هو العَلَّامة شيخُ الحنابلةِ: أبو القاسم عُمَرُ بنُ أبي علي الحسين بن عبد الله بن أحمد البغدادي الخِرَقيُّ الحنبليُّ, والخِرَقي: بكسر الخاء وفتح الراء؛ نِسبةً إلى بَيعِ الخِرَق والثِّيابِ. فقيهٌ حنبليٌّ، صنَّف التصانيفَ. صاحِبُ المُختَصَر المشهورِ في الفِقهِ على مذهب الإمام أحمد، والذي شَرَحه القاضي أبو يعلَى بن الفراء، والشيخ مُوفَّق الدين بن قُدامة المقدسي، كان من كبارِ العُلَماء، تفَقَّه على والده الحُسَين صاحب المروذي, وقد كان الخِرَقي هذا من ساداتِ الفُقَهاء والعُبَّاد، كثيرَ الفضائِلِ والعبادة، وصنَّفَ في مذهبِ الإمامِ أحمدَ كتُبًا كثيرةً مِن جُملتِها: المُختَصَر، الذي يشتَغِلُ به أكثَرُ المبتدئين من أصحابِهم، ولَمَّا خرج من بغداد مهاجِرًا لَمَّا كثُرَ بها الشَّرُّ والسَّبُّ للصحابةِ والسَّلَف، أودَعَ كُتُبَه في بغدادَ، فاحترقت الدارُ التي كانت فيها الكتُبُ، وعُدِمَت مُصنَّفاتُه، وقصد دمشقَ فأقام بها حتى مات في هذه السَّنة، وقبرُه بباب الصغير قريبًا من قبور الشهداء، وذكَرَ في مختصره هذا في الحَجِّ ويأتي الحجَرَ الأسودَ ويقَبِّلُه إن كان هناك، وإنما قال ذلك؛ لأنَّ تصنيفَه لهذا الكتاب كان والحجَرُ الأسوَدُ قد أخَذَته القرامطةُ، وهو في أيديهم في سنة 317، ولم يُرَدَّ إلى مكانِه إلَّا سنة 337، قال القاضي أبو يعلى: "كانت للخِرَقي مُصَنَّفاتٌ كثيرة وتخريجاتٌ على المذهب، ولم تظهَرْ؛ لأنَّه خرج من مدينته لَمَّا ظهر بها سَبُّ الصحابة، وأودع كتُبَه فاحتَرَقت الدارُ التي هي فيها، فاحتَرَقت الكتُبُ، ولم تكن قد انتشَرَت؛ لبُعدِه عن البلَدِ".
تطَلَّعَ بنو بُوَيه الديلم الشِّيعيَّة إلى السيطرةِ على العراقِ مَقَرِّ الخلافة، وقيل: إنَّ أصلَهم يرجِعُ إلى ملوك ساسان الفارسيِّين الذين شُرِّدوا، فاتَّخَذوا من إقليمِ الديلم الواقع في المنطقة الجبليَّة جنوبيَّ بَحرِ قزوين ملجأً لهم ومقرًّا, وسُمُّوا بالدَّيلمة؛ لطُولِ مُجاورتِهم الدَّيلم. تزعَّم أبو شجاع بُوَيه قبائلَ البُويهيِّينَ سنة 322 - 329 والذى ينتهي نسَبُه إلى الملك الفارسي يزد جرد، وقد أنجب ثلاثة من الذكور، هم: أبو الحسن علي (عماد الدولة)، وأبو على الحسن (ركن الدولة)، وأبو الحسين أحمد (معز الدولة). وكانت بدايةُ الدولة البويهيَّة باستيلاءِ أبي الحسن عليِّ بن بويه على أرجان وغيرها، وقد دخل أبو الحسن علي على شيراز سنة 322، وجعلها عاصمةً لدولته الجديدة، كما دخل فارسَ، وأرسل إلى الخليفةِ الراضي أنَّه على الطاعة. واستولى أبو الحُسَين أحمد بن بويه سنة 326 على الأهواز، وكاتبه بعضُ قواد الدولة العباسيَّة، وزيَّنوا