هو الملك المظَفَّر: تقي الدين عمر بن الأمير نور الدولة شاهنشاه بن أيوب بن شاذي صاحِب حماة، كان بطلًا شجاعًا فاتِكًا مِقدامًا جوادًا مُمَدَّحًا، له مواقِفُ مشهودة مع عَمِّه السلطان صلاح الدين، وكان عزيزًا على عمه صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماة ومدنًا كثيرة حولها في بلاد الجزيرة، وكان مع عَمِّه صلاح الدين على عكا، ثم استأذنه أن يذهب ليُشرِفَ على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات، فلما صار إليها اشتغَلَ بها وامتَدَّت عينه إلى أخذِ غَيرِها من أيدي الملوك المجاورين له، فقاتَلَهم فاتَّفَق موتُه وهو كذلك، والسلطان عَمُّه غضبان عليه؛ بسبب اشتغاله بذلك عنه، وحُمِلَت جنازته حتى دُفِنَت بحماة، وله مدرسة هناك هائلة كبيرة، وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة، وعليها أوقاف كثيرة، وقد أقام بالمُلكِ بعده ولده المنصور ناصر الدين محمد، فأقره صلاحُ الدين على ذلك بعد جَهدٍ جهيدٍ، ووعدٍ ووعيدٍ، ولولا السلطانُ العادل أخو صلاح الدين تشفَّعَ فيه لَمَّا أقَرَّه في مكان أبيه، توفِّيَ يوم الجمعة تاسع عشر رمضان.
سار صلاحُ الدين إلى بيت المقدس فيمن بَقِيَ معه من العساكر، فنزلوا جميعًا داخِلَ البلد، فاستراحوا مما كانوا فيه، ونَزَل هو بدار الأقسا مجاوِر بيعة قمامة، وقَدِمَ إليه عسكر من مصر مُقَدَّمُهم الأمير أبو الهيجاء السمين، فقَوِيَت نفوس المسلمين بالقُدس، وسار الفرنجُ من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة، على عزمِ قَصدِ القدس، فكانت بينهم وبين يزك- مقدِّمة جيش- المسلمينَ وقَعات، أَسَرَ المسلمون في وقعةٍ منها نيفًا وخمسينَ فارسًا من مشهوري الفرنجِ وشُجعانِهم، وكان صلاحُ الدين لَمَّا دخل القُدسَ أمَرَ بعمارة سوره، وتجديدِ ما رث منه، فأحكم الموضِعَ الذي مَلَك البلد منه، وأتقَنَه، وأمر بحفر خندقٍ خارِجَ الفَصيلِ، وسلَّمَ كُلَّ برج إلى أمير يتولى عمَلَه.
في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبَبُ عودهم أنَّهم كانوا ينقلون ما يريدونَه مِن الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجونَ على مَن يجلِبُ لهم الميرةَ فيَقطَعونَ الطريق ويَغنَمونَ ما معهم، ثم إنَّ ملك الإنكليز قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صَوِّروا لي مدينةَ القدس؛ فإني ما رأيتُها، فصوروها له، فرأى الواديَ يُحيطُ بها ما عدا موضِعًا يسيرًا من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عُمقِه، فأُخبِرَ أنه عميق، وَعرَ المسلك، فقال: هذه مدينةٌ لا يُمكِنُ حَصرُها ما دام صلاح الدين حيًّا وكَلِمةُ المسلمين مجتمعةً، فأشاروا عليه بالعَودِ إلى الرملة، فعادوا خائبينَ خاسرين.
في سنة ثلاث وثمانين غزا شهاب الدين الغوري بلد الهند، وانهزم أمامَ أحد ملوكها وبَقِيَ إلى الآن في نفسه غَضَبٌ عظيمٌ على الجند الغورية الذين انهزموا، فألزَمَهم من الهوان، حتى هذه السَّنة فخرج من غزنة وقد جمع عساكِرَه وسار منهم يطلُبُ عَدُوَّه الهندي الذي هزمه تلك النوبةَ، قال ابن الأثير: " لما وصل الغوري إلى برشاوور تقَدَّمَ إليه شيخ من الغورية كان يدُلُّ عليه، فقال له: قد قَرُبنا من العدو، وما يعلَمُ أحد أين نمضي، ولا من نَقصِدُ، ولا نَرُدُّ على الأمراء سلامًا، وهذا لا يجوز فِعلُه. فقال له السلطان: اعلَمْ أنَّني منذ هزمني هذا الكافِرُ، ما نمت مع زوجتي، ولا غيَّرْتُ ثياب البياضِ عني، وأنا سائِرٌ إلى عدوي، ومعتَمِدٌ على الله تعالى لا على الغوريَّة، ولا على غيرهم، فإن نَصَرَني الله سبحانه ونَصَرَ دينَه، فمِن فَضلِه وكَرَمِه، وإن انهَزَمْنا فلا تطلبوني فيمن انهَزَم، ولو هَلكْتُ تحت حوافِرِ الخيل, فقال له الشيخ: سوف ترى بني عَمِّك من الغورية ما يفعلونَ، فينبغي أن تكَلِّمَهم وتَرُدَّ سلامهم. ففعل ذلك وبَقِيَ أمراء الغورية يتضَرَّعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعَلُ" ثم سار إلى أن وصل إلى موضع المصافِّ الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عِدَّةَ مواضِعَ مِن بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهَّزَ وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقِيَ بين الطائفتين مرحلةٌ عاد شهاب الدين وراءه والكافِرُ في أعقابه أربع منازل، وتمَّ على حاله عائدًا إلى أن بَقِيَ بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافِرُ في أثره يتبعه، حتى لحقه قريبًا من مرندة فجَرَّدَ شهاب الدين من عسكَرِه سبعين ألفًا، وقال: أريدُ هذه الليلة تدورونَ حتى تكونوا وراء عسكَرِ العدو، وعند صلاة الصبحِ تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية، ففعلوا ذلك، وطلع الفجرُ، ومن عادة الهنود أنَّهم لا يبرحون مِن مضجعهم إلى أن تطلُعَ الشَّمسُ، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكَرُ المسلمين من كل جانب، والقَتلُ قد