كانت قلعةُ البيرة، وهي مُطِلَّة على الفرات من أرض الجزيرة، لشهاب الدين الأرتقي، وهو ابنُ عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وكان في طاعةِ نور الدين محمود بن زنكي، صاحِبِ الشام، فمات شهابُ الدين وملك القلعةَ بعده ولدُه وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل، فلما كان هذه السنة أرسل صاحِبُ ماردين إلى عز الدين مسعود يطلبُ منه أن يأذن له في حَصْرِ البيرة وأخْذِها، فأذِنَ له في ذلك، فسار في عسكرِه إلى قلعة سميساط، وهي له، ونزل بها وسيَّرَ العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفَرْ منها بطائل إلَّا أنهم لازموا الحصار، فأرسل صاحبُها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر، يطلب منه أن ينجدَه ويُرحِلَ العسكر المارديني عنه، ويكون هو في خدمته، كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، وأرسل رسولًا إلى صاحِبِ ماردين يشفَعُ فيه، ويطلب أن يرحل عسكَره عنه، فلم يقبَلْ شفاعته، واشتغل صلاحُ الدين بالفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طولَ مقام عسكره على البيرة، ولم يبلُغوا منها غرضًا، أمرهم بالرحيلِ عنها، وعاد إلى ماردين، فسار صاحبُ البيرة إلى صلاح الدين، وكان معه حتى عبر معه الفراتَ.
هو أبو الفتوح الملك الصَّالح إسماعيلُ- صاحب حلب- بن نور الدين محمود بن الأتابك زنكي, وصى له والده محمود بمملكته وهو ابن إحدى عشرة سنة، فملَّكوه بدمشق، وحلفوا له بحلب، فأقبل صلاح الدين من مصر، وأخذ منه دمشق، فترحل إسماعيل إلى حلب، وكان شابًا ديِّنًا خَيِّرًا، عاقلًا بديع الجمال، محبَّبًا إلى الرعية وإلى الأمراء، ثم سار السلطان صلاح الدين، وحاصر حلب مُدَّةً، ثم ترحل عنها، ثم حاصرها، فصالحوه، وبذلوا له المعرَّةَ وغيرها، ثم نازل حلب ثالثًا، فبذل أهلُها الجهد في نصرة الملك الصالح، فلما ضَجِرَ السلطان، صالَحَهم وترحل، وأخرجوا إليه بنت نور الدين، فوَهَبها عزاز- بليدة قريبة من حلب- وكان تدبير مملكة حلب إلى أم الملك الصالح، وإلى شاذبخت الخادم وابن القيسراني. تعلل الملك الصالحُ بقولنج خمسة عشر يومًا، "فلما اشتد به المرض عَرَض عليه طبيبه خمرًا للتداوي، فأبى، وقال: قد قال نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله لم يجعَلْ شفاءَ أمتي فيما حَرَّمَ عليها))، ولعلي أموتُ وهو في جوفي. ولما اشتد مرضُه أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصَّاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إنَّ عماد الدين ابن عمك أيضًا، وهو زوجُ أختك، وكان والدُك يحِبُّه ويؤثره، وهو تولى تربيتَه، وليس له غير سنجار، فلو أعطيتَه البلد لكان أصلحَ، وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغِبْ عني، ولكن قد عَلِمتُم أن صلاح الدين قد تغلَّبَ على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سَلَّمتُ حلب إلى عماد الدين يعجِزُ عن حفظها، وإن ملكها صلاحُ الدين لم يبق لأهلنا معه مقامٌ، وإنْ سَلَّمتُها إلى عز الدين أمكَنَه حِفظُها بكثرة عساكره وبلادِه، فاستحسنوا قوله، وعجبوا من جودة فطنته مع شِدَّةِ مَرَضِه وصِغَرِ سنه. توفي في رجب، وعمره نحو تسع عشرة سنة, ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراءَ عنده من حلب، فحضروا وساروا جميعًا إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، فأقام أتابك عز الدين مسعود بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقَّة.
