في هذا العام- وقيل عام 281هـ- جاء إلى القطيفِ رجلٌ كذَّابٌ اسمُه يحيى، يدَّعي أنَّه رسولٌ من الإمام المهدي، ويستغِلُّ رغبة المؤمنين بظهور المهديِّ؛ لتحقيقِ مطامِعِه، وأعانه على ذلك رجلٌ ثري اسمه أبو سعيد الجنابي. لكنهما كُشِفا عام 283هـ، وقُبِضَ على يحيى، أمَّا الجنابي فقد هرب، وبعد إطلاق سَراحِه ذهب يحيى للبادية، فاستمال إليه البدوَ وأعانه الجنابيُّ بأموالِه، فكوَّنوا جيشًا قويًّا من عدَّةِ قبائلَ بدَويَّة، وهاجموا القطيفَ واحتلُّوها، وكوَّنوا دولة القَرامِطة، وهرب كثيرٌ مِن الأهالي وانضموا للجيشِ العباسيِّ الذي أرسله الخليفةُ المُعتَضِد، ولكِن قوَّاتُ القرامطة هَزَمت العباسيِّينَ. وفي نفس السنة هاجموا الأحساءَ واحتلُّوها. وفي عام 301هـ اغتِيلَ الجنابيُّ قائدُ القرامطةِ، فتولى الحكمَ مَجلِسٌ عسكريٌّ سُمِّيَ بالعقدانيَّة مُهمَّتُه الوصاية على العرشِ، حتى بلوغ الابن الأكبر سعيد. ولكنَّ الابنَ الأصغرَ سليمان تمكَّنَ من إقصاءِ أخيه وتولَّى الحكم. واعترف به مجلسُ الوصاية، كما اعترف به الفاطميُّونَ حُكَّام مصر (المُعادُونَ للدولة العباسية في العراق) وفي عام 314هـ قام أبو طاهر سُليمان الحاكم القرمطي بنقل العاصمةِ إلى الأحساءِ.
خرج الأميرُ عبد الله إلى بلاي مِن عَمَل قبرة، وبها عدوُّ اللهِ ابنُ حفصون مع جماعةٍ كبيرةٍ مِن أصحابِه أهلِ الفسادِ والارتداد. وكانوا قد أضَرُّوا بأقاليمِ قرطبة، وضَيَّقوا عليهم حتى أغاروا على أغنامِ قُرطبة. فخرج إليهم الأميرُ، فناهضه وصادقه القتال، فانهزم ابنُ حَفصون ومن معه، ولجأ إلى حِصنِه مع ملأٍ من أصحابِه، وعُوجِلَ خواصُّه عن الدخول معه، فلم يخلُصْ منهم أحدٌ. فبات الأميرُ قريرَ عَينٍ، والمسلمون كذلك، وقد أخذوا عليه تلك الليلةَ البابَ؛ رجاءَ أن يأتي الصباحُ، فيُؤخَذَ داخِلَ الحِصنِ، لكنه خرج منه مع بعضِ أصحابه، ونجا ونجَوْا. ولَمَّا أصبحَ أُعلِمَ السُّلطانُ بخَبَرِه، فأرسل الخيلَ في أثَرِه، فلم يُعلَمْ له خَبَرٌ. ودخل الأميرُ الحصن فوجده مُترعًا بالذَّخائر، ملآنَ من العُدَد، وكان عددُ عسكرِ الأمير ثمانيةَ عشر ألف فارس. وقيل: إن ابن حفصون ألَّبَ أهل حصون الأندلس كلِّها، وأقبل إليه في ثلاثين ألفًا، ووقعت الحرب بينهم، فانهزم عدوُّ الله، وقُتِلَ أكثَرُ من كان معه، ودخَلَت جملةٌ منهم في مَحلَّة الأمير، فأمر بالتقاطِهم، فأُتي بألف رجُلٍ منهم فقُتِلوا صبرًا بين يديه، ثمَّ قصَدَ الأميرُ إستجة فنازلهم وحاربهم، وقتَلَ منهم عددًا كثيرًا. فلما أخذهم الجَهدُ رفعوا الأطفالَ على الأيدي في الأسوارِ، مُستصرِخينَ ضارِعينَ راغبينَ في العَفوِ، فعفا عنهم
