المَبحَثُ الأوَّلُ: مَراتِبُ الصُّوفيَّةِ
يُعنى هذا المَبحَثُ بتَسليطِ الضَّوءِ على مَراتِبِ الصُّوفيَّةِ وطَبَقاتِهم وأعدادِهم، وما يَتَعَلَّقُ بها، من خِلالِ كُتُبِ أئِمَّتِهم وغَيرِها منَ المَراجِعِ التي تَناوَلت ذلك
[56] يُنظر: ((الصوفية المنشأ والمصادر)) لظهير (ص: 231). .
فذَكَرَ لسانُ الدِّينِ ابنُ الخَطيبِ أنَّ مَراتِبَ الصُّوفيَّةِ هي: (الأبدالُ، والأقطابُ، والأوتادُ، والعُرَفاءُ، والنُّجَباءُ، والنُّقَباءُ، وسَيِّدُهمُ الغَوثُ)
[57] ((روضة التعريف)) (ص: 432). .
وقال الهُجويريُّ: إنَّهم (أهلُ الحَلِّ والعَقدِ، وقادةُ حَضرةِ الحَقِّ جَلَّ جَلالُه، فثَلاثُمِائةٍ يُدْعَونَ الأخيارَ، وأربَعونَ آخَرونَ يُسَمَّونَ الأبدالَ، وسَبعةٌ آخَرونَ يُقالُ لهم: الأبرارُ، وأربَعةٌ يُسَمَّونَ الأوتادَ، وثَلاثةٌ آخَرونَ يُقالُ لهم: النُّقَباءُ، وواحِدٌ يُسَمَّى القُطبَ والغَوثَ. وهؤلاء جَميعًا يَعرِفونَ أحَدُهمُ الآخَرَ، ويَحتاجونَ في الأمورِ لإذنِ بَعضِهمُ البَعض)
[58] ((كشف المحجوب)) (ص: 447، 448). .
ونَحوُ ذلك أيضًا ما ذَكَرَه الجُرجانيُّ في تَعريفاتِه، فقال: (القُطبُ، وهو الغَوثُ: عِبارةٌ عنِ الواحِدِ الذي هو مَوضِعُ نَظَرِ اللَّهِ منَ العالمِ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ، وهو على قَلبِ إسرائيلَ عليه السَّلامُ.
الإمامانِ: هما شَخصانِ، أحَدُهما عن يَمينِ الغَوثِ ونَظَرُه في المَلكوتِ، والآخَرُ عن يَسارِه، ونَظَرُه في الملكِ، وهو أعلى من صاحِبِه، وهو الذي يَخلُفُ الغَوثَ.
الأوتادُ: عِبارةٌ عن أربَعةِ رِجالٍ مَنازِلُهم على مَنازِلِ أربَعةِ أركانٍ منَ العالَمِ: شَرقٌ وغَربٌ وشَمالٌ وجَنوبٌ، مَعَ كُلِّ واحِدٍ منهم مَقامُ تلك الجِهةِ.
البُدَلاءُ: هم سَبعةٌ، ومَن سافرَ منَ القَومِ من مَوضِعِه وتَرَكَ جَسَدًا على صورَتِه حتَّى لا يَعرِفَ أحَدٌ أنَّه فُقِدَ، فذلك هو البَدَلُ لا غَيرُ، وهم على قَلبِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ.
النُّجَباءُ: أربَعونَ، وهمُ المَشغولونَ بحَملِ أثقالِ الخَلقِ، فلا يَتَصَرَّفونَ إلَّا في حَقِّ الغَيرِ.
النُّقَباءُ: همُ الذينَ استَخرَجوا خَبايا النُّفوسِ، وهم ثَلاثُمِائةٍ)
[59] ((التعريفات)) (ص: 154). .
وقال ابنُ عَرَبيٍّ: (المَجمَعُ عليه من أهلِ الطَّريقِ أنَّهم على سِتِّ طَبَقاتٍ أمَّهاتٍ: أقطابٌ، وأئِمَّةٌ، وأوتادٌ، وأبدالٌ، ونُقَباءُ، ونُجَباءُ)
[60] ((الفتوحات المكية)) (2/40). .