كَثُرَ في الهنود، والنصرُ قد ظهر للمسلمين، فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرسًا له سابقًا، وركب ليهرُبَ، فقال له أعيان أصحابه: إنَّك حلفت لنا أنَّك لا تُخَلِّينا وتهرُب، فنزل عن الفرس وركِبَ الفيل ووقَفَ مَوضِعَه، والقتالُ شديد، والقَتلُ قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمونَ إليه وأخذوه أسيرًا، وحينئذ عَظُمَ القتلُ والأسر في الهنود، ولم ينجُ منهم إلا القليلُ، وغَنِمَ المُسلِمونَ مِن الهنود أموالًا كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعةَ عشر فيلًا، فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحِصنِ الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
اجتمع بنو عامر في خلقٍ كثير، وأميرُهم اسمُه عميرة، وقَصَدوا البصرةَ، وكان الأميرُ بها محمد بن إسماعيل، ينوبُ عن مُقطِعِها الأمير طغرل، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، فوصلوا إليها يومَ السبت سادس صفر، فخرج إليهم الأميرُ محمد فيمن معه من الجند، فوقعت الحربُ بينهم بدرب الميدان، بجانب الخريبة، ودام القتالُ إلى آخر النهار، فلما جاء الليلُ ثَلَم العربُ في السور عدَّةَ ثُلَم، ودخلوا البلد من الغد، فقاتلهم أهلُ البلد، فقُتِلَ بينهم قتلى كثيرة من الفريقين، ونَهَبَت العرب الخانات بالشاطئ وبعضَ محالِّ البصرة، وعبَرَ أهلُها إلى شاطئ الملاحين، وفارق العربُ البلد في يومهم وعاد أهله إليه، وكان سببُ سرعة العرب في مفارقة البلد أنَّهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم، فساروا إليهم وقاتلوهم أشدَّ قتال، فظَفِرَت عامر وغَنِمَت أموالَ خفاجة والمنتفق، وعادوا إلى البصرةِ بكرة الاثنين، وكان الأميرُ قد جمع من أهل البصرةِ والسواد جمعًا كثيرًا، فلما عادت عامر قاتَلَهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم، فلم يقوموا للعربِ وانهزموا، ودخل العربُ البصرة ونهبوها، وفارق البصرةَ أهلُها، ونُهِبَت أموالهم، وجرت أمور عظيمة، ونُهِبَت القسامل- وهي محلة بالبصرة - وغيرها في يومين، وفارقها العرب وعاد أهلُها إليها.
في ثالث عشر ربيع الآخر قُتِلَ المركيس الفرنجي، صاحِبُ صور، وهو أكبَرُ شياطينِ الفرنج، وقيل في سبب قتله: إن صلاح الدين راسل مُقَدِّمَ الإسماعيلية، وهو سنان، وبذَلَ له أن يُرسِلَ مَن يقتُلُ مَلِك الإنكليز، وإن قَتَل المركيسَ فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يمكِنْهم قتلُ ملك الإنكليز، ولم يَرَه سنان مصلحةً لهم؛ لئلَّا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنجِ ويتفَرَّغ لهم، وطَمِعَ في أخذ المال، فعَدَل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلينِ في زي الرُّهبان، واتَّصَلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحِبِ الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهُرٍ يُظهِرانِ العبادة، فأنِسَ بهما المركيس، ووَثِقَ بهما، ثمَّ عَمِلَ الأسقف بصور دعوةً للمركيس فحَضَرَها، وأكل طعامَه، وشَرِبَ مُدامَه، وخرج من عنده، فوَثَب عليه الباطنيَّان, فجَرَحاه جراحًا وثيقةً، وهرب أحدُهما، ودخل كنيسةً يختفي فيها، فاتَّفَق أن المركيس حمل إليها ليشدَّ جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنيُّ فقتله، وقُتِلَ الباطنيَّان بعده، وقيل: بل قتله ملك الإنكليز وضع له هذان الرجلانِ فقتلاه لينفرد بمُلْك الساحل الشامي، فلما قُتِلَ المركيس وَلِيَ بعده مدينة صور كند- قائد- من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحَملُ عندهم ممَّا يمنع النكاح، وهذا الكند هري هو ابنُ أخت ملك الإنكليز من أمِّه، ومَلَكَ الكند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عودة ريتشارد ملك الإنكليز.
في تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنجُ على حصن الداروم، فخَرَّبوه، ثمَّ ساروا إلى بيت المقدس وصلاحُ الدين فيه، فبَلَغوا بيت نوبة، وكان سَبَبُ طمعهم أن صلاح الدين فَرَّقَ عساكره الشرقية وغيرَها؛ لأجل الشتاء ليستريحوا، ولِيَحضُرَ البَدَل عِوَضَهم، وبَقِيَ من قواته الخاصة بعض العساكر المصريَّة، فظنوا أنهم ينالون غَرَضًا، فلما سمع صلاح الدين بقُربِهم منه فَرَّقَ أبراجَ البلد على الأمراء، وسار الفِرنجُ مِن بيت نوبة إلى قلونية، آخِرَ الشهر، وهي على فرسخين من القُدس، فصَبَّ المسلمون عليهم البلاءَ، وتابعوا إرسالَ السرايا فبُلِيَ الفرنج منهم بما لا قِبَلَ لهم به، وعَلِموا أنهم إذا نازلوا القدسَ كان الشرُّ إليهم أسرعَ والتسَلُّطُ عليهم أمكَنَ، فرجعوا القهقرى، وركب المسلمونَ أكتافَهم بالرِّماح والسهام، ولما أبعد الفرنجُ عن يافا سيَّرَ صلاح الدين سرية من عسكَرِه إليها، فقاربوها، وكَمَنوا عندها، فاجتاز بهم جماعةٌ من فرسان الفرنج مع قافلة، فخَرَجوا عليهم، فقتلوا منهم وأسَروا وغَنِموا، وكان ذلك آخِرَ جمادى الأولى.
في تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنجَ الخبَرُ بوصول عسكر من مصر، ومعهم قفل- حِمل كبير- فأسرى الفرنجُ إليهم، فواقعوهم بنواحي الخليل، فانهزم الجندُ، ولم يُقتَلْ منهم رجل من المشهورينَ، إنما قُتِلَ مِن الغلمان والأصحاب، وغَنِمَ الفرنج خيامَهم وآلاتِهم، وأما القفل فإنه أُخِذَ بَعضُه، وصَعِدَ من نجا جبل الخليل، فلم يُقدِم الفرنج على اتِّباعهم، وتمَزَّقَ من نجا من القفل، وتقَطَّعوا، ولَقُوا شدة إلى أن اجتَمَعوا.
لما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتَلَ مَن بها منهم، وملَكَها في العشرين من رجب بالسَّيفِ عَنوةً، ونَهَبها المسلمون، وغَنِموا ما فيها، وقتلوا الفرنجَ وأسَروا كثيرًا، وكان بها أكثَرُ ما أخذوه من عسكرِ مِصرَ والقفل -حِمل كبير- الذي كان معهم، وكان جماعةٌ من المماليك الصلاحيَّة قد وقفوا على أبوابِ مدينة يافا، وكلُّ مَن خرج من جند الفرنجِ ومعه شيء من الغنيمةِ أخذوه منه، فإن امتَنَع ضَرَبوه وأخذوا ما معه قهرًا، ثم زَحَفَت العساكر إلى قلعة يافا، فقاتلوا عليها آخِرَ النهار، وكادوا يأخُذونَها، فطلب مَن بالقلعة الأمان على أنفُسِهم، وخرج البطرك الكبيرُ الذي لهم، ومعه عِدَّةٌ من أكابر الفرنج، في ذلك، وترَدَّدوا، وكان قَصدُهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليلُ، وواعدوا المسلمينَ أن ينزلوا بكرةَ غَدٍ ويسَلِّموا القلعة، فلما أصبح الناسُ طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحِصنِ، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدةٌ مِن عكَّا، وأدركهم ملك الإنكليز، فأخرج مَن بيافا من المسلمين، وأتاه المدَدُ مِن عكا وبرز إلى ظاهِرِ المدينة، واعترض المسلمينَ وَحدَه، وحمل عليهم، فلم يتقَدَّم إليه أحد، وعاد عن الفرنجِ. ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتَمَعَت العساكر، وجاء إليه ابنُه الأفضل وأخوه العادل وعساكرُ الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظُرَ ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنجُ يافا ولم يبرَحوا منها.
هو السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي التركماني، ملك الروم. فيه عَدلٌ في الجملة، وسداد وسياسة، وهو والدُ زوجة الخليفة الناصر لدين الله الست سلجوقي خاتون المعروفة بالخلاطية. كان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وقد امتَدَّت أيام ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وقيل: بضعًا وثلاثين سنة, وغزواته كثيرة في بلاد الروم، ولما كَبِرَ فَرَّق بلاده على أولاده، فاستَضعَفوه، ولم يلتَفِتوا إليه، وحَجَر عليه ولَدُه قطب الدين، وكان قلج أرسلان قد استناب في تدبير ملكه رجلًا يعرف باختيار الدين حسن، فلما غَلَب قُطبُ الدين على الأمرِ قَتَلَ حَسنًا، ثم أخذ والِدَه وسار به إلى قيسارية ليأخُذَها من أخيه الذي سَلَّمَها إليه أبوه، فحصرها مدَّة، فوجد والِدُه قلج أرسلان فرصةً، فهرب ودخل قيسارية وحدَه، فلما عَلِمَ قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصرا فمَلَكَهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحوَّلْ من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبَرَّم منه، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فَرِحَ به، وخَدَمَه، وجمع العساكِرَ، وسار هو معه إلى قونية، فمَلَكَها، وسار إلى أقصرا ومعه والِدُه قلج أرسلان، فحصرها، فمَرِضَ أبوه، فعاد به إلى قونية, وتوفِّيَ ودفن بها في منتصف شعبان، وبَقِيَ ولده غياث الدين في قونية مالكًا لها، حتى أخَذَها منه أخوه ركن الدين سليمان.
في العشرين من شعبان عُقِدَت بين المسلمين والفرنج هدنةٌ لِمُدَّة ثلاث سنين وثمانية أشهر، ويوافِقُ أوَّلَ أيلول 1192م، وكان سبب الصلح أن ملك الإنكليز المعروف بريتشارد قلب الأسد لَمَّا رأى اجتماع العساكر، وأنَّه لا يُمكِنُه مفارقةُ ساحِلِ البحر، وليس بالساحِلِ للمسلمين بلدٌ يَطمَعُ فيه، وقد طالت غيبتُه عن بلاده، راسل صلاح الدين في الصُّلحِ، وأظهر من ذلك ضِدَّ ما كان يطلبُ منه المصاف والحرب، فأعاد الفرنجيُّ رُسُلَه مَرَّةً بعد مرَّة، ونزل عن تَتِمَّة عمارة عسقلان وعن غزة والداروم والرملة، وأرسل إلى الملك العادل في تقريرِ هذه القاعدة، فأشار هو وجماعةُ الأمراء على صلاح الدين بالإجابة إلى الصُّلح، وعرفوه ما عند العسكَرِ مِن الضَّجَرِ والملل، وما قد هلك من أسلحتِهم ودوابِّهم، ونَفِدَ مِن نفقاتهم، وقالوا: إنَّ هذا الفرنجي إنما طلب الصلحَ ليركَبَ البَحرَ ويعود إلى بلاده، فإن تأخَّرَتْ إجابته إلى أن يجيءَ الشتاء وينقَطِع الركوبُ في البحر، نحتاج للبقاء هاهنا سنةً أخرى، وحينئذٍ يَعظُمُ الضَّررُ على المسلمين، وأكثَروا القول له في هذا المعنى، فأجاب السلطانُ صلاح الدين حينئذٍ إلى الصلح، فحضر رسلُ الفرنج وعقدوا الهدنة، وتحالفوا على هذه القاعدةِ، وبعد أن تمت الهدنة سار صلاح الدين إلى بيت المقدس، وأمَرَ بإحكام سوره، وعَمِلَ المدرسة والرباط والبيمارستان وغير ذلك من مصالح المسلمين، ووقف عليها الوقوفَ، وصام رمضان بالقُدسِ، وعزم على الحَجِّ والإحرام منه، فلم يُمكِنْه ذلك، فسار عنه خامِسَ شوال نحو دمشق، واستناب بالقُدسِ الأمير عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية، ولَمَّا سار عنه جعل طريقَه على الثغور الإسلامية، كنابلس وطبرية وصفد وتبنين، وقصد بيروت، وتعهد هذه البلادَ، وأمر بإحكامها، فدخل دمشقَ في الخامس والعشرين من شوال، وكان يومُ دُخولِه إليها يومًا مشهودًا، وفَرِحَ النَّاسِ به فرحًا عظيمًا لطول غيبتِه، وذَهابِ العَدُوِّ عن بلاد الإسلامِ.
