرآنَ لمُعتَدِلٌ مستقيمٌ، وما التَّقصيرُ إلَّا من قِبَلِهم، ومن طعَنوا عليه من النَّاسِ فإنَّهم لا يَطعَنون على
أبي بكرٍ وعُمَرَ، فخُذْهم بسُنَّتِهما وسِيرتِهما، قال عبدُ اللهِ: فكأنما أيقَظَني بذلك، فلَقِيتُهم فحاجَجْتُهم بسُنَّةِ
أبي بكرٍ وعُمَرَ، فلمَّا أخذتُهم بذلك قهَرْتُهم وضَعُفَ قَولُهم)
[899] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (39/ 479)، ((تحقيق مواقف الصحابة)) لأمحزون (2/198). .
والمُلاحَظُ أنَّ المناقَشةَ وإقامةَ الدَّليلِ والإجابةَ على التَّساؤلاتِ تزيلُ كثيرًا من الشُّبَهِ التي تعترِضُ
الخَوارِجَ وتدعوهم إلى الخُروجِ على الجماعةِ المُسلِمةِ وقِتالِهم، ومن ذلك ما جاء عن يزيدَ الفقيرِ حيثُ قال: (كنتُ قد شغَفَني رأيٌ من رأيِ
الخَوارِجِ [900] يعني: تكفيرَ أصحابِ الكبائِرِ وخُلودَهم في النَّارِ. يُنظر: ((شرح مُسلِم)) للنووي (3/50). ، فخرَجْنا في عصابةٍ ذوي عَدَدٍ نريدُ أن نحُجَّ ثُمَّ نخرُجَ على النَّاسِ، فمَرَرْنا على المدينةِ فإذا
جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ يحَدِّثُ القومَ جالِسًا إلى ساريةٍ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا هو قد ذَكَر الجَهَنَّميِّين، فقُلتُ له: يا صاحِبَ رسولِ اللهِ، ما هذا الذي تحَدِّثون، واللهُ يقولُ:
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران: 192] ،
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 22] فما هذا الذي تقولون؟ فقال: أتقرأُ القُرآنَ؟ قلتُ: نعم. قال: فهل سَمِعتَ بمقامِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يعني الذي يبعَثُه اللهُ فيه؟ قلتُ: نعم. قال: فإنَّه مقامُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المحمودُ الذي يُخرِجُ اللهُ به من يُخرِجُ. ثُمَّ نعَتَ وَضعَ الصِّراطِ ومرورَ النَّاسِ عليه. وأخافُ ألَّا أكونَ أحفَظُ ذاك. غيرَ أنَّه قد زعم أنَّ قومًا يَخرُجون من النَّارِ بَعدَ أن يكونوا فيها، فيَدخُلون نهرًا من أنهارِ الجنَّةِ فيَغتَسِلون فيه فيَخرُجون كأنَّهم القراطيسُ، فرجَعْنا قُلْنا: وَيْحَكم أتَرَونَ الشَّيخَ يَكذِبُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فرجَعْنا، فلا واللهِ ما خَرَج منَّا غيرُ رَجُلٍ واحدٍ)
[901] رواه مُسلِم (191). .