المَطلَبُ الخامسُ: قولُ جُمهورِ الأشاعِرةِ
ذهَب جُمهورُ
الأشاعِرةِ إلى أنَّ الإيمانَ الشَّرعيَّ شيءٌ واحِدٌ لا تعدُّدَ فيه، وهو التَّصديقُ القلبيُّ باللهِ وبنُبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتصديقُه فيما أخبَر به عن اللهِ عزَّ وجلَّ وصفاتِه، وأنبيائِه، واليومِ الآخِرِ؛ فالإيمانُ عندَهم تصديقٌ قلبيٌّ فقط، يعني أنَّ الإيمانَ الشَّرعيَّ عندَهم هو بعَينِه الإيمانُ اللُّغويُّ، إلَّا أنَّ الإيمانَ الشَّرعيَّ خاصٌّ فيما أُمِرْنا بالتَّصديقِ به مِن الأمورِ الشَّرعيَّةِ، واللُّغويَّ عامٌّ، وهذا هو المَذهَبُ المشهورُ عندَ
الأشاعِرةِ [122] يُنظر: ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 22)، ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) (ص: 389، 390) كلاهما للباقلَّاني، ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) للجويني (ص: 415، 416)، ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (5/ 9، 18، 19)، ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص: 310 - 312) كلاهما للآمدي، ((حاشية ابن الأمير على إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 92 - 95)، ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 133 - 136)، ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) للباجوري (ص: 92). .
بعضُ أقوالِ أئمَّةِ الأشاعِرةِ في الإيمانِ:1- قال
أبو الحَسنِ الأشعَريُّ: (إنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ للهِ ولرُسلِه عليهم السَّلامُ في أخبارِهم، ولا يكونُ هذا التَّصديقُ صحيحًا إلَّا بمعرفتِه)
[123] ((أصول الإيمان)) (ص: 248). .
قال الشَّهْرَسْتانيُّ مُبيِّنًا قولَ
أبي الحَسنِ الأشعَريِّ: (قال: الإيمانُ هو التَّصديقُ بالجَنانِ، وأمَّا القولُ باللِّسانِ والعَملُ بالأركانِ ففُروعُه، فمَن صدَّق بالقلبِ، أي: أقرَّ بوَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، واعترَف بالرُّسلِ تصديقًا لهم فيما جاؤوا به مِن عندِ اللهِ تعالى بالقلبِ؛ صحَّ إيمانُه، حتَّى لو مات عليه في الحالِ كان مُؤمِنًا ناجِيًا، ولا يخرُجُ مِن الإيمانِ إلَّا بإنكارِ شيءٍ مِن ذلك)
[124] ((الملل والنحل)) (1/ 101). .
2- قال الباقِلَّانيُّ: (اعلَمْ أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ...، واعلَمْ بأنَّ مَحلَّ التَّصديقِ القلبُ...، وكذلك أيضًا: لا نُنكِرُ أن نُطلِقَ أنَّ الإيمانَ يزيدُ ويَنقُصُ، كما جاء في الكتابِ والسُّنَّةِ؛ لكنَّ النُّقصانَ والزِّيادةَ يرجِعُ في الإيمانِ إلى أحدِ أمرَينِ: إمَّا أن يكونَ ذلك راجِعًا للقولِ والعَملِ دونَ التَّصديقِ؛ لأنَّ ذلك يُتصوَّرُ فيهما معَ بقاءِ الإيمانِ، فأمَّا التَّصديقُ فمتى انخرَم منه أدنى شيءٍ بطَل الإيمانَ)
[125] ((الإنصاف)) (ص: 52). .
3- قال البَغداديُّ: (الطَّاعاتُ عندَنا أقسامٌ: أعلاها يصيرُ بها المُطيعُ عندَ اللهِ مُؤمِنًا، ويكونُ عاقِبتُه لأجْلِها الجنَّةَ إن مات عليها، وهي معرفةُ أصولِ الدِّينِ في العدلِ والتَّوحيدِ والوعدِ والوعيدِ والنُّبوَّاتِ والكراماتِ، ومعرفةُ أركانِ شريعةِ الإسلامِ، وبهذه المعرفةِ يخرُجُ مِن الكُفرِ.
