المَبحَثُ الأوَّلُ: ما تَثبُتُ به النُّبوَّةُ عِندَ الماتُريديَّةِ
يرى
الماتُريديَّةُ أنَّ إثباتَ صِدقِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ يقومُ على النَّظَرِ في صفاتِ الأنبياءِ الخَلقيَّةِ والخُلُقيَّةِ قَبلَ الرِّسالةِ وبَعدَها، وعلى تأييدِ اللهِ لهم بالمُعجزاتِ الدَّالَّةِ على صِدقِهم
[547] يُنظر: ((الماتريدية دراسة وتقويمًا)) للحربي (ص: 379-395). .
قال الماتُريديُّ: (الأصلُ عِندَنا في إعلامِ الرُّسُلِ وَجهانِ:
أحَدُهما: ظُهورُ أحوالِهم على جهةٍ تَدفَعُ العُقولُ عنهم الرِّيبةَ، وتأبى فيهم توهُّمَ الظِّنَّةِ بما صَحِبوهم في الصِّغَرِ والكِبَرِ، فوَجَدوهم طاهِرينَ أصفياءَ أتقياءَ بَينَ أظهُرِ قَومٍ ما احتمل التَّسويةَ بينهم على ذلك، ولا تربيتُهم تبلُغُ ذلك على ظهورِ أحوالِهم لهم، وكونِهم بيَنهم في القرارِ والانتشارِ، فيُعلَمُ بإحاطةٍ أنَّ ذلك حِفظُ من يعلَمُ أنَّه يقيمُهم مقامًا شريفًا، ويجعلُهم أمناءَ على الغيوبِ والأسرارِ، وهذا ممَّا تميلُ إلى قَبولِه الطَّبيعةُ، ويستحسِنُ جميعَ أمورِهم العقلُ، فيكونُ الرَّادُّ عليه يَرُدُّ بعد المعرفةِ ردَّ تعنُّتٍ له.
والثَّاني: مجيءُ الآياتِ الخارجةِ عن طبائِعِ أهل البَصَرِ في ذلك النَّوعِ، الممتَنِعةِ عن أن يطمعَ في مِثلِها أو يبلُغَ بكُنهِها التَّعلُّمُ، مع ما لو احتمل أن يبلُغَ أحَدٌ ذلك بالتَّعلُّمِ والاجتهادِ؛ فإنَّ الرُّسُلَ بما نشؤوا لا في ذلك ورُبُّوا لا به، يظهَرُ أنَّهم استفادوه باللهِ، أكرمَهم بذلك لما يجعَلُهم أمناءَ على وَحْيِه)
[548] ((التوحيد)) (ص: 188، 189)، وينظر فيه أيضًا: (ص: 202-210). .
وأمَّا جمهورُ
الماتُريديَّةِ فيَرَون أنَّه لا دليلَ على صِدقِ النَّبيِّ غيرُ المعجزةِ بحُجَّةِ أنَّ المعجزةَ وَحدَها هي التي تفيدُ العِلمَ اليقينيَّ بثبوتِ نبُوَّةِ النَّبيِّ أو الرَّسولِ.
قال البَزْدَويُّ: (لا يُتصوَّرُ ثبوتُ الرِّسالةِ بلا دليلٍ، فيكونُ الثُّبوتُ بالدَّلائِلِ، وليست تلك الدَّلائِلُ إلَّا المعجزاتِ، فثبتت رسالةُ كُلِّ رَسولٍ بمعجزاتٍ ظهرت على يديه، فكانت معجزاتُ موسى عليه السَّلامُ العصا واليَدَ البيضاءَ وغَيرَهما من المعجزاتِ، ومُعجزاتُ عيسى عليه السَّلامُ إحياءَ الموتى وإبراءَ الأكمَهِ والأبرَصِ وغَيرَ ذلك، ومُعجِزاتُ محمَّدٍ عليه السَّلامُ القُرآنَ؛ فإنَّ العَرَبَ بأجمَعِهم مع فصاحَتِهم عَجَزوا عن الإتيانِ بمِثلِه، فعجزوا عن ذلك فكانت المعجزاتُ دليلَ صِدقِ دعواهم الرِّسالةَ؛ فإنَّ ما ظهر ليس في وُسعِ بِشرٍ، فعُلِم أنَّ اللهَ هو المنشئُ، وإنما ينشِئُها لتكونَ دليلًا على صِدقِ دعواه، فإنَّ قومَ كُلِّ رَسولٍ سألوا منه دلائِلَ صِدقِه، فدعا اللهَ تعالى ليؤيِّدَه بإعطاءِ ما طلبوا منه، فلمَّا أعطاه دليلَ صِدقِه الذي طلَب منه قومُه، صار ذلك دليلَ صِدقِه من اللهِ تعالى؛ فإنَّ اللهَ لا يؤيِّدُ الكاذِبَ، ولا بُدَّ للنَّاسِ من معرفةِ الرُّسُلِ، ولا طريقَ للمَعرفةِ سِوى المُعجزاتِ)
[549] ((أصول الدين)) (ص: 97، 98). .