هو أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله مصغر بن أبي سعيد بن سليمان الأنباري النحوي صاحب التصانيف المفيدة، من الأئمَّة المشار إليهم في علمِ النحو، وُلِدَ في شهر ربيع الآخر سنة 513, وسكن بغداد من صباه إلى أن مات، وتفقَّه على مذهب الشافعي، بالمدرسة النظامية وتصدَّر لإقراءِ النحو بها، وصار شيخَ العراق في الأدب غيرَ مُدافَع له. تولى التدريس في بغداد, وقَصَده طلابُ العلم من سائر الأقطار, يقول ابنُ خَلِّكان: "اشتغل عليه خلقٌ كثيرٌ وصاروا عُلَماء، ولَقِيتُ جماعة منهم، وصَنَّف في النحو كتاب "أسرار العربية" وهو سهل المأخذ كثير الفائدة، وله كتاب "الميزان" في النحو، وله كتاب في "طبقات الأدباء" جمع فيه المتقَدِّمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتُبُه كلها نافعة، وكان نفَسُه مباركًا ما قرأ عليه أحدٌ إلا وتميز". ثم انقطع ابن الأنباري في منزله مشتغلًا بالعلم والعبادة والإفادة، قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: "لم أر في العُبَّاد والمنقطعين أقوى منه في طريقِه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جِدٌّ مَحضٌ لا يعتريه تصَنُّع، ولا يَعرِف الشرورَ ولا أحوال العالَم. كانت له دارٌ يَسكُنُها، وحانوت ودار أخرى يتقَوَّت بأجرتهما، سيَّرَ له المستضيء خمس مائة دينار فردَّها، وكان لا يُوقَد عليه ضوء، وتحته حصير قصب، وثوبَا قُطن، وله مائة وثلاثون مصنفًا" ومن تصانيفه في المذهب "هداية الذاهب في معرفة المذاهب" و"بداية الهداية" وفي الأصول "الداعي إلى الإسلام في أصول الكلام" و"النور اللائح في اعتقاد السلف الصالح" وغير ذلك، وفي الخلاف "التنقيح في مسلك الترجيح"، و"الجمل في علم الجدل" وغير ذلك، وفي النحو واللغة ما يزيد على الخمسين مصنَّفًا، وله شعر حسن كثير, ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلًا بالعلم والعبادة، وتَرَك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة إلى أن توفي ليلة الجمعة تاسع شعبان من هذه السنة ببغداد، ودُفِنَ بباب أبرز بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
سَيَّرَ صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى بلاد اليمن، وأمَرَه بتمَلُّكِها وقطْع الفتن بها، وفَوَّض إليه أمرها، وكان بها حطان بن منقذ، وكتَبَ عز الدين عثمان الزنجيلي متولي عدن إلى صلاح الدين يُعَرِّفُه باحتلال البلاد، ويشير بإرسالِ بعض أهله إليها؛ لأن حطان كان قَوِيَ عليه، فجَهَّز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام وسَيَّرَه إلى أهل اليمن، فوصلَ إلى زبيد، فخافه حطان بن منقذ واستشعر منه، وتحصَّن في بعض القلاع، فلم يزل به سيف الإسلامِ يؤَمِّنُه ويهدي إليه ويتلَطَّفُه حتى نزل إليه، فأحسن صحبتَه، وطلب حطان أن يأذنَ له بقصد الشام، فأذن له، فأخرج أثقالَه وأمواله وأهله، وأصحابه وكل ما له، وسيَّرَ الجميع بين يديه، فلما كان الغد دخل على سيف الإسلام ليودِّعَه، فقبض عليه واسترجع جميعَ ماله ثمَّ سَجَنه في بعضِ القلاع، وكان آخِرَ العهد به، فقيل إنه قتله، وأمَّا عز الدين عثمان الزنجيلي فإنَّه لَمَّا سمع ما جرى على حطان خاف فسار نحو الشام خائفًا يترقَّبُ، وسيَّرَ معظم أمواله في البحر، فصادفهم مراكِبُ فيها أصحاب سيف الإسلام، فأخذوا كل ما لعز الدين، ولم يبقَ إلَّا ما صحبه في الطريق، وصَفَت زبيد وعدن وما معهما من البلاد لسيف الإسلام.
