سار صَلاحُ الدين من عين تاب إلى حلب، فنزل عليها، في الميدان الأخضر، وأقام به عدَّة أيام، ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه، وأظهَرَ أنه يريد أن يبنيَ مساكِنَ له ولأصحابه وعساكِرِه، وأقام عليها أيامًا والقتالُ بين العسكرين كل َّيوم، وكان صاحِبُ حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، ومعه العسكرُ النوري، وهم مجِدُّون في القتال، فلما رأى كثرةَ الخرجِ، كأنَّه شَحَّ بالمال، فحضر يومًا عنده بعضُ أجناده، وطلبوا منه شيئًا، فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضُهم: من يريدُ أن يحفَظَ مثل حلَب يُخرِجُ الأموالَ، ولو باع حُلِيَّ نسائه، فمال حينئذٍ إلى تسليمِ حَلَب وأخْذِ العِوَض منها، وأرسل مع الأميرِ طمان الياروقي، وكان يميلُ إلى صلاح الدين وهواه معه، فلهذا أرسَلَه فقرر قاعدةَ الصُّلحِ على أن يُسَلِّمَ عماد الدين حَلَب إلى صلاح الدين ويأخذ عِوَضَها سنجار، ونصيبين، والخابور، والرقة وسروج، وأخَذَ عِوَضَها قرى ومزارع، فنزل عنها عشر صفر، وتسلَّمَها صلاح الدين.
لما فرغ صلاحُ الدين من أمرِ حَلَب جعل فيها ولده المَلِكَ الظاهِرَ غازي، وهو صبيٌّ، وجعَلَ معه الأميرَ سيف الدين يازكج، وكان أكبَرَ الأمراء الأسدية، وسار إلى دمشقَ، وتجهَّز للغزو، ومعه عساكِرُ الشام والجزيرة، وديار بكر، وسار إلى بلدِ الفرنج، فعبَرَ نهر الأردن تاسِعَ جمادى الآخرة، فرأى أهلَ تلك النواحي قد فارقوها خوفًا، فقصد بيسان فأحرقها وخَرَّبَها، وأغار على ما هناك، فاجتمَعَ الفرنج، وجاؤوا إلى قبالته، فحين رأوا كَثرةَ عساكِرِه لم يُقدِموا عليه، فأقام عليهم، وقد استندوا إلى جبلٍ هناك، وخندقوا عليهم، فأحاط بهم، وعساكِرُ الإسلام ترميهم بالسِّهامِ، وتُناوِشُهم القتال، فلم يخرُجوا وأقاموا كذلك خمسةَ أيام، وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر، لعَلَّ الفرنج يطمعون ويخرُجون، فيستدرجونَهم ليَبلُغوا منهم غرضًا، فلما رأى الفرنجُ ذلك لم يُطمِعوا أنفُسَهم في غيرِ السلامة، وأغار المسلمونَ على تلك الأعمال يمينًا وشمالًا، ووصَلوا إلى ما لم يكونوا يطمَعونَ في الوصول إليه والإقدامِ عليه، فلمَّا كَثُرَت الغنائمُ معهم رأوا العودَ إلى بلادِهم بما غَنِموا مع الظَّفَر أوَلى، فعادوا إلى بلادِهم على عزمِ الغَزوِ.
لَمَّا عاد صلاحُ الدينِ والمُسلِمونَ مِن غزوةِ بيسان تجَهَّزوا لغزو الكركِ، فسار إليه في العساكرِ، وكتبَ إلى أخيه العادِلِ أبي بكر بن أيوب، وهو نائبُه بمصر، يأمُرُه بالخروج بجميعِ العساكر إلى الكرك. فوصل صلاحُ الدين إلى الكرك، ووافاه أخوه العادِلُ في العَسكَرِ المصري، وكثُرَ جَمعُه، وتمكَّنَ مِن حصره، وصَعِد المسلمون إلى رَبضِه وملكه، وحصر الحِصنَ من الربض، وتحكَّم عليه في القتال، ونصب عليه سبعةَ مجانيق لا تزالُ ترمي بالحجارة ليلًا ونهارًا، وكان صلاحُ الدين يظُنُّ أن الفرنجَ لا يمكِّنونَه مِن حصر الكَركِ، وأنهم يبذُلونَ جُهدَهم في رَدِّه عنهم، فلم يستصحِبْ معه من آلاتِ الحصارِ ما يكفي لمثلِ ذلك الحِصنِ العظيمِ والمَعقِلِ المنيع، فرحَلَ عنه منتصف شعبان.
كان العادِلُ بن أيوب قد أرسل إلى أخيه صلاحِ الدين يطلُبُ منه مدينةَ حَلَب وقلعَتَها بعد أن مَلَكَها، فأجابه إلى ذلك، وأمَرَه أن يخرج معه بأهلِه وماله فالتقى به في الكرك، ثم سيَّر صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين إلى مصرَ نائبًا عنه؛ ليتولى ما كان أخوه العادِلُ يتولاه، وبعد أن رحل صلاحُ الدين عن الكرك استصحب معه أخاه العادل إلى دمشق، وأعطاه مدينةَ حلب وقلعتها وأعمالها، ومدينة منبج وما يتعلَّقُ بها، وسيَّرَه إليها في شهر رمضان، وأحضَرَ ولده الظاهِرَ منها إلى دمشق.