هو الموفَّقُ بالله أبو أحمد محمد بن جعفر المتوكِّل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد, وقيل: إن اسمه طلحة، الأميرُ العباسي وقائِدُ جيش الخليفة المعتَمِد على الله. ولِدَ في بغداد عام 227ه من أمِّ ولَدٍ للخليفة المتوكِّل على الله، وتربَّى تربيةً عِلميَّةً، وكان عالِمًا بالأدب والنَّسَب، والفِقه والقضاءِ، غزيرَ العَقلِ، حسَنَ التدبيرِ، كريمًا حازمًا، ذا مَقدِرةٍ في سياسةِ المُلْك، اعتبَرَه البعضُ بأنَّه المنصورُ الثاني. كان الموفَّقُ وليَّ عَهدِ المعتَمِد على الله، إلَّا أنه كان الخليفةَ الفعليَّ. كان الموفَّقُ عادِلًا حسَنَ السِّيرةِ، يَجلِسُ للمظالمِ وعنده القُضاة وغيرُهم، فينتصِفُ النَّاسُ بعضُهم من بعض. كما يعتبَر الموفَّقُ أبا الخلفاء الثاني بعد المنصورِ؛ إذ إنَّ الخلافةَ العباسية استمَرَّت في عَقِبِه حتى سقوطِها على يد هولاكو خان عام 656ه. كما أنَّه بعث الحياةَ في الخلافة العباسية بعد أن أشرَفَت على السقوطِ بسبب حالةِ الفوضى التي سادت على يدِ الأتراك بين عامي 247 - 256 بعد مقتل الخليفةِ المتوكِّل واستبداد الأتراكِ وقادتِهم بالأمرِ وقَتْلِهم للخُلَفاء: المنتصِر، والمُستعين، والمعتَزِّ، والمهتدي، واستقلال أمراء الأطراف بولاياتهم كالصَّفَّاريين في المشرق، والطولونيين في مصر. فقد تحمَّلَ الموفَّقُ بالله أعباءً كبيرةً في سبيل تثبيت الخلافة؛ إذ تمكَّنَ من القضاءِ على ثورةِ الزِّنجِ كما تمكَّنَ من إيقاعِ الهزيمةِ بجُموعِ الصَّفَّاريين وزعيمِهم يعقوبَ بنِ الليث، الذي كان قد اقتَرَب من بغداد في محاولةٍ لإرغام الخليفة على الاعترافِ بسُلطانه على المَشرِق، كما تمكَّنَ أيضًا من الحَدِّ من توسع الطولونيِّين غربًا. أُصيبَ الموفَّقُ بمرض النقرِس في بلاد الجبل، فانصرف وقد اشتَدَّ به وجع النقرس، فلم يقدِرْ على الركوب، فعُمِل له سريرٌ عليه قُبَّة، فكان يقعد عليه، وخادِمٌ له يُبَرِّد رجلَه بالأشياء الباردة، حتى إنَّه يضعُ عليها الثلج، ثم صارت عِلَّة داء الفيل برِجلِه، وهو ورَمٌ عظيمٌ يكون في السَّاق، يسيل منه ماء، ثم بقِيَ في داره مريضًا عِدَّةَ أيام حتى توفي. لَمَّا مات الموفَّقُ اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولايةِ العَهدِ، بعد المفَوِّض بن المعتَمِد، ولُقِّبَ المُعتَضِدَ بالله.
دخل أحمدُ العجيفي طرسوسَ، وغزا مع بازمان الصائفةَ، فبلغوا شكند، فأصابت بازمان شظيةٌ من حجرِ مَنجَنيقٍ في أضلاعه، فارتحَلَ عن شكند بعد أن أشرَفَ على أخذها, فتوفِّيَ في الطريق، وحُمِلَ إلى طرسوس فدُفِنَ بها. وكان بازمان قد أطاع خِمارَوَيه بن أحمد بن طولون، فلما توفِّيَ خَلَفَه ابنُ عجيف، وكتب إلى خمارَوَيه يُخبِرُه بمَوتِه، فأقَرَّه على ولاية طرسوس، وأمَدَّه بالخيل والسِّلاحِ والذخائر وغيرِها، ثم عزله خمارَوَيه، واستعمَلَ عليها ابنَ عَمِّه محمَّدَ بن موسى بن طولون.
سببُ ذلك أنَّ الموفَّقَ لَمَّا توفِّيَ كان له خادمٌ من خواصِّه يقال له: راغب، فاختار الجِهادَ، فسار إلى طرسوس على عَزمِ المُقام بها، فلما وصل إلى الشام سيَّرَ ما معه من دوابَّ وآلاتٍ وخيامٍ وغير ذلك إلى طرسوس، وسار هو إلى خمارَوَيه ليزورَه، ويُعَرِّفَه عزمَه، فلما لَقِيَه بدمشق أكرَمَه خمارَوَيه وأحَبَّه وأَنِسَ به، واستحيا راغِبٌ أن يطلُبَ منه المسيرَ إلى طرسوس، فطال مُقامُه عنده، فظنَّ أصحابُه أنَّ خمارَوَيه قبَضَ عليه، فأذاعوا ذلك، فاستعظَمَه الناسُ، وقالوا: يَعمِدُ إلى رجلٍ قصَدَ الجهادَ في سبيل الله فيَقبِضُ عليه! ثم شَغَّبوا على أميرهم محمد ابن عم خمارَوَيه، وقبضوا عليه، وقالوا: لا تزالُ في الحبسِ إلى أن يُطلِقَ ابنُ عَمِّك راغبًا، ونَهَبوا دارَه وهَتَكوا حَرَمَه، وبلغ الخبَرُ إلى خمارَوَيه، فأطْلَعَ راغبًا عليه، وأذِنَ له في المسيرِ إلى طرسوس، فلمَّا بلغ إليها أطلَقَ أهلُها أميرَهم، فلما أطلقوه قال لهم: قبَّحَ اللهُ جِوارَكم، وسار عنها إلى بيت المقدس فأقام به، ولَمَّا سار عن طرسوس عاد العجيفي إلى ولايتِها.
خرج المعتَمِدُ على الله، وجلس للقُوَّادِ والقُضاةِ ووجوهِ النَّاس، وأعلَمَهم أنَّه خلع ابنَه المفَوِّضَ إلى الله جعفرًا من ولايةِ العهد، وجعل ولايةَ العَهدِ للمُعتَضِد بالله أبي العباسِ أحمدَ بنِ الموفَّق، وشَهِدوا على المفَوِّض أنه قد تبرَّأ من العهد، وأسقط اسمَه من السِّكَّة، والخِطبة، والطراز، وغير ذلك، وخُطِبَ للمُعتَضِد، وكان يومًا مشهودًا.
هو أبو العبَّاس- وقيل أبو جعفر- أحمد المعتَمِدُ على الله بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد. ولِدَ سنة تسع وعشرين ومائتين بسُرَّ من رأى، وأمُّه روميَّة اسمها فتيان. كان أسمرَ رقيق اللون، خفيفًا، لطيف اللِّحية، أعْيَنَ جميلًا, كان مربوعًا نحيفًا, فلما استُخلِفَ سَمِنَ وأسرع إليه الشَّيبُ، استُخلِفَ بعد قتل المهتدي بالله في سادس عشر رجب سنة 256ه. مكث في الخلافة ثلاثًا وعشرين سنة وستة أيام، كان المعتَمِد أوَّلَ خليفةٍ انتقل من سامرَّا إلى بغداد، ثمَّ لم يعُدْ إليها أحَدٌ من الخلفاء، بل جعلوا إقامتَهم ببغداد، كان سبَبَ هلاكِه- فيما ذكره ابن الأثيرِ- أنَّه شَرِبَ في تلك الليلةِ شَرابًا كثيرًا وتعشَّى عشاءً كثيرًا، وكان وقتُ وفاته في القصر الحُسَيني من بغداد، وحين مات أحضَرَ المعتضِدُ القضاةَ والأعيانَ وأشهَدَهم أنَّه مات حتْفَ أنفِه، ثمَّ غُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّيَ عليه، ثم حُمِلَ فدُفِنَ بسامِرَّاء، ثم كانت خلافةُ المُعتَضِد أبي العباس أحمدَ بن أبي أحمد الموفَّق بن جعفر المتوكل، كان من خيارِ خُلَفاء بني العباس ورجالِهم، بويعَ له بالخلافةِ صبيحةَ مَوتِ المُعتَمِد لعشرٍ بَقِين من رجبٍ منها، وقد كان أمرُ الخلافةِ داثرًا فأحياه الله على يديه بعَدْلِه وشهامَتِه وجُرأتِه.
