ظهر في الكوفةِ رجلٌ ادَّعى أنه محمَّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمَّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، وهو رئيسُ الإسماعيليَّة، وجمع جمعًا عظيمًا من الأعرابِ وأهل السواد، واستفحل أمرُه، فسُيِّرَ إليه جيشٌ من بغداد، فقاتلوه، فظَفِروا به وانهزم، وقُتِلَ كثيرٌ مِن أصحابِه.
سار جيشُ صقلَّيةَ مع أميرهم سالمِ بنِ راشد وأرسل إليهم المهديُّ جيشًا من إفريقيَّة، فسار إلى أرضِ انكبردة، ففتحوا غيرانَ وأبرجة، وغَنِموا غنائِمَ كثيرةً، وعاد جيشُ صقلِّية، وساروا إلى أرض قلوريةَ، وقصدوا مدينةَ طارنت، فحصروها وفتحوها بالسَّيفِ في شهر رمضان ووصَلوا إلى مدينة أدرنت، فحصروها، وخرَّبوا منازِلَها، فأصاب المسلمينَ مرَضٌ شديدٌ كبيرٌ، فعادُوا ولم يزَلْ أهل صقلِّية يُغيرونَ على ما بأيدي الرومِ مِن جزيرة صقلِّية، وقلورية، ويَنهَبونَ ويُخَرِّبون.
بلغ الخليفةُ المُقتَدِر أنَّ جماعةً مِن الرَّافضة يجتَمِعونَ في مسجدِ براثي فينالونَ مِن الصحابةِ ولا يُصَلُّونَ الجمُعةَ، ويكاتبونَ القرامِطةَ ويَدْعونَ إلى محمد بن إسماعيل الذي ظهرَ بين الكوفة وبغداد، ويدَّعونَ أنَّه المهدي، ويتبَرَّؤون من المقتَدِر وممَّن تَبِعَه، فأمر بالاحتياطِ عليهم واستفتى العلماءَ بالمسجد فأفتَوا بأنَّه مَسجِدُ ضِرارٍ، فضُرِبَ مَن قُدِرَ عليه منهم الضَّربَ المُبَرِّحَ، ونودي عليهم، وأُمِرَ بهدم ذلك المسجدِ المذكور فهُدِمَ، وأمر الوزيرُ الخاقاني فجعل مكانَه مقبرةً، فدُفِنَ فيها جماعةٌ من الموالي.
كتب مَلِكُ الروم الدُّمُستق إلى أهلِ الثُّغورِ يأمُرُهم بحَملِ الخَراجِ إليه، فإن فعلوا، وإلَّا قصَدَهم فقتل الرِّجالَ، وسبى الذريَّة، وقال: إنَّني صحَّ عندي ضَعفُ وُلاتِكم، فلم يفعلوا ذلك، ثمَّ في ربيع الآخر، خرجت الرومُ إلى ملطيَّة وما يليها مع الدُّمُستُق، ومعه مليح الأرمنيُّ صاحِبُ الدُّروب، فنزلوا على ملطيَّة، وحصروها، فصبر أهلُها، ففتح الروم أبوابًا من الربضِ، فدخلوا، فقاتَلَهم أهلُه، وأخرجوهم منه، ولم يظفَروا من المدينةِ بشَيءٍ، وخرَّبوا قُرًى كثيرةً مِن قراها، ونبَشُوا الموتى، ومَثَّلوا بهم، ثمَّ رحل بعد أن أقام فيها ستةَ عشرَ يومًا، وقصَدَ أهلُ ملطيَّة بغداد مستغيثينَ، في جُمادى الأولى، فلم يُعانُوا، فعادُوا بغيرِ فائدةٍ.