سار صلاح الدين من دمشق يريدُ الغزوَ، وجمَعَ عساكِرَه، فأتَته من كل ناحية، وأتاه نورُ الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحِبُ الحصن. وكتب إلى مصرَ لِيُحضِرَ عَسكَرَها عنده على الكرك، فنازل الكركَ وحصره، وضَيَّقَ على من به، وأمَرَ بنصب المجانيق على ربضه، واشتَدَّ القتال، فملك المسلمون الربَضَ، وبقي الحصن، وهو الربضُ على سطحِ جَبَلٍ واحد، إلَّا أنَّ بينهما خندقًا عظيمًا فطَمُّوه بصعوبةٍ بالغة، وأرسَلَ مَن فيه من الفرنجِ إلى مَلِكِهم وفُرسانِهم يَستَمِدُّونَهم ويُعَرِّفونَهم عَجزَهم وضَعفَهم عن حِفظِ الحِصنِ، فاجتمعت الفرنجُ عن آخرها، وساروا إلى نجدتِهم عَجِلينَ، فلما بلغ الخبَرُ بمسيرهم إلى صلاح الدين رحَلَ عن الكرك إلى طُرُقِهم ليلقاهم ويُصافَّهم، ويعودَ بعد أن يهزِمَهم إلى الكرك، فقَرُبَ منهم وخَيَّم ونزل، ولم يمكِنْه الدنوُّ منهم لخشونةِ الأرض وصعوبةِ المَسلَك إليهم وضِيقِه، فأقام أيامًا ينتظِرُ خروجَهم من ذلك المكان ليتمَكَّنَ منهم، فلم يبرحوا منه خوفًا على نفوسِهم، فلما رأى ذلك رحل عنهم عدَّة فراسخ، وجعل بإزائِهم من يُعلِمُه بمسيرهم، فساروا ليلًا إلى الكَركِ، فلمَّا عَلِمَ صلاح الدين ذلك عَلِمَ أنَّه لا يتمكن حينئذٍ ولا يبلغُ غرَضَه، فسار إلى مدينةِ نابلس، ونهَبَ كُلَّ ما على طريقِه من البلاد، فلما وصَلَ إلى نابلس أحرَقَها وخَرَّبَها ونَهَبَها، وقَتَل فيها وأسَرَ وسَبى فأكثَرَ، وسار عنها إلى سبسطية، وبها جماعةُ أسرى من المسلمين، فاستنقَذَهم، ورحل إلى جينين فنهَبَها وخربها، وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريقِه وخَرَّبه، وبث السرايا في طريقِه يمينًا وشمالًا يَغنَمونَ ويُخَرِّبون، حتى وصل إلى دمشقَ.
هو قطبُ الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحِبُ ماردين، ومَلَك بعده ابنُه حسام الدين بولق أرسلان، وهو طفل، وقام بتربيته وتدبيرِ مملكته نظامُ الدين البقش مملوك أبيه، وكان شاه أرمن صاحِبُ خلاط خالَ قطب الدين فحَكَم في دولته، وهو رتَّبَ البقشَ مع ولده، وكان البقشُ ديِّنًا خيرًا عادلًا حَسَن السيرة حليمًا، فأحسن تربيتَه وتزوَّجَ أمَّه. فلما كَبِرَ الولد لم يمكِنْه النظام من مملكتِه لخبطٍ وهَوجٍ فيه، وكان لنظام الدين هذا مملوكٌ اسمه لؤلؤ قد تحكَّمَ في دولته وحَكَم فيها، فكان يحمِلُ النظام على ما يفعَلُه مع الولَدِ, ولم يزَل الأمر كذلك إلى أن مات الولَدُ وله أخ أصغر منه لقَّبَه قطب الدين، فرَتَّبَه النظام في المُلكِ وليس له منه إلا الاسمُ، والحكمُ إلى النظام ولؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمَرِضَ النظام البقش فأتاه قطبُ الدين يعوده، فلما خرج مِن عنده خرج معه لؤلؤ وضرَبَه قطبُ الدين بسكينٍ معه فقتله، ثم دخل إلى النظامِ وبِيَدِه السكينُ فقتله أيضًا، وخرج وحده ومعه غلامٌ له وألقى الرأسينِ إلى الأجناد، وكانوا كلُّهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعةِ، فلما تمكَّنَ أخرج من أراد وتَرَك من أراد، واستولى على قلعةِ ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور، وهو إلى الآن حاكِمٌ فيها حازِمٌ في أفعالِه.