وقال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (إذا جاء واحِدٌ وادَّعى الرِّسالةَ في زمانِ جوازِ وُرودِ الرُّسُلِ لا يجِبُ قَبولُ قولِه بدونِ إقامةِ الدَّليلِ؛ لِما أنَّ تعيُّنَ هذا المدَّعي للرِّسالةِ ليس في حَيِّزِ الواجباتِ؛ لانعدامِ دلالةِ العَقلِ على تعيُّنِه، فبقي في حَيِّزِ الممكِناتِ، وربَّما يكونُ كاذِبًا في دعواه، فكان القولُ بوجوبِ قَبولِ قَولِه قولًا بوجوبِ قَبولِ قَولِ من يكونُ قَبولُ قَولِه كُفرًا، وهذا خَلفٌ من القولِ، وإذا لم يجِبْ قَبولُ قَولِه بدونِ الدَّليلِ يطالَبُ بالدَّليلِ، وهو المُعجزةُ)
[550] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 44- 46). .
وقال النَّاصريُّ: (المعجزةُ توجِبُ عِلمَ اليقينِ بنُبوَّةِ الرُّسُلِ بواسطةِ التَّأمُّلِ وتركِ الإعراضِ عن النَّظَرِ فيها، وإنما جَهِل من جَهِل بعد ظُهورِ آياتِ الرُّسُلِ بتَركِ التَّأمُّلِ، ولم يُعذَرْ بالتَّركِ؛ لأنَّ العقلَ ممَّا يلزمُه التَّأمُّلُ فيها؛ لأنَّه حُجَّةٌ من حُجَجِ اللهِ تعالى، وهي تتعاضَدُ ولا تتضادُّ، ولو كانت الحُجَجُ موجِبةً للعِلمِ جَبرًا، لما تعلَّق بها ثوابٌ ولا عقابٌ؛ فالمعجزةُ رأسُ الحُجَجِ، وهي تزدادُ عِندَ البحثِ والتَّأمُّلِ إيضاحًا واستنارةً وقوَّةً ووكادةً)
[551] ((النور اللامع)) (ص: 14، 15). .
ولا رَيبَ أنَّ المعجزاتِ دليلٌ صحيحٌ لتقريرِ نبُوَّةِ الأنبياءِ، ولكِنَّ القولَ بأنَّ نبُوَّةَ الأنبياءِ لا تُعرَفُ إلَّا بالمُعجزاتِ قَولٌ غيرُ صَحيحٍ.
والدَّليلُ على هذا يظهَرُ من عِدَّةِ أوجُهٍ:1- أنَّ المقصودَ إنما هو معرفةُ صِدقِ مدَّعي النُّبوَّةِ أو كَذِبِه؛ فإنَّه إذا قال: إنِّي رسولُ اللهِ، فهذا الكلامُ إمَّا أن يكونَ صِدقًا، وإمَّا أن يكونَ كَذِبًا، فإذا كان مدَّعي الرِّسالةِ لم يكُنْ صادِقًا فلا بدَّ أن يكونَ كاذِبًا عمدًا أو ضلالًا، فالتَّمييزُ بَينَ الصَّادِقِ والكاذبِ له طُرُقٌ كثيرةٌ فيما هو دونَ دعوى النُّبوَّةِ، فكيف بدعوى النُّبوَّةِ؟!
[552] يُنظر: ((الأصفهانية)) (ص: 472، 473)، ((النبوات)) (ص: 167، 168) كلاهما لابن تيمية. .