لَمَّا استدعى المقتَدِرُ يوسفَ بنَ أبي الساج إلى واسط كتبَ إلى السعيدِ نصرِ بنِ أحمد السامانيِّ بولاية الرَّيِّ، وأمَرَه بقَصدِها، وأخذها من فاتك، غلامِ يوسُف، فسار نصر بن أحمد إليها، أوائِلَ هذا العام، فوصل إلى جبلِ قارن، فمنعه أبو نصرٍ الطبريُّ من العبورِ، فأقام هناك، فراسله وبذل له ثلاثين ألف دينارٍ حتَّى مكَّنَه من العبور، فسار حتَّى قارب الرَّيَّ، فخرج فاتك عنها، واستولى نصر بن أحمد عليها في جمادى الآخرة، وأقام بها شهرَينِ، وولَّى عليها سيمجور الدواتيَّ وعاد عنها. ثمَّ استعمل عليها محمَّد بن عليٍّ صعلوك، وسار نصر إلى بُخارى، ودخل صعلوك الرَّيَّ، فأقام بها إلى أوائِلِ شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة فمَرِضَ، فكاتب الحسنَ الدَّاعي، وماكان بن كالي في القدومِ عليه ليسلِّمَ الريَّ إليهما، فقَدِما عليه، فسلَّم َالريَّ إليهما وسار عنها، فلمَّا بلغ الدامغان مات.
أفسد الأكرادُ والعرَبُ بأرض المَوصِل وطريقِ خُراسان، وكان عبدُ الله بن حَمدان يتولَّى الجميعَ وهو ببغداد، وابنُه ناصر الدولة بالموصِل، فكتب إليه أبوه يأمُرُه بجمع الرجال، والانحدارِ إلى تكريت، ففعل وسارَ إليها، فوصل إليها في رمضانَ، واجتمعَ بأبيه، وأحضر العَرَب، وطالبهم بما أحدثوا في عمَلِه بعد أن قتَلَ منهم، ونكَّلَ ببعضهم، فردُّوا على الناس شيئًا كثيرًا، ورحل بهم إلى شَهرزور، فوطئَ الأكراد الجلالية فقاتلهم، وانضاف إليهم غيرُهم، فاشتدَّت شَوكتُهم، ثمَّ إنَّهم انقادوا إليه لَمَّا رأوا قوَّته، وكفُّوا عن الفساد والشرِّ.
بعد مَقتَل عُمَرَ بنِ حَفصون استلم ابنُه سليمان قيادةَ الثَّورةِ، وبقي على سيرةِ أبيه، ثم قُتِلَ في هذه السنة, كان سليمانُ قد ركب وخرج عن مدينة ببشتر مركزِ الثَّورةِ ومَقَرِّها. معارِضًا لبعض الحشَمِ المجاورينَ له من العسكر، فتبادرت إليه الخيلُ مِن الجهة التي كان فيها عبدُ الحميد الوزير، فصُرِعَ سليمانُ عن فرسِه، فاحتزَّ رأسَه سعيدُ بن بعلي العريف المعروف بالشفة، وقطعت يداه ورجلاه، وبعث الوزيرُ عبد الحميد برأسِه وجُثَّتِه ويديه مُبَعَّضةً مفترقةً، فرُفِعَت على باب السدَّة بقرطبةَ في خشبة عاليةٍ، وكان الفتحُ فيه عظيمًا سارًّا لجميع المُسلمين.
هاجمت الرومُ المسلمينَ، فقصدوا الثُّغورَ، ودخلوا سُمَيساط- وهي مِن ثغور الجزيرةِ بالشام- وغَنِموا جميعَ ما فيها من مالٍ وسلاحٍ وغيرِ ذلك، وضربوا في الجامِعِ بالناقوسِ أوقاتَ الصَّلواتِ، ثمَّ إنَّ المسلمينَ خرجوا في أثَرِ الرُّوم وقاتلوهم وغَنِموا منهم غنيمةً عظيمةً، فأمر المقتَدِرُ بالله بتجهيزِ العساكِرِ مع مؤنسٍ المظفَّر، وخلع المقتَدِر عليه في ربيع الآخر؛ ليسيرَ إليهم.