له التوجُّهَ نحو بغداد، وفى سنة 334هـ/ 946م، اتَّجه أبو الحسين أحمد بن بويه نحو بغداد بقُوَّة حربيَّة، فلما جاءت الأخبارُ بأنَّه قد أقبل في الجيوشِ قاصِدًا بغداد، اختفى ابن شيرزاد والخليفة المستكفي بالله، فأقبل أحمدُ بن بويه في جحافِلَ عظيمةٍ مِن الجيوش، فلمَّا اقترب من بغداد بعَثَ إليه الخليفة المستكفي بالله الهَدايا والإنزالات، وقال للرَّسول: أخبِرْه أني مسرور به، وأنِّي إنما اختفيتُ مِن شَرِّ الأتراك، وبعث إليه بالخِلَع والتُّحَف، ودخل أحمدُ بن بويه بغداد في جمادى الأولى وافتتَحَها في سهولةٍ ويُسرٍ، فلم تستطِعْ حامَيتُها التركيةُ مُقاومَتَه، ففَرَّت إلى الموصل، نزل الحسينُ بنُ احمد بن بويه بباب الشماسية، ودخَلَ مِن الغَدِ إلى الخليفة فبايعه, ولقَّبَه الخليفةُ المستكفي بمُعِزِّ الدولة، ولقَّبَ أخاه عليًّا عماد الدولة، ولَقَّبَ أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تُكتَبَ ألقابهم على الدَّراهم والدنانير، ولكِنَّ أبا الحسين أحمد بن بويه مُعِزَّ الدولة لم يكتَفِ بهذا اللقب الذي لا يزيدُ على كونِه أميرَ الأمراء. وأصَرَّ على ذِكرِ اسمِه مع اسم الخليفةِ في خُطبةِ الجُمعة، وأن يُسَكَّ اسمُه على العملة مع الخليفة. نزل معزُّ الدولة بدار مؤنس الخادم، ونزل أصحابُه من الديلم بدور الناس، فلقِيَ الناس منهم ضائقةً شديدة، وأمَّنَ مُعِزُّ الدولة ابن شيرزاد، فلما ظهر استكتَبَه على الخَراجِ، ورتَّبَ للخليفة نفقاتِه خَمسةَ آلافِ درهم في كلِّ يومٍ.
حضر مُعِزُّ الدولة إلى الحضرةِ، فجلس على سريرٍ بين يدي الخليفة، وجاء رجلان من الدَّيلم فمَدَّا أيديَهم إلى الخليفة فأنزلاه عن كُرسِيِّه، وسحباه، ونهض معِزُّ الدولةِ واضطربَت دارُ الخلافة حتى خُلِصَ إلى الحريمِ، وتفاقَمَ الحالُ، وسيق الخليفةُ ماشيًا إلى دار معز الدولة فاعتُقِل بها، وأُحضِرَ أبو القاسم الفضلُ بن المُقتَدِر، فبويع بالخلافة، وسُمِلَت عينا المستكفي وأودعَ السِّجنَ، فلم يزَلْ به مسجونا حتى كانت وفاته في سنة 338، وتمَّت خلافة المطيع لله. لَمَّا قدم معز الدولة بغدادَ استدعى أبا القاسِم الفضلَ بنَ المقتدر وقد كان مختفيًا من المستكفي وهو يُحِثُّ على طلبه ويجتَهِدُ، فلم يقدِرْ عليه، ويقال إنَّه اجتمع بمعزِّ الدولة سِرَّا فحرضه على المُستكفي، حتى كان من أمْرِه ما كان، ثم أُحضِرَ الفَضلُ بن المُقتَدر وبويع له بالخلافةِ، ولقب بالمطيعِ لله، وبايعه الأمراءُ والأعيانُ والعامَّة، وضَعُفَ أمر الخلافة جدًّا حتى لم يبقَ للخليفةِ أمرٌ ولا نهيٌ ولا وزيرٌ أيضًا، فكانت مُدَّة خلافة المستكفي سنة وأربعة أشهر.
