المَبحَثُ السَّابعُ: مِن عوامِلِ انتِشارِ مذهَبِ المُعتَزِلةِ: قيامُهم بالرَّدِّ على بعضِ الأديانِ والفِرَقِ المُنتسِبةِ للإسلامِ
معلومٌ أنَّه دخَل في الإسلامِ طوائِفُ مِن المجوسِ واليهودِ والنَّصارى وغَيرِهم، ورُؤوسُهم مُمتلِئةٌ بكُلِّ ما في هذه الأديانِ مِن تعاليمَ جرَت في نُفوسِهم مجرى الدَّمِ، ومنهم مَن كان يُظهِرُ الإسلامَ ويُبطِنُ غَيرَه؛ إمَّا خَوفًا ورهبةً، أو رجاءَ نَفعٍ دُنيويٍّ، وإمَّا بقَصدِ الإفسادِ وتضليلِ المُسلِمينَ، وقد أخَذ ذلك الفريقُ ينشُرُ بَينَ المُسلِمينَ ما يُشكِّكُهم في عقائِدِهم، فظهَر ثمارُ غَرسِهم في فِرَقٍ هادِمةٍ للإسلامِ، تحمِلُ اسمَه ظاهِرًا، وهي مَعاوِلُ هَدمِه في الحقيقةِ، وهذا يُمكِنُ أن يصدُقَ على الفُرسِ أكثَرَ منه على أهلِ الكتابِ؛ ذلك أنَّ الخَطرَ على الإسلامِ لم يكنْ آتيًا مِن أهلِ الكتابِ كغَيرِهم؛ فإنَّ القرآنَ الكريمَ أمَر أن يُعامَلوا بالحُسنى، وذلك دليلٌ على ضآلةِ خَطرِهم على الدِّينِ، وهذا القولُ يَصدُقُ على النَّصارى أكثَرَ منه على اليهودِ؛ لأنَّ أكثَرَ النَّصارى في الشَّامِ كانوا عَرَبًا تجمَعُهم بالمُسلِمينَ الفاتِحينَ روابِطُ الجنسِ واللُّغةِ، ولأنَّ النَّصارى في الشَّامِ ومِصرَ لم يكنْ لهم كِيانٌ سياسيٌّ يأسَفونَ على ضياعِه، بل كانوا يخضَعونَ للحُكمِ البِيزَنطيِّ الذي أثقَل كاهِلَهم بالضَّرائِبِ، واضطهَد المُخالِفينَ منهم لعقيدةِ الكَنيسةِ المَلَكيَّةِ، فلمَّا جاء الفتحُ الإسلاميُّ رحَّبوا به، ونَعِموا تحتَ ظِلِّ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ بحُرِّيَّةِ الدِّينِ والعَملِ، فلم يكنْ لديهم ما يحمِلُهم على الحِقدِ على الإسلامِ والكَيدِ له، وقد قال تعالى فيهم:
وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوَا إِنَّا نَصَارَى [المائدة: 82] ، أمَّا اليهودُ فقد حاوَلوا في أوَّلِ الأمرِ أن يُقاوِموا الإسلامَ، وبذَلوا جُهدَهم؛ إلَّا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ردَّ كيدَهم في نُحورِهم، فلم ينالوا شيئًا مِن الإسلامِ؛ ولذلك قال عزَّ وجلَّ فيهم:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82] ، فهُم بلا شكٍّ العَدوُّ اللَّدودُ للإسلامِ والمُسلِمينَ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، ولا ننسى مُؤامَراتِهم ودسائِسَهم ضدَّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المدينةِ، ولا المقالةَ في خَلقِ القرآنِ التي نشَرها طالوتُ اليهوديُّ الزِّنديقُ، فكانت سببًا في فِتنةٍ كبيرةٍ بَينَ المُسلِمينَ، ولا نَغفُلُ أيضًا عن
عبدِ اللهِ بنِ سبَأٍ الحِميَريِّ اليهوديِّ الذي أظهَر الإسلامَ نِفاقًا ليَكيدَ لأهلِه، والذي لم يألُ جُهدًا في التَّفرقةِ بَينَ المُسلِمينَ؛ فلقد كان أوَّلَ مَن أثار النَّاسَ على عُثمانَ رضِي اللهُ عنه، ثُمَّ أصبَح مِن دُعاةِ التَّشيُّعِ
[93] يُنظر: ((الفتنة ووقعة الجمل)) لسيف بن عمر (ص: 42)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 37). ، وغَيرُهم كثيرٌ، لكن معَ ذلك كُلِّه يبقى خطرُ هؤلاء اليهودِ على الإسلامِ أقَلَّ مِن خطَرِ الفُرسِ، فالفُرسُ لهم شأنٌ آخَرُ؛ ذلك أنَّهم كانوا أصحابَ مجدٍ قديمٍ وسيادةٍ عريقةٍ، ويختلِفونَ عن العَرَبِ في العُنصرِ واللُّغةِ والدِّينِ، ويشعُرونَ أنَّهم أرفَعُ مِن العربِ شأنًا، وأعلى قَدْرًا، وكان الكثيرُ مِن عرَبِ الجاهليَّةِ في العِراقِ واليمَنِ خاضِعينَ لهم؛ لذلك كان مَقتُهم للمُسلِمينَ الذين دكُّوا عَرشَهم وأبطَلوا دينَهم شديدًا بالِغًا، فراحوا يَكيدونَ للإسلامِ بشَتَّى الوسائِلِ، وأخَذوا يَسعَونَ جاهِدينَ للقضاءِ على سُلطانِ المُسلِمينَ، وإفسادِ دينِهم
[94] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 37). .
قال
ابنُ حَزمٍ: (الفُرسُ كانوا مِن سَعةِ المُلكِ وعُلوِّ اليدِ على جميعِ الأمَمِ وجلالةِ الخَطرِ في أنفُسِهم حتَّى إنَّهم كانوا يُسمُّونَ أنفُسَهم الأحرارَ والأبناءَ، وكانوا يعُدُّونَ سائِرَ النَّاسِ عبيدًا لهم، فلمَّا امتُحنوا بزوالِ الدَّولةِ عنهم على أيدي العرَبِ، وكانت العرَبُ أقَلَّ الأمَمِ عندَ الفُرسِ خَطرًا، تعاظَمهم الأمرُ، وتضاعَفت لديهم المُصيبةُ، وراموا كيدَ الإسلامِ بالمحارَبةِ في أوقاتٍ شتَّى؛ ففي كُلِّ ذلك يُظهِرُ اللهُ سُبحانَه وتعالى الحقَّ... فرأَوا أنَّ كيدَه على الحِيلةِ أنجَعُ، فأظهَر قومٌ منهم الإسلامَ، واستَمالوا أهلَ التَّشيُّعِ بإظهارِ محبَّةِ أهلِ بيتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واستِشناعِ ظُلمِ عليٍّ رضِي اللهُ عنه، ثُمَّ سلَكوا بهم مسالِكَ شتَّى حتَّى أخرَجوهم عن الإسلامِ...، وقد سلَك هذا المسلَكَ أيضًا
عبدُ اللهِ بنُ سَبَأٍ الحِميَريُّ اليهوديُّ؛ فإنَّه -لعَنه اللهُ- أظهَر الإسلامَ لكيدِ أهلِه، فهو كان أصلَ إثارةِ النَّاسِ على عُثمانَ رضِي اللهُ عنه، وأحرَق عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رضِي اللهُ عنه طوائِفَ أعلَنوا بإلاهيَّتِه، ومِن هذه الأُصولِ الملعونةِ حدثَت الإسماعيليَّةُ والقَرامِطةُ، وهما طائِفتانِ مُجاهِرتانِ بتركِ الإسلامِ جُملةً، قائِلتانِ بالمجوسيَّةِ المحضةِ)
[95] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (2/ 91) بتصَرُّفٍ يسيرٍ. .
ونتَج عن كُلِّ ذلك ظُهورُ بعضِ الفِرَقِ؛ كالرَّافِضةِ، وظُهورُ بعضِ الحَركاتِ العقائِديَّةِ المُناوِئةِ للإسلامِ؛ كالزَّنادِقةِ والرَّاوَنْديَّةِ. هذه الحَركاتُ التي تستهدِفُ زَعزعةَ العقيدةِ الإسلاميَّةِ في قلوبِ المُسلِمينَ، وتشكيكَهم في دينِهم، بل وتشويهَ الإسلامِ أمامَ الأمَمِ الأخرى المُجاوِرةِ للمُسلِمينَ.
ومِن المعلومِ أنَّ هذه الفِرَقَ والحَركاتِ أتَت بشُبَهٍ تُقوِّي بها مزاعِمَها، ولدَحضِ هذه الشُّبَهِ لا بُدَّ مِن عَقدِ المُناظَراتِ والدُّخولِ في عِلمِ الكلامِ الذي تعرِفُه
المُعتَزِلةُ، وخاضوا فيه، فهذه المُناظَراتُ أمامَ هذه الحرَكاتِ ممَّا رفَع مِن شأنِ
المُعتَزِلةِ، وجعَل لهم بعضَ الشُّهرةِ والذُّيوعِ
[96] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 37)، ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) لعوَّاد المُعتق (ص: 44). .
وقد بدأ
المُعتَزِلةُ في مُواجَهةِ هذه الفِرَقِ والحَركاتِ منذُ ظُهورِهم، فوضَعوا كُتبًا في الرَّدِّ عليها، ومُناظَراتُهم الكثيرةُ كان مُعظَمُها معَ الفُرسِ، وأوَّلُ مَن فعَل ذلك منهم رئيسُهم
واصِلُ بنُ عطاءٍ؛ فقد رُوِي عن امرأتِه أنَّه كان إذا جنَّه اللَّيلُ يَصُفُّ قَدمَيه يُصلِّي، ولَوحٌ ودواةٌ موضوعانِ أمامَه، فإذا مرَّت به آيةٌ فيها حُجَّةٌ على مُخالِفٍ جلَس فكتَبها، ثُمَّ عاد في صلاتِه
[97] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) (34)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 38). .
وعن عَمرٍو الباهِليِّ قال: (قرأْتُ ل
واصِلٍ الجُزءَ الأوَّلَ مِن كتابِ "الألفُ مسألةٍ في الرَّدِّ على المانَويَّةِ") قال: (فأحصَيتُ في ذلك الجُزءِ نيِّفًا وثمانينَ مسألةً)
[98] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 37). .
وقال ابنُ المُرتضى: (يُقالُ: إنَّه فرَغ مِن الرَّدِّ على مُخالِفيه وهو ابنُ ثلاثينَ سنةً)
[99] ((المُنْية والأمل)) (ص: 37). .
وكذلك سار أصحابُ
واصِلٍ وتلاميذُه مِن بَعدِه في الرَّدِّ على المُخالِفينَ، فهذا
عَمرُو بنُ عُبَيدٍ ناظَر جَريرَ بنَ حازِمٍ الأزدِيَّ السُّمَنيَّ في البَصرةِ
[100] يُنظر: ((الأغاني)) للأصفهاني (3/138)، ((لسان الميزان)) لابن حجر (5/ 241). ، وكذلك أبو الهُذَيلِ العلَّافُ كان كسابِقيه؛ فقد أكثَر مِن تأليفِ الكُتبِ في نَقضِ مذاهِبِ المُخالِفينَ، وإبطالِ حُجَجِهم، ولعلَّ أهمَّها كتابٌ يُعرَفُ بمِيلاسَ، وكان مِيلاسُ مجوسيًّا فأسلَم، وسببُ إسلامِه: أنَّه جمَع بَينَ أبي الهُذَيلِ وبَينَ بعضِ الثَّنَويَّةِ، فقطَعهم أبو الهُذَيلِ، وأظهَر باطِلَهم
[101] يُنظر: ((الوافي بالوفيات)) للصفدي (4/266). .
كذلك كان النَّظَّامُ لا يألو جُهدًا في مُكافَحةِ المُخالِفينَ، ومِن ذلك أنَّه جَمَع مجلِسٌ بَينَ النَّظَّامِ وبَينَ الحُسَينِ بنِ مُحمَّدٍ النَّجَّارِ الجَبْريِّ، فألزَمه النَّظَّامُ الحُجَّةَ، فانصرَف محمومًا بَعدَ المُناظَرةِ، ومات في عِلَّتِه
[102] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 223)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 41). ويُنظر أيضًا: ((تاريخ الأدب العربي)) لضيف (3/ 430). .