خرجت سَريَّةٌ من طرسوسَ إلى بلادِ الرومِ، فوقع عليها العدوُّ، فاقتتلوا فاستظهَرَ الرُّومُ وأسَروا من المُسلمين أربعمائة رجل، فقُتِلوا صبرًا، وفيها سار الدُّمُسْتُق في جيشٍ عظيمٍ من الروم إلى مدينة دَبيل، وفيها نصر السُّبكيُّ في عسكرٍ يحميها، وكان مع الدُّمُستُق دَبَّابات ومجانيقُ معه مِزراقٌ يزرقُ بالنَّارِ عدَّةَ اثنى عشر رجلًا، فلا يَقِرُّ بين يديه أحدٌ من شدَّةِ نارِه واتِّصاله، فكان من أشدِّ شيءٍ على المسلمين، وكان الرامي به مباشِرُ القتالِ مِن أشجَعِهم، فرماه رجلٌ من المسلمين بسَهمٍ فقَتَله، وأراح اللهُ المسلمين من شرِّه، وكان الدُّمُسْتُق يجلِسُ على كرسي عالٍ يُشرِفُ على البلد وعلى عسكَرِه، فأمَرَهم بالقتالِ على ما يراه، فصبَرَ له أهل البلد، وهو ملازِمٌ القتال، حتى وصلوا إلى سور المدينة، فنَقَبوا فيه نقوبًا كثيرةً، ودخلوا المدينة، فقاتلهم أهلُها ومَن فيها من العسكرِ قتالًا شديدًا، فانتصر المسلمونَ، وأخرجوا الرومَ منها، وقتلوا منهم نحوَ عشرة آلاف رجلٍ.
ظهر الديلمُ على الريِّ والجبالِ، وأوَّلُ من غلب منهم لنكى بن النعمان، فقَتَل من أهلِ الجبال مقتلةً عظيمةً وذبح الأطفالَ في المهدِ، ثم غلب على قزوين أسفار بن شيرويه وألزم أهلَها مالًا، وكان له قائدٌ يُسمَّى مرداويج بن زيار، فوثب على أسفار المذكور وقتَلَه وملك البلاد مكانَه، وأساء السيرةَ بأصبهان، وجلس على سريرٍ مِن ذهَبٍ، وقال: أنا سليمانُ بن داودَ، وهؤلاء الشياطينُ أعواني، وكان مع هذا سيئَ السيرةِ في أصحابِه.
سيَّرَ المهديُّ العُبَيديُّ- صاحب إفريقيَّة- ابنَه أبا القاسم من المهديَّة إلى المغرب في جيشٍ كثير، في صفر؛ لسبب محمَّد بن خرز الزناتيِّ، وذلك أنَّه ظفِرَ بعسكر من كتامة، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، فعَظُم ذلك على المهديِّ، فسيَّرَ ولده، فلمَّا خرج تفرَّقَ الأعداءُ، وسار حتَّى وصل إلى ما وراء تاهَرت، فلمَّا عاد من سفرتِه هذه خطَّ برُمحِه في الأرض صفةَ مدينةٍ، وسمَّاها المحمَّدية، وهي المسيلة، وكانت خطَّته لبني كملان، فأخرجهم منها، ونقَلَهم إلى فَحص القَيروان، كالمتوقِّع منهم أمرًا؛ فلذلك أحب أن يكونوا قريبًا منه، وهم كانوا أصحابَ أبي يزيد الخارجيِّ، وانتقل خلقٌ كثير إلى المحمَّديَّة، وأمر عامِلَها أن يُكثِرَ من الطَّعامِ ويَخزِنَه ويحتفِظَ به ففعل ذلك، فلم يزَلْ مُخَزَّنًا إلى أن خرج أبو يزيدَ ولقيه المنصور، ومن المحمَّديَّة كان يمتارُ ما يريد؛ إذ ليس بالموضِعِ مدينةٌ سواها.
