المسألةُ الرَّابعةُ: هل الرُّسُلُ والأنبياءُ عليهم السَّلامُ رُسُلٌ وأنبياءُ حقيقةً بَعدَ مَوتِهم أم لا؟
هذا الخِلافُ مبنيٌّ على أصلِ المُتكلِّمين من أنَّ العَرَضَ لا يبقى زمانينِ، فهؤلاء لما أصَّلوا هذا الأصلَ الفاسِدَ وَقَعوا في مَضيقٍ، وهو أنَّ النُّبوَّةَ والرِّسالةَ من صفاتِ الحَيِّ، وصفاتُ الحَيِّ أعراضٌ، فهل يكونُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نبيًّا ورسولًا بعد موتِه؟
فقالت الكرَّاميَّةُ: إنه ليس برَسولٍ الآنَ، وقالت
الأشْعَريَّةُ: هو في حُكمِ الرَّسولِ، وحُكمُ الشَّيءِ يقومُ مقامَ أصلِ الشَّيءِ
[714] يُنظر: ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي (ص: 60 – 61)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 49)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 13). .
ونقل
ابن حَزمٍ عن
الأشْعَريَّةِ كُلِّهم أنَّهم قالوا: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس هو رسولَ اللهِ اليَومَ، ولكِنَّه كان رسولَ اللهِ
[715] يُنظر: ((الفصل)) (5/84- 85). !
ونقل
أبو الوليدِ الباجي و
ابنُ حَزمٍ أنَّ السُّلطانَ محمودَ بنَ سبكتِكينَ سأل ابنَ فُورَكٍ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (كان رسولَ اللهِ، وأمَّا اليومَ فلا) فأمَرَ بقَتلِه
[716] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (5/ 84)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (17/ 216). .
ومَذهَبُ
الأشْعَريَّةِ المعروفُ أنَّ الأنبياءَ أحياءٌ في قبورِهم، وقد أنكروا ما نُسِبَ إليهم خلافَ هذا، وقالوا: إنَّ هذا كَذِبٌ وبُهتانٌ
[717] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) للسبكي (3/ 406) و (4/ 130)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 14 – 15)، ((تبديد الظلام)) للكوثري (ص: 154). .
وقد ذكَرَ
ابنُ القَيِّمِ أنَّ
الأشاعرةَ لَمَّا سَلَّموا القاعِدةَ الفاسِدةَ من أنَّ العَرَضَ لا يبقى زمانينِ، وأنَّ الرُّوحَ وصِفاتِ الحَيِّ من الأعراضِ القائمةِ بالحَيِّ مَشروطةٌ بالحياةِ، فإذا انتَفَت الحياةُ لَزِمَهم القولُ بزوالِ رسالةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد موتِه؛ ففرارًا من هذا المحذورِ قالوا ببدعةٍ أُخرى وهي أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ في قبرِه حياةً دُنيويَّةً، فلا يلزمُ زوالُ رسالتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[718] يُنظر: ((القصيدة النونية)) (ص: 129 – 130)، ((السيف الصقيل)) لتقي الدين السبكي (ص: 154 – 155)، ((طبقات الشافعية)) لتاج الدين السبكي (4/ 130 – 133)، ((توضيح المقاصد)) لابن عيسى (2/ 150 – 155)، ((شرح النونية)) لهراس (2/ 5-7)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 5). .
وأمَّا
الماتُريديَّةُ فصرَّحوا بأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رسولُ اللهِ في الحالِ، كما كان رسولًا في حياتِه. وقالوا: إنَّ المتَّصِفَ بالرِّسالةِ والنُّبوَّةِ هو الرُّوحُ والرُّوحُ باقٍ، فهو رسولٌ حقيقةً بعد موتِه
[719] يُنظر: ((بحر الكلام)) لأبي المعين النسفي، (ص: 61)، ((نظم الفرائد)) لزاده (ص: 49)، ((الروضة البهية)) لأبي عذبة (ص: 13). .
وهذا قولٌ مخالفٌ للصَّوابِ؛ لأنَّه لم يقُلْ أحَدٌ من أهلِ الإسلامِ: إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو روحُ محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فحَسْبُ.
وقد ذكر أبو عَذبةَ أنَّ الخلافَ في هذه المسألةِ -على تقديرِ صِحَّتِه عن
الأشْعَريِّ- خِلافٌ لفظيٌّ
[720] يُنظر: ((الروضة البهية)) (ص: 13). .
وهذا باطِلٌ؛ لأنَّه خلافٌ في النَّفيِ والإثباتِ؛ فهو خلافٌ حقيقيٌّ إن ثبت، لكِنَّه لم يثبُتْ عن
الأشْعَريَّةِ القَولُ به، بل هم ينفونَه.
تنبيهٌ:القولُ بحياةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بَعدَ مَوتِهم حياةً دنيويَّةً لا برزخيَّةً هو مَذهَبُ
الأشْعَريَّةِ، كما سبق، وقدماءُ
الماتُريديَّةِ ليس لهم كلامٌ في هذا، ولكِنَّ المتأخِّرين منهم -كالدَّيوبنديَّةِ والكَوْثَريَّةِ والبريلويَّةِ- يقولون كالأشاعرةِ ببِدعةِ القَولِ بحياةِ الأنبياءِ -عليهم السَّلامُ- بعد موتِهم حياةً دنيويَّةً.