والقِسمُ الثَّاني: إظهارُ ما ذكَرْناه باللِّسانِ مرَّةً واحِدةً، وبه يَسلَمُ مِن الجِزيةِ والقِتالِ والسَّبيِ والاستِرقاقِ، وبه تحِلُّ المُناكَحةُ، واستِحلالُ الذَّبيحةِ، والمُوارَثةُ، والدَّفنُ في مقابِرِ المُسلِمينَ، والصَّلاةُ عليه وخَلْفَه.
والقِسمُ الثَّالثُ: إقامةُ الفرائِضِ واجتِنابُ الكبائِرِ، وبه يَسلَمُ مِن دُخولِ النَّارِ، ويصيرُ به مقبولَ الشَّهادةِ.
والقِسمُ الرَّابعُ منها: زيادةُ النَّوافِلِ، وبها يكونُ له الزِّيادةُ في الكرامةِ والوَلايةِ)
[126] ((أصول الدين)) (ص: 268). .
وفي هذا النَّقلِ يشرَحُ البَغداديُّ مَذهَبَ
الأشاعِرةِ في الإيمانِ، ويُبيِّنُ أنَّ المعرفةَ وَحدَها كافيةٌ عندَهم لخُروجِ المرءِ مِن الكُفرِ، وأنَّ قولَ اللِّسانِ شرطٌ لإجراءِ الأحكامِ الدُّنيويَّةِ، وليس جُزءًا مِن الإيمانِ
[127] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/580)، ((نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السَّلف)) للوهيبي (1/175). .
4- قال
الجُوَينيُّ: (المَرْضيُّ عندَنا أنَّ حقيقةَ الإيمانِ التَّصديقُ باللهِ تعالى؛ فالمُؤمِنُ باللهِ مَن صدَّقه...، والدَّليلُ على أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ صريحُ اللُّغةِ وأصلُ العربيَّةِ، وهذا لا يُنكَرُ، فيُحتاجَ إلى إثباتِه)
[128] ((الإرشاد)) (ص: 397). .
وقد ذهَب
الجُوَينيُّ في بعضِ كُتبِه إلى أنَّ الإيمانَ مُركَّبٌ مِن أمرَينِ: تصديقٍ قلبيٍّ، وإقرارٍ لِسانيٍّ، قال: (المُؤمِنُ على التَّحقيقِ مَن انطوى عَقدًا على المعرفةِ بصِدقِ مَن أخبَر عن صانِعِ العالَمِ وصِفاتِه وأنبيائِه، فإن اعترَف بلِسانِه بما عرَف بجَنانِه فهو مُؤمِنٌ ظاهِرًا وباطِنًا، وإن لم يعترِفْ بلِسانِه مُعانِدًا، لم ينفَعْه عِلمُ قلبِه، وكان في حُكمِ اللهِ مِن الكافِرينَ كُفرَ جُحودٍ وعِنادٍ، وكذلك كان فِرعونُ وكُلُّ مُعانِدٍ جَحودٍ، وكذلك عرَف أحبارُ اليهودِ بنُبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصادَفوا نَعتَه في التَّوراةِ، فجحَدوا بَغيًا وحَسدًا، فأصبَحوا مِن الكافِرينَ، ومَن أظهَر كلمةَ الإيمانِ وأضمَر الكُفرَ، فهو المُنافِقُ الذي يتبوَّأُ الدَّرْكَ الأسفَلَ مِن النَّارِ)
[129] ((العقيدة النظامية)) (ص: 84). .
ف
الجُوَينيُّ في هذا المَوضِعِ وافَق
أبا حَنيفةَ في القولِ بأنَّ الإيمانَ تصديقٌ بالقلبِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، ولا ينفَكُّ أحدُهما عن الآخَرِ إلَّا في حالِ تعذُّرِ النُّطقِ باللِّسانِ، ولكنَّ المَذهَبَ المشهورَ عن
الأشاعِرةِ أنَّه تصديقٌ خاصٌّ
[130] يُنظر: ((الإيمان بين السَّلف والمتكلمين)) لأحمد الغامدي (ص: 152). .
5- قال
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (الإيمانُ هو التَّصديقُ المحضُ، واللِّسانُ تُرجمانُ الإيمانِ)
[131] ((قواعد العقائد)) (ص: 249). .