هو السُّلطانُ الكبيرُ، المَلِكُ النَّاصِرُ: صلاح الدين، أبو المظفر يوسف بن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الكردي الدُوِيني، ثم التِكريتي المولد. صاحِبُ الدِّيارِ المصريَّة والبلادِ الشاميَّة والفُراتيَّة واليمنيَّة، واسطة عقدِ آل أيوب، وشُهرتُه أكبَرُ مِن أن تحتاج إلى التنبيهِ عليه. اتَّفَق أهل التاريخ على أن أباه وأهلَه من دُوِين؛ بلدةٍ في آخِرِ عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج، وأنهم أكرادٌ رَواديِّة، والرَوَاديَّة: بطن من الهَذَبانِيَّة، وهي قبيلةٌ كبيرة من الأكراد. قال ابنُ خَلِّكان: "قال لي رجلٌ فقيه عارِفٌ بما يقول، وهو من أهل دُوِين: إنَّ على باب دوين قريةً يقال لها أجدانقان، وجميع أهلها أكراد رَوَاديَّة، ومولد أيوب بن شاذي والد صلاح الدين وعمه شيركوه بها، ثم أخذ شاذي ولَدَيه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخَرَجَ بهما إلى بغداد، ومِن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها، ولقد تتبعت نِسبَتَهم كثيرًا فلم أجِدْ أحدًا ذَكَرَ بعد شاذي أبًا آخر، حتى إنِّي وقفتُ على كتب كثيرة بأوقافٍ وأملاك باسم شيركوه وأيوب، فلم أرَ فيها سوى شيركوه بن شاذي، وأيوب بن شاذي، لا غير" ثم خَدَم أيوب وشيركوه مجاهِدَ الدين بهروز بن عبد الله الغياثي شحنةً بالعراق- الشحنة: القَيِّم لضَبطِ أمن البلد- فلما رأى مجاهِدُ الدين في نجم الدين أيوب عقلًا ورأيًا حسنًا وحُسنَ سيرة، جعله دُزدَار تكريت، أي: حافظ القلعة، وواليها, ثم انتقل أيوب وشيركوه لخدمة عماد الدين زنكي بالموصل، فأحسن إليهما وأقطعهما إقطاعًا حسنًا وصارا من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين أيوب واليًا عليها. قال ابن خلكان: " اتفق أربابُ التواريخ أنَّ صلاح الدين وُلِدَ سنة 532 بقلعة تكريت لَمَّا كان أبوه بها، ولم يَزَل صلاح الدين تحت كَنَف أبيه حتى ترعرع, ولما مَلَك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي دمشقَ لازم نجم الدين أيوب خِدمَتَه، وكذلك وَلَدُه صلاح الدين، وكانت مخايلُ السعادة عليه لائحةً، والنجابةُ تُقَدِّمه من حالة إلى حالة، ونور الدين يرى له ويُؤثِرُه، ومنه تعلَّم صلاح الدين طرائِقَ الخيرِ وفِعلَ المعروف والاجتهادِ في أمور الجهاد، حتى تجهَّزَ للمَسيرِ مع عمه شيركوه إلى الديار المِصريَّة" قال الذهبي: "سَمِعَ صلاح الدين من أبي طاهر السِّلَفي، والفقيه علي بن بنت أبي سعد، وأبي الطاهر بن عوف، والقطب النيسابوري، وحدَّث". أمَّر نورُ الدين صلاحَ الدين، وبَعَثَه في عسكره مع عَمِّه أسد الدين شيركوه، فحَكَم شيركوه على مصر، فما لَبِثَ أن توفي، فقام بعدَه صلاح الدين، ودانت له العساكِرُ، وقَهَر بني عُبَيد، ومحا دولَتَهم، واستولى على قصرِ القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت, وخلا القصرُ مِن أهله وذخائره، وأقام الدعوة العباسية. وكان خليقًا للإمارة مَهيبًا، شُجاعًا حازِمًا مجاهِدًا، كثيرَ الغزو، عاليَ الهِمَّة، كانت دولتُه نيفًا وعشرين سنة. قال ابن خلكان: " قال شيخُنا ابن شداد (في سيرة صلاح الدين): "سمعتُ صلاح الدين يوسف بن أيوب يقول: لَمَّا يَسَّرَ لي الله الديارَ المصرية عَلِمتُ أنه أراد فتح الساحِلِ؛ لأنه أوقع ذلك في نفسي, ثم قال ابن شداد: ومِن حينِ استتَبَّ له الأمر ما زال يشُنُّ الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وبلادهما، وغَشِيَ الناس من سحائِبِ الإفضال والإنعام ما لم يُؤَرَّخْ من غير تلك الأيام، وهذا كلُّه وهو وزيرٌ متابِعُ القوم، لكنه يقومُ بمَذهَبِ أهل السنة، غارسًا في البلاد أهلَ الفقه والعِلمِ والتصوف والدين، والناس يُهرَعون إليه من كلِّ صَوبٍ ويَفِدون عليه من كل جانب، وهو لا يخَيِّب قاصدًا ولا يعدِمُ وافدًا ". تملك بعد نور الدين، واتَّسَعَت بلاده. ومنذ تسلطَنَ طَلَّقَ الخَمرَ واللَّذَّات، وأنشأ سورًا على القاهرة ومصر، وبعث أخاه شمس الدين في سنة ثمان وستين، فافتتح برقة، ثمَّ فتح اليمن، وسار صلاح