2- معلومٌ أنَّ مدَّعي الرِّسالةِ إمَّا أن يكونَ من أفضَلِ الخَلقِ وأكمَلِهم، وإمَّا أن يكونَ من أنقَصِ الخلقِ وأرذَلِهم؛ ولهذا قال أحدُ أكابِرِ ثقيفٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا بلَّغهم الرِّسالةَ ودعاهم إلى الإسلامِ: واللهِ لا أقولُ لك كَلِمةً واحِدةً، إن كنتَ صادِقًا فأنت أجَلُّ في عيني من أن أرُدَّ عليك، وإن كنتَ كاذِبًا فأنت أحقَرُ من أن أرُدَّ عليك. فكيف يشتَبِهُ أفضلُ الخَلقِ وأكمَلُهم بأنقَصِ الخَلقِ وأرذَلِهم ؟! وما أحسَنَ قولَ حَسَّانَ:
لو لم تكُنْ فيه آياتٌ مُبَينةٌ
كانت بديهتُه تأتيك بالخَبَرِ
[553]يُنظر: ((الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 473)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 112). .
3- ما من أحدٍ ادَّعى النُّبوَّةَ من الكذَّابينَ إلَّا وقد ظهر عليه من الجَهلِ والكَذِبِ والفُجورِ واستحواذِ الشَّياطينِ عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييزٍ، وما من أحدٍ ادَّعى النُّبوَّةَ من الصَّادقين إلَّا وقد ظهر عليه من العِلمِ والصِّدقِ والبِرِّ وأنواعِ الخيراتِ ما ظهر لمن له أدنى تمييزٍ، بل كُلُّ شخصينِ ادَّعَيا أمرًا من الأمورِ أحدُهما صادِقٌ في دعواه، والآخَرُ كاذِبٌ، فلا بُدَّ أن يَبينَ صِدقُ هذا وكَذِبُ هذا من وجوهٍ كثيرةٍ؛ إذ الصِّدقُ مستلزِمٌ للبِرِّ، والكَذِبُ مُستلزِمٌ للفُجورِ، والنَّاسُ يميِّزون بَينَ الصَّادِقِ والكاذِبِ بأنواعٍ من الأدِلَّةِ حتَّى في المدَّعينَ للصِّناعاتِ والمقالاتِ كالفِلاحةِ والنِّساجةِ والكتابةِ، فما من أحدٍ يدَّعي العِلمَ بصناعةٍ أو مقالةٍ إلَّا والتَّفريقُ في ذلك بَينَ الصَّادِقِ والكاذِبِ له وجوهٌ كثيرةٌ، وكذلك من أظهر قصدًا وعمَلًا كمن يُظهِرُ الدِّيانةَ والأمانةَ والنَّصيحةَ والمحبَّةَ وأمثالَ ذلك من الأخلاقِ؛ فإنَّه لا بدَّ أن يتبيَّنَ صِدقُه أو كَذِبُه من وجوهٍ متعدِّدةٍ. والنُّبوَّةُ مشتَمِلةٌ على علومٍ وأعمالٍ لا بدَّ أن يتَّصِفَ بها الرَّسولُ، وهي أشرَفُ العلومِ، وأشرَفُ الأعمالِ، فكيف يشتَبِهُ الصَّادِقُ فيها بالكاذِبِ، ولا يتبيَّنُ صِدقُ الصَّادِقِ وكَذِبُ الكاذبِ من وجوهٍ كثيرةٍ؟!
[554]يُنظر: ((الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 474 ، 476، 477)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 112، 114). .
4- هذا المقامُ يُشبِهُ من بعضِ الوُجوهِ تنازُعَ النَّاسِ في أنَّ خبرَ الواحِدِ هل يجوزُ أن يقترِنَ به من القرائِنِ والضَّمائِمِ ما يفيدُ معه العِلمَ؟ ولا ريبَ أنَّ المحقِّقينَ من كُلِّ طائفةٍ على أنَّ خبَرَ الواحِدِ والاثنينِ والثَّلاثةِ قد يقترِنُ به من القرائِنِ ما يحصُلُ معه العِلمُ الضَّروريُّ بخبرِ المخبِرِ، بل القرائِنُ وَحدَها قد تفيدُ العِلمَ الضَّروريَّ، كما يعرِفُ الرَّجُلُ رِضا الرَّجُلِ وغَضَبَه، وحُبَّه وبُغضَه، وفرَحَه وحُزنَه، وغيرَ ذلك ممَّا في نفسِه؛ بأمورٍ تظهرُ على وجهِه يمكِنُه التَّعبيرُ عنها، كما قال تعالى:
وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ [محمَّد: 30] ، ثمَّ قال:
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَولِ [محمَّد: 30] ، فأقسَمَ أنَّه لا بدَّ أن يعرِفَ المنافقينَ في لحنِ القولِ، وإذا كان صِدقُ الخبرِ أو كَذِبُه يُعلَمُ بما يقترنُ به من القرائِنِ، بل في لحنِ قَولِه وصَفَحاتِ وَجهِه، ويحصُلُ بذلك علمٌ ضروريٌّ لا يمكِنُ المرءَ أن يدفَعَه عن نفسِه، فكيف بدعوى المدَّعي أنَّه رسولُ اللهِ، كيف يخفى صِدقُه وكَذِبُه أم كيف لا يتميَّزُ الصَّادِقُ في ذلك من الكاذِبِ بوُجوهٍ من الأدِلَّةِ لا تُعَدُّ ولا تُحصى؟!