6- ذكَر الإيجيُّ أنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ عندَ
الأشاعِرةِ. وعندَ
الماتُريديَّةِ هو التَّصديقُ معَ الكلمتَينِ، وعندَ السَّلفِ وأصحابِ الأثرِ: تصديقٌ بالجَنانِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، وعَملٌ بالأركانِ، ثُمَّ قال مُنتصِرًا لمَذهَبِ
الأشاعِرةِ: (لنا وُجوهٌ:
الأوَّلُ: الآياتُ الدَّالَّةُ على مَحلِّيَّةِ القلبِ للإيمانِ، نَحوُ:
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] . و
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106] .
ومنه الآياتُ الدَّالَّةُ على الخَتمِ والطَّبعِ على القُلوبِ، ويُؤيِّدُه دُعاءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اللَّهمَّ ثبِّتْ قلبي على دينِك )) [132] أخرجه من طرُقٍ: الترمذي (2140)، وابن ماجه (3834) واللفظ له، وأحمد (12107) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3834)، وحَسَّنه الترمذي، وقوَّى إسنادَه على شرطٍ مسلمٍ: شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12107). ، وقولُه لأسامةَ وقد قتَل مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ:
((هلَّا شقَقْتَ قَلبَه!)) [133] أخرجه مسلم (96) من حديثِ أسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما بلفظِ: ((أفلا شقَقْتَ عن قلبِه؟!)). .
الثَّاني: جاء الإيمانُ مقرونًا بالعَملِ الصَّالِحِ في غَيرِ مَوضِعٍ مِن الكتابِ، نَحوُ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة: 82] ، فدلَّ على التَّغايُرِ.
الثَّالثُ: أنَّه قُرِن بضدِّ العَملِ الصَّالِحِ، نَحوُ:
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] ، ومنه مفهومُ قولِه:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] .
فإن قيل: فلِمَ لا تجعَلونَه التَّصديقَ باللِّسانِ؛ فإنَّ أهلَ اللُّغةِ لا يعلَمونَ مِن التَّصديقِ إلَّا ذلك؟
قُلْنا: لو فُرِض عَدمُ وَضعِ "صدَّقْتُ" لمعنًى، أو وَضعُه لمعنًى غَيرِ التَّصديقِ؛ لم يكنِ المُتلفِّظُ به مُصدِّقًا قَطعًا؛ فالتَّصديقُ إمَّا معنى هذه اللَّفظةِ أو هذه اللَّفظةِ لدَلالتِها على معناها، فيجِبُ الجزمُ بعِلمِ العُقَلاءِ ضرورةً بالتَّصديقِ القلبيِّ، ويُؤيِّدُه قولُه تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] ، وقولُه:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا... [الحجرات: 14] الآية)
[134] ((المواقف)) (3/527، 528). .
7- قال اللَّقَانيُّ: (فسَّر الإيمانَ -أي: حَدَّه- جُمهورُ
الأشاعِرةِ و
الماتُريديَّةِ وغَيرُهم بالتَّصديقِ المعهودِ شَرعًا، وهو تصديقٌ بنبيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كُلِّ ما عُلِم مجيئُه به مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، أي: فيما اشتهَر بَينَ أهلِ الإسلامِ، وصار العِلمُ به يُشابِهُ العِلمَ الحاصِلَ بالضَّرورةِ؛ بحيثُ يعلَمُه العامَّةُ مِن غَيرِ افتِقارٍ إلى نَظرٍ واستِدلالٍ)
[135] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 90). .
وقال أيضًا: (قال مُحقِّقو
الأشاعِرةِ و
الماتُريديَّةِ وغَيرُهم: النُّطقُ مِن القادِرِ (شرطٌ) في إجراءِ أحكامِ المُؤمِنينَ الدُّنيويَّةِ عليه؛ لأنَّ التَّصديقَ القلبيَّ وإن كان إيمانًا إلَّا أنَّه باطِنٌ خفِيٌّ فلا بُدَّ له مِن علامةٍ ظاهِرةٍ تدُلُّ عليه لتُناطَ به تلك الأحكامُ، هذا فَهمُ الجُمهورِ، وعليه فمَن صدَّق بقلبِه ولم يُقِرَّ بلِسانِه لا لعُذرٍ منَعه، ولا لإباءٍ، بل اتَّفَق له ذلك؛ فهو مُؤمِنٌ عندَ اللهِ، غَيرُ مُؤمِنٍ في أحكامِ الشَّرعِ الدُّنيويَّةِ)
[136] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 94). .