ومِثلُ ذلك ورَد في (الوصيَّةِ الكُبرى) لشَيخِ العروسيَّةِ عَبدِ السَّلامِ الفيتوريِّ
[61] يُنظر: ((الوصية الكبرى)) (ص: 48). ، وفي (جامِعِ الأصولِ في الأولياءِ) للكُمُشخانَويِّ
[62] يُنظر: ((جامع الأصول في الأولياء)) (ص: 107). ، وفي (طَبَقاتِ الصُّوفيَّةِ) للسُّلَميِّ
[63] يُنظر: ((طبقات الصوفية)) (ص: 57). .
وفي كَلامِ داوُدَ بنِ مَحمودٍ القَيصَريِّ زيادةُ تَوضيحٍ لهذا الأمرِ، فقال: (ولهم مَراتِبُ:
الأولى: مَرتَبةُ القُطبيَّةِ، ولا يَكونُ فيها أبَدًا إلَّا واحِدًا بَعدَ واحِدٍ، ويُسَمَّى غَوثًا؛ لكَونِه مُغيثًا للخَلقِ في أحوالِهم.
ثمَّ مَرتَبةُ الإمامَينِ، وهما كالوزيرَينِ للسُّلطانِ، أحَدُهما صاحِبُ اليَمينِ، وهو المُتَصَرِّفُ بإذنِ القُطبِ في عالمِ المَلكوتِ والغَيبِ، وثانيهما: صاحِبُ اليسارِ، وهو المُتَصَرِّفُ في عالمِ المُلكِ والشَّهادةِ. وعِندَ ارتِحالِ القُطبِ إلى الآخِرةِ لا يَقومُ مَقامَه منهما إلَّا صاحِبُ اليسارِ؛ لكَونِه أكمَلَ في السَّيرِ من صاحِبِ اليَمينِ؛ لأنَّه بَعدَ ما نَزَل في السَّيرِ من عالمِ المَلكوتِ إلى عالمِ المُلكِ، وصاحِبُ اليسارِ نَزَل إليه، وكَمُلت دائِرَتُه في السَّيرِ والوُجودِ.
ثمَّ مَرتَبةُ الأربَعةِ، كالأربَعةِ منَ الصَّحابةِ رِضيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ.
ثمَّ مَرتَبةُ البُدَلاءِ السَّبعةِ، الحافِظينَ للأقاليمِ السَّبعةِ، وكُلٌّ منهم قُطبٌ للإقليمِ الخاصِّ به.
ثمَّ مَراتِبُ الأولياءِ العَشَرةِ، كالعَشَرةِ المُبَشَّرةِ.
ثمَّ مَراتِبُ الاثنَي عَشَرَ، الحاكِمينَ على البُروجِ الاثنَي عَشَرَ، وما يَتَعَلَّقُ بها ويَلزَمُها من حَوادِثِ الأكوانِ.
ثمَّ العِشرينَ والأربَعينَ والتِّسعةِ والتِّسعينَ، مَظاهِرُ الأسماءِ الحُسنى، إلى الثَّلاثمِائةِ والسِّتِّينَ. وهؤلاء قائِمونَ في العالمِ على سَبيلِ البَدَلِ، في كُلِّ زَمانٍ، ولا يَزيدُ عَدَدُهم ولا يَنقُصُ إلى يَومِ القيامةِ. وغَيرُهم منَ الأولياءِ يَزيدونَ ويَنقُصونَ، بحَسبِ ظُهورِ التَّجَلِّي الإلهيِّ وخَفائِه.
وبَعدَهم: مَرتَبةُ الزُّهَّادِ والعُبَّادِ والعُلَماءِ منَ المُؤمنينَ، الكائِنينَ في كُلِّ زَمانٍ إلى يَومِ الدِّينِ.
وجَميعُ هؤلاء المَذكورينَ داخِلونَ في حُكمِ القُطبِ.
والأفرادُ الكُمَّلُ الذينَ تُعادِلُ مَرتَبَتُهم مَرتَبةَ القُطبِ إلَّا في الخِلافةِ، همُ الخارِجونَ مِن حُكمِه؛ فإنَّهم يَأخُذونَ منَ اللهِ سُبحانَه ما يَأخُذونَ منَ المَعاني والأسرارِ الإلهيَّةِ بخِلافِ الدَّاخِلينَ في حُكمِه؛ فإنَّهم لا يَأخُذونَ شَيئًا إلَّا منه)
[64] ((رسائل القيصري)) (ص: 52، 53). .