هو السُّلطانُ الكبير، أبو يعقوبَ يوسفُ بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي صاحب المغرب, تمَلَّك بعد أخيه المخلوع محمد بن علي؛ لطَيشِه، وشُربِه الخمر، فخُلِعَ بعد شهر ونصف، وبُويع أبو يعقوب، وكان شابًّا مليحًا، أبيض بحُمرة، مستديرَ الوجه، أفوَهَ، أعيَنَ، تامَّ القامة، حُلوَ الكلام، فصيحًا، حُلوَ المفاكهةِ، عارفا باللغة والأخبار والفِقه، متفنِّنًا، عاليَ الهمة، سخيًّا، جوادًا، مَهيبًا شجاعًا، خليقًا للمُلك. قال عبد الواحد بن علي التميمي: "صحَّ عندي أنَّه كان يحفَظُ أحد (الصحيحين)، أظنُّه البخاري", وكان فقيهًا، يتكلم في المذاهب، ويقول: قولُ فلان صواب، ودليلُه من الكتاب والسنة كذا وكذا. نظر في الطبِّ والفلسفة، وجمع كُتُب الفلاسفة، وتطَلَّبَها من الأقطار، وكان يصحَبُه أبو بكر محمد بن طفيل الفيلسوف، فكان لا يصبِرُ عنه. قال أبو الوليد بن رشد الأندلسي: "لما دخلتُ على أبي يعقوب وجدتُه هو وابن طفيل فقط, فأخذ ابنُ طفيل يطريني، فكان أوَّلَ ما فاتحني أن قال: ما رأيُهم في السماء؟ أقديمةٌ أم حادثة؟ فخِفتُ، وتعَلَّلتُ، وأنكرتُ الفلسفة، ففَهِمَ، فالتفَتُّ إلى ابنِ طفيل، وذكرَ قول أرسطو فيها، وأورد حُجَجَ أهل الإسلام، فرأيتُ منه غزارة حِفظٍ لم أكن أظنُّها في عالِم، ولم يَزَلْ يبسطني، حتى تكَلَّمتُ، ثم أمر لي بخِلعةٍ ومال ومركوب". قال عبد الواحد: "لما تجهَّز أبو يعقوب لغزوِ الروم، أمَرَ العلماء أن يجمعوا أحاديثَ في الجهاد تُملى على الجند، وكان هو يُملي بنفسه، وكبارُ الموحدين يكتبونَ في ألواحهم". وكان يَسهُلُ عليه بذل الأموال لسَعةِ الخراج، فقد كان يأتيه من إفريقيَّةَ في العام مائة وخمسون وقرَ بغل, كان سديد الملوكيَّة، بعيدَ الهمَّة، جوادًا، استغنى الناسُ في أيامه. وزر له أخوه عمر أيامًا، ثم رفَعَ منزلته عن الوزارة، وولى إدريسَ بنَ جامع، إلى أن استأصله، ثم وزر له ولده يعقوب الذي تولى السلطة بعده، وكان له مِن الولد ستة عشر ابنًا. قال ابن خلكان: "كان يوسفُ فقيهًا حافظًا متقنًا؛ لأن أباه هَذَّبه وقرن به وبإخوتِه أكمَلَ رجال الحرب والمعارف، فنشؤوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسانِ، وفي قراءةِ العلم بين أفاضِلِ العلماء, وكان ميلُه إلى الحكمة والفلسفة أكثَرَ مِن ميله إلى الأدب وبقيَّة العلوم، وكان جمَّاعًا منَّاعًا ضابطًا لخراجِ مملكته عارفًا بسياسة رعيته، وكان ربما يحضُرُ حتى لا يكادُ يغيبُ، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نُوَّاب وخلفاء وحكام قد فوَّضَ الأمور إليهم؛ لِمَا علم من صلاحِهم لذلك، والدنانير اليوسفية المغربية منسوبةٌ إليه. فلما مُهِّدَت له الأمورُ واستقَرَّت قواعِدُ مُلكِه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالحِ دولته وتَفقُّد أحوالها. ثم استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج". دخل الأندلسَ في سنة سبع وستين للجهاد، وهو يضمِرُ الاستيلاء على باقي الجزيرة، فجهَّزَ الجيش إلى محمد بن سعد بن مردنيش صاحِبِ مرسية، فالتقوا بقرب مرسية، فانكسر محمَّد، ثم ضايقه الموحِّدون بمرسية مدة، فمات، وأخذ أبو يعقوب بلاده، ثم سار فنازل مدينةَ وبذى، فحاصر فيها الفرنجَ أشهُرًا، وكادوا أن يسلِّموها من العَطَشِ، ثم استُسقُوا فسُقُوا، وامتلأت صهاريجُهم، فرحل بعد أن هادَنَهم، وأقام بإشبيليَّةَ سنتين ونصفًا، ودانت له الأندلس، ثم رجع إلى السوس، وفي سنة خمس وسبعين سار حتى أتى مدينةَ قفصة، فحاصرها، وقبضَ على ابن الرند. وهادَنَ صاحب صقلية، على أن يحمِلَ كُلَّ سنة ضريبة على الفرنج، وفي سنة تسع وسبعين استنفَرَ أهلَ السهل والجبل والعرب، فعَبَرَ إلى الأندلس، وقصد شنترين بيد ابن الريقِ فحاصر فيها الفرنجَ مُدَّةً، وجاء البرد، فقال: غدًا نترحل. فكان أوَّلَ من قَوَّض مخيمَه عليُّ بن القاضي الخطيب، فلما رآه الناسُ، قوَّضوا أخبيتهم، فكَثُر ذلك، وعَبَرَ ليلتئذ العسكر النهر، وتقدموا خوف الازدحام، ولم يَدْرِ بذلك أبو يعقوب، وعَرَفَت الروم، فانتهزوا الفرصةَ، وبرزوا، فحَمَلوا على الناس، فكشفوهم، ووصلوا إلى مخيَّم السلطان، فقُتِلَ على بابه خلقٌ من الأبطال، وخُلِصَ إلى السلطان، فطُعِنَ تحت سُرَّتِه طعنةً مات بعد أيام منها، وتدارك الناسُ، فهزموا الرومَ إلى البلد، وهرب الخطيبُ، ودخل إلى صاحِبِ شنترين، فأكرمه، واحترمه، ثم أخذ يكاتِبُ المسلمين، ويدلُّ على عورة العدو، فأحرقوه. ولما طُعِنَ أبو يعقوب ساروا به ليلتين، ثم توفِّي، فصُلِّيَ عليه، وصُيِّرَ في تابوت، ثم بعث إلى تينمل، فدُفِنَ مع أبيه، وابن تومرت. مات في سابع رجب، وكانت مدَّة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرًا، ومات عن غيرِ وصية بالمُلك لأحد من أولاده، فاتَّفَق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليكِ ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فمَلَّكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه؛ لئلا يكونوا بغيرِ مُلكٍ يَجمَعُ كَلِمتَهم لقُربِهم من العدُوِّ.