[555] يُنظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 478، 479)، ((النبوات)) (ص: 339) كلاهما لابن تيمية، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 114). .
5- إذا كان الكاذِبُ إنَّما يؤتى من وجهَينِ؛ إمَّا أن يتعمَّدَ الكَذِبَ، وإمَّا أن يُلَبَّسَ عليه، كمن يأتيه
الشَّيطانُ، فمن المعلومِ الذي لا رَيبَ فيه أنَّ من النَّاسِ من يعلَمُ أنَّه لا يتعمَّدُ الكَذِبَ، ونحن لا نُنكِرُ أنَّ الرَّجُلَ قد يتغيَّرُ ويصيرُ متعمِّدًا للكَذِبِ بعد أن لم يكُنْ كذلك، لكن إذا استحال وتغيَّر ظهر ذلك لمن يُخْبِرُه ويطَّلِعُ على أمورِه؛ ولهذا لمَّا كانت
خديجةُ رَضِيَ الله عنها تعلمُ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه الصَّادِقُ البارُّ، قال لها لمَّا جاءه الوحيُ:
((أي خديجةُ، ما لي؟! لقد خَشِيتُ على نفسي. فأخبرها الخبَرَ. قالت خديجةُ: كلَّا، أبشِرْ، فواللهِ لا يخزيك اللهُ أبدًا، فواللهِ إنَّك لتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصدُقُ الحديثَ، وتحمِلُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقْري الضَّيفَ، وتُعينُ على نوائِبِ الحَقِّ )) [556]رواه البخاري (4953) ومسلم (160) من حديث عائشة رضي الله عنها. . فهو لم يخَفْ من تعمُّدِ الكَذِبِ؛ فإنَّه يعلَمُ من نفسِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لم يكذِبْ، لكِنْ خاف في أوَّلِ الأمرِ أن يكونَ قد عَرَض له عارِضُ سُوءٍ، وهو المقامُ الثَّاني، فذكَرَت
خديجةُ ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولًا عليه من مكارمِ الأخلاقِ ومحاسِنِ الشِّيَمِ والأعمالِ، وهو الصِّدقُ المستلزِمُ للعَدلِ، والإحسانِ إلى الخلقِ، ومن اجتمع فيه الصِّدقُ والعدلُ والإحسانُ، لم يكُنْ ممَّن يخزيه اللهُ. وصلةُ الرَّحِمُ، وقِرى الضَّيفِ، وحَملُ الكَلِّ، وإعطاءُ المعدومِ، والإعانةُ على نوائِبِ الحقِّ: هي من أعظَمِ أنواعِ البرِّ والإحسانِ، وقد عُلِم من سُنَّةِ اللهِ أنَّ من جَبَله اللهُ على الأخلاقِ المحمودةِ ونزَّهه عن الأخلاقِ المذمومةِ؛ فإنَّه لا يُخزيه
[557] يُنظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 479، 480)، ((منهاج السنة)) (22/419، 420، 8/549) كلاهما لابن تيمية، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 114، 115). .