وتلك المَراتِبُ والأعدادُ شَبيهةٌ بما عِندَ الشِّيعةِ، وخاصَّةً الإسماعيليَّةَ والنُّصَيريَّةَ منهم، كما قال ابنُ تيميَّةَ: (وأمَّا الأسماءُ الدَّائِرةُ على ألسِنةِ كَثيرٍ منَ النُّسَّاكِ والعامَّةِ، مِثلُ الغَوثِ الذي يَكونُ بمَكَّةَ، والأوتادِ الأربَعةِ، والأقطابِ السَّبعةِ، والأبدالِ الأربَعينَ، والنُّجَباءِ الثَّلاثمِائةِ، فهذه الأسماءُ ليست مَوجودةً في كِتابِ اللهِ، ولا هي أيضًا مَأثورةٌ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإسنادٍ صَحيحٍ ولا ضَعيفٍ مُحتَمَلٍ، إلَّا لفظُ الأبدالِ؛ فقد رويَ فيهم حَديثٌ شاميٌّ مُنقَطِعُ الإسنادِ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ مَرفوعًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إنَّ فيهم -يَعني أهلَ الشَّامِ- الأبدالَ أربَعينَ رَجُلًا، كُلَّما ماتَ رَجُلٌ أبدَلَه اللهُ مَكانَه رَجُلًا)) [65] أخرجه أحمد (896)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (484) باختلافٍ يسيرٍ، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (1/289) دونَ قَولِه: (كلَّما مات رجلٌ ...). ضعَّفه الألباني في ((ضعيف الجامع)) (2266)، وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4/608): لا يصِحُّ، وضَعَّف إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/171)، وقال ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (1/289): منقطعٌ، وقال ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (11/434): منقطِعُ الإسنادِ، وقال ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (6/227): فيه انقطاعٌ. ، ولا توجَدُ هذه الأسماءُ في كَلامِ السَّلَفِ كما هي على هذا التَّرتيبِ... وهذا من جِنسِ دَعوى الرَّافِضةِ أنَّه لا بُدَّ في كُلِّ زَمانٍ من إمامٍ مَعصومٍ يَكونُ حُجَّةَ اللهِ على المُكَلَّفينَ لا يَتِمُّ الإيمانُ إلَّا به، ثمَّ مَعَ هذا يَقولونَ: إنَّه كان صَبيًّا دَخَل السِّردابَ من أكثَرَ من أربَعِمِائةٍ وأربَعينَ سَنةً، ولا يُعرَفُ له عَينٌ ولا أثَرٌ، ولا يُدرَكُ له حِسٌّ ولا خَبَرٌ!
وهؤلاء الذينَ يَدَّعونَ هذه المَراتِبَ فيهم مُضاهاةٌ للرَّافِضةِ من بَعضِ الوُجوهِ، بل هذا التَّرتيبُ والأعدادُ تُشبِهُ مِن بَعضِ الوُجوهِ تَرتيبَ الإسماعيليَّةِ والنُّصَيريَّةِ ونَحوِهم في السَّابقِ والتَّالي والنَّاطِقِ والأساسِ والحَدِّ، وغَيرِ ذلك منَ التَّرتيبِ الذي ما نَزَّل اللهُ به من سُلطانٍ. وأمَّا الأوتادُ فقد يوجَدُ في كَلامِ البَعضِ أنَّه يقولُ: فلانٌ منَ الأوتادِ، يَعني بذلك أنَّ اللهَ تعالى يُثَبِّتُ به الإيمانَ والدِّينَ في قُلوبِ مَن يهديهمُ اللهُ به كما يُثبِّتُ الأرضَ بأوتادِها، وهذا المَعنى ثابتٌ لكُلِّ مَن كان بهذه الصِّفةِ منَ العُلماءِ؛ فكُلُّ مَن حَصَل به تَثبيتُ العِلمِ والإيمانِ في جُمهورِ النَّاسِ كان بمَنزِلةِ الأوتادِ العَظيمةِ والجِبالِ الكَبيرةِ، ومَن كان بدونِه كان بحَسَبِه، وليس ذلك مَحصورًا في أربَعةٍ ولا أقَلَّ ولا أكثَرَ، بل جَعْلُ هؤلاء أربَعةً مُضاهاةٌ بقَولِ المُنَجِّمينَ في أوتادِ الأرضِ.
