المَطلبُ الخامِسُ: مُعتَقَدُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ في القَدَرِ
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (قُدَماءُ الشِّيعةِ كانوا مُتَّفِقينَ على إثباتِ القدَرِ، وإنَّما شاعَ فيهم نَفيُ القَدَرِ مِن حينِ اتَّصَلوا بالمُعتَزِلةِ)
[1770] ((منهاج السنة)) (2/29). .
وذَكرَ
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا أنَّ ضَلالَهم في بابِ القَدَرِ كان في أواخِرِ المِائةِ الثَّالثةِ، وكثُرَ بَينَهم في المِائةِ الرَّابعةِ لما صَنَّف لهم المُفيدُ وأتباعُه
[1771] يُنظر: ((منهاج السنة)) (1/229). .
ومَعلومٌ أنَّ (سائِرَ عُلماءِ أهلِ البَيتِ مُتَّفِقونَ على إثباتِ القَدَرِ) كغَيرِهم مِن عُلماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ.
وقد ذَكرَ
أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ أنَّ الرَّافِضةَ في أفعالِ العِبادِ ثَلاثُ فِرَقٍ:
1- فِرقَةٌ يقولونَ بأنَّ أعمالَ العِبادِ مَخلوقةٌ للهِ.
2- فِرقَةٌ تَنفي أن تَكونَ أعمالُ العِبادِ مَخلوقةٌ للهِ.
3- فِرقَةٌ تَتَوسَّطُ بَينَهما وتَقولُ: لا جَبرَ كما قال الجَهميُّ، ولا تَفويضَ كما قال المُعتَزِلةُ؛ لأنَّ الرِّوايةَ عن الأئِمَّةِ -كما زَعَموا- جاءت بذلك، ولم يقولوا في أعمالِ العِبادِ هَل هي مَخلوقةٌ أو لا
[1772] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) (1/114، 115). .
واعتَبرَ
ابنُ تَيميَّةَ هذه الطَّائِفةَ مُتَوقِّفةٌ، بَينَما الأولى مُثبِتةٌ، والثَّانيةُ نافيةٌ
[1773] يُنظر: ((منهاج السنة)) (1/286). .
وبالرُّجوعِ إلى مَصادِرِ الشِّيعةِ يتَبَيَّنُ ما يلي:
قال ابنُ بابَويهِ القُمِّيُّ المُلقَّبُ عِندَهم بالصَّدوقِ في عَقائِدِه التي سَجَّلها على أنَّها تُمَثِّلُ عَقائِدَ الشِّيعةِ واشتَهَرت باسمِ عَقائِدِ الصَّدوقِ: (اعتِقادُنا في أفعالِ العِبادِ أنَّها مَخلوقةٌ خَلْقَ تَقديرٍ لا خَلْقَ تَكوينٍ، ومَعنى ذلك أنَّه لم يزَلِ اللهُ عالِمًا بمَقاديرِها)
[1774] ((عقائد الصدوق)) (ص: 75). .
وهذا فيه إثباتُ عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ بأعمالِ العِبادِ فقَط، لا إثباتُ عُمومِ مَشيئَتِه سُبحانَه، وهو لا يقتَضي أنَّ اللهَ خالِقُ أفعالِ العِبادِ، ومَعَ ذلك فقد تَعَقَّبَه شَيخُهم المُفيدُ فقال: (الصَّحيحُ عن آلِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أفعالَ العِبادِ غَيرُ مَخلوقةٍ للهِ، والذي ذَكرَه أبو جَعفرٍ قد جاءَ به حَديثٌ غَيرُ مَعمولٍ به، ولا مَرضيِّ الإسنادِ، والأخبارُ الصَّحيحةُ بخِلافِه، وليسَ يُعرَفُ في لُغةِ العَرَبِ أنَّ العِلمَ بالشَّيءِ هو خَلقٌ له... وقد رُوِيَ عن أبي الحَسَنِ أنَّه سُئِل عن أفعالِ العِبادِ فقيل له: هَل هي مَخلوقةٌ للهِ تعالى؟ فقال عليه السَّلامُ: لو كان خالقًا لها لما تَبَرَّأ منها، وقد قال سُبحانَه:
أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3] ، ولم يُرِدِ البَراءةَ مِن خَلقِ ذَواتِهم، وإنَّما تَبَرَّأ مِن شِركِهم وقَبائِحِهم)
[1775] ((شرح عقائد الصدوق)) (ص: 12، 13). .