كانت بين يوسُفَ بنِ أبي الساج وبين أبي طاهرٍ القرمطيِّ عند الكوفة موقعةٌ، فسبقه إليها أبو طاهر فحال بينه وبينها، فكتب إليه يوسُفُ بنُ أبي الساج: اسمَعْ وأطِعْ، وإلا فاستعِدَّ للقتالِ يوم السبت تاسِعَ شوال منها، فكتب: هلُمَّ، فسار إليه، فلما تراءى الجمعانِ استقَلَّ يوسف جيشَ القرمطي، وكان مع يوسُفَ بن أبي الساج عشرونَ ألفًا، ومع القرمطي ألفُ فارس وخمسمائة رجل. فقال يوسف: وما قيمةُ هؤلاء الكلابِ؟ وأمر الكاتِبَ أن يكتب بالفتحِ إلى الخليفة قبل اللِّقاء، فلما اقتتلوا ثبت القرامطة ثباتًا عظيمًا، ونزل القرمطي فحَرَّض أصحابَه وحمل بهم حملةً صادقة، فهزموا جندَ الخليفة، وأسروا يوسُفَ بن أبي الساج أميرَ الجيش، وقتلوا خلقًا كثيرًا من جند الخليفة، واستحوذوا على الكوفةِ، وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد، وشاع بين الناسِ أنَّ القرامطة يريدون أخذَ بغداد، فانزعج النَّاسُ لذلك وظَنُّوا صِدقَه، فاجتمع الوزيرُ بالخليفة فجهَّزَ جيشًا أربعين ألف مقاتِلٍ مع أمير يقال له بليق، فسار نحوهم، فلما سَمِعوا به أخذوا عليه الطُّرُقات، فأراد دخول بغداد فلم يُمكِنْه، ثم التقَوا معه فلم يلبَثْ بليق وجيشه أن انهزم، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون. وكان يوسُفُ بنُ أبي الساج معهم مقيَّدًا في خيمةٍ، فجعل ينظر إلى محلِّ الوقعة، فلما رجع القرمطي قال: أردتَ أن تهربَ؟ فأمر به فضُرِبَت عنقه. ورجع القرمطي من ناحيةِ بغداد إلى الأنبار، ثم انصرف إلى هيتَ.
كان حفصٌ قد استلم مكانَ أخيه سليمان بعد أن قُتِلَ، فقام في هذه السنةِ النَّاصِرُ أميرُ الأندلس بغزوِه في ببشتر جنوب إسبانيا، وهو متحصِّنٌ فيها، ولَمَّا اشتدت المحاصَرةُ على حفص بن عمر بن حفصون بمدينةِ ببشتر، وأحيطَ به بالبنيانِ عليه مِن كُلِّ جانبٍ، ورأى من الجِدِّ والعَزمِ في أمرِه ما عَلِمَ أنْ لَا بقاءَ له معه في الجبل الذي تعلَّقَ فيه، كتب إلى أمير المؤمنين الناصرِ، يسأله تأمينَه والصفحَ عنه، على أن يخرُجَ عن الجبل مستسلِمًا لأمره، راضيًا بحكمه. فأخرج إليه الناصرُ الوزيرَ أحمد بن محمد بن حدير، وتولَّى هو وسعيد بن المنذر إنزالَه من مدينة ببشتر. ودخلها رجالُ أمير المؤمنين الناصر وحَشَمُه يوم الخميس لسبعٍ بَقِينَ من ذي القَعدة من السنة. واستنزل حفص وجميع النصارى الذين كانوا معه، وقدم بهم أحمد بن محمد الوزير إلى قرطبةَ مع أهلهم وولدهم. ودخلها حفصٌ في مُستهَلِّ ذي الحجة، وأوسَعَه أميرُ المؤمنينَ صَفْحَه وعَفْوَه، وصار في جملةِ حشَمِه وجنده. وبقي الوزيرُ سعيد بن المنذر بمدينة ببشتر ضابطًا لها، وبانيًا لِمَا عهد إليه من بنيانِه وإحكامِه منها.