وأمَّا القُطبُ فيوجَدُ أيضًا في كَلامِهم فُلانٌ منَ الأقطابِ أو فُلانٌ قُطبٌ، فكُلُّ مَن دارَ عليه أمرٌ من أمورِ الدِّينِ أوِ الدُّنيا باطِنًا أو ظاهرًا فهو قُطبُ ذلك الأمرِ ومَدارُه، سَواءٌ كان الدَّائِرُ عليه أمرَ دارِه أو دَربِه أو قَريَتِه أو مَدينَتهِ، أمرَ دينِها أو دُنياها باطِنًا أو ظاهرًا، ولا اختِصاصَ لهذا المَعنى بسَبعةٍ ولا أقَلَّ ولا أكثَرَ، لكِنَّ المَمدوحَ من ذلك من كان مَدارًا لصَلاحِ الدُّنيا والدِّينِ دونَ مُجَرَّدِ صَلاحِ الدُّنيا؛ فهذا هو القُطبُ في عُرفِهم، فقد يَتَّفِقُ في بَعضِ الأعصارِ أن يَكونَ شَخصٌ أفضلَ أهلِ عَصرِه، وقد يَتَّفِقُ في عَصرٍ آخَرَ أن يَتَكافَأَ اثنانِ أو ثَلاثةٌ في الفَضلِ عِندَ اللهِ سَواءً، ولا يَجِبُ أن يَكونَ في كُلِّ زَمانٍ شَخصٌ واحِدٌ هو أفضَلُ الخَلقِ عِندَ اللهِ مُطلقًا.
وكذلك لفظُ البَدلِ جاءَ في كَلامِ كَثيرٍ منهم، فأمَّا الحَديثُ المَرفوعُ فالأشبَهُ أنَّه ليس من كَلامِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ؛ فإنَّ الإيمانَ كان بالحِجازِ وباليَمَنِ قَبلَ فُتوحِ الشَّامِ، وكانتِ الشَّامُ والعِراقُ دارَ كُفرٍ، ثمَّ لمَّا كان في خِلافةِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قد ثَبَتَ عنه عليه السَّلامُ أنَّه قال:
((تَمرُقُ مارِقةٌ منَ المُسلمينَ تَقتُلُهم أَولى الطَّائِفتَينِ بالحَقِّ)) [66] لم نَقِفْ عَليه من حَديثِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. وأخرَجَه مُسلم (1065) باختِلافٍ يَسيرٍ من حَديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فكان عليٌّ وأصحابُه أَولى بالحَقِّ مِمَّن قاتَلهم من أهلِ الشَّامِ، ومَعلومٌ أنَّ الذينَ كانوا مَعَ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه منَ الصَّحابةِ -مِثلُ عَمَّارِ بنِ ياسِرٍ، وسَهلِ بنِ حُنَيفٍ، ونَحوِهما- كانوا أفضَلَ منَ الذينَ كانوا مَعَ مُعاويةَ، وإن كان سَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ ونَحوُه منَ القاعِدينَ أفضَلَ مِمَّن كان مَعَهما، فكيف يُعتَقَدُ مَعَ هذا أنَّ الأبدالَ جَميعَهمُ الذينَ هم أفضَلُ الخَلقِ كانوا في أهلِ الشَّامِ؟ هذا باطِلٌ قَطعًا، وإن كان قد ورَدَ في الشَّامِ وأهلِه فضائِلُ مَعروفةٌ، فقد جَعَل اللهُ لكُلِّ شَيءٍ قَدْرًا.