هو القائِمُ بأمرِ الله الفاطميُّ العُبَيدي أبو القاسم محمد نزارا بن عبيد الله المهدي صاحب إفريقيَّة، بايع له والِدُه عُبيد الله بولاية العهد بإفريقيَّة وجَهَّزه أبوه لضَمِّ مِصرَ مرتين، لكنَّه لم يُفلِحْ في ضَمِّها. وبعد وفاةِ القائمِ قام بالأمرِ بعده ابنُه إسماعيلُ، وتلقَّب بالمنصور بالله، وكتم موتَه؛ خوفًا أن يعلمَ بذلك أبو يزيد، وهو بالقربِ منه على سوسة، وأبقى الأمورَ على حالها، ولم يتسَمَّ بالخليفة، ولم يغيِّر السِّكَّة، ولا الخُطبة، ولا البنودَ، وبقي على ذلك إلى أن فرغ من أمرِ أبي يزيد، فلمَّا فرغ منه أظهَرَ موتَه، وتسمَّى بالخلافةِ.
سار أبو عليِّ بن محتاج في عساكرِ خُراسان إلى الريِّ لاستنقاذِها من يدِ ركنِ الدَّولة بنِ بُوَيه، فسار في جمعٍ كثير فخرج إليه ركنُ الدولة محاربًا، فالتَقَوا على ثلاثة فراسخ من الريِّ، وكان مع أبي علي جماعةٌ كثيرة من الأكراد، فغدروا به، واستأمنوا إلى ركنِ الدولة، فانهزم أبو عليٍّ، وعاد نحو نيسابور وغَنِموا بعضَ أثقاله، ورجع ركنُ الدولة إلى الريِّ واستولى عليها وعلى سائرِ أعمالِ الجبَلِ، وأزال عنها الخراسانيَّة، وعَظُمَ مُلكُ بني بُوَيه، فصار بأيديهم أعمالُ الرَّيِّ، والجبل، وفارس، والأهواز، والعراق، ويُحمَل إليهم ضمانُ المَوصِل، وديار بكر، وديار مضر من الجزيرة.
كان الفِداءُ بالثغورِ بين المسلمينَ والرومِ على يدِ نَصرِ الثملي أميرِ الثغور لسيفِ الدولة بن حمدان، وكان عدة الأسرى 2480 أسيرًا مِن ذكَرٍ وأنثى، وفضَلَ للرُّومِ على المُسلِمينَ مائتان وثلاثون أسيرًا لكثرةِ مَن معهم من الأسرى، فوفاهم ذلك سيفُ الدولة.
سار مُعِزُّ الدولة ومعه المطيعُ لله إلى البصرةِ; لاستنقاذها مِن يَدِ أبي القاسم عبدِ الله بن أبي عبد الله البريدي، وسَلَكوا البريَّةَ إليها، فأرسل القرامِطةُ مِن هجَرَ إلى مُعِزِّ الدولة ينكرون عليه مسيرَه إلى البريةِ بغير أمْرِهم، وهي لهم، فلم يجِبْهم عن كتابهم، وقال للرَّسولِ: قل لهم مَن أنتم حتى تستأمِروا، وليس قصدي مِن أخذِ البَصرةِ غَيرَكم، وستَعلَمونَ ما تلقونَ مني. ولَمَّا وصل معزُّ الدولة إلى الدرهميَّة أو الدَّرهمة، استأمن إليه عساكِرُ أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسمِ في الرابع والعشرين من ربيع الآخر إلى هجر، والتجأ إلى القرامِطة، ومَلَكَ مُعِزُّ الدولة البصرةَ، فانحلَّت الأسعارُ ببغداد انحلالًا كثيرًا.
اجتمع ركنُ الدولة بن بويه، والحسَنُ بن الفيرزان، وقصدا بلادَ وشمكير، فالتقاهما وشمكيرُ وانهزم منهما، وملك ركنُ الدولة طبرستان، وسار منها إلى جرجانَ فمَلَكها، واستأمَنَ مِن قوَّاد وشمكير مائة وثلاثة عشر قائدًا، فأقام الحسن بن الفيرزان بجرجان، ومضى وشمكير إلى خراسان مستجيرًا ومُستنجدًا لإعادةِ بلادِه.