عاد ثمل الخادِمُ إلى طرسوس من الغَزاةِ الصائفةِ سالِمًا هو ومَن معه فلَقُوا جمعًا كثيرًا من الرومِ، فاقتتلوا فانتصر المُسلِمونَ عليهم وقتَلوا من الرومِ كثيرًا، وغَنِموا ما لا يُحصى، وكان من جملةِ ما غَنِموا أنَّهم ذبحوا من الغَنَمِ في بلاد الروم ثلاثمائة ألف رأس، سوى ما سلِمَ معهم، ولقيهم رجلٌ يُعرَفُ بابن الضحَّاك، وهو من رؤساءِ الأكراد، وكان له حصنٌ يُعرَفُ بالجعفري، فارتدَّ عن الإسلام وصار إلى ملك الروم فأجزل له العَطيَّة، وأمَرَه بالعودِ إلى حِصنِه، فلقيه المسلمونَ، فقاتلوه وأسَروه، وقتلوا كلَّ مَن معه.
عاث أبو طاهرٍ سُلَيمانُ بنُ أبي سعيد الجَنابي القرمطي في الأرضِ فسادًا، وحاصَرَ الرحبةَ فدخلها قهرًا وقتل مِن أهلِها خَلقًا، وطلب منه أهلُ قرقيسيا الأمانَ فأمَّنَهم، وبعث سراياه إلى ما حولَها من الأعرابِ، فقتل منهم خلقًا، حتى صار الناسُ إذا سمعوا بذِكرِه يَهربونَ مِن سماع اسمه، وقدَّرَ على الأعرابِ إمارة يحملونَها إلى هجَرَ في كل سنة، عن كل رأسٍ ديناران، وعاث في نواحي الموصِل فسادًا، وفي سنجار ونواحيها، وخَرَّب تلك الديار وقتَلَ وسَلَب ونهب، فقصَدَه مؤنِسٌ الخادم فلم يتواجَها بل رجع إلى بلده هجَرَ فابتنى بها دارًا سَمَّاها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي الذي ببلاد المغرب بمدينة المهدية، وتفاقم أمرُه وكثُرَ أتباعُه، فصاروا يكبِسونَ القرية من أرضِ السوادِ فيقتلون أهلَها وينهَبونَ أموالَها، ورام في نفسِه دخولَ الكوفة وأخْذَها فلم يُطِقْ ذلك، ولَمَّا رأى الوزيرُ عليُّ بن عيسى ما يفعَلُه هذا القرمطي في بلادِ الإسلام وليس له دافِعٌ، استعفى من الوزارةِ؛ لضَعفِ الخليفةِ وجَيشِه عنه، وعزل نفسَه منها، فسعى فيها عليُّ بن مقلة الكاتب المشهور، فوَلِيَها بسفارة نصر الحاجب، ثم جهَّزَ الخليفة جيشًا كثيفًا مع مؤنِسٍ الخادم فاقتتلوا مع القرامطةِ، فقتلوا من القرامطة خلقًا كثيرًا، وأسروا منهم طائفةً كثيرة من أشرافِهم، ودخل بهم مؤنِسٌ الخادم بغدادَ، ومعه أعلامٌ مِن أعلامهم مُنكَّسةٌ مكتوبٌ عليها (ونريدُ أن نمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرض)، ففرح الناسُ بذلك فرحًا شديدًا، وطابت أنفُسُ البغداديَّة، وانكسر القرامطةُ الذين كانوا قد نشؤوا وفَشَوا بأرض العراق، وفوَّضَ القرامِطةُ أمرَهم إلى رجلٍ يقال له حريث بن مسعود، ودَعَوا إلى المهديِّ الذي ظهر ببلاد المغرب جَدِّ الفاطميين، وهم أدعياءُ كَذَبةٌ، كما قد ذكر ذلك غيرُ واحد من العُلَماء.