خرج عليُّ بنُ إسحاق المعروفُ بابن غانية، وهو من أعيان الملثَّمين- المرابطين- الذين كانوا ملوك المغرب، وهو حينئذٍ صاحبُ جزيرة ميورقة، إلى بجاية فمَلَكَها، وسبب ذلك أنه لَمَّا سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عَمرَ أسطولَه، فكان عشرين قطعةً وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية، وخرجت خيلُه ورجالُه من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثَّمين وأربعة آلاف راجل، فدخل مدينةَ بجاية بغير قتالٍ؛ لأنه اتفق أنَّ واليَها سار عنها قبل ذلك بأيامٍ إلى مراكش ولم يترُكْ فيها جيشًا ولا ممانِعًا؛ لعدم عدو يحفَظُها منه، فجاء الملثَّم ولم يكن في حسابِهم أنه يُحَدِّثُ نفسَه بذلك، فأرسى بها ووافقه جماعةٌ من بقايا الدولة بني حماد وصاروا معه فكَثُرَ جَمعُه بهم وقَوِيَت نفسه، فسَمِعَ خبره والي بجاية فعاد من طريقِه ومعه من الموحِّدين ثلاثمائة فارس، فجمع من العربِ والقبائل الذين في تلك الجهاتِ نحو ألف فارس، فسَمِعَ بهم الملثم وبقربهم منه، فخرج إليهم وقد صار معه قَدرُ ألف فارس، وتواقفوا ساعة فانضاف جميعُ الجموع التي كانت مع والي بجايةَ إلى الملثم، فانهزم حينئذٍ والي بجاية ومَن معه من الموحِّدين وساروا إلى مراكش، وعاد الملثَّم إلى بجاية فجمع جيشَه وخرج إلى أعمالِ بجايةَ فأطاعه جميعُهم إلا قسنطينة الهوى فحصرها إلى أن جاء جيشٌ من الموحدين من مراكِشَ في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في البر والبحر، وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحاق الملثم، فخرجا منها هاربَينِ ولحقا بأخيهما فرحل عن قسنطينة وسار إلى إفريقيَّةَ.
ابتدأت الفتنةُ بين التركمان والأكراد بديار الجزيرة والموصِل وديار بكر وخلاط والشام وشهرزور وأذربيجان، وقُتِلَ فيها من الخلقِ ما لا يحصى، ودامت عدةَ سِنينَ، وتقَطَّعَت الطرق، ونُهِبَت الأموال، وأُريقَت الدماء، وكان سَبَبُها أنَّ امرأة من التركمان تزوَّجَت بإنسانٍ تركماني، واجتازوا في طريقِهم بقلعة من الزوزان للأكراد، فجاء أهلُها وطلبوا من التركمان وليمةَ العرس، فامتنعوا من ذلك، وجرى بينهم كلامٌ صاروا منه إلى القتال، فنزل صاحِبُ تلك القلعة فأخذ الزوجَ فقَتَلَه، فهاجت الفِتنةُ، وقام التركمانُ على ساق، وقتلوا جمعًا كثيرًا من الأكرادِ، وثار الأكرادُ فقَتَلوا من التركمان أيضًا كذلك، وتفاقم الشرُّ ودام، ثم إن مجاهِدَ الدين قايماز، جمَعَ عنده جمعًا من رؤساءِ الأكراد والتركمان، وأصلح بينهم، وأعطاهم الخِلَع والثيابَ وغيرها، وأخرج عليهم مالًا جمًّا، فانقطعت الفتنةُ، وكفى اللهُ شَرَّها، وعاد الناسُ إلى ما كانوا عليه من الطُّمأنينةِ والأمانِ.