والمُفيدُ وإن ذَهَب إلى مَعنى أنَّ العِبادَ خالقونَ لأفعالِهم، إلَّا أنَّه لا يستَحسِنُ هذا التَّعبيرَ فيقولُ: (إنَّ الخَلقَ يفعَلونَ ويُحدِثونَ ويختَرِعونَ ويصنَعونَ ويكتَسِبونَ، ولا أُطلقُ القَولَ عليهم بأنَّهم يخلُقونَ ولا هم خالقونَ، ولا أتَعَدَّى ذِكرَ ذلك فيما ذَكرَه اللهُ تعالى، ولا أتَجاوزُ به مَواضِعَه مِنَ القُرآنِ، وعلى هذا القَولِ إجماعُ الإماميَّةِ والزَّيديَّةِ والبَغداديِّينَ مِنَ المُعتَزِلةِ، وأكثَرِ المُرجِئةِ، وأصحابِ الحَديثِ، وخالف فيه البَصريُّونَ مِنَ المُعتَزِلةِ، وأطلقوا على العِبادِ أنَّهم خالقونَ، فخَرَجوا بذلك عن إجماعِ المُسلمينَ)
[1776] ((أوائل المقالات)) (ص: 25). .
وعَقدَ الحُرُّ العامِليُّ بابًا بعُنوانِ (بابُ أنَّ اللهَ سُبحانَه خالِقُ كُلِّ شَيءٍ إلَّا أفعالَ العِبادِ)
[1777] ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) (ص: 80). ، وقال: (أقولُ: مَذهَبُ الإماميَّةِ والمُعتَزِلةِ أنَّ أفعالَ العِبادِ صادِرةٌ عنهم، وهم خالقونَ لها)
[1778] ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) (ص: 81). .
وقال مُحَمَّد صادِق الطَّبطبائيُّ: (ذَهَبَتِ الإماميَّةُ والمُعتَزِلةُ إلى أنَّ أفعالَ العِبادِ وحَرَكاتِهم واقِعةٌ بقُدرَتِهم واختيارِهم، فهم خالقونَ لها، وما في الآياتِ مِن أنَّه تعالى خالِقُ كُلِّ شَيءٍ وأمثالِها إمَّا مُخَصَّصٌ بما سِوى أفعالِ العِبادِ، أو مُؤَوَّلٌ بأنَّ المَعنى أنَّه خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، إمَّا بلا واسِطةٍ أو بواسِطةِ مَخلوقاتِه)
[1779] ((مجالس الموحدين في بيان أصول الدين)) (ص: 21). .
وغيرُ هؤلاء كثيرٌ
[1780] يُنظر: ((نهج المسترشدين)) (ص: 52)، ((كشف المراد)) (ص: 332) كلاهما لابن المطهر الحلي. ويُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (4/148). ، وهو عَينُ مَذهَبِ أهلِ الاعتِزالِ الذينَ جَعَلوا العِبادَ خالقينَ لأفعالِهم، ومَعلومٌ أنَّه لا خالقَ إلَّا اللهُ، وقد قال اللهُ سُبحانَه:
وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] ، فهَل مَقالةُ هؤلاء طارِئةٌ على المَذهَبِ الشِّيعيِّ أو أنَّ هذا هو مَذهَبُ الأقدَمينَ ومَن بَعدَهم؟
نَجِدُ في مَصادِرِ الشِّيعةِ القديمةِ المُعتَمَدةِ في الرِّوايةِ عِندَهم مَجموعةً كبيرةً مِنَ الرِّواياتِ تُخالِفُ ما هو شائِعٌ عن مَذهَبِ الشِّيعةِ مِنَ القَولِ بمَذهَبِ المُعتَزِلةِ في أفعالِ العِبادِ.