قال السَّهارنفوريُّ أحَدُ كبارِ الديوبنديةِ في جوابِ سؤالٍ: (الجوابُ عندنا وعند مشايخِنا: حضرةُ الرِّسالةِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ في قبرِه الشَّريفِ، وحياتُه دُنيويَّةٌ من غيرِ تكليفٍ، وهي حاصلةٌ لسائِرِ المؤمنينَ، بل لجميعِ النَّاسِ، كما نصَّ عليه العلَّامةُ
السُّيوطيُّ في رسالتِه (إنباءُ الأذكياء بحياةِ الأنبياء)؛ حيثُ قال: قال الشَّيخُ
تقيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ: حياةُ الأنبياءِ والشُّهداءِ في القبرِ كحياتِهم في الدُّنيا)
[721] ((المهند على المفند)) (ص: 38 – 39). .
وصرَّح أنور شاه الكَشْمِيريُّ وشبير أحمد العثمانيُّ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي في قبرِه بأذانٍ وإقامةٍ
[722] يُنظر: ((فيض الباري)) (1/ 83). ويُنظر: ((فتح الملهم)) لشبير العثماني (3/ 419)، ((عقائد أهل السنة والجماعة)) لعبد الشكور الديوبندي (ص: 161). .
واحتجَّ محمَّد قاسم النَّانوتويُّ إمامُ الديوبنديَّةِ، والشَّيخُ رشيد أحمد الكنكوهيُّ، وأشرف علي التَّهانويُّ لإثبات هذه
البدعةِ بأنَّ تركةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تُورَثُ، وأنَّ أزواجَه لا يحلِلْنَ لأحَدٍ بَعدَه، فهذا دليلٌ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ في قبرِه حياةً عُنصريَّةً، لكنَّه انعزل عن النَّاسِ كما ينعزل المعتَكِفُ أربعينَ يومًا مثلًا
[723] يُنظر: ((عقائد أهل السنة والجماعة)) لعبد الشكور الديوبندي (ص: 162 -165)، ((الكوكب الدري على جامع الترمذي)) للكنكوهي (1/ 423)، ((الطهور)) (ص: 49). .
واستدلَّ الكَوْثَريُّ والدَّاجوي وغيرُهما لإثباتِ
التَّوسُّلِ بذاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببدعةِ القولِ بحياةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ
[724] يُنظر: ((مقالات الكوثري)) (ص: 387)، ((بصائر الداجوي)) (ص: 36 -105). .
ولا شكَّ أنَّ القولَ بحياةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قبرِه حياةً دنيويَّةً: عقيدةٌ باطِلةٌ خرافيَّةٌ مخالفةٌ لصريحِ القُرآنِ، وعقيدةِ صحابةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى رأسِهم
الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عنهم؛ فقد قال: (بأبي أنت يا نبيَّ اللهِ، لا يجمَعُ اللهُ عليك موتَتَيِن؛ أمَّا الموتةُ التي كُتِبَت عليك فقد مُتَّها)
[725] أخرجه البخاري (1241) من حديث عائشة رضي الله عنها ، وفي روايةٍ: (طِبتَ حَيًّا ومَيِّتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقُك اللهُ الموتَتَينِ أبدًا)، ثمَّ خطب وقال: (أمَّا بعدُ، ألَا من كان يعبُدُ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبُدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يموتُ)، ثمَّ استدلَّ بقولِه تعالى:
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزُّمَر: 30] ، وقولِه:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144] [726] أخرجه البخاري (3667، 3668) من حديث عائشة رضي الله عنها .
وأجمع الصَّحابةُ رَضِيَ الله عنهم أجمعين، والذين اتَّبَعوهم بإحسانٍ من التَّابعين وأتباعِهم وأئمَّةِ الدِّينِ على أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد مات موتًا حقيقيًّا، وحياتُه في القبرِ حياةٌ برزخيَّةٌ لا دنيويَّةٌ، فحياتُه كحياةِ الشَّهداءِ الذين نصَّ القرآنُ على أنَّهم أحياءٌ عِندَ ربِّهم يُرزَقونَ، ولم يقُلْ أحدٌ من الصَّحابةِ أو التَّابعينَ أو أتباعِ التَّابعين، أو أحدٌ من أئمَّةِ هذا الدِّينِ: إنَّ حياةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قبرِه حياةٌ دُنيويَّةٌ عُنصريَّةٌ، أو إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انعزل عن النَّاسِ انعزالَ المعتَكِفِ.
والجوابُ عن شُبهةٍ أنَّ تركةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تُورَثُ: أنَّ هذا ليس لأجلِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ في قبرِه حياةً دنيويَّةً، بل لأجلِ قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا نُورَثُ، ما ترَكْنا صَدَقةٌ )) [727] رواه البخاري (3094 ) ومسلم (1757) مطولًا من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. .
والجوابُ عن شُبهةِ أنَّ أزواجَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يحلِلْنَ لأحَدٍ بَعدَه: فهذا ليس لأجْلِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيٌّ في قبرِه حياةً دُنيويَّةً، بل لأجْلِ كرامتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتوقيرِه؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبٌ لأمَّتِه، وأزواجُه أمَّهاتُهم في الحُرمةِ والاحترامِ والتَّوقيرِ والإكرامِ، فهنَّ أزواجُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّنيا والآخِرةِ
[728] يُنظر: ((القصيدة النونية)) لابن القيم (ص: 132-133)، ((تفسير ابن كثير)) (3/469). .
قال اللهُ تعالى:
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] .