بعد أن فَشِلَ عليُّ بنُ إسحاق الملثَّم السنة الماضية في مُلك بجاية، سار علي إلى إفريقيَّة، فلما وصل إليها اجتمع سليمٌ ورباح ومن هناك من العرب، وانضاف إليهم التركُ الذين كانوا قد دخلوا من مصر مع بهاء الدين قراقوش، ودخل أيضًا من أتراكِ مِصرَ مملوك لتقي الدين بن أخي صلاح الدين، اسمُه بوزابة، فكَثُرَ جَمعُهم، وقَوِيَت شوكتُهم، فلما اجتمعوا بلغت عِدَّتُهم مبلغًا كثيرًا، وكُلُّهم كاره لدولة الموحِّدين، وقصدوا بلاد إفريقيَّةَ فمَلَكوها جميعها شرقًا وغربًا إلَّا مدينتي تونس والمهدية؛ فإن الموحدين أقاموا بهما، وحَفِظوهما على خوفٍ وضِيقٍ وشِدَّة، وكان الوالي على إفريقيَّةَ حينئذ عبد الواحد بن عبد الله الهنتاتي وهو بمدينة تونس، فأرسل إلى ملك المغرب يعقوب وهو بمراكش يُعلِمُه الحال، وقصد الملثَّم جزيرة باشرا، وهي بقرب تونس، تشتَمِلُ على قرى كثيرة، فنازلها وأحاط بها، فطلب أهلُها منه الأمان، فأمَّنهم، فلما دخلها العسكَرُ نهبوا جميع ما فيها من الأموالِ والدوابِّ والغَلَّات، وسلبوا النَّاسَ حتى أخذوا ثيابَهم، وامتدت الأيدي إلى النِّساءِ والصبيان، وتركوهم هلكى، فقَصَدوا مدينة تونس، فأما الأقوياءُ فكانوا يخدُمون ويَعمَلون ما يقوم بقُوتِهم، وأما الضعفاء فكانوا يَستَعطونَ ويسألون الناس، ودخل عليهم فصل الشتاء، فأهلَكَهم البَردُ ووقع فيهم الوباء، فأُحصيَ الموتى منهم فكانوا اثني عشر ألفًا، هذا من موضع واحد، ولما استولى الملثَّم على إفريقية قطَعَ خطبة أولاد عبد المؤمن وخطَبَ للإمام الناصر لدين الله الخليفة العباسي، وأرسل إليه يطلُبُ الخِلَعَ والأعلامَ السُّودَ.
هو الإمامُ الحافِظُ، البارعُ المجَوِّد العلَّامة، الفقيهُ المحَدِّث: أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأندلسي الإشبيلي، المعروف بابن الخراط. ولد سنة 514 سكن بمدينة بجاية، ونشر بها عِلمَه، وصَنَّف التصانيف وقت الفتنة التي زالت فيها دولةُ المرابطين على يد الموحِّدين، وهو من علماء الأندلس. اشتهرَ بالتأليف في العلم وخاصَّةً في الحديثِ، له كتاب الجَمعُ بين الصحيحين، والجامعُ الكبير وله كتاب غريب القرآن والحديث، وله كتُب في اللغة والأدب مثل الواعي. اشتُهر اسمه، وسارت بـ (أحكامه الصغرى)، و (الوسطى) الركبان, وله (أحكام كبرى) في الحديث، قيل: هي بأسانيده, ووليَ خطابةَ بجاية. قال الذهبي: "ذكره الحافِظُ أبو عبد الله البلنسي الأبار، فقال: كان فقيهًا، حافظًا، عالِمًا بالحديثِ وعِلَلِه، عارفًا بالرِّجالِ، موصوفًا بالخيرِ والصَّلاحِ، والزُّهد والورع، ولزومِ السُّنَّة، والتقلل من الدنيا، مشاركًا في الأدب وقَولِ الشعر، قد صنَّف في الأحكام نسختين كبرى وصغرى. قلتُ: وعمل (الجمع بين الصحيحين) بلا إسنادٍ على ترتيب مسلم، وأتقنه وجَوَّده. قال الأبار: وله مصنَّفٌ كبير جمع فيه بين الكُتُب الستة، وله كتاب (المعتل من الحديث)، وكتاب (الرقاق)، ومصنَّفات أخر. قلت: وله كتاب (العاقبة) في الوعظ والزهد. وقال الأبار: وله في اللغة كتابٌ حافل ضاهى به كتاب (الغريبين) لأبي عبيد الهروي، حدثنا عنه جماعة من شيوخنا". توفي ببجاية، بعد محنة نالته من قِبَل دولة الموحدين، في شهر ربيع الآخر عن 71 عامًا.