سار مُعِزُّ الدولة من بغداد إلى الموصِل قاصدًا ناصِرَ الدولة الحمدانيَّ، فلما سمع ناصِرُ الدولة بذلك سار عن المَوصِل إلى نصيبين، ووصل معزُّ الدولة فمَلَك الموصِلَ في شهر رمضان، وظلم أهلَها وعسَفَهم، وأخذ أموالَ الرَّعايا، فكَثُرَ الدُّعاءُ عليه، وأراد معِزُّ الدولةِ أن يملِكَ جميعَ بلاد ناصرِ الدولة، فأتاه الخبَرُ من أخيه ركنِ الدولة أنَّ عساكِرَ خراسان قد قَصَدَت جرجان والريَّ، ويستمِدُّه ويطلب منه العساكِرَ، فاضطُرَّ إلى مصالحة ناصر الدولة، فتردَّدَت الرسل بينهما في ذلك، واستقَرَّ الصلح بينهما على أن يؤدِّيَ ناصِرُ الدولة عن الموصِل وديار الجزيرةِ كُلِّها والشَّام، كلَّ سنةٍ ثمانية آلاف ألف درهم، ويخطُبَ في بلاده لعمادِ الدولة، ورُكن الدولة، ومُعِز الدولة بني بُويه، فلما استقَرَّ الصُّلحُ عاد معز الدولة إلى بغداد فدخَلَها في ذي الحِجَّة.
هو أبو الحسَنِ عليُّ بنُ بُوَيه، وهو أكبر أولاد بُوَيه، وأوَّلُ مَن تمَلَّك منهم، وكان عاقلًا حاذقًا حميد السيرة رئيسًا في نفسه. كان أولُ ظهورِه في سنة 322, فلما كان في هذا العام 338 قَوِيَت عليه الأسقامُ وتواترت عليه الآلامُ، فأحسَّ من نفسه بالهلاك، ولم يُفادِه ولا دفَعَ عنه أمرَ اللهِ ما هو فيه من الأموالِ والمُلك وكثرةِ الرِّجال والأموالِ، ولا رَدَّ عنه جيشُه من الديلم والأتراك والأعجام، مع كثرةِ العَدَد والعُدد، بل تخَلَّوا عنه أحوجَ ما كان إليهم، فسُبحانَ اللهِ المَلِك القادِرِ، القاهرِ العلَّام! ولم يكن له ولدٌ ذكَرٌ، فأرسل إلى أخيه ركن الدولةِ يستدعيه إليه ووَلَده عَضُد الدولة، ليجعَلَه وليَّ عَهدِه من بعده، فلمَّا قدم عليه فرِحَ به فرحًا شديدًا، وخرج بنفسِه في جميع جيشِه يتلقَّاه، فلمَّا دخل به إلى دار المملكة أجلسَه على السريرِ وقام بين يديه كأحدِ الأُمَراء؛ ليرفَعَ مِن شأنه عند أمرائِه ووزرائِه وأعوانه. وكان يومًا عظيمًا مشهودًا. ثم عقَدَ لعَضُد الدولة البيعةَ على ما يملِكُه من البلدان والأموال، وتدبيرِ المَملكة والرجال. وفيهم مِن بعضِ رُؤوسِ الأمراءِ كراهةٌ لذلك، فشَرَعَ في القبضِ عليهم، وقَتَلَ مَن شاء منهم وسَجَنَ آخرين، حتى تمهَّدَت الأمورُ لعضد الدولة. ثم كانت وفاةُ عماد الدولة بشيراز في هذه السنة، عن سبعٍ وخمسين سنةً، وكانت مُدَّةُ مُلكِه ست عشرة سنة، وكان من أقوى الملوك في زمانِه، وكان ممن حاز قَصَبَ السَّبقِ دون أقرانه، وكان هو أميرَ الأمراء، وبذلك كان يكاتِبُه الخلفاءُ، ولكِنَّ أخاه معز الدولة كان ينوبُ عنه في العراق والسواد.