الدين، فأخذ دمشق مِن ابن نور الدين. وفي سنة إحدى وسبعين حاصر عزاز، ووثبت عليه الباطنية، فجرحوه. وفي سنة ثلاث وسبعين كسَرَته الفرنج على الرملة، وفَرَّ في جماعة ونجا, وفي سنة خمس التقاهم وكَسَرهم, وفي سنة ستٍّ أمر ببناء قلعة الجبل, وفي سنة ثمانٍ عدى الفرات، وأخذ حران، وسروج، والرقة، والرها، وسنجار، والبيرة، وآمد، ونصيبين، وحاصَرَ الموصل، ثم تمَلَّك حلب، وعَوَّضَ صاحبها زنكي بسنجار، ثم إنه حاصر الموصل ثانيًا وثالثًا، ثم صالحه صاحبها عز الدين مسعود، ثم أخذ شهرزور والبوازيج, وفي سنة ثلاث وثمانين فتح طبرية، ونازل عسقلان، ثم كانت وقعة حطين سنة 585 بينه وبين الفرنج، وكانوا أربعين ألفًا، فحال بينهم وبين الماء على تَلٍّ، وسلموا نفوسَهم وأسر ملوكهم وأمراءَهم، وبادر فأخذ عكا وبيروت وكوكب، وسار فحاصر بيت المقدس، وجَدَّ في ذلك فأخذه بالأمان، ثم إن الفرنج قامت قيامتُهم على بيت المقدس، وأقبلوا كقطيعِ اللَّيلِ المُظلِمِ بَرًّا وبحرًا وأحاطوا بعكا ليستردُّوها وطال حصارُهم لها، وبنوا على نفوسهم خندقًا، فأحاط بهم السلطانُ، ودام الحصار لهم وعليهم نيفا وعشرين شهرًا، وجرى في غضون ذلك ملاحِمُ وحروب تَشيبُ لها النواصي، وما فكُّوا حتى أخذوها، وجَرَت لهم وللسلطان حروب وسِيَر. وعندما ضرس الفريقان، وكلَّ الحِزبان، تهادن المِلَّتان في صلح الرملة سنة 588. وكانت لصلاح الدين هِمَّة في إقامة الجهاد، وإبادة الأضدادِ ما سُمِعَ بمِثلِها لأحدٍ في دهر. قال الموفق عبد اللطيف: "أتيتُ وصلاح الدين بالقُدسِ، فرأيتُ مَلِكًا يملأ العيون روعةً، والقلوبَ مَحبَّةً، قَريبًا بعيدًا، سَهلًا مُحَبَّبًا، وأصحابه يتشَبَّهون به، يتسابقونَ إلى المعروف، كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} وأوَّلَ ليلة حضرتُه وجدت مجلِسَه حافِلًا بأهلِ العلم يتذاكرون، وهو يُحسِنُ الاستماع والمشاركة، ويأخُذُ في كيفيَّة بناء الأسوار، وحَفْر الخنادق، ويأتي بكلِّ معنى بديع، وكان مهتمًّا في بناء سور بيت المقدس وحَفْرِ خَندقِه، ويتولى ذلك بنَفسِه، وينقُل الحجارةَ على عاتِقِه، ويتأسى به الخَلقُ حتى القاضي الفاضِلُ، والعمادُ إلى وقت الظهر، فيمُدُّ السماط ويستريح، ويركبُ العَصرَ، ثم يرجع في ضوء المشاعِلِ، وكان يحفَظُ (الحماسة)، ويظُنُّ أنَّ كلَّ فقيه يحفَظُها، فإذا أنشَدَ وتوقَّفَ، استطعَمَ فلا يُطعَمُ، وجرى له ذلك مع القاضي الفاضل، ولم يكُن يحفَظُها، وخرج فما زال حتى حفظها، وكتب لي صلاح الدين بثلاثين دينارًا في الشهر، وأطلق أولادُه لي رواتِبَ، وكان أبوه ذا صلاحٍ، ولم يكن صلاحُ الدين بأكبَرِ أولاده، وكان محبَّبًا إلى نور الدين يلاعِبُه بالكُرةِ". لما قَدِمَ الحجيجُ إلى دمشق في يوم الاثنين حادي عشر صفر من هذه السنة خرج السلطانُ لتَلَقِّيهم، ثم عاد إلى القلعةِ فدخلها من باب الجديد، فكان ذلك آخِرَ ما رَكِبَ في هذه الدنيا، ثمَّ إنه اعتراه حُمَّى صفراوية ليلةَ السبت سادس عشر صفر، فلما أصبَحَ دخل عليه القاضي الفاضِلُ وابن شداد وابنُه الأفضل، فأخذ يشكو إليهم كثرةَ قلَقِه البارحة، وطاب له الحديثُ، وطال مجلِسُهم عنده، ثم تزايدَ به المرضُ واستمَرَّ، وقَصَده الأطباءُ في اليوم الرابع، ثم اعتراه يَبسٌ وحصَلَ له عَرَقٌ شَديدٌ بحيث نَفَذ إلى الأرض، ثم قَوِيَ اليبس فأحضَرَ الأمراءَ الأكابِرَ فبُويعَ لولده الأفضَل نور الدين علي، وكان نائبًا على دمشق، وذلك عندما ظَهَرت مخايل الضَّعفِ الشديد، وغيبوبة الذِّهنِ في بعض الأوقاتِ، وكان الذين يدخُلونَ عليه في هذه الحال الفاضِلُ وابنُ شداد وقاضي البلد ابن الزكي، ثم اشتَدَّ به الحال ليلةَ الأربعاء السابع والعشرين من صفر، واستدعى الشيخَ أبا جعفر إمامَ الكلاسة ليبيتَ عنده يقرأُ القرآن ويُلَقِّنَه الشهادة إذا جَدَّ به الأمرُ، فلما أُذِّنَ الصبحُ جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخِرِ رمقٍ، فلما قرأ القارئُ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فتبَسَّمَ وتهَلَّلَ وَجهُه، وأسلَمَ رُوحَه إلى ربِّه