كان أوَّل الغورية هو محمد بن الحسين قد صاهر بهرام شاه بن مسعود صاحِبَ عزنة من آل سبكتكين، ثم قتله بهرام شاه خشيةً من غدره، وقد جاءه يظهِرُ الطاعة ويُبطِنُ الغدر، فولى بعده ملكَ الغورية أخوه سورى وسار إلى غزنة في طلب ثأرِ أخيه وقاتَلَ بهرام شاه فظفر به وقتله أيضًا. ثم ملك أخوهما علاء الدين الحسين بن الحسين، وسار إلى غزنة، فانهزم عنها بهرام شاه، فاستوى عليها علاء الدين الحسين وأقام بغزنة أخاه سيف الدين شاه، ورجعَ إلى الغور، فكاتب أهل غزنة بهرام شاه فقاتَلَ سيف الدين الغوري فظَفِرَ بسيف الدين فقتَله وملك بهرام شاه غزنة، ثم توفِّي بهرام شاه. وملك ابنُه خسرو شاه وتجهَّز علاء الدين ملك الغورية إلى غزنةَ فمَلَكَها شهاب الدين سنة تسع وسبعين وخمسمائة بعد حصار، وأمنَ خسرو شاه فحضر فأكرمه، وبلغ غياث الدين ذلك فطلب من شهاب الدين إنفاذَ خسرو شاه إليه فأمَرَه شهاب الدين بالتوجُّه إليه، فقال خسرو شاه: أنا ما أعرف أخاك فطَيَّبَ خاطره وأرسله، وأرسل ابن خسرو شاه أيضًا معه مع عسكر يحفظونهما فرفعهما غياثُ الدين إلى بعض القلاع ولم يرهما، فكان آخِرَ العهد بهما, وخسرو شاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين هو آخر ملوك آل سبكتكين، ابتداءُ دولتهم سنة 366، وملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة تقريبًا، فانقراض دولتهم سنة 578، وكانوا من أحسن الملوك سيرةً.
كان عِزُّ الدين مسعود بن مودود بن زنكي صاحِبُ الموصل قد أقطَعَ مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك مدينةَ حران وقلعَتَها، ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنحَ اليه مظفر الدين ووعَدَه النصر واستحَثَّه للقدوم على الجزيرةِ، فجَدَّ صلاح الدين السيرَ مُظهِرًا أنه يريد حَصْرَ حلب سترًا للحالِ، فلما قارب الفراتَ سار إليه مظفر الدين فعبَرَ الفرات واجتمع به وعاد معه فقصدَ البيرة، وهي قلعةٌ منيعة على الفرات، من جانب الجزيرة، وكان صاحِبُها قد سار مع صلاح الدين، وفي طاعته، فعبَرَ هو وعسكره الفراتَ على الجسر الذي عند البيرة، وكان عزُّ الدين صاحِبُ الموصل ومجاهِدُ الدين لما بلغهما وصولُ صلاح الدين إلى الشام قد جمعا العسكر وسارا إلى نصيبين؛ ليكونا على أُهبةٍ واجتماعٍ لئلا يتعَرَّض صلاح الدين إلى حلب، ثمَّ تقدما إلى دارا، فنزلا عندها، فجاءهما أمرٌ لم يكن في الحساب، فلما بلغهما عبورُ صلاح الدين الفرات، عادا إلى الموصِل وأرسلا إلى الرَّها عسكرًا يحميها ويمنَعُها، فلما سمع صلاح الدين ذلك قَوِيَ طمعه في البلاد، فكاتب الملوكَ أصحابَ الأطراف ووعدهم، وبذل لهم البذولَ على نصرته، فأجابه نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحِبُ الحصن، إلى ما طلب منه، وسار صلاحُ الدين إلى مدينة الرها، فحصرها في جمادى الأولى، وقاتلها أشدَّ قِتالٍ، حتى مَلَك المدينة ثم زحف إلى القلعة، فسَلَّمَها إليه الدزدار الذي بها على مالٍ أخذه، فلما ملَكَها سلمها إلى مظفر الدين مع حران، ثم سار عنها، على حران، إلى الرقَّة، فلما وصل إليها كان بها مقطعُها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار عنها إلى عزِّ الدين مسعود، ومَلَكَها صلاح الدين، وسار إلى الخابور، قرقيسيا، وماكسين وعابان، فملك جميعَ ذلك، فلما استولى على الخابور جميعِه سار إلى نصيبين، فملك المدينةَ لوقتها، وبَقِيَت القلعة فحصرها عِدَّةَ أيام، فملكها أيضًا، وأقام بها ليُصلِحَ شأنَها، ثم أقطعها أميرًا كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، وسار عنه ومعه نور الدين صاحب الحِصن.