سار صلاحُ الدين إلى خلاط وجعَلَ طريقَه على ميافارقين مَطمَع ملكها، حيث كان صاحِبُه قطب الدين، صاحِبُ ماردين، قد توفِّي ومَلَك بعده ابنُه، وهو طفل، وكان حُكمُها إلى شاه أرمن، وعسكَره فيها، فلمَّا توفِّيَ طَمِعَ في أخْذِها، فلمَّا نازلها رآها مشحونةً بالرجال، وبها زوجةُ قطب الدين المتوفى، ومعها بناتٌ لها منه، وهي أختُ نور الدين محمد، صاحِبِ الحصن، فأقام صلاحُ الدين عليها يحصُرُها من أول جمادى الأولى، واشتد القتالُ عليه ونُصِبَت المجانيق والعرادات، فلم يصِلْ صلاح الدين إلى ما يريد منها، فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحَربِ إلى إعمال الحيلة، فراسل امرأةَ قطب الدين المقيمة بالبلدِ يقول لها: إنَّ أسدَ الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليمِ البلد ونحن نرعى حقَّ أخيك نور الدين فيك بعد وفاتِه، ونريد أن يكونَ لك في هذا الأمرِ نَصيبٌ، وأنا أزوِّجُ بناتِك بأولادي وتكونُ ميافارقين وغيرها لك وبحُكمِك؛ ووضَعَ مَن أرسل إلى أسد يُعَرِّفُه أن الخاتون قد مالت للمُقاربة والانقياد إلى السلطان، وأنَّ مَن بخلاط قد كاتبوه ليُسَلِّموا إليه، فخُذْ لِنَفسِك، واتَّفَق أنَّ رسولًا وصَلَه مِن خلاط، يبذلون له الطاعةَ، وقالوا له من الاستدعاءِ إليهم ما كانوا يقولونَه، فأمر صلاح الدين الرسولَ، فدخل إلى ميافارقين، وقال لأسدٍ: أنت عمَّن تقاتِلُ، وأنا قد جئتُ في تسليم خلاط إلى صلاحِ الدين، فسُقِطَ في يَدِه، وضَعُفَت نفسه، وأرسل يقتَرِحُ أقطاعًا ومالًا، فأُجيبَ إلى ذلك، وسَلَّمَ البلد آخر جمادى الأولى، وعَقَدَ النكاح لبعضِ أولاده على بعضِ بنات الخاتون، وأقَرَّ بيدها قلعةَ الهتاخ لتكونَ فيها هي وبناتُها.
هو الإمام العلَّامة، الحافظُ الكبيرُ الثِّقة، شيخُ المحَدِّثين، أبو موسى محمد بن المقرئ أبي بكر عمر بن أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن أبي عيسى المديني، الأصبهاني، الشافعي، صاحِبُ التصانيف، أحد حفَّاظ الدنيا الرَّحَّالين الجوَّالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، كان من علماء الحديث المشهورين، ولد في ذي القعدة سنة 501, ومولد أبيه المقرئ أبي بكر سنة 465. حرص عليه أبوه، وسَمَّعه حضورًا، ثم سماعًا كثيرًا من أصحاب أبي نعيم الحافظ، وطبقتهم. وعمل موسى لنفسه (معجمًا)، روى فيه عن أكثَرَ من ثلاثمائة شيخ. قال ابن الدبيثي: "عاش أبو موسى حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه إسنادًا وحفظًا" وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: "حصل أبو موسى من المسموعاتِ بأصبهان ما لم يحصُلْ لأحدٍ في زمانه، وانضَمَّ إلى ذلك الحِفظ والإتقان، وله التصانيف التي أربى فيها على المتقدمين، مع الثقة والعفة، كان له شيءٌ يسير يتربَّحُ به ويُنفِقُ منه، ولا يَقبَلُ مِن أحد شيئًا قَطُّ، أوصى إليه غيرُ واحد بمال، فيَرُدُّه، فكان يقال له: فَرِّقْه على من ترى، فيمتَنِعُ، وكان فيه من التواضُعِ بحيث أنه يقرئ الصغير والكبير، ويرشِدُ المبتدئ، رأيته يُحَفِّظُ الصبيان القرآنَ في الألواح، وكان يمنَعُ من يمشي معه، فعلتُ ذلك مرة، فزجَرَني، وتردَّدتُ إليه نحوًا من سنة ونصف، فما رأيتُ منه ولا سمعتُ عنه سقطةً تعاب عليه." قال الذهبي: " سمعتُ شيخنا العلامة أبا العباس بن عبد الحليم بن تيمية يُثني على حفظ أبي موسى، ويُقَدِّمُه على الحافظ ابن عساكر، باعتبار تصانيفِه ونَفْعِها".
لَمَّا فَرَغ صلاح الدين من أمر ميافارقين، وأحكم قواعِدَها، وقرَّرَ أقطاعها وولاياتها، أجمعَ على العود إلى الموصل، فسار نحوها، وجعل طريقَه على نصيبين، فوصل إلى كفر زمار، والزمانُ شتاء، فنزلها في عسكره، وعزم على المقامِ بها وإقطاع جميع بلادِ الموصل، وأخذ غِلالَها ودَخْلَها، وإضعاف الموصل بذلك؛ إذ عَلِمَ أنه لا يمكنه التغلبُ عليها، وأقام بها شعبان ورمضان، وتردد الرسُلُ بينه وبين عز الدين مسعود، صاحِبِ الموصل، وصار مجاهدُ الدين قايماز يراسِلُ ويتقرب، وكان قولُه مقبولًا عند سائر الملوك؛ لما علموا من صِحَّتِه، فبينما الرسلُ تتردد في الصلح، إذ مَرِضَ صلاح الدين، وسار من كفر زمار عائدًا إلى حران، فلَحِقَه الرسل بالإجابة إلى ما طَلَب، فتقَرَّر الصلح، وحلف على ذلك، وكاتب القاعدة أن يُسَلِّمَ إليه عز الدين مسعود شهرزور وأعمالَها وولاية القرابلي، وجميعَ ما وراء الزاب من الأعمال، وأن يخطُبَ له على منابِرِ بلاده، ويَضرِبَ اسمَه على السكة، فلما حَلَفَ أرسل رسُلَه فحلف عزُّ الدين له، وتسَلَّموا البلاد التي استقرت القاعدة على تسليمِها، ووصل صلاح الدين إلى حران، فأقام بها مريضًا، وأَمِنَت الدنيا، وسَكَنَت الدهماء، وانحسَمَت مادةُ الفِتَن.