سبحانه وتعالى، ثم أخَذوا في تجهيزه، وحَضَر جميعُ أولاده وأهله، وكان الذي تولَّى غُسلَه خطيب البلد الفقيهُ الدولعي، وكان الذي أحضَرَ الكفَنَ ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل مِن صُلبِ مالِه الحلال، هذا وأولادُه الكبار والصغار يتباكَون وينادون، وأخذ الناسُ في العويل والانتحاب والدُّعاء له والابتهال، ثم أُبرِزَ جِسمُه في نعشِه في تابوتٍ بعد صلاة الظهر، وأمَّ النَّاسَ عليه القاضي ابنُ الزكي، ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة، ثم شَرَع ابنُه في بناء تربةٍ له ومدرسة للشافعيَّة بالقرب من مسجدِ القدم؛ لوصيته بذلك قديمًا، فلم يكمل بناؤها، ثم اشترى له الأفضَلُ دارًا شماليَّ الكلاسة في وزان ما زاده القاضي الفاضل في الكلاسة، فجعلها تربةً، وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين، وصلَّى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرابي بن الزكي، عن إذنِ الأفضل، ودخل في لحْدِه ولَدُه الأفضلُ فدفنه بنفسه، وهو يومئذ سلطانُ الشام، ويقالُ إنه دَفَن معه سَيفَه الذي كان يحضُرُ به الجهادَ، ويُذكَرُ أنَّ صَلاحَ الدين- رحمه الله تعالى- لم يخَلِّفْ في خزائِنِه غيرَ دينار واحدٍ صوري، وأربعين درهمًا ناصريَّة، ثمَّ تولى ابنُه الأفضل مُلكَ دِمشق، والساحل، وبيت المقدس، وبعلبك، وصرخد، وبصرى، وبانياس، وهونين، وتبنين، وجمع الأعمال إلى الداروم، وكان وَلَدُه الملك العزيز عثمان بمصر، فاستولى عليها، وعلى جميعِ أعمالِها، مثل: حارم، وتل باشر، وإعزاز، وبرزية، ودرب ساك، ومنبج وغير ذلك، وكان بحماة محمود بن تقي الدين عمر فأطاعه وصارَ معه، وكان بحمص شيركوه بن محمد بن شيركوه، فأطاع المَلِكَ الأفضل.
هو المَلِك سيف الدين بكتمر, صاحِبُ خلاط، مملوك الملك ظهير الدين شاه أرمن. استولى على أرمينية، وكان محاربًا للسلطان صلاح الدين، فلما بلغه مَوتُه، أسرف في إظهارِ الشَّماتة بموته, فأمر بضَربِ البشائر، وفَرِحَ فرحًا كثيرًا، وعمل تختًا جَلَس عليه، ولَقَّبَ نفسه بالسلطان المعظم صلاح الدين، وكان لقَبُه سيف الدين، فغَيَّرَه، وسمى نفسه عبد العزيز، فلم يُمهِلْه الله تعالى، وظهر منه اختلالٌ وتخليط، وتجهز ليقصِدَ ميافارقين يحصُرُها، فأدركته منيَّتُه، قُتِلَ بكتمر أول جمادى الأولى، وكان بين قَتلِه وموت صلاح الدين شهران، وكان سبب قتله أنَّ هزار ديناري زوج ابنَتِه, وهو من مماليك شاه أرمن ظهير الدين، كان قد قَوِيَ وكَثُرَ جَمعُه، وتزوج ابنةَ بكتمر، فطَمِعَ في الملك، فوضع عليه مَن قَتَله، فلما قُتِلَ ملك بعده بلادَ خلاط وأعمالَها.
هو أتابك أبو المظفر عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر التركي، صاحِبُ الموصل، وكان عزُّ الدين مُقَدَّم الجيوش في أيام أخيه سيف الدين غازي, وكان يزور الصالحينَ، وفيه حِلمٌ وحياءٌ ودينٌ وقيامُ ليل، وفيه عَدلٌ. ولما توفي أخوه سيف الدين استقَلَّ عز الدين بالمُلك من بعده، وعمل المصافَّ مع صلاح الدين على قرونِ حماة، فانكسر مسعودٌ سنة سبعين، ثم ورث حلب، أوصى له بها ابن عمه الصالح إسماعيل، فساق وطلع إلى القلعة، وتزوج بوالدة الصالح، فحاربه صلاحُ الدين، وحاصر الموصِلَ ثلاث مرات، ولَمَّا بلغ صلاح الدين أن مسعودًا راسل الفرنج يحثُّهم على حرب صلاح الدين، غضب وسار، فنازل حلب جمادى الأولى سنة ثمان، ثم ترحَّل بعد ثلاث، وجرت بينهما أمور، ثم تصالحا، وكان موتُهما متقاربًا, وتمكن حينئذ مسعود، واطمأن، إلى أن مات بعد صلاحِ الدين بأشهر بعلة الإسهالِ، فعاد إلى الموصل مريضًا، فبَقِيَ في مرضه إلى التاسع والعشرين من شعبان، فتوفي بالموصل، ودُفِنَ بالمدرسة التي أنشأها مقابِلَ دار الملكة، وقيل: إنه كان قد بقي ما يزيد على عشرة أيام لا يتكلم إلَّا بالشهادتين، وتلاوة القرآن، وإذا تكَلَّم بغيرها استغفَرَ الله، ثم عاد إلى ما كان عليه، فرُزِقَ خاتمة خَيِّرة، وقد خلَّفَه بعد موته أخوه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود. مات عن ابنين: القاهر مسعود، والمنصور زنكي.