هو الحافِظُ محمَّدُ بنُ عيسى بن سورة بنِ موسى بن الضحَّاك السلمي التِّرمذي، الضريرُ، قيل: ولِدَ أعمى، والصحيحُ أنه كُفَّ بَصرُه في كِبَرِه، بعد رحلتِه وكتابتِه العِلمَ. وهو أحدُ أئمَّة الحديث في زمانه، وله المصَنَّفات المشهورة؛ منها: الجامِعُ المعروف بالسُّنَن، والشَّمائل، وأسماءُ الصحابة، وغير ذلك، تتلمذَ على البخاريِّ، رحل إلى خُراسان والعراق والحجاز، ورُويَ عنه أنَّه قال: "صنَّفتُ هذا المُسندَ الصَّحيحَ، وعرضتُه على علماءِ الحجاز فَرَضُوا به، وعرَضتُه على عُلماءِ العِراقِ فَرَضُوا به، وعرضتُه على علماء خُراسان فَرَضُوا به، ومن كان في بيتِه هذا الكتابُ، فكأنَّما في بيتِه نبيٌّ يَنطِقُ، وفي رواية يتكَلَّم"، أصيبَ بالعمى في آخِرِ حياتِه، وتوفِّي في ترمذَ، مكانِ ولادتِه.
أوَّلُ مَن بناها المعتضدُ بالله في هذه السَّنة، وهو أوَّلُ مَن سكَنَها من الخلفاءِ إلى آخرِ دولتِهم، وكانت أولًّا دارًا للحسَنِ بنِ سَهلٍ تُعرَفُ بالقصرِ الحَسَني، ثم صارت بعد ذلك لابنتِه بُوران زوجةِ المأمون، ثم أَصلحَت ما وَهَى منها ورَمَّمَت ما كان قد تشعَّثَ فيها، وفرَشَتْها بأنواعِ الفُرشِ في كُلِّ مَوضعٍ منها ما يليقُ به من المفارشِ، وأسكَنَتْه ما يليقُ به من الجواري والخَدَمِ، وأعدَّت بها المآكلَ الشَّهيَّة وما يَحسُن ادِّخاره في ذلك الزمان، ثم أرسَلَت مفاتيحَها إلى المعتَضِد، فلمَّا دخلها هالَه ما رأى من الخيراتِ، ثمَّ وسَّعَها وزاد فيها وجعل لها سورًا حَولَها، وكانت قدرَ مدينة شيراز، فبنى المعتضِدُ فيها الميدانَ، ثم بنى فيها قصرًا مُشرِفًا على دجلةَ، ثمَّ بنى فيها المُكتفي التَّاجَ، فلما كان أيَّام المقتدر زاد فيها زياداتٍ أخرى كبيرةً وكثيرةً جِدًّا، ثم بعد هذا كُلِّه خَربَت حتى كأنْ لم يكُنْ مَوضِعَها عمارةٌ، وتأخَّرَت آثارُها إلى أيام التتار الذين خَرَّبوها وخَرَّبوا بغداد، وقال الخطيبُ البغدادي: والذي يُشبِهُ أنَّ بُورانَ وهبت دارها للمعتَمِد لا للمعتَضِد؛ فإنَّها لم تعِشْ إلى أيَّامه, وقد تقَدَّمَت وفاتُها".