هو الملك المنصورُ عِزُّ الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحِبُ بعلبك ونائِبُ دمشق لعَمِّه الناصر صلاح الدين الأيوبي، وهو والِدُ الأمجد بهرام شاه صاحِبِ بعلبك بعد أبيه، وإليه تُنسَبُ المدرسة الفروخ شاهية بالشرقِ الشمالي بدمشق، وإلى جانبِها التربة الأمجديَّة لولده، وهما وقفٌ على الحنفية والشافعية، وقد كان فروخ شاه شجاعًا شَهمًا عاقلًا، ذكيًّا كريًما مُمدَّحًا، امتدحه الشعراءُ لفضله وجُودِه، وكان من أكبر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي، عَرَفه من مجلس القاضي الفاضل، فانتمى إليه، وكان يحسِنُ إليه، وللعماد الكاتب فيه مدائِحُ، وكان ابنه الأمجد شاعرًا جيدًا، ولَّاه عم أبيه صلاحُ الدين بعلبك بعد أبيه، واستمَرَّ فيها مدة طويلة، ومن محاسِنِ فروخ شاه صُحبَتُه لتاج الدين الكندي
عَمِلَ البرنسُ صاحب الكرك أسطولًا، وفَرَغ منه بالكرك، ولم يبقَ إلَّا جمعٌ قطَعَه بعضُها إلى بعض، وحملها إلى بحر أيلة، وجمعها في أسرع وقت، وفرغَ منها وشحَنَها بالمقاتِلة وسَيَّرَها، فساروا في البحر، وافترقوا فرقتين: فرقةٌ أقامت على حِصنِ أيلة وهو للمسلمينَ يَحصُرونه، ويمنَعُ أهلَه من ورود الماء، فنال أهله شدةٌ شديدة وضِيقٌ عظيم؛ وأما الفرقةُ الثانية فإنَّهم ساروا نحو عيذاب، وأفسدوا في السواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوا من المراكبِ الإسلامية ومَن فيها من التجَّار، وبغتوا الناسَ في بلادهم على حين غفلةٍ منهم؛ فإنهم لم يعهدوا بهذا البحرِ فرنجيًّا قطُّ لا تاجرًا ولا محاربًا، وكان بمصرَ الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوبُ عن أخيه صلاح الدين، فعمرَ أسطولًا وسيَّرَه، وفيه جمعٌ كثير من المسلمين، ومُقَدَّمُهم الحاجب حسام الدين لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، فسار لؤلؤ مجِدًّا في طلبهم، فابتدأ بالذين على أيلة فقاتلهم، فقتل بعضَهم، وأسر الباقيَ، وسار من وقته بعد الظَّفَر يقُصّ أثَرَ الذين قصدوا عيذاب، فلم يَرَهم، وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها، وقتلوا من لَقُوه عندها، وساروا إلى غير ذلك المرسى؛ ليفعلوا كما فعلوا فيه، وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة، فأدركهم بساحلِ الجوزاء، فأوقع بهم هناك، فلما رأوا العطبَ وشاهدوا الهلاكَ خرجوا إلى البَرِّ، واعتصموا ببعض تلك الشعاب، فنزل لؤلؤٌ من مراكبه إليهم، وقاتلهم أشدَّ قِتالٍ، فظَفِرَ بهم وقَتَل أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضَهم إلى مِنًى ليُنحِروا بها عقوبةً لِمن رام إخافةَ حَرَمِ الله تعالى وحَرَمِ رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وعاد بالباقين إلى مصر، فقُتِلوا جميعُهم.
لَمَّا سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار، سيَّرَ مجاهد الدين قايماز إليها عسكرًا قوةً لها ونجدةً، فسمِعَ بهم صلاح الدين، فمَنَعَهم من الوصول إليها، وأوقع بهم، وأخذ سلاحَهم ودوابَّهم وسار إليها ونازلها، وكان بها شرفُ الدين أمير أميران هندوا أخو عز الدين بن مسعود، صاحِبِ الموصل، في عسكر معه، فحَصَر البلد وضايقه، وألحَّ في قتاله، فكاتبه أحدُ أمراء الأكراد الذين به من الزرزارية، وخامر معه، وأشار بقَصدِه من الناحية التي هو بها لِيُسَلِّمَ إليه البلد، فطرقه صلاحُ الدين ليلًا، فسَلَّمَ إليه ناحيتَه، فلما سمع شرف الدين بن مسعود الخبَرَ استكان وخضع، وطلب الأمان، فأُمِّن، ومَلَك صلاحُ الدين البلد، وسار شرفُ الدين ومن معه إلى الموصل، واستقَرَّ جميع ما ملكه صلاح الدين بمِلكِ سنجار، فلما مَلَك سنجارَ صارت على الجميعِ كالسور، واستناب بها سعدَ الدين بن معين الدين أنر.
لَمَّا ملك صلاح الدين نصيبين، سار إلى الموصل، وكان عزُّ الدين بن مسعود بن مودود صاحِبُها ومجاهد الدين قايماز قد جمعا العساكرَ الكثيرةَ ما بين فارسٍ وراجل، وأظهرا من السلاحِ وآلات الحصار ما حارت له الأبصارُ، وبذلا الأموالَ الكثيرة، وسار صلاحُ الدين حتى قارب الموصل، فرأى ما هاله وملأ صدرَه وصدور أصحابِه، فإنه رأى بلدًا عظيمًا كبيرًا، ولَمَّا رأى السور والفصيلَ، عَلِمَ أنَّه لا يقدر على أخْذِه، وأنَّه يعود خائبًا، ثم رجع إلى مُعسكَرِه وصَبَّحَ البلد، وكان نزولُه عليه في رجب، فنازله وضايقَه، ونزل محاذيَ باب كندة، وأنزل صاحِب الحصن بباب الجسر، وأنزل أخاه تاجَ الملوك عند الباب العمادي، وانشبَّ القتال، فلم يظفر، فنصَبَ منجنيقًا، فنصب عليه من البلدِ تسعة مجانيق، ثمَّ إن صلاح الدين رحل من قرب البلد، ونزل متأخِّرًا؛ خوفًا من البَياتِ، فإنه لقُربِه كان لا يأمنُ ذلك، ثم تردَّدت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصُّلحِ، فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينالُ مِن الموصل غرضًا، ولا يحصُلُ على غير العناءِ والتعب، وأنَّ مَن بسنجار من العساكر الموصليَّة يقطعونَ طريقَ مَن يَقصِدونه من عساكِرِه وأصحابه، سار من الموصِلِ إلى سنجار.
فتح المسلمون بالشام شقيفًا من الفرنج، وهو من أعمال طبرية، مُطِل على السواد، وسببُ فَتحِه أنَّ الفرنج لما سمعوا بمسير صلاح الدين من مصر إلى الشام جمعوا له، وحشدوا الفارس والراجل، واجتمعوا بالكرك بالقرب من الطريق؛ لعَلَّهم ينتهزون فرصة، أو يظفرون بنُصرة، وربما عاقوا المسلمينَ عن المسير بأن يَقِفوا على بعض المضايق، فلمَّا فعلوا ذلك خَلَت بلادهم من ناحية الشام، فسَمِعَ عز الدين فرخشاه بن أخي صلاح الدين الخَبَر، فجمع مَن عنده من عساكِرِ الشام، ثمَّ قصد بلاد الفرنج وأغار عليها، ونهب دبورية وما يجاورها من القرى، وأسَرَ الرجال وقَتَل فيهم وأكثَرَ وسَبى النِّساء، وغَنِمَ الأموال وفتَحَ منهم الشقيف، وكان على المسلمينَ منه أذًى شديد، ففَرِحَ المسلمون بفتحه فرحًا عظيمًا، وأرسل إلى صلاح الدين بالبشارة، فلقيه في الطريق، ففَتَّ ذلك في عضد الفرنج، وانكَسَرت شوكتُهم.
لَمَّا وصَلَ صَلاحُ الدين إلى دمشقَ مِن مصر أقام بها أيامًا يريحُ ويَستريح هو وجندُه، ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول، فقصد طبريَّةَ، فنزل بالقرب منها، وخيَّمَ في الأقحوانة من الأردن، وجاءت الفرنجُ بجموعِها فنزلت في طبريَّة، فسيَّرَ صلاح الدين فرخشاه إلى بيسان، فدخَلَها قهرًا، وغَنِمَ ما فيها، وقتل وسبى، وجحف الغورَ غارةً شعواءَ، فعَمَّ أهلَه قتلًا وأسرًا، وجاءت العرب فأغارت على جنين واللجون وتلك الولاية، حتى قاربوا مرج عكا، وسار الفرنجُ مِن طبرية، فنزلوا تحت جبل كوكب، فتقدم صلاحُ الدين إليهم، وأرسل العساكرَ عليهم يرمونهم بالنشاب، فلم يَبرَحوا، ولم يتحَرَّكوا للقتال، فأمَرَ ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، فحملا على الفرنجِ فيمن معهما، فقاتلوا قتالًا شديدًا، ثم إنَّ الفرنج انحازوا على حاميتهم، فنزلوا غفربلا، فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخَنَ فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق.
هو أبو العبَّاس أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بالرفاعي، شيخُ الطائفةِ الأحمديَّة الرفاعية البطائحية الصوفيَّة المشهورة، كان أصلُه من العرب فسكن في البطائِحِ بقرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلقٌ عظيم من الفقراء، وأحسنوا الاعتقادَ فيه وتَبِعوه, حتى عُرِفوا بالطائفة الرفاعيَّة والبطائحية ويقال: إنَّه حَفِظَ التنبيه في الفقه على مذهب الشافعيِّ، قال الذهبي في العِبَر: وقد كَثُرَ الزغل في بعض أصحابه وتجدَّدَت لهم أحوال شيطانيَّة... وهذا ما لم يَعرِفْه الشيخُ ولا صُلَحاءُ أصحابِه، وذكر ابن خَلِّكان: "أنَّه قال: وليس للشيخ أحمد عَقِبٌ، وإنما النسل لأخيه وذريَّته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد". مَرِضَ في آخر حياته حتى توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى. والطريقة الرفاعية من الطرُقِ الصوفيَّة المنتشرة في كثيرٍ مِن البلاد، وقد غَلَوا في الرفاعيِّ حتى استغاثوا به من دونِ الله، وزعموا أنَّ لهم أحوالًا وكرامات،كالدخول في النيران، والركوب على السِّباع، واللعب بالحيات، وما إلى ذلك مما يُدَجِّلونَ به على العوامِّ مِمَّا لم يُنزِلْ به الله سلطانًا.
أثناء حصارِ صلاح الدين الأيوبي الفرنجَ في بيروت أتاه الخبَرُ وهو عليها، أن البحر بمصرَ قد ألقى بطسة- السفينة الكبيرة- للفرنجِ فيها جمعٌ عظيم منهم إلى دمياط، وكانوا قد خرجوا لزيارة بيت المقدس، فأَسَر المسلمون من بها وغَرِقَ منهم الكثير, وكان عِدَّةُ الأسرى ألفًا وستمائة وستة وسبعين أسيرًا، فضُرِبَت بذلك البشائرُ.
سار صلاحُ الدين عن دمشق إلى بيروت، فنَهَب بلدها، وكان قد أمَرَ الأسطول المصري بالمجيءِ في البحر إليها، فساروا ونازَلوها، وأغاروا عليها وعلى بلدها، وسار صلاحُ الدين فوافاهم ونَهَب ما لم يصِل الأسطولُ إليه، وحصرها عدَّةَ أيام. وكان عازمًا على ملازمتِها إلى أن يفتَحَها.
سارت عصابةٌ كبيرة من الفرنج من نواحي الدارم إلى نواحي مصر ليُغيروا وينهبوا، فسَمِعَ بهم المسلمون، فخرجوا إليهم على طريقِ صدر وأيلة، فانتزح الفرنجُ من بين أيديهم فنزلوا بماءٍ يقال له العسيلة، وسبقوا المُسلمين إليه، فأتاهم المسلمون وهم عِطاشٌ قد أشرَفوا على الهلاك، فرأوا الفرنجَ قد ملكوا الماء، فأنشأ اللهُ سبحانه وتعالى بلُطفِه سحابةً عظيمةً فمُطِروا منها حتى رَوُوا، وكان الزَّمانُ قَيظًا، والحَرُّ شديدًا في بَرٍّ مُهلِك، فلما رأوا ذلك قَوِيَت نفوسهم، ووَثَقوا بنصر الله لهم، وقاتَلوا الفرنج، فنصرهم الله عليهم فقتلوهم، ولم يسلَمْ منهم إلَّا الشريدُ الفريدُ، وغَنِمَ المسلمون ما معهم من سلاح ودوابَّ، وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله.