ففي رِوايةٍ عن أبي جَعفرٍ الباقِرِ وأبي عَبدِ اللهِ أنَّهما قالا: (إنَّ اللهَ أرحَمُ بخَلقِه مِن أن يَجبُرَ خَلقَه على الذُّنوبِ، ثُمَّ يُعَذِّبَهم عليها، واللهُ أعَزُّ مِن أن يُريدَ أمرًا فلا يكونَ، فسُئِلَا: هَل بَيْنَ الجَبرِ والقَدَرِ مَنزِلةٌ ثالثةٌ؟ قالا: (نَعَمْ، أوسَعُ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ)
[1781] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/159). .
يعني أنَّ بَيْنَ القَولِ بالجَبرِ والقَولِ بنَفيِ القدَرِ مَنزِلةً ثالثةً وَسَطًا.
وجاءت عِندَهم مَجموعةٌ مِنَ الرِّواياتِ تَقولُ بأنَّ مَذهَبَهم في القَدَرِ هو أمرٌ بَيْنَ الأمرَينِ، لا جَبرٌ ولا تَفويضٌ
[1782] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/155). ويُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (5/22، 56)، ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) للعاملي (ص: 72). .
قال المَجلِسيُّ: (اعلَمْ أنَّ الذي استَفاضَ عن الأئِمَّةِ هو نَفيُ الجَبرِ والتَّفويضِ، وإثباتُ أمرٍ بَيْنَ الأمرَينِ)
[1783] ((بحار الأنوار)) (5/82). .
ونَفيُ الجَبرِ واضِحُ القَصدِ، وهو الخُروجُ عن مَذهَب الجَبريَّةِ، ولكِن ماذا يُريدونَ بالتَّفويضِ؟
قال المَجلِسيُّ: (أمَّا التَّفويضُ فهو ما ذَهَبَ إليه المُعتَزِلةُ مِن أنَّه تعالى أوجَدَ العِبادَ وأقدَرَهم على تلك الأفعالِ، وفوَّضَ إليهم الاختيارَ، فهم مُستَقِلُّونَ بإيجادِها وَفقَ مَشيئَتِهم وقُدرَتِهم، وليسَ للهِ في أفعالِهم صُنعٌ)
[1784] ((بحار الأنوار)) (5/83). .
كذلك عِندَهم رِواياتٌ أُخرى تَنتَقِدُ مَذهَبَ المُعتَزِلةِ، وتُشَنِّعُ على القائِلينَ به، فهو رَدٌّ على الشِّيعةِ نَفسِها في سُلوكِها مَسلَكَ المُعتَزِلةِ، فجاءَ في رِوايةٍ عن بَعضِ أئِمَّتِهم أنَّه قال: (القدَريَّةُ الذينَ يقولونَ: لا قدَرَ، ويزعُمونَ أنَّهم قادِرونَ على الهدى والضَّلالةِ، وذلك إليهم إن شاؤوا اهتَدَوا، وإن شاؤوا ضَلُّوا، وهم مَجوسُ هذه الأُمَّةِ، وكذَبَ أعداءُ اللهِ؛ المَشيئةُ والقُدرةُ للهِ
كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [الأعراف: 29-30] )
[1785] يُنظر: ((تفسير القمي)) (1/226). .
وقال أبو عَبدِ اللهِ: (إنَّك لتَسألُ عن كلامِ أهلِ القَدَرِ، وما هو مِن ديني ولا دينِ آبائي، ولا وجَدتُ أحَدًا مِن أهلِ بَيتي يقولُ به)
[1786] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (5/56). .
وقال أيضًا: (وَيحَ هذه القَدَريَّةِ! أمَا يقرؤون هذه الآيةَ:
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] ، وَيحَهم! من قدَّرها إلَّا اللهُ تبارك وتعالى)
[1787] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (5/56). ، ورِواياتٌ أُخرى كثيرةٌ في كُتُبِ الشِّيعةِ تَرُدُّ على المُعتَزِلةِ
[1788] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (5/116) وما بعدها. .