كان بنو شَيبانَ قد أفسدوا في الأرضِ وأخذوا يُغِيرونَ على المَوصِل وينهبون ويَسلبونَ، فتصدَّى لهم الخوارجُ وأهلُ الموصِلِ إلَّا أنهم هزموهم, فسار إليهم المعتَضِد، وقصدَ الموضِعَ الذي يجتمعونَ به من أرضِ الجزيرة، فلمَّا بلَغَهم قَصدُه جمعوا إليهم أموالَهم، فأغار عليهم وأوقعَ بهم، فقتَلَ منهم مقتلةً عظيمةً وغَرِقَ منهم خلقٌ كثيرٌ في الزابين – فروع أنهارٍ حَولَ الفُرات- وأخذ النِّساءَ والذراريَّ وغَنِم أهلُ العَسكرِ مِن أموالِهم ما أعجَزَهم حَملُه، وأخذَ مِن غَنَمِهم وإبلِهم ما كثُرَ في أيدي الناس حتى بِيعَت الشاةُ بدِرهَم والجَمَلُ بخَمسةِ دراهِمَ، وأَمَرَ بالنساءِ والذراريِّ أن يُحفَظوا حتى يحدروا إلى بغداد، ثم مضى المعتضِدُ إلى الموصِل، ثم إلى بلدٍ، ثم رجع إلى بغدادَ فلَقِيَه بنو شيبان يسألونَه الصَّفحَ عنهم وبذلوا له الرهائِنَ، فأخذ منهم خمسَمائة رجلٍ فيما قيل، ورجع المعتضِدُ يريد مدينة السَّلام.
كان يَحيى بنُ الحُسَين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيلَ بنِ إبراهيم بن الحسن بن الحسَن بن علي بن أبي طالب، يقيمُ بالمدينة المنوَّرة، فجاءه وفٌد مِن اليمَنِ يدعوه للمُقامِ في بلادهم وأن يقومَ لهم بأمرِهم، فسافر إليهم في هذا العامِ، غيرَ أنَّه لم يجد ما كان يتوقَّعُه، فعاد للمدينةِ، فجاءه وفدٌ آخَرُ فاعتذر إليه ممَّا كان ووعدوه بالنَّصرِ فرجع إليهم، وأقام في صعدة، ثمَّ بدأت الدولةُ تتأسَّسُ وتَقوى، وكانت بينهم وبين بني يعفر حروبٌ على مدى السَّنَواتِ.
كان ابتداءُ القرامِطةِ بناحية البحرين أنَّ رجُلًا يُعرفُ بيحيى بن المهدي قصدَ القَطيفَ فنزل على رجلٍ يُعرَفُ بعليِّ بن المعلي بن حمدان، مولى الزياديِّين، وكان مُغاليًا في التشيُّع، فأظهَرَ له يحيى أنَّه رسولُ المهدي، وكان ذلك سنة 281، وذكَرَ أنه خرج إلى شيعتِه في البلاد يدعوهم إلى أمرِه، وأنَّ ظهورَه قد قَرُب، فوجه عليُّ بن المعلي إلى الشيعةِ مِن أهل القطيف فجمَعَهم، وأقرأهم الكتابَ الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهديِّ، فأجابوه، وأنهم خارجونَ معه إذا أظهر أمرَه، ووجَّه إلى سائر قرى البحرين بمثلِ ذلك فأجابوه، وكان فيمن أجابه أبو سعيدٍ الجنابي. كان يبيعُ للنَّاسِ الطَّعام، ويَحسِبُ لهم بيعَهم، ثم غاب عنهم يحيى بن المهديِّ مُدَّة، ثم رجع ومعه كتابٌ يزعُمُ أنَّه من المهدي إلى شيعته، فيه: قد عرَّفَني رسولي يحيى بن المهدي مسارعتَكم إلى أمري، فليدفَعْ إليه كل رجل منكم ستةَ دنانيرَ وثُلُثَين، ففعلوا ذلك. ثم غاب عنهم، وعاد ومعه كتابٌ فيه أنِ ادفَعوا إلى يحيى خُمسَ أموالِكم، فدفعوا إليه الخُمُس. وكان يحيى يتردَّدُ في قبائل قيس، ويوردُ إليهم كتبًا يزعُمُ أنَّها مِن المهدي، وأنَّه ظاهِرٌ، فكُونوا على أُهبَةٍ. وحكى إنسانٌ منهم يقالُ له إبراهيم الصائغ أنَّه كان عند أبي سعيدٍ الجنابي، وأتاه يحيى، فأكلوا طعامًا، فلما فرغوا خرج أبو سعيدٍ مِن بيتِه، وأمر امرأتَه أن تدخُلَ إلى يحيى، وألَّا تمنَعَه إن أرادها، فانتهى هذا الخبَرُ إلى الوالي، فأخذ يحيى فضرَبَه، وحلق رأسَه ولحيَتَه، وهرب أبو سعيدٍ الجنابي إلى جنابا، وسار يحيى بن المهدي إلى بني كلابٍ، وعَقيل، والخريس، فاجتمعوا معه ومع أبي سعيدٍ، فعَظُمَ أمرُ أبي سعيد.