لَمَّا وزَر أبو عليِّ بنُ مقلة بسعايةِ نصر الحاجب أبي عبدالله بن البريدي وبذل له عشرينَ ألف دينار على ذلك، فقلَّدَ أبا عبد اللهِ بنَ البريديِّ الأهوازَ جميعَها، سوى السُّوسِ وجُنْدَيسابور، وقلَّدَ أخاه أبا الحُسَين الفراتيَّة، وقلَّدَ أخاهما أبا يوسف الخاصَّةَ والأسافل، على أن يكون المالُ في ذمَّةِ أبي أيُّوب السمسار إلى أن يتصرَّفوا في الأعمال، وكتب أبو عليِّ بنُ مقلة إلى أبي عبد الله في القبضِ على ابن أبي السلاسل، فسار بنَفسِه فقَبَضَ عليه بتُستَر، وأخذ منه عشرةَ آلاف دينار ولم يوصِلْها، وكان أبو عبد الله متهوِّرًا لا يفكِّرُ في عاقبةِ أمْرِه؛ لِما يتَّصِفُ به من المَكرِ والدَّهاءِ وقِلَّة الدين، ثمَّ إنَّ أبا عليِّ بن مقلة جعل أبا محمَّد الحسين بن أحمد الماذرائي مُشرفًا على أبي عبدالله بن البريدي، فلم يلتفِتْ إليه.
رأى النَّاصِرُ أميرُ الأندلس أن تكونَ الدَّعوةُ له في مخاطباته والمُخاطَباتِ له في جميعِ ما يَجري ذِكرُه فيه، بأميرِ المؤمنين، فعَهِدَ إلى أحمد بن بقيٍّ القاضي صاحِبِ الصلاة بقُرطبةَ بأن تكون الخُطبةُ يوم الجمعة مُستهَلَّ ذي الحجة بذلك. ونَفَذت الكتبُ إلى العمَّال فيه، ونُسخة الرسالة النافذة في ذلك: بسم اللهِ الرَّحمنِ الرحيم. أمَّا بعدُ؛ فإنَّا أحقُّ من استوفى حَقَّه، وأجدرُ من استكمَلَ حَظَّه، ولَبِسَ من كرامة الله ما ألبَسَه؛ لِلَّذي فضَّلَنا اللهُ به، وأظهَرَ أثرَتَنا فيه، ورفع سلطانَنا إليه، ويَسَّرَ على أيدينا إدراكَه، وسهَّلَ بدَولتنِا مَرامَه، ولِلَّذي أشاد في الآفاقِ مِن ذِكْرِنا، وعُلُوِّ أمرِنا، وأعلن مِن رجاء العالَمينَ بنا، وأعاد مِن انحرافِهم إلينا، واستبشارهم بدولتنا. والحمدُ لله وليُّ النِّعمةِ والإنعامِ بما أنعَمَ به، وأهلُ الفَضلِ بما تفضَّلَ علينا فيه, وقد رأينا أن تكونَ الدَّعوةُ لنا بأميرِ المؤمنين، وخروجَ الكتب عنا وورودَها علينا بذلك؛ إذ كُلُّ مدعُوٍّ بهذا الاسم غيرِنا مُنتَحِلٌ له، ودخيلٌ فيه، ومتَّسِمٌ بما لا يستحِقُّه. وعَلِمْنا أنَّ التماديَ على تركِ الواجِبِ لنا من ذلك حَقٌّ أضعناه، واسمٌ ثابتٌ أسقطناه. فأْمُرِ الخطيبَ بموضِعِك أن يقولَ به، وأَجْرِ مُخاطباتِك لنا عليه، إن شاء الله. والله المستعان, كُتِبَ يوم الخميس لليلتينِ خلتا من ذي الحجة سنة 316.