كان القُمُّص- كبير القساوسة- صاحِبُ طرابلس، واسمُه ريمند بن ريمند الصنجيلي، قد تزوج بالقومصة، صاحِبةِ طبريَّة، وانتقل إليها، وأقام عندها بطبريَّة، ومات ملك الفرنج بالشام، وكان مجذومًا، وأوصى بالمُلك إلى ابن أختٍ له، وكان صغيرًا، فكفَلَه القُمُّص، وقام بسياسة الملك وتدبيره؛ لأنه لم يكن للفرنج ذلك الوقتَ أكبَرُ منه شأنًا، ولا أشجَعُ ولا أجود رأيًا منه، فطَمِعَ في الملك بسبب هذا الصغير، فاتفق أن الصغير توفِّيَ، فانتقل المُلكُ إلى أمه، فبطل ما كان القُمُّص يحَدِّثُ نفسه به، ثمَّ إن هذه الملكة هَوِيَت رجلًا من الفرنج الذين قَدِموا الشام من الغرب اسمُه كي، فتزوجَتْه، ونَقَلت المُلك إليه، وجعلت التاجَ على رأسه، وأحضَرَت البطريك والقسوس والرهبان والإسبتارية والدواية والبارونية، وأعلمَتْهم أنَّها قد ردت المُلكَ إليه، وأشهدَتْهم عليها بذلك، فأطاعوه، ودانوا له، فعَظُمَ ذلك على القمص، وسُقِطَ في يديه، وطُولِبَ بحساب ما جبى من الأموالِ مُدَّةَ ولاية ذلك الصبي، فادَّعى أنه أنفَقَه عليه، وزاده ذلك نفورًا، وجاهَرَ بالمُشاقة والمباينة، وراسل صلاحَ الدين وانتمى إليه، واعتضَدَ به، وطلب منه المساعدةَ على بلوغ غَرَضِه من الفرنج، ففرح صلاحُ الدين والمُسلِمون بذلك، ووعده النصرةَ والسعيَ له في كل ما يريده، وضَمِنَ له أنه يجعَلُه ملكًا مستقلًّا للفرنج قاطبةً، وكان عنده جماعةٌ من فرسان القُمُّص أسرى فأطلَقَهم، فحَلَّ ذلك عنده أعظَمَ مَحَلٍّ، وأظهَرَ طاعة صلاح الدين، ووافقه على ما فعل جماعةٌ من الفرنج، فاختلفت كلمتُهم وتفَرَّق شَملُهم، وكان ذلك من أعظم الأسبابِ الموجبة لفتح بلادِهم، واستنقاذِ بيتِ المقدسِ منهم، وسيَّرَ صلاح الدين السَّرايا من ناحيةِ طبرية، فشُنَّت الغارات على بلاد الفرنج، وخَرَجَت سالمة غانمة، فوهَن الفرنج بذلك، وضَعُفوا وتجرأ المسلمونَ عليهم وطَمِعوا فيهم.
كان البرنس أرناط، صاحب الكرك، من أعظَمِ الفِرنجِ وأخبَثِهم، وأشدِّهم عداوةً للمُسلِمينَ، وأعظَمِهم ضررًا عليهم، فلمَّا رأى صلاح الدين ذلك منه قَصَدَه بالحَصرِ مَرَّةً بعد مرة، وبالغارة على بلاده كَرَّةً بعد أخرى، فذَلَّ وخضع، وطلب الصُّلحَ من صلاحِ الدين، فأجابه إلى ذلك، وهادنه وتحالفا، وترددت القوافل من الشامِ إلى مصر، ومِن مِصرَ إلى الشام، فلما كان هذه السَّنة اجتاز به قافلةٌ عظيمة غزيرة الأموال، كثيرةُ الرِّجالِ، ومعها جماعةٌ صالحةٌ من الأجناد، فغَدَر اللعينُ بهم، وأخَذَهم عن آخِرِهم، وغَنِمَ أموالَهم ودوابَّهم وسلاحَهم، وأودع السُّجونَ مَن أسَرَه منهم، فأرسل إليه صلاحُ الدين يلومُه، ويُقَبِّحُ فِعْلَه وغَدْرَه، ويتهَدَّدُه إن لم يُطلِقِ الأسرى والأموال، فلم يجِبْ إلى ذلك، وأصرَّ على الامتناع، فنذر صلاح الدين نذرًا أن يقتُلَه إن ظَفِرَ به.