ومِثلُ هؤلاء الأربعةِ الأوائِلِ كثيرٌ مِن
المُعتَزِلةِ الآخَرينَ الذين لم يَقصُروا عنهم في مُقاوَمةِ المُخالِفينَ والدِّفاعِ عن الدِّينِ بحسَبِ مُعتقَدِهم؛ فقد ألَّف بِشرُ بنُ المُعتَمِرِ أُرجوزةً تقعُ في أربعينَ ألفَ بيتٍ، ردَّ فيها على المُخالِفينَ له
[103] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 49)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 41). .
ويَحسُنُ بَعدَ ذلك الإشارةُ إلى شيئَينِ آخَرَينِ:الأوَّلُ: أنَّ
المُعتَزِلةَ وإن كان أكثَرُ ردِّهم على المجوسيَّةِ والجَبريَّةِ، فقد كانوا لا يتأخَّرونَ عن الرَّدِّ على جميعِ المُخالِفينَ، فمَثلًا
الجاحِظُ وضَع كُتبًا كثيرةً في الرَّدِّ على النَّصارى واليهودِ والزَّيديَّةِ، كما أنَّهم قاوَموا
الخوارِجَ [104] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 42). .
الثَّاني: أنَّ
المُعتَزِلةَ كانوا أشِدَّاءَ على خُصومِهم مُتمسِّكينَ بعقائِدِهم، حتَّى إنَّهم لم يَتساهَلوا معَ بعضِ رِجالِهم حينَ جاؤوا بأمورٍ مُخالِفةٍ، وأبدَوا آراءً شاذَّةً، فنَفَوا حَفْصًا الفَرْدَ لمَّا قال بالجَبرِ وحارَبوه، وتصدَّى له أبو الهُذَيلِ، فناظَره حتَّى غلَبه
[105] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 223)، ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 43). .
كذلك فإنَّ
المُعتَزِلةَ لم يكتَفوا بالرَّدِّ على المُخالِفينَ ومُناظَرتِهم، بل تعَدَّوا ذلك إلى إرسالِ الوُفودِ مِن أتباعِهم إلى البلادِ التي يكثُرُ فيها المجوسُ أو غَيرُهم مِن الوَثنيِّينَ؛ فقد أرسَل
واصِلُ بنُ عطاءٍ عبدَ اللهِ بنَ الحارِثِ إلى المغرِبِ، وحَفصَ بنَ سالِمٍ إلى خُراسانَ، فأجابهما خَلقٌ كثيرٌ، ودخَلوا في الإسلامِ
[106] يُنظر: ((المُنْية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 35). .
ويظهَرُ مِن كُلِّ ما ذُكِر أنَّ
المُعتَزِلةَ بذَلوا جُهدًا في الدِّفاعِ عن الدِّينِ الإسلاميِّ، والدَّعوةِ إليه. ولكنَّ المرءَ لا يَسَعُه وهو يُطالِعُ قصَّةَ أعمالِهم في الدَّعوةِ إلى الدِّينِ الإسلاميِّ والدِّفاعِ عنه إلَّا أن يُداخِلَه بعضُ الشَّكِّ في حقيقتِها، ويساوِرَه شيءٌ مِن التَّردُّدِ في قَبولِها على عِلَّاتِها؛ لأنَّها لا تَرِدُ مُفصَّلةً إلَّا في كُتبِ
المُعتَزِلةِ أنفُسِهم، على حينِ لا تتعرَّضُ لها المصادِرُ الأخرى بشيءٍ إلَّا إشارةً وتلميحًا، لكِنْ إن صحَّت كُلُّها أو بعضُها فإنَّها دليلٌ على خوضِ رجالِ
المُعتَزِلةِ في المُناظَراتِ والمُجادَلاتِ، ومعلومٌ أنَّ المُجادَلاتِ تُولِّدُ الأفكارَ وتُنمِّي المبادِئَ وتنشُرُها، وتجعَلُ لأصحابِها ذُيوعًا وشُهرةً يَنتِجُ عنهما كثرةُ الأتباعِ، ومِن ثَمَّ انتِشارُ مذهَبِهم ومُعتقَداتِه
[107] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 39- 46)، ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) للمُعتق (ص: 43- 47). .