هو الخليفة أبو القاسمِ عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي علي بن المعتضد العباسي. كان رَبْعَ القامةِ مليحًا، معتدِلَ البَدَن، أبيضَ بحُمرةٍ، خفيفَ العارضين. وأمُّه أمُّ ولد. بويع وقتَ خَلعِ المتقي لله عام 333. وله يومئذٍ إحدى وأربعون سنة، ولقب بالمستكفي بالله. قام ببيعته أميرُ الأمراء توزون، ولَمَّا أقبل أبو الحسن أحمدُ بنُ بويه على العراق استولى على الأهوازِ والبصرة وواسط، ثم بغداد, وفَرَّ منها أميرُ الأمراء في حينها ابن شيرزاد, وتولَّى ابن بويه منصِبَ أميرِ الأمراء, ولقَّبَه المستكفي بمعز الدولة، وأصبحَ المُعِزُّ الآمِرَ الناهيَ في بغداد، وبلغ الحالُ بضعف الخليفة أن قرَّرَ له مُعِزُّ الدولة في الشهر مائة وخمسون ألف درهم فقط, وفي عام 334 دخل على الخليفةِ المستكفي اثنان من الديلم، فطلبا منه الرزقَ، فمَدَّ يدَه للتقبيلِ، فجَبَذاه من سريرِ الخِلافةِ، وجَرَّاه بعمامته، ونُهِبَت داره، وساقاه ماشيًا إلى منزل معزِّ الدولة، الذي خَلع المستكفيَ وسملَ عينيه بمِكحلٍ محميٍّ. ثم بايع للفَضلِ بن المقتدر، ولَقَّبَه بالمطيع لله، واستقَلَّ بملك العراق معزُّ الدولة. وضعُفَ أمرُ الخلافةِ جِدًّا، وظهر الرَّفضُ والاعتزال ببني بُوَيه. فكانت خلافةُ المستكفي ستة عشر شهرًا، ثم عاش بعد العزلِ والكَحلِ ذليلًا مقهورًا مسجونًا أربعةَ أعوام إلى أن مات وله سِتٌّ وأربعون سنةً.
هو أحمدُ بنُ مُحمَّد بن إسماعيلَ بنِ يونُسَ أبو جعفر المراديُّ المصريُّ النحويُّ، المعروف بالنَّحَّاس، والنَّحَّاس: نسبة إلى من يعمَلُ النَّحاسَ. لُغويٌّ مُفَسِّرٌ أديبٌ، له مُصَنَّفاتٌ كثيرةٌ في التفسيرِ وغيره، وقد سَمِعَ الحديثَ ولقي أصحابَ المُبَرِّد، أخذ النحوَ عن عليِّ بن سليمانَ الأحوص، وأبي بكر الأنباري، وأبي إسحاق الزَّجَّاج، ونِفطَوَيه، وغيرهم، وله مصنفاتٌ كثيرة مفيدة، منها (تفسير القرآن) و(الناسخ والمنسوخ) و(شرح أبيات سيبويهِ)، ولم يُصنَّفْ مِثلُه، وشَرح المُعَلَّقات والدواوين العشرة، وغير ذلك, وروى الحديثَ عن النَّسائي، وانتفع الناس به. كان مُقَتِّرًا على نفسه, يَهَبونَه العِمامةَ فيقطعُها ثلاثَ عمائِمَ، وكان سببُ وفاته: أنَّه جلس على درجِ المقياسِ في شاطئِ النِّيلِ، وهو في أيَّام زيادتِه، يقطِّعُ شيئًا من العروض، فسَمِعَه جاهِلٌ مِن العامَّة فظَنَّه يَسحَرُ النِّيلَ حتى لا يزيدَ ماؤه، فتغلو الأسعارُ، فرَفَسَه برجلِه فسَقَط فغَرِقَ، فلم يوُقَفْ له على خبَرٍ, ولم يُدرَ أين ذهب.