وهذه الرِّواياتُ تُعَبِّرُ عن مَذهَبِ الأئِمَّةِ في إثباتِ القَدَرِ، وقد تُشيرُ إلى ما عليه قُدَماءُ الشِّيعةِ مِنَ الإثباتِ، وقد أعرَضَ عن هذه الرِّواياتِ الشِّيعةُ المُتَأخِّرونَ تَقليدًا لأهلِ الاعتِزالِ، وأغمَضوا النَّظَرَ عَمَّا يُعارِضُ ذلك مِن رِواياتٍ كثيرةٍ في كُتُبِهم المُعتَمَدةِ عِندَهم، وجَعل الشِّيعةُ المُتَأخِّرونَ مِن أُصولِ مَذهَبِهم العَدلَ كالمُعتَزِلةِ سَواءً بسَواءٍ، ويعنونَ بها إنكارَ القَدَرِ، فينفونَ عن اللهِ عَزَّ وجَلَّ خَلقَ الشَّرَّ، ومَعلومٌ أنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وأنَّه خَلقَ إبليسَ، وخَلَق النَّارَ، وقال اللهُ سُبحانَه:
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق: 2] .
فالشِّيعةُ المُتَأخِّرونَ يُقَرِّرونَ أنَّ نَفيَ القَدَرِ -الذي يُسَمُّونَه العَدلَ كالمُعتَزِلةِ- مِن أركانِ الإيمانِ، ومِن أُصولِ الإسلامِ
[1789] يُنظر: ((الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة)) لهاشم معروف (ص: 240)، ((عقيدة المؤمن)) لعبد الأمير قبلان (ص: 43). ، مَعَ أنَّ أقوالَ الأئِمَّةِ -كما أثبَتَته كُتُبُهم المُعتَمَدةُ عِندَهم- لا تُصَرِّحُ بنَفيِ القَدَرِ في أكثَرِ رِواياتِهم، بل تُهاجِمُ المُعتَزِلةَ، وتَنتَقِدُ مَذهَبَهم في القَدَرِ، كما تُقَرِّرُ جُملةً أنَّ الحَقَّ ليس مَعَ المُعتَزِلةِ القدَريَّةِ، ولا مَعَ الجَبريَّةِ، بل الحَقُّ مَنزِلةٌ أُخرى ثالثةٌ، وهذا حَقٌّ، ولكِنَّ تَفسيرَ هذه المَنزِلةِ أو الأمرِ بَيْنَ الأمرَينِ ما هو؟
لقد أحجَمَتْ بَعضُ رِواياتِهم عن تَفسيرِ هذا، واكتَفَت بإطلاقِ هذا القَولِ، ولمَّا سُئِل أبو عَبدِ اللهِ عن مَعناه لم يُجِبْ، وقالت رِواياتُهم في وصفِ مَوقِفِه مِن هذا السُّؤالِ: (فقَلَّبَ يدَه مَرَّتَينِ أو ثَلاثًا، ثُمَّ قال: لو أجَبتُك فيه لكفَرْت!)
[1790] يُنظر: ((التوحيد)) لابن بابويه (ص: 363). .
وقد حَمَل المَجلِسيُّ هذا المَوقِفَ مِن جَعفَرٍ على التَّقيَّةِ (لأنَّه كان يعلمُ أنَّه لا يُدرِكُه عَقلُ السَّائِلِ، فيشُكُّ فيه أو يجحَدُه، فيكفُرُ)
[1791] ((بحار الأنوار)) (5/53). .
وذَكرَ الصَّدوقُ رِوايةً توضِّحُ الأمرَ بَيْنَ الأمرَينِ بمِثالٍ، وهي: قيل لأبي عَبدِ اللهِ: (ما أمرٌ بَيْنَ الأمرَينِ؟ فقال: ذلك مِثلُ رَجُلٍ رَأيتَه على المَعصيةِ فنَهَيتَه فلم ينتَهِ، فتَرَكتَه ففعَل تلك المَعصيةَ، فليسَ حَيثُ لا يقبَلُ مِنك فتَرَكتَه كُنتَ أنتَ الذي أمَرتَه بالمَعصيةِ)
[1792] يُنظر: ((عقائد الصدوق)) (ص: 75). .
وقال مُحَمَّد رِضا المُظَفَّرُ بَعدَما ذَكرَ ضَلالَ الجَبريَّةِ والقدَريَّةِ فيما ذَهَبوا إليه: (اعتِقادُنا في ذلك تَبَعٌ لما جاءَ عن أئِمَّتِنا الأطهارِ عليهم السَّلامُ مِنَ الأمرِ بَيْنَ الأمرَينِ، والطَّريقِ الوسَطِ بَيْنَ القَولينِ، فقد قال إمامُنا الصَّادِقُ عليه السَّلامُ لبَيانِ الطَّريقِ الوسَطِ كلمَتَه المَشهورةَ: "لا جَبرَ ولا تَفويضَ، ولكِن أمرٌ بَيْنَ الأمرَينِ"، ما أجمَلَ هذا المَغزى، وما أدَقَّ مَعناه! وخُلاصَتُه: أنَّ أفعالَنا مِن جِهةٍ هي أفعالُنا حَقيقةً، ونحن أسبابُها الطَّبيعيَّةُ، وهي تَحتَ قُدرتِنا واختيارِنا، ومِن جِهةٍ أُخرى هي مقدورةٌ للهِ تعالى وداخِلةٌ في سُلطانِه؛ لأنَّه هو مُفيضُ الوُجودِ ومُعطيه، فلم يَجبُرْنا على أفعالِنا حتَّى يكونَ قد ظَلمَنا على المَعاصي؛ لأنَّ لنا القُدرةَ والاختيارَ فيما نَفعَلُ، ولم يُفوِّضْ إلينا خَلقَ أفعالِنا حتَّى يكونَ قد أخرَجَها عن سُلطانِه، بل له الخَلقُ والأمرُ، وهو قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ، ومُحيطٌ بالعِبادِ)
[1793] ((عقائد الإمامية)) (ص: 67). ويُنظر: ((عقائد الشيعة الإمامية الاثني عشرية)) للزنجاني (3/175-176). .
وهذا الكلامُ يوافِقُ ما قاله أهلُ السُّنَّةِ في بابِ أفعالِ العِبادِ، وهو يُفيدُ أنَّ مِن شُيوخِ الشِّيعةِ المُتَأخِّرينَ مَن يذهَبُ إلى ما ذَهَبَ إليه أوائِلُهم، وما قَرَّرَتْه مُعظَمُ رِواياتِهم مِن إثباتِ القَدَرِ، وهذا لا ينفي أنَّ أكثَرَ شُيوخِ المَذهَبِ الشِّيعيِّ وأساطينِ الطَّائِفةِ الإماميَّةِ قد ذَهَبوا في الغالبِ إلى ما ذَهَبَ إليه أهلُ الاعتِزالِ، والظَّاهرُ أنَّ إثباتَ القدَرِ عِندَهم كان هو الأصلَ، والنَّفيُ طارِئٌ نَتيجةَ التَّأثُّرِ بالاتِّجاهِ الاعتِزاليِّ، وصارَ عِندَ المُتَأخِّرينَ مِنَ الشِّيعةِ نَفيُ القَدَرِ هو الكثيرَ الغالبَ، والإثباتُ مَوجودٌ عِند بَعضِهم، واللهُ تعالى أعلَمُ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (جُمهورُ أهلِ السُّنَّةِ مِنَ السَّلفِ والخَلفِ يقولونَ: إنَّ العَبدَ له قُدرةٌ وإرادةٌ وفِعلٌ، واللهُ خالِقُ ذلك كُلِّه، كما هو خالقُ كُلِّ شَيءٍ، كما دَلَّ على ذلك الكِتابُ والسُّنَّةُ)
[1794] ((منهاج السنة)) (1/20). .