كانت دارُ النَّدوةِ عامرةً بالحَرَمِ تجاهَ الكعبةِ في مكَّةَ المُكرَّمة مِن الجِهةِ الشَّماليَّة الغربيَّة، وكان ينزِلُ بها الخُلَفاءُ والأُمَراءُ في حجِّهم في صدرِ الإسلام، ولكنَّها أُهمِلَ أمرُها في مُنتصَفِ القَرنِ الثالثِ الهجريِّ فأخذ يتهَدَّمُ بناؤُها. فكتب في ذلك إلى الخليفةِ المُعتَضِد العباسيِّ، فأمر بها فهُدِمَت في هذا العامِ وجُعِلَت مسجِدًا وفيها قبلةٌ إلى الكعبةِ، ثم بُني له قُبَّةٌ عاليةٌ.
خرج المعتضِدُ إلى المَوصِل، قاصدًا حَمدانَ بنَ حمدون التغلبيَّ؛ لأنَّه بلغه أنَّ حَمدانَ التَّغلِبيَّ مال إلى هارون الشاري الخارجي، ودعا له، فلمَّا بلغ الأعرابَ والأكرادَ مَسيرُ المعتَضِد تحالَفوا أنَّهم يُقاتِلونَ على دمٍ واحد، واجتمعوا وعَبَّوا عسكرَهم، وسار المعتضِدُ إليهم في خَيلِه، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرِقَ منهم في الزابِ خَلقٌ كثير. ثم تابع المعتَضِدُ سَيرَه إلى الموصل يريد قلعةَ ماردين، وكانت لحمدانَ بنِ حمدون، فهرب حمدانُ منها وخَلَّفَ ابنَه بها فنازلها المعتَضِد، وقاتل مَن فيها يومَه ذلك، فلما كان من الغدِ ركبَ المعتَضِدُ فصَعِد إلى باب القلعة، وصاح: يا ابنَ حَمدانَ, فأجابه، فقال له: افتَحِ الباب، ففَتَحه، فقعد المعتَضِدُ في الباب، وأمر بنقلِ ما في القلعةِ وهَدمِها، ثم وجه خلفَ ابنِ حمدون، وطُلِبَ أشدَّ الطَّلَبِ، وأُخِذَت أموالٌ له، ثم ظفرَ به المعتَضِد بعد عودتِه إلى بغدادَ.
كان خِمارَوَيه في دمشقَ في قاسيون، وكان قد بلغه أنَّ جاريةً له قد اتَّخَذت خَصِيًّا له كالزَّوجِ لها، فلمَّا عَلِمَ بذلك وأراد أن يقتُلَه تمالأ الخدَمُ على قتلِه فقَتَلوه وهو في فراشِه ذبحًا، ثم أُخِذَ الخدَمُ وقُتِلوا وكانوا أكثَرَ مِن عشرين، وقيل غيرُ ذلك في سبب قتلِه، ثم حُمِلَ في تابوتٍ إلى مصرَ ودُفِنَ فيها، وتوَّلى الحكم بعده ابنَه جيشَ بنَ خِمارَوَيه
خلَّفَ المعتَضِدُ بالموصِلِ نصرًا القشوريَّ يَجبي الأموالَ ويُعينُ العُمَّال على جبايتها، فخرج عامل معلثايا - معلثايا قريةٌ غَربَ مدينة دهوك- إليها ومعه جماعةٌ مِن أصحاب نصرٍ، فوقع عليهم طائفةٌ مِن الخوارجِ، فاقتتلوا إلى أن أدرَكَهم الليلُ وفَرَّقَ بينهم، وقُتِلَ من الخوارج إنسان اسمُه جعفر، وهو من أعيان أصحابِ هارون، فعَظُم عليه قتلُه، وأمر أصحابَه بالإفسادِ في البلادِ، فكتب نصرٌ القشوري إلى هارونَ الخارجيِّ كتابًا يتهدَّدُه بقُرب الخليفة، فلما قَدِمَ المعتَضِد، جَدَّ في قَصدِه، وولَّى الحسَنَ بن عليٍّ كورةَ المَوصِل، وأمره بقصدِ الخوارج، وأمرَ مُقدَّمِي الولاياتِ والأعمالِ كافةً بطاعتِه، فجَمَعَهم، وسار إلى أعمال المَوصِل، وخندقَ على نفسِه، وأقام إلى أن رفعَ النَّاسُ غُلاتَهم، ثم سار إلى الخوارج، وعبَرَ الزابَ إليهم، فلَقِيَهم قريبًا من المغلَّة، وتصافُّوا للحرب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وانكشف الخوارجُ عنه ليفَرِّقوا جمعيَّتَه ثم يَعطِفوا عليه، فأمر الحسَنُ أصحابَه بلزومِ مواقِفِهم، ففعلوا فرجعَ الخوارِجُ وحَمَلوا عليهم سبعَ عشرةَ حملةً، فانكشفت ميمنةُ الحسَنِ، وقُتِلَ من أصحابه، وثبت هو، فحمَلَ الخوارجُ عليه حملةَ رجلٍ واحدٍ، فثبت لهم وضُرِبَ على رأسِه عِدَّةُ ضربات فلم تؤثِّرْ فيه. فلما رأى أصحابُه ثباتَه تراجعوا إليه وصبَرُوا، فانهزم الخوارجُ أقبَحَ هزيمةٍ، وقُتِلَ منهم خلقٌ كثيرٌ، وفارقوا موضِعَ المعركة، ودخلوا أذربيجان. وأمَّا هارون فإنَّه تحيَّرَ في أمره، وقصَدَ البرِّية، ونزل عند بني تغلِب، ثم عاد إلى معلثايا ثم عاد إلى البرِّية، ثم رجع عبْرَ دجلة إلى حزةَ، وعاد إلى البرية. وأمَّا وجوهُ أصحابه، فإنَّهم لَمَّا رأوا إقبالَ دولة المعتَضِد وقوَّتَه، وما لَحِقَهم في هذه الوقعةِ، راسلوا المعتضِدَ يطلُبون الأمانَ فأمَّنَهم، فأتاه كثيرٌ منهم، يبلُغون ثلاثَمائة وستينَ رجُلًا، وبقي معه بعضُهم يجولُ بهم في البلادِ، إلى أن قُتِلَ سنة 383هـ، حيث لاحَقَه الحسينُ بنُ عبدانَ التغلِبيُّ حتى قبَضَ عليه وأرسلَه للمعتَضِد الذي قتله وصَلَبه.
في هذه السَّنة سارت الصَّقالِبة (البلغار) إلى الرُّوم، فحصروا القُسطنطينية، وقتلوا من أهلِها خَلقًا كثيرًا وخَرَّبوا البلادَ، فلما لم يَجِدْ ملِكُ الرومِ منهم خلاصًا، جمع مَن عنده مِن أُسارى المُسلمين، وأعطاهم السِّلاحَ، وسألهم مَعونتَه على الصَّقالبة، ففعلوا وكَشَفوا الصَّقالبة وأزاحوهم عن القُسطنطينية، ولَمَّا رأى ملِكُ الروم ذلك خاف المسلمينَ على نفسِه، فردَّهم وأخذ السلاحَ منهم، وفرَّقَهم في البلاد؛ حذرًا من جنايتِهم عليه.
كان الخليفةُ المُعتَضِد قد عزل رافِعَ بنَ هرثمةَ مِن ولاية خُراسان وأعطاها لعمرِو بنِ الليث، وذلك عام 279هـ، فأعلن رافِعٌ العصيانَ، وانضم إلى محمَّدِ بنِ زيد العلوي بطبرستان، فجهَّز جيشًا وتوجَّه إلى خراسان لاستردادِها، فخرج إليه عمرُو بنُ الليث بجيشٍ واقتتل الطرفان في معركةٍ قرب طوس، فهرب رافِعٌ إلى خوارزم فتعَقَّبَه عمرو إلى أن قبضَ عليه وقتَلَه، وأرسل رأسَه إلى المعتَضِد.