والكَلامُ يَجِبُ أن يَكونَ بالعِلمِ والقِسطِ؛ فمن تَكَلَّمَ في الدِّينِ بغَيرِ عِلمٍ دَخَل في قَولِه تعالى:
وَلَا تَقِفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: 36] ، وفي قَولِه تعالى:
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169] ، ومَن تَكَلَّمَ بقِسطٍ وعَدلٍ دَخَل في قَولِه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء: 135] ، وفي قَولِه تعالى:
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام: 152] ، وفي قَولِه تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] ، والذينَ تَكَلَّموا باسمِ البَدَلِ فسَّروه بمَعانٍ: منها أنَّهم أبدالُ الأنبياءِ، ومنها أنَّه كُلَّما ماتَ منهم رَجُلٌ أبدَل اللهُ تعالى مَكانَه رَجُلًا، ومنها أنَّهم أبدَلوا السَّيِّئاتِ من أخلاقِهم وأعمالِهم وعَقائِدِهم بحَسَناتٍ. وهذه الصِّفاتُ كُلُّها لا تَختَصُّ بأربَعينَ ولا بأقَلَّ ولا بأكثَرَ، ولا تُحصَرُ بأهلِ بُقعةٍ منَ الأرضِ، وبهذا التَّحريرِ يَظهَرُ المَعنى في اسمِ النُّجَباءِ، فالغَرَضُ أنَّ هذه الأسماءَ تارةً تُفسَّرُ بمَعانٍ باطِلةٍ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ، مِثلُ تَفسيرِ بَعضِهمُ الغَوثَ: هو الذي يُغيثُ اللهُ به أهلَ الأرضِ في رِزقِهم ونَصرِهم، فإنَّ هذا نَظيرُ ما تَقولُه النَّصارى في البابِ، وهو مَعدومُ العَينِ والأثَرِ، شَبيهٌ بحالِ المُنتَظَرِ الذي دَخَل السِّردابَ من نَحوِ أربَعِمائةٍ وأربَعينَ سَنةً. وكذلك مَن فسَّرَ الأربَعينَ الأبدالَ بأنَّ النَّاسَ إنَّما يُنصَرونَ ويُرزَقونَ بهم، فذلك باطِلٌ، بل النَّصرُ والرِّزقُ يحصُلُ بأسبابٍ مِن آكَدِها دُعاءُ المُؤمنينَ وصَلاتُهم وإخلاصُهم. ولا يَتَقَيَّدُ ذلك لا بأربَعينَ ولا بأقَلَّ ولا بأكثَرَ، كما جاءَ في الحَديثِ المَعروفِ أنَّ سَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ قال: يا رَسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يَكونُ حاميةَ القَومِ أيُسهَمُ له مِثلَ ما يُسهَمُ لأضعَفِهم؟ فقال:
((يا سَعدُ، وهل تُنصَرونَ وتُرزَقونَ إلَّا بضُعَفائِكُم؟)) [67] أخرجه من طُرُقٍ: أحمد (1493)، وعبد الرَّزَّاق (9691)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (2249) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولفظُ أحمَدَ: عن سَعدِ بنِ مالكٍ قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يَكونُ حاميةَ القَومِ، أيكونُ سَهمُه وسَهمُ غَيرِه سَواءً؟ قال: ثَكِلَتك أمُّك يا ابنَ أمِّ سَعدٍ، وهل تُرزَقونَ وتُنصَرونَ إلَّا بضُعَفائِكم؟ قال ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (11/442): معروفٌ، وحَسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (1493)، وضعَّف إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (3/51)، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (6/105)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (8/104): مُرسَلٌ. والحديثُ أصلُه في صحيح البخاري (2896) عن مُصعَبِ بنِ سَعدٍ قال: رَأى سَعدٌ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ له فضلًا على مَن دُونَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل تُنصَرونَ وتُرزَقونَ إلَّا بضُعَفائِكُم؟)). بدُعائِهم وصَلاتِهم وإخلاصِهم، وقد يَكونُ للرِّزقِ والنَّصرِ أسبابٌ أُخَرُ؛ فإنَّ الفُجَّارَ والكُفَّارَ أيضًا يُرزَقونَ ويُنصَرونَ، وقد يُجدِبُ الأرضَ على المُؤمنينَ ويُخيفُهم مِن عَدُوِّهم ليُنيبوا إليه ويَتوبوا من ذُنوبِهم، فيَجمَعَ لهم بَينَ غُفرانِ الذُّنوبِ وتَفريجِ الكُروبِ. وقد يُملي للكُفَّارِ ويُرسِلُ السَّماءَ عليهم مِدرارًا، ويَمدِدُهم بأموالٍ وبَنينَ ويَستَدرِجُهم من حَيثُ لا يَعلَمونَ؛ إمَّا ليَأخُذَهم في الدُّنيا أخْذَ عَزيزٍ مُقتَدِرٍ، وإمَّا ليُضعِّفَ عليهمُ العَذابَ في الآخِرةِ، فليس كُلُّ إنعامٍ كَرامةً، ولا كُلُّ امتِحانٍ عُقوبةً؛ قال اللهُ تعالى:
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر: 15-17] ، وليس في أولياءِ اللهِ المُتَّقينَ ولا عِبادِ اللَّهِ المُخلِصينَ الصَّالحينَ ولا أنبيائِه المُرسَلينَ مَن كان غائِبَ الجَسَدِ دائِمًا عن أبصارِ النَّاسِ، بل هذا من جِنسِ قَولِ القائِلينَ: إنَّ عَليًّا في السَّحابِ، وإنَّ مُحَمَّدَ بنَ الحَنَفيَّةِ في جِبالِ رَضوى، وإنَّ مُحَمَّدَ بنَ الحَسَنِ بسِردابِ سامريٍّ، وإنَّ الحاكِمَ بجَبَلِ مِصرَ، وإنَّ الأبدالَ الأربَعينَ رِجالَ الغَيبِ بجَبَلِ لُبنانَ؛ فكُلُّ هذا ونَحوُه من قَولِ أهلِ الإفكِ والبُهتانِ. نَعَم، قد تُخرَقُ العادةُ في حَقِّ الشَّخصِ فيَغيبُ تارةً عن أبصارِ النَّاسِ إمَّا لدَفعِ عَدوٍّ عنه، وإمَّا لغَيرِ ذلك. وإمَّا أنَّه يَكونُ هكذا طولَ عُمرِه فباطِلٌ. نَعَم، يَكونُ نورُ قَلبِه وهدى فُؤادِه وما فيه من أسرارِ اللهِ تعالى وأمانَتِه وأنوارِه ومَعرِفتِه غَيبًا عن أعيُنِ النَّاسِ، ويَكونُ صَلاحُه ووِلايَتهُ غَيبًا عن أكثَرِ النَّاسِ، فهذا هو الواقِعُ وأسرارُ الحَقِّ بَينَه وبَينَ أوليائِه، وأكثَرُ النَّاسِ لا يَعلَمونَ. وقد بَيَّنَّا بُطلانَ اسمِ الغَوثِ مُطلقًا، واندَرَجَ في ذلك غَوثُ العَجَمِ ومَكَّةَ، والغَوثُ السَّابعُ)
[68] ((مجموع الفتاوى)) (11/439-444). .
وقال ابنُ خَلدونَ: (إنَّ هؤلاء المُتَأخِّرينَ منَ المُتَصَوِّفةِ المُتَكَلِّمينَ في الكَشفِ وفيما وراءَ الحِسِّ تَوغَّلوا في ذلك، فذَهَبَ الكَثيرُ منهم إلى الحُلولِ والوَحدةِ، كما أشَرْنا إليه، وملؤوا الصُّحُفَ من مِثلِ الهَرَويِّ في كِتابِ المَقاماتِ له وغَيرِه، وتَبعَهمُ ابنُ عَرَبي وابنُ سَبعينَ وتِلميذُهما ابنُ العَفيفِ وابنُ الفارِضِ والنَّجمُ الإسرائيليُّ في قَصائِدِهم، وكان سَلَفُهم مُخالِطينَ للإسماعيليَّةِ المُتَأخِّرينَ منَ الرَّافِضةِ الدَّائِنينَ أيضًا بالحُلولِ وإلهيَّةِ الأئِمَّةِ مَذهَبًا لم يُعرَفْ لأوَّلِهم، فأُشرِبَ كُلُّ واحِدٍ منَ الفريقَينِ مَذهَبَ الآخَرِ، واختَلطَ كَلامُهم وتَشابَهَت عَقائِدُهم، وظَهَرَ في كَلامِ المُتَصَوِّفةِ القَولُ في القُطبِ، ومَعناه رَأسُ العارِفينَ، يَزعُمونَ أنَّه لا يُمكِنُ أن يُساويَه أحَدٌ في مَقامِه في المَعرِفةِ حتَّى يَقبضَه اللهُ، ثمَّ يورَثُ مَقامُه لآخَرَ مِن أهلِ العِرفانِ، وقد أشارَ إلى ذلك ابنُ سِينا في كِتابِ الإشاراتِ في فُضولِ التَّصَوُّفِ منها، فقال: "جَلَّ جَنابُ الحَقِّ أن يَكونَ شِرعةً لكُلِّ وارِدٍ، أو يَطَّلِعَ عليه إلَّا الواحِدُ بَعدَ الواحِدِ". وهذا كَلامٌ لا تَقومُ عليه حُجَّةٌ عَقليَّةٌ، ولا دَليلٌ شَرعيٌّ، وإنَّما هو من أنواعِ الخَطابةِ، وهو بعَينِه ما تَقولُه الرَّافِضةُ ودانوا به، ثمَّ قالوا بتَرتيبِ وُجودِ الأبدالِ بَعدَ هذا القُطبِ، كما قاله الشِّيعةُ في النُّقَباءِ)
[69] ((المقدمة)) (ص: 473). .