اشتَدَّت الوحشةُ بين مُؤنِسٍ الخادمِ والمُقتَدِر بالله، وتفاقَمَ الحالُ وآل إلى أن اجتَمَعوا على خَلعِ المُقتَدِر وتولية القاهِرِ محمَّد بن المعتضد، فبايعوه بالخلافةِ وسَلَّموا عليه بها، ولقَّبوه القاهر بالله، وذلك ليلة السبت النصف من المحرم، وقَلَّدَ عليَّ بنَ مقلة وزارته، وولى نازوك الحُجُوبة مضافًا إلى ما بيده من الشُّرطة، وألزم المقتَدِر بأن كتب على نفسِه كتابًا بالخَلعِ مِن الخلافة، وأشهد على نفسِه بذلك جماعةً من الأمراء والأعيان، وسلَّم الكتاب إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسُف، فقال لولده الحُسَين احتفظ بهذا الكتابِ، فلا يريَنَّه أحَدٌ مِن خَلقِ الله، ولَمَّا أعيدَ المقتَدِرُ إلى الخلافة بعد يومينِ رَدَّه إليه، فشَكَره على ذلك جدًّا وولَّاه قضاءَ القُضاةِ، فلمَّا كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهِرُ بالله في منصب الخلافة، وجلس بين يديه الوزيرُ أبو علي بن مقلة، وكتب إلى العُمَّال بالآفاق يُخبِرُهم بولاية القاهِرِ بالخلافة عِوضًا عن المقتدر، فلما كان يوم الاثنين جاء الجندُ وطلبوا أرزاقَهم وشَغَّبوا، وبادروا إلى نازوك فقَتَلوه، وكان مخمورًا، ثمَّ صلبوه، وهرب الوزيرُ ابنُ مقلة، وهرب الحُجَّاب ونادوا يا مُقتَدِرْ يا منصور، ولم يكن مؤنسٌ يومئذٍ حاضِرًا، وجاء الجندُ إلى باب مؤنسٍ يُطالِبونَه بالمُقتَدِر، فأغلق بابَه دونهم، فلما رأى مؤنِسٌ أنَّه لا بُدَّ مِن تسليم المقتَدِر إليهم أمَرَه بالخروج، فخاف المقتَدِرُ أن يكون حيلةً عليه، ثم تجاسَرَ فخرج فحَمَلَه الرجالُ على أعناقهم حتى أدخلوه دارَ الخلافة، فسأل عن أخيه القاهرِ وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتُبَ لهما أمانًا، فما كان عن قريبٍ حتى جاءه خادِمٌ ومعه رأسُ أبي الهيجاء قد احتَزَّ رأسَه وأخرجه من بين كتفيه، ثم استدعى بأخيه القاهر فأجلَسَه بين يديه واستدعاه إليه، وقبَّلَ بين عينيه، وقال: يا أخي أنت لا ذنبَ لك، وقد علمتُ أنَّك مُكرَهٌ مقهورٌ، والقاهرُ يقول: اللهَ اللهَ، نفسي يا أمير المؤمنين، فقال: لا جرى عليك مني سوءٌ أبدًا، وعاد ابنُ مقلة فكتب إلى الآفاقِ يُعلِمُهم بعَودِ المقتدر إلى الخلافة، ورجَعَت الأمورُ إلى حالها الأوَّل، وكان ابنُ نفيس من أشَدِّ الناس على المقتدر، فلما عاد إلى الخلافةِ خرج من بغداد متنكِّرًا فدخل الموصل، ثم صار إلى إرمينية، ثم لحِقَ بالقسطنطينيَّة، فتنصر بها مع أهلِها، وقرَّرَ أبا علي بن مقلة على الوزارةِ، وولَّى محمد بن يوسف قضاءَ القضاة، وجعل محمَّدًا أخاه - وهو القاهِرُ - عند والدته بصفةِ محبوسٍ عندها، فكانت تحسِنُ إليه غايةَ الإحسان، وتشتري له السراريَّ وتُكرِمُه غايةَ الإكرامِ.