هو المَلِك شمس الدين البهلوان محمَّد بن الأتابك إيلدكز صاحِب أذربيجان وعراق العجم بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأرانية وغيرها من البلاد،، وهو من كبارِ الملوك كوالِدِه. تمَلَّك البهلوان بعد موت أبيه سنة 570، وأقام في السلطنةِ معه طغريل بن رسلان شاه خاتمة بقايا السلجوقية، وكان السلطانُ طغريل بن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه مع البهلوان، والخطبةُ له في البلاد بالسلطنة، وليس له من الأمرِ شَيءٌ، وإنما البلادُ والأمراء والأموالُ بحُكم البهلوان يأكُلُ البلاد باسمه، وكان ظالِمًا فاتِكًا، ولما احتُضِرَ أوصى إلى أخيه لأمِّه قزل، ومات بهمذان, وكانت أيام البهلوان إحدى عشرة سنة، وخلف خمسة آلاف مملوك، ومن الدوابِّ ثلاثين ألف رأس، ومن الأموالِ ما لا يُعَبَّر عنه، فلما مات البهلوان جرى بأصفهان بين الشافعيَّة والحنفية من الحروب والقتل والإحراق والنَّهبِ ما يجِلُّ عن الوصف، وكان قاضي البلد رأسَ الحنفيَّة، وابن الخجندي رأسَ الشافعية، وكان بمدينةِ الري أيضًا فتنةٌ عظيمة بين السُّنة والشيعة، وتفَرَّق أهلها وقُتِلَ منهم، وخربت المدينة وغيرُها من البلاد، ثمَّ مَلَك أخوه قزل أرسلان واسمه عثمان،، فلما مات البهلوان خرج طغرل عن حُكمِ قزل، ولحِقَ به جماعة من الأمراء والجند، فاستولى على بعضِ البلاد، وجَرَت بينه وبين قزل حروبٌ.
هو الإمامُ العلَّامة اللُّغوي الكبيرُ، الحُجَّة الثقة أبو محمد عبد الله بن بري بن عبد الجبار، المقدسي الأصل، المصري، ابن أبي الوحش، المعروف بابن بري، من علماءِ العربية النابهين، وُلد بمصر سنة 499 وتعلم بها, وبرز في علوم اللغة، ودرس في جامع عمرِو بن العاص. اشتغل عليه جماعةٌ كثيرة وانتفعوا به، ومن جُملتهم أبو موسى الجزولي، صاحب المقدِّمة الجزولية في النحو، ووليَ رياسة الديوان المصري, وكان كثيرَ الاطلاع عالِمًا بشأن الرسائل، مُطَّرِحًا للتكلُّف في كلامِه، لا يلتَفِتُ ولا يُعَرِّجُ على الإعراب فيه إذا خاطب النَّاسَ، وله التصانيفُ المفيدة، توفِّيَ وقد جاوز الثمانين بثلاث سنين، له مؤلفات كثيرة من أشهرها "حواشي ابن بري على معجم الصحاحِ للجوهري".
هبةُ اللهِ بن علي بن هبة الله بن محمد بن الحسن مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب أستاذ دار المستضيء بأمر الله، انتهت إليه الرئاسةُ في زمانِه، ووليَ حجابةَ الباب في أيام المستنجدِ، وبلغ رتبةَ الوزراءِ، وولَّى وعَزَل وماج الرفض في أيامِه، وشمخت المبتدعةُ، ولَمَّا بويع الناصِرُ قَرَّبَه وحكَّمَه في الأمور، ثم إنَّ بعض النَّاسِ سعى به فاستدعيَ إلى دار الخلافة وقُتِلَ بها ثمَّ عُلِّقَ رأسُه على بابِ دارِه، وكان سيئَ الطريقة يرتكب المعاصيَ، بخيلًا خسيس النفس، ساقطَ المروءةِ، مذمومَ الأفعالِ، كان إذا رجع من متصَيَّده وقد صَحِبَه شيءٌ من لحوم الصيد، قطع راتبَه من اللَّحمِ واجتزأ بلحمِ الصَّيدِ عنه ولم يقدِرْ أحدٌ على أن يأكل له لقمةً ولا ينتَفِعَ مِن ماله بشيءٍ، ولما هلك خلَّفَ من الأموال شيئًا كثيرًا، وكان رافضيًّا محترقًا شديد التعَصُّب لهواه، معلِنًا بغُلَوائِه، ظهر بسببه سبُّ الصحابة رضي الله عنهم على ألسنة الفَسَقة الرَّافضة في الأسواق وفي المشاهد والمزارات، ولم يجسر أحدٌ من أهل السنة على إنكار ذلك، لا بِيَدِه ولا بلسانِه؛ خَوفًا من بطشِه وبأسِه! وحُكي أنه رئِيَ في المنام في الليلة التي قُتِلَ في صبيحتها كأنه يشبر عنُقَه ويقَدِّرُها بيده، فأصبح وقُصَّ منامُه على رجلٍ ضريرٍ كان يعبِّرُ الرؤيا ولم يقُلْ له إنَّه رآه بنَفسِه، فقال له: إن هذا الرائي لهذا المنام يُقتَلُ وتحَزُّ رَقَبتُه؛ لأنَّ الله تعالى يقولُ: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.