هو أبو منصورٍ محمَّدُ بنُ المعتضد بن طلحة بن المتوكل. أمُّه أمُّ ولدٍ اسمُها فتنة، لَمَّا قُتِلَ المقتَدِرُ أُحضِرَ هو ومحمَّد بن المكتفي، فسألوا ابنَ المكتفي أن يتولَّى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمِّي هذا أحَقُّ به، فكلم القاهِر فأجاب، فبويعَ ولُقِّبَ القاهِرَ بالله، فأوَّلُ ما فعَلَ أنْ صادَرَ آلَ المُقتَدِر وعَذَّبهم، وضربَ أمَّ المُقتَدِر حتى ماتت في العذابِ، على الرغمِ أنَّها كانت تُحسِنُ إليه عندما حُبِسَ في بيتها بعد فشَلِ محاولةِ عَزلِ المُقتَدِر عام 317 وتعيينِه خليفةً بدلًا منه. وفي سنة إحدى وعشرين شغَّبَ عليه الجُندُ، واتَّفَقَ مُؤنِسٌ وابن مقلة وآخرون على خَلعِه بابن المكتفي، فتحيَّلَ القاهِرُ عليهم إلى أن أمسَكَهم وذبَحَهم وطيَّنَ على ابنِ المُكتفي بين حائِطَينِ، وأما ابنُ مُقلةَ فاختفى، فأُحرِقَت دارُه، ونُهِبت دورُ المُخالِفينَ، ثم أطلَقَ أرزاقَ الجُندِ فسَكَنوا، واستقام الأمرُ للقاهر، وعَظُم في القلوب، أمَرَ بتحريم القيان والخَمر، وقبَضَ على المغنِّين، ونفى المخانيثَ، وكسَرَ آلات اللهو، وأمر ببيعِ المُغَنِّيات من الجواري على أنَّهن سواذج، وكان مع ذلك هو لا يصحو مِن السُّكرِ، ولا يَفتُرُ عن سَماع الغناء, أهوجَ، سفَّاكًا للدِّماء، قبيحَ السِّيرةِ، كثيرَ التلَوُّنِ والاستحالة، مُدمِنًا للخمر، وفي عام 322 قَتَل القاهِرُ إسحاقَ بنَ إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافةِ القاهر، ألقاه على رأسِه في بئرٍ وطُمَّت، قيل: إنَّ ذَنبَه أنَّه زايدَ القاهِرَ قبل الخلافةِ في جاريةٍ، واشتراها فحَقَدَ عليه. تحَرَّك الجند عليه؛ لأنَّ أمير الأمراء ابنَ مُقلةٍ كان يوحشُ الجندَ مِن القاهر، ويقول لهم: إنَّه بنى لكم المطاميرَ ليَحبِسَكم، فأجمعوا على الفَتكِ به، فدخلوا عليه بالسُّيوفِ، فهرب، فأدركوه وقَبَضوا عليه وبايعوا أبا العبَّاس محمد بن المُقتَدِر ولقَّبوه: الراضي بالله، كان سببُ خلعِ القاهر سوءَ سيرته، وسَفكَه الدماءَ، فامتنع من الخَلعِ، فسَمَلوا عينيه حتى سالَتا على خَدَّيه، وتعَرَّض لصُنوفٍ من العذاب حتى مات في هذه السَّنةِ.
هو شيخُ الفَلسفةِ الحَكيمُ أبو نصر محمَّدُ بنُ محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي المنطقيُّ، من كبار الفلاسفة، قال الذهبي: "أحدُ الأذكياء. له تصانيفُ مشهورة, من ابتغى الهُدى منها ضَلَّ وحار, منها تخرَّجَ ابنُ سينا, نسأل الله التوفيق". تعلَّم اليونانية, ولقِيَ متَّى بن يونس فأخذ عنه, وسار إلى حرَّان فلزم بها يوحنَّا بن جيلان النصراني فتعلَّمَ عليه المنطِقَ, وقد أحكم أبو نصرٍ العربيَّةَ بالعراقِ، رحل إلى دمشق ثم حلب، يُعتبَرُ مساويًا لأرسطو في الفلسفة، ويعتبِرُ البعض أنَّ الفارابي هو مترجِمٌ لِمَا كان عليه أرسطو، كما أنَّ له مُشاركةً في الطبِّ والموسيقى، وهو من اخترع آلةَ القانون الموسيقيَّة المعروفة اليوم، وكان يحِبُّ الوَحدةَ, وكان يتزهَّدُ زُهدَ الفلاسفة، ولا يحتفِلُ بملبسٍ ولا منزلٍ, أجرى عليه ابنُ حمدان في كلِّ يومٍ أربعة دراهم. من تصانيفِه: آراءُ أهل المدينة الفاضلة، وجوامع السياسة، والمدخل إلى صناعة الموسيقى، وغير ذلك من الكتُب، توفِّيَ في طريقه إلى عسقلان؛ حيث قتله اللصوصُ، فنُقِلَ إلى دمشق وصلَّى عليه سيفُ الدولة الحمداني، ودفن بظاهر دمشق عن عُمرٍ يناهز الثمانينَ.
دخل سيفُ الدَّولةِ بنُ حمدان بجيشٍ عظيمٍ نحو مِن ثلاثين ألفًا إلى بلادِ الرُّومِ فتوغَّلَ فيها وفتح حصونًا وقتل خلقًا وأسرَ أممًا، وغَنِمَ شيئًا كثيرًا ثمَّ رجع، فأخذت عليه الرومُ الدَّربَ الذي يخرجُ منه فقتلوا عامَّةَ مَن معه وأسَرُوا بقيَّتَهم واستردُّوا ما كان أخَذَه، ونجا سيفُ الدولة في نفرٍ يسيرٍ مِن أصحابه. ثمَّ في سنة 342 جمع سيفُ الدولة بن حمدان جيوشَ المَوصِل، والجزيرة، والشام، والأعراب، ووغلَ في بلاد الروم، فقتَلَ وسبى شيئًا كثيرًا، وعاد إلى حلَبٍ سالِمًا.
هو أبو القاسمِ عبدُ الرَّحمنِ بنُ إسحاقَ الزَّجَّاجي النَّحْوي البغدادي دارًا ونشأةً، والنَّهاونديُّ أصلًا ومولدًا. كان إمامًا في علمِ النَّحو، وصنَّفَ فيه كتابَ "الجُمل الكبرى" وهو كتابٌ نافعٌ لولا طولُه بكثرة الأمثلة. أخذ النحوَ عن محمَّد بن العبَّاس اليزيدي، وأبي بكر بن دُريد، وأبي بكر بن الأنباريِّ. وصَحِبَ أبا إسحاق إبراهيمَ بنَ السَّريِّ الزجَّاج فنُسِبَ إليه، وعُرِفَ به، وسكن دمشقَ وانتفع به الناسُ وتخَرَّجوا عليه، وتوفِّيَ بدمشق، وقيل بطَبَريَّة- رحمه الله تعالى.
في هذه السَّنةِ ردَّ القرامِطةُ الحجَرَ الأسودَ المكِّيَّ إلى مكانه في البيت، وقد كان القرامطةُ أخذوه في سنة 317، وكان مَلِكُهم إذ ذاك أبا طاهر سُليمانَ بن أبي سعيد الجَنَّابي- لعنه الله- ولَمَّا وقع هذا أعظمَ المُسلِمونَ ذلك، وقد بذل لهم الأميرُ بجكم التركي قبل هذا العامِ خمسينَ ألف دينارٍ على أن يردوه إلى موضِعِه فلم يفعلوا، وقالوا: نحن أخذناه بأمرٍ فلا نرُدُّه إلَّا بأمرِ مَن أخذناه بأمرِه، وكَذَبوا فإنَّ الله تعالى قال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، فلما كان في هذا العام 339 حملوه إلى الكوفةِ وعَلَّقوه على الأسطوانةِ السابعة مِن جامِعِها لِيَراه الناس، وكتب أخو أبي طاهر كتابًا فيه: "إنَّا أخَذْنا هذا الحجَرَ بأمرٍ، وقد ردَدْناه بأمرِ مَن أمَرَنا بأخذِه؛ ليتِمَّ حَجُّ الناسِ ومناسِكُهم"، ثم أرسلوه إلى مكَّةَ بغير شيء على قَعودٍ، فوصل في ذي القَعدة من هذه السنة، ولله الحمدُ والمنَّة، وكان مدَّة مغايبته عند القرامطة ثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فرحًا شديدًا، قال ابن كثير: " وقد ذكرَ غيرُ واحد أنَّ القرامطة لما أخذوه حملوه على عِدَّةِ جمالٍ فعَطِبَت تحته واعترى أسنِمَتَها القَرحُ، ولَمَّا ردوه حمَلَه قَعودٌ واحِدٌ ولم يُصِبْه أذًى"