لَمَّا ملك صلاحُ الدين حلَب كان بقلعةِ حارم- وهي من أعمالِ حلب- أحَدُ المماليك النوريَّة، واسمه سرحك، وولَّاه عليها الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، فامتنع مِن تسليمها إلى صلاح الدين، فراسله صلاحُ الدين في التسليم، وقال له: اطلُبْ مِن الإقطاع ما أردت، ووعده الإحسانَ، فاشتَطَّ في الطلب، وتردَّدَت الرسلُ بينهما، فراسل الفرنجَ ليحتميَ بهم، فسَمِعَ مَن معه من الأجناد أنَّه يراسِلُ الفرنج، فخافوا أن يسَلِّمَها إليهم، فوَثَبوا عليه وقَبَضوه وحبسوه، وراسلوا صلاحَ الدين يَطلُبونَ منه الأمان والإنعام، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسَلَّموا إليه الحصنَ، فرتب به دزدارًا: بعضَ خواصه، وأما باقي قلاعِ حلب، فإنَّ صلاح الدين أقرَّ عين تاب بيد صاحبها، وأقطع تَلَّ خالد لأميرٍ يقال له داروم الباروقي، وهو صاحِبُ تل باشر، وأمَّا قلعة إعزاز، فإنَّ عماد الدين إسماعيل كان قد خَربَها، فأقطعها صلاحُ الدين لأميرٍ يقال له دلدرم سلمان بن جندر، فعَمَرها. وأقام صلاحُ الدين بحلب إلى أن فرغ مِن تقرير قواعِدِها وأحوالِها ودِيوانِها، وأقطع أعمالَها، وأرسل منها فجمع العساكِرَ من جميع بلادِه.
نزل صلاحُ الدين بحرزم، تحت ماردين، فلم يَرَ لأخذها وجهًا، فسار عنها إلى آمد، على طريق البارعيَّة، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبُه في كل وقتٍ بقَصدِها وأخْذِها وتَسلِيمها إليه، على ما استقَرَّت القاعدةُ بينهما، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ونازلها، وأقام يحاصِرُها، وقاتلهم صلاح الدين، ونصب المجانيقَ، وزحف إليها، وهي الغايةُ في الحصانة والمَنَعة، بها وبسورِها يُضرَبُ المثل، وابن نيسان على حالِه من الشُّحِّ بالمال، وتصَرُّفِه تصرُّفَ مَن ولَّت سعادته وأدبَرَت دولته، فلما رأى الناسُ ذلك منه تهاونوا بالقتال، وجَنَحوا إلى السلامة، وأمَرَ صلاح الدين أن يكتب على السِّهامِ إلى أهلِ البلد يَعِدُهم الخيرَ والإحسان إن أطاعوه، ويتهَدَّدُهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعدًا وتخاذلًا، وأحبُّوا مُلكَه وتركوا القتال، فوصل النقَّابون إلى السور، فنَقَبوه وعَلِقوه- حازوه- فلما رأى الجندُ وأهلُ البلد ذلك، طمعوا في ابن نيسان واشتَطُّوا في المَطالَبِ، فحين صارت الحالُ كذلك أخرج ابن نيسان نساءَه إلى القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، يسألُه أن يأخُذَ له الأمان ولأهلِه وماله، وأن يؤخِّرَه ثلاثةَ أيام حتى ينقُلَ ما له بالبلدِ مِن الأموال والذخائر، فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه صلاحُ الدين إليه، فسَلَّمَ البلد في العشر الأُوَل من المحرم، فلما تسَلَّمَها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحِبِ الحصنِ.
لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام، وقصَدَ تلَّ خالد، وهي من أعمالِ حلب، فحصرها ورماها بالمنجنيقِ، فنزل أهلُها وطلبوا الأمانَ فأمَّنَهم، ثم سار منها إلى عين تاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد، وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازنَ نور الدين محمود بن زنكي وصاحبَه، وكان قد سلَّمَها إليه نور الدين، فبَقِيَت معه إلى الآن. فلما نازله صلاح الدين أرسل إليه يطلُبُ أن يُقِرَّ الحِصنَ بيده ويَنزِلَ إلى خدمته ويكون تحت حُكمِه وطاعته، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلَفَ له عليه، فنزل إليه، وسار في خدمتِه.
في العاشِرِ من المحرم، سار أسطولُ المسلمين مِن مِصرَ في البحر، فلقوا بُطسة- سفينة كبيرة- فيها نحو ثلاثمائة من الفرنج بالسلاح التام، ومعهم الأموالُ والسلاح متَّجهة إلى فرنج الساحل، فقاتلوهم، وصبَرَ الفريقان، وكان الظَّفَرُ للمسلمين، وأخذوا الفرنجَ أسرى، فقَتَلوا بعضهم وأبقَوا بعضَهم أسرى، وغَنِموا ما معهم وعادوا إلى مصرَ سالمين.