6- طريقُ مَعرِفةِ الأنبياءِ كطَريقِ معرفةِ نَوعٍ من الآدميِّينَ خَصَّهم اللهُ بخصائِصَ، يُعرَفُ ذلك من أخبارِهم واستقراءِ أحوالهم كما يُعرَفُ الأطبَّاءُ والفُقَهاءُ؛ ولهذا إنما يقرِّرُ الرَّبُّ تعالى في القرآنِ أمرَ النُّبوَّةِ وإثباتَ جِنسِها بما وقع في العالَمِ من قصَّةِ نوحٍ وقومِه، وهودٍ وقومِه، وصالحٍ وقومِه، وغيرِهم، فيذكُرُ وجودَ هؤلاء، وأنَّ قومًا صدَّقوهم، وقومَّا كذَّبوهم، ويُبَيِّنُ حالَ من صدَّقهم وحال من كذَّبهم، فيُعلَمُ بالاضطرارِ حينئذٍ ثبُوتُ هؤلاء، ويتبيَّنُ وُجودُ آثارِهم في الأرضِ، فمن لم يكُنْ رأى في بلدةٍ آثارَهم فليَسِرْ في الأرضِ، ولينظُرْ آثارَهم، وليسمَعْ أخبارَهم المتواتِرةَ؛ ولهذا قال مؤمِنُ آلِ فرعونَ لَمَّا أراد أن ينذِرَ قَومَه:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر:30-31] ؛ ولهذا لما سَمِع وَرَقةُ بنُ نَوفَلٍ و
النَّجاشيُّ وغيرُهما القرآنَ، قال وَرَقةُ بنُ نَوفَلٍ: هذا النَّاموسُ الذي أُنزِلَ على موسى
[558] أخرجه البخاري (4953) ومسلم (160) من حديث عائشة رضي الله عنها. ، وقال
النَّجاشيُّ: إنَّ هذا والذي جاء به موسى ليخرُجُ من مِشكاةٍ واحدةٍ
[559] أخرجه أحمد (1740) واللفظ له، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/115)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (82) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. حسنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1651)، وصحح إسناده أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/180)، والألباني في ((فقه السيرة)) (115) ، فكان عندهم عِلمٌ بما جاء به موسى عليه السَّلامُ اعتبروا به، ولولا ذلك لم يعلموا هذا، وكذلك
الجنُّ لمَّا سَمِعَت القرآنَ:
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 29-30] ، ولمَّا أراد سُبحانَه تقريرَ جِنسِ ما جاء به محمَّدٌ، قال:
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:15-16] ، فهو سُبحانَه يُثبِت وجودَ جِنسِ الأنبياءِ ابتداءً، كما في السُّوَرِ المكيَّةِ حتى يثبتَ وجودَ هذا الجِنسِ، وسعادةَ من اتَّبعه، وشقاءَ من خالفه، ثمَّ نبُوَّةُ عَينِ هذا النَّبيِّ تكونُ ظاهِرةً
[560] يُنظر: ((النبوات)) (ص: 37- 39، 338، 339)، ((الأصفهانية)) (ص: 480، 481) كلاهما لابن تيمية، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 115- 119). .
7- إذا عَلِمْنا بالتَّواتُرِ أحوالَ الأنبياءِ وأحوالَ أوليائِهم وأعدائِهم، عَلِمْنا علمًا يقينيًّا أنَّهم كانوا صادقينَ على الحقِّ من وجوهٍ متعددةٍ؛ منها: أنَّهم أخبروا الأمَمَ بما سيكونُ من انتصارِهم وخِذلانِ أولئك، وبقاءِ العاقبةِ لهم، أخبارًا كثيرةً في أمورٍ كثيرةٍ، وهي كلُّها صادقةٌ، لم يقَعْ في شيءٍ منها تخلُّفٌ ولا غلَطٌ، بخلافِ من يخبرُ به ليس متَّبِعًا لهم ممَّن تنَزَّلُ عليه الشَّياطينُ أو يستدِلُّ على ذلك بالأحوالِ الفلكيَّةِ وغيرِها، وهؤلاء لا بدَّ أن يكونوا كثيرًا، بل الغالِبُ من أخبارِهم الكَذِبُ، وإن صدَقوا أحيانًا، ومن ذلك ما أحدثه اللهُ تعالى من نَصرِهم وإهلاكِ عَدُوِّهم، إذا عُرِف الوجهُ الذي حصل عليه، كحصولِ الغَرَقِ لفِرعَونَ وقومِه بعد أن دخل البحرَ خَلْفَ موسى وقومِه، كان هذا ممَّا يورِثُ عِلمًا ضروريًّا أنَّ الله تعالى أحدث لهم هذا نصرًا لموسى عليه السَّلام وقومِه ونجاةً لهم، وعقوبةً لفِرعَونَ وقومِه ونَكالًا لهم، وكذلك أمرُ نوحٍ والخليلِ عليهما السَّلامُ، وكذلك قصَّةُ الفيلِ، وغيرُ ذلك، ومن الطُّرُقِ أيضًا أنَّ من تأمَّل ما جاءت به الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ فيما أخبَرَت به وما أمَرَت به عِلمَ ضرورةً أنَّ مثلَ هذا لا يصدُرُ إلَّا عن أعلَمِ النَّاسِ وأصدَقِهم وأبَرِّهم، وأنَّ مِثلَ هذا يمتنعُ صدورُه عن كاذِبٍ متعَمِّدٍ للكَذِبِ مُفتَرٍ على اللهِ يخبرُ عنه بالكَذِبِ الصَّريحِ، أو مخطئٍ جاهِلٍ ضالٍّ يظُنُّ أنَّ اللهَ تعالى أرسله ولم يرسِلْه؛ وذلك لأنَّ فيما أخبروا به وما أمروا به من الإحكامِ والإتقانِ وكَشفِ الحقائِقِ وهَدْيِ الخلائِقِ، وبيانِ ما يعلمُ العَقلُ جُملةً، ويَعجزُ عن معرفتِه تفصيلًا- ما يُبَيِّنُ أنَّهم من العِلمِ والمعرفةِ والخبرةِ في الغايةِ التي باينوا بها أعلَمَ الخلقِ ممَّن سواهم، فيمتنعُ أن يصدُرَ مِثلُ ذلك من جاهلٍ ضالٍّ. وفيها من الرَّحمةِ والمصلحةِ والهدى والخيرِ ودلالةِ الخَلقِ على ما ينفَعُهم ومَنعِ ما يضُرُّهم- ما يُبَيِّنُ أنَّ ذلك صدر عن راحمٍ بارٍّ يقصِدُ غايةَ الخيرِ والمنفعةِ للخَلقِ. وإذا كان ذلك يدُلُّ على كمالِ عِلمِهم وكمالِ حُسنِ قَصدِهم، فمَن تمَّ علمُه وتمَّ حُسنُ قَصدِه، امتَنَع أن يكونَ كاذبًا على الله يدَّعي عليه هذه الدَّعوى العظيمةَ التي لا يكونُ أفجَرُ من صاحِبِها إذا كان كاذبًا متعَمِّدًا، ولا أجهَلُ منه إن كان مخطِئًا، والعِلمُ بجنسِ الحقِّ والباطِلِ والخيرِ والشَّرِّ والصِّدقِ والكذِبِ معلومٌ بالفِطرةِ والعَقلِ الصَّريحِ، فإذا عُلِم أنَّه فيما عَلِم النَّاسُ أنَّه حقٌّ وأنَّه خيرٌ هو أعلَمُ منهم به وأنصحُ الخلقِ فيه وأصدَقُهم فيما يقولُ، عُلِم بذلك أنَّه صادِقٌ عالمٌ ناصحٌ، لا كاذِبٌ ولا جاهلٌ ولا غاشٌّ. وهذه الطَّريقُ يسلُكُها كُلُّ أحدٍ بحَسَبِه، ولا يحتاجُ في هذه الطَّريقِ إلى أن يعلَمَ أوَّلًا خواصَّ النُّبوَّةِ وحقيقتَها وكيفيَّتَها، بل أن يعلَمَ أنَّه صادِقٌ بارٌّ فيما يخبرُ به ويأمُرُ به، ثمَّ من خَبَره يعلَمُ حقيقةَ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ
[561] يُنظر: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 500- 501)، ((النبوات)) (ص:40 - 43)، ((الجواب الصحيح)) (4/254 وما بعدها) جميعها لابن تيمية، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (ص: 119- 121). .
وبهذا يتبيَّنُ أنَّ قولَ
الماتُريديَّةِ بأنَّ نبُوَّةَ الأنبياءِ لا تثبُتُ إلَّا بالمعجزاتِ قَولٌ غيرُ صحيحٍ، بل هو باطِلٌ عقلًا ونقلًا، وهم في هذا إنما تابعوا
المُعتزِلةَ واقتَفَوا أثَرَهم
[562] يُنظر: ((المغني)) (15/147)، ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 568) كلاهما للقاضي عبد الجبار. .