رُفِعَ إلى وزيرِ مُعِزِّ الدولة الحسَنِ المهلَّبي أنَّ رجلًا يُعرَفُ بالبصريِّ مات ببغداد، وهم مُقَدَّم القراقرية، يدَّعي أنَّ رُوحَ أبي جعفرٍ محمَّد بن علي بن أبي القراقر قد حَلَّت فيه، وأنَّه خَلَّف مالًا كثيرًا كان يَجبيه من هذه الطائفةِ، وأنَّ له أصحابًا يعتَقِدونَ ربوبيَّته، وأنَّ أرواحَ الأنبياءِ والصِّديقينَ حَلَّت فيهم، فأمر بالختمِ على التَّرِكة، والقبضِ على أصحابه، والذي قام بأمرِهم بعده، فلم يجِدْ إلَّا مالًا يسيرًا، ورأى دفاتِرَ فيها أشياءُ مِن مذاهبهم، وكان فيهم غلامٌ شابٌّ يدَّعي أنَّ رُوحَ عليِّ بنِ أبي طالب حلَّت فيه، وامرأةٌ يقال لها فاطمة تدَّعي أنَّ رُوحَ فاطمةَ حَلَّت فيها، وخادِمٌ لبني بسطام يدَّعي أنه ميكائيل، فأمر بهم المهلبي فضُرِبوا ونالهم مكروهٌ، ثمَّ إنَّهم توصَّلوا بمن ألقى إلى مُعِزِّ الدولة أنَّهم من شيعة عليِّ بنِ أبي طالب، فأمر بإطلاقِهم، وخاف المهلَّبي أن يقيمَ على تشَدُّدِه في أمرِهم فيُنسَبَ إلى تَركِ التشَيُّع، فسكَت عنهم.
كان المنصورُ الفاطميُّ- صاحِبُ إفريقيَّةَ- قد استعمَلَ على صقليَّة سنة 336 الحسَنَ بنَ علي بن أبي الحسين الكلبي، فدخلها واستقَرَّ بها، وغزا الرومَ الذين بها عدَّةَ غَزَوات، فاستمَدُّوا مَلِكَ قسطنطينيَّة فسيَّرَ إليهم جيشًا كثيرًا، فنزلوا أذرنت، فأرسل الحسَنَ بنَ علي إلى المنصور يعَرِّفه الحال، فسيَّرَ إليه جيشًا كثيفًا مع خادِمِه فرح، فجمع الحسَنُ جُندَه مع الواصلين وسار إلى ريو، وبثَّ السَّرايا في أرض قلورية، وحاصر الحسَنُ جراجةَ أشَدَّ حِصارٍ، فأشرف أهلُها على الهلاكِ مِن شِدَّةِ العَطَشِ، ولم يبقَ إلَّا أخذُها، فأتاه الخبَرُ أنَّ عسكرَ الرومِ واصِلٌ إليه، فهادن أهلَ جراجة على مالٍ يؤدُّونَه، وسار إلى الرومِ، فلمَّا سَمِعوا بقُربِه منهم انهزموا بغيرِ قِتالٍ، وتركوا أذرنت، ونزل الحسَنُ على قلعة قسانة، وبثَّ سراياه تَنهَبُ، فصالحه أهلُ قسانة على مالٍ، ولم يزَلْ كذلك إلى شَهرِ ذي الحجة، وكان المصافُّ بين المسلمين وعسكَرَ قسطنطينية ومن معه من الرومِ الذين بصقلية، ليلةَ الأضحى، واقتتلوا، واشتدَّ القتال، فانهزم الروم ورَكِبَهم المسلمون يقتلونَ ويأسِرونَ إلى اللَّيلِ، وغَنِمُوا جميعَ أثقالهم وسلاحِهم، ودوابِّهم، وسيَّرَ الرؤوسَ إلى مدائن صقلية، وإفريقية، وحصر الحسَنُ جراجة، فصالحوه على مالٍ يَحمِلونه، ورجع عنهم، وسيَّرَ سَرِيَّة إلى مدينة بطرقوقة، ففتحوها وغَنِموا ما فيها، ولم يزَل الحسن بجزيرةِ صقليَّة إلى سنة إحدى وأربعين، فمات المنصورُ، فسار عنها إلى إفريقيَّة، واتصل بالمعزِّ بن المنصور، واستخلف على صقليَّة ابنَه أبا الحُسين أحمد.