خرج السلطانُ طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي في سنة ثمان وثمانين من الحبس، وملك همذان وغيرها، وكان قد جرى بينه وبين قتلغ إينانج بن البهلوان، صاحِبِ البلاد، حربٌ انهزم فيها قتلغ إينانج، وتحصَّنَ بالري، وسار طغرل إلى همذان فمَلَكَها، فأرسل قتلغ إينانج إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش يستنجِدُه، فسار إليه في سنة ثمان وثمانين، فلما تقاربا نَدِمَ قتلغ إينانج على استدعاء خوارزم شاه، وخاف على نفسِه فمضى من بين يديه وتحصَّنَ في قلعة له، فوصل خوارزم شاه إلى الري وملَكَها، وحصر قلعةَ طبرك ففتحها في يومينِ، وراسله طغرل، واصطلحا، وبَقِيَت الري في يد خوارزم، فجَدَّ في السير خوفًا عليها، فأتاه الخبَرُ، وهو في الطريق، أنَّ أهل خوارزم منعوا سلطان شاه عنها، ولم يقدِرْ على القرب منها، وعاد عنها خائبًا، فشتى خوارزم شاه بخوارزم، فلما انقضى الشتاءُ سار إلى مرو لقصدِ أخيه سنة تسع وثمانين، فترددت الرسلُ بينهما في الصلح، فبينما هم في تقرير الصلح ورد على خوارزم شاه رسولٌ مِن مستحفظ قلعة سرخس لأخيه سلطان شاه يدعوه ليسَلِّمَ إليه القلعة؛ لأنه قد استوحش من صاحِبِه سلطان شاه، فسار خوارزم شاه إليه مجِدًّا، فتسَلَّمَ القلعة وصار معه، وبلغ ذلك سلطان شاه ففتَّ في عَضُده، وتزايد كمَدُه، فمات آخر رمضان سنة 589؛ فلما سمع خوارزم شاه بموته سار من ساعتِه إلى مرو فتسَلَّمَها، وتسَلَّمَ مملكة أخيه سلطان شاه جميعها وخزائنه، وأرسل إلى ابنه علاء الدين محمد، وكان يلقب حينئذ قطب الدين، وهو بخوارزم، فأحضره فولَّاه نيسابور، وولَّى ابنَه الأكبَرَ ملكشاه مرو، وذلك في ذي الحجة.
وصل المَلِكُ العزيزُ عُثمانُ بن صلاح الدين، وهو صاحِبُ مصر، إلى مدينةِ دِمشقَ، فحَصَرَها وبها أخوه الأكبَرُ الملك الأفضل عليُّ بن صلاح الدين، فنزل بنواحي ميدان الحصى، فأرسل الأفضَلُ إلى عمه الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وهو صاحِبُ الديار الجزرية، يستنجِدُه، فسار الملك العادِلُ إلى دمشق هو والمَلِك الظاهر غازي بن صلاح الدين، صاحِبُ حلب، وناصِرُ الدين محمد بن تقي الدين، صاحِبُ حماة، وأسدُ الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه، صاحِبُ حمص، وعسكَرُ الموصل وغيرها، كُلُّ هؤلاء اجتمعوا بدمشق، واتَّفَقوا على حفظها، علمًا منهم أنَّ العزيزَ إن مَلَكَها أخذ بلادَهم، فلما رأى العزيزُ اجتماعَهم عَلِمَ أنَّه لا قدرة له على البلد، فترَدَّدَت الرسل حينئذ في الصلح، فاستقَرَّت القاعدة على أن يكون بيتُ المقدس وما جاوره من أعمالِ فلسطين للعزيز، وتبقى دمشق وطبرية وأعمالها والغور للأفضَلِ، على ما كانت عليه، وأن يعطيَ الأفضَلُ أخاه المَلِك الظاهر جبلة واللاذقية بالساحل الشامي، وأن يكون للعادِلِ بمصر إقطاعُه الأول، واتفقوا على ذلك، وعاد العزيزُ إلى مصر، ورجع كُلُّ واحدٍ من الملوكِ إلى بلده.
كان شهابُ الدين الغوري، ملك غزنة، قد جهَّز مملوكَه قطب الدين أيبك، وسيَّرَه إلى بلد الهند للغزو، فدخلها فقَتَل فيها وسبى وغَنِم وعاد، فلما سَمِعَ به ملك بنارس، وهو أكبَرُ ملك في الهند، ولايتُه من حد الصين إلى بلاد ملاوا طولًا، ومن البحر إلى مسيرة عشرة أيام من لهاوور عرضًا، وهو مَلِكٌ عظيم، فعندها جمع جيوشَه وحشرها، وسار يطلُبُ بلاد الإسلام، ودخلت سنة تسعين فسار شهاب الدين الغوري من غزنة بعساكِرِه نحوه، فالتقى العسكرانِ على ماجون، وهو نهرٌ كبير يقارب دجلة بالموصل، وكان مع الهندي سبعمائة فيل، ومن العسكر على ما قيل ألف ألف رجلٍ، ومن جملةِ عسكره عدة أمراء مسلمين، كانوا في تلك البلادِ أبًا عن جَدٍّ، من أيام السلطان محمود بن سبكتكين، يلازمون شريعة الإسلام، ويواظِبونَ على الصلوات وأفعال الخير، فلما التقى المسلمونَ والهنود اقتتلوا، فصبر الكُفَّارُ لكثرتهم، وصبر المسلمون لشجاعتهم، فانهزم الكُفَّار، ونُصِرَ المسلمون، وكَثُرَ القتل في الهنود، حتى امتلأت الأرضُ وجافت، وكانوا لا يأخذون إلَّا الصبيانَ والجواري، وأمَّا الرجال فيُقتَلون، وأخَذ منهم تسعين فيلًا، وباقي الفيلةِ قُتِلَ بَعضُها، وانهزم بعضها، وقُتِلَ ملك الهند، ولم يَعرِفْه أحد إلَّا أنه كانت أسنانُه قد ضعفت أصولها، فأمسكوها بشريطِ الذَّهَبِ، فبذلك عرفوه، فلما انهزم الهنودُ دخل شهاب الدين بلاد بنارس، وحَمَل من خزائنها على ألف وأربع مائة جمل، وعاد إلى غزنة ومعه الفِيَلة التي أخذها من جُملِتها فيلٌ أبيضُ.
هو السُّلطانُ طغرل بن ألب أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، آخر الملوك السلجوقية. وكان طغرل من أحسَنِ الناس صورةً، فيه إقدامٌ وشجاعةٌ زائدة, وقد انهارت دولةُ بني سلجوق بوفاته, وكانت عوامِلُ ضَعفِ سلطان السلاجِقةِ قد بدأت بوفاة آخِرِ سلاطينِهم الأقوياء السُّلطان سنجر سنة 552, والذي جلس على سريرِ الملك قريبًا من ستين سنة. وقد كان من أعظمِ الملوك همَّةً، ولم يزَلْ في ازدياد إلى أن ظَهَرَت عليه الغُزُّ سنة 548, في وقعة مشهورةٍ, ولَمَّا كسروه فيها انحلَّ نظام ملكه، ومَلَك الغزُّ نيسابور، وقتلوا خلقًا كثيرًا، وأخذوا السلطانَ، وضربوا رقابَ عَدَدٍ مِن أمرائه، فنَزَل عن المُلْك، ودخل إلى خانقاه مَرْو، وعَمِلَت الغُزُّ ما لا تعمَلُه الكُفَّارُ من العظائِمِ، فملَّكوا مملوك سنجر أيَبَه، وجرت مصائبُ على خراسان، وزال بموتِه ملك بني سلجوق عن خراسان، واستولى خوارزم شاه على أكثَرِ مملكته. أخذت الدولةُ السلجوقيَّةُ في الضَّعفِ والتضعضعِ ثم الانهيار، وكان ذلك في عهد الخليفة الناصر لدين الله، فقد استقَرَّ رأي الخليفة على الاستعانة بعلاء الدين تكش خوارزم شاه ضد آخِرِ سلاطين السلاجقة طغرل بن ألب أرسلان، فأرسل إلى خوارزم شاه شاكيًا من السُّلطان طغرل، ويطلُبُ منه أن يساعدَه عليه، وأرفَقَ الرسالة بمنشور يقضي بإقطاعِ خوارزم شاه كلَّ البلاد التي كانت آنذاك تحت نفوذِ السلاجقة، فلبى خوارزم شاه رغبةَ الخليفة العباسي, وسار بعساكِرِه، وقَصَد طغرل، فلمَّا سَمِعَ السلطان طغرل بوصول خوارزم شاه كانت عساكِرُ طغرل متفَرِّقة، فلم يقِفْ ليجمعها، بل سار إليه فيمن معه، فالتقى العسكران بالقُربِ من الري، فحمَلَ طغرل بنفسِه في وسط عسكر خوارزم شاه، فأحاطوا به وألقَوه عن فَرَسِه وقتلوه، وقطعوا رأسَه في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول، ثم حُمِلَ رأسه إلى خوارزم شاه، فسَيَّرَه من يومه إلى بغداد، فدخلوا به على رمحٍ، فنُصِبَ رأسه بباب النوبي عدَّة أيام، وسار خوارزم شاه إلى همذان، وملك تلك البلادَ جَميعَها. وبهذا زالت الدولةُ السلجوقية تمامًا.
هو الشَّيخُ الإمامُ العالمُ العامِلُ، القُدوةُ سيد القراء: أبو محمد القاسم بن فيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير، من طبقات الشافعية, ولد سنة 538 ببلدة شاطبة- وهي مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء- كان الشاطبي يتوقد ذكاءا، مع الورع والتقوى والتأله والوقار. وهو مصنِّف الشاطبية في القراءات السبع، فلم يُسبَق إليها ولا يُلحَق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كلُّ ناقد بصير، هذا مع أنه ضرير. قال عنها ابن خلكان: " الشاطبي هو صاحب القصيدة التي سمَّاها حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، وعِدَّتُها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتًا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم؛ فقَلَّ مَن يشتَغِلُ بالقراءات إلا ويُقَدِّمُ حِفظَها ومعرفتها، وهي مشتَمِلةٌ على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنُّه سُبِقَ إلى أسلوبها". وله قصيدة دالية في خمسمائة بيت مَن حَفِظَها أحاط علمًا بكتاب التمهيد لابن عبد البر. كما له الباعُ الأطول في فن القراءات والرسم والنحو والفقه والحديث. قرأ القرآن الكريم ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، ورحل إلى بلنسية، فقرأ القراءات على أبي الحسن بن هذيل. وقراءة بالسبع على غيرهما, فقد كان عالِمًا بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرًا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبَرَّزًا فيه، وكان إذا قُرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تُصحَّحُ النسخُ من حفظه، ويُملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحدَ في علم النحو واللغة، عارفًا بعلم الرؤيا، حَسَن المقاصِدِ. كان دَيِّنًا خاشعًا ناسكًا كثير الوقار، لا يتكَلَّمُ فيما لا يعنيه. يجتَنِبُ فُضولَ الكلام ولا ينطقُ إلا على طهارةٍ في هيئةٍ حَسَنةٍ وتخَشُّع واستكانة، وكان يعتَلُّ العلةَ الشديدةَ فلا يشتكي ولا يتأوَّه. انتقل من بلده إلى مصر، قال السخاوي: "سببُ انتقاله من بلده أنَّه أريد على الخطابة، فاحتج بالحَجَّ، وترك بلده، ولم يعُدْ إليه تورُّعًا مما كانوا يُلزِمونَ الخُطَباء مِن ذِكرِهم الأمراءَ بأوصافٍ لم يَرَها سائغة، وصَبَرَ على فقرٍ شديد". سمع بمصرَ من السِّلَفي، وولاه القاضي الفاضل مشيخة الإقراء بمدرسته في مصر، فأجاب على شروطٍ، فتصَدَّر وعَظُمَ شأنه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهت إليه رياسةُ الإقراء بمصر، وقد انتفع به وبعِلمِه خَلقٌ كثير. زار بيت المقدس وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، فكانت وفاتُه بها في الثامن والعشرين من جمادى الآخرة، ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضليَّة، وله أولاد رووا عنه، منهم أبو عبد الله محمد, وهذا الإمام الشاطبي صاحب الشاطبية يختلف عن الشاطبي صاحب المُوافقات الذي توفي سنة 970.
خلع الخليفةُ الناصر لدين الله على النائبِ في الوزارة: مؤيدِ الدينِ أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بنِ علي- المعروف بابن القصَّاب- خِلَعَ الوَزارةِ، وحَكَم في الولايةِ، وبرز في رمضانَ، وسار إلى بلاد خوزستان، وولي الأعمالَ بها، وصار له فيها أصحابٌ وأصدقاء ومعارف، وعَرَف البلادَ ومِن أيِّ وَجهٍ يُمكِنُ الدخول إليها والاستيلاءُ عليها، فلمَّا وَلِيَ ببغدادَ نيابةَ الوزارة أشار على الخليفةِ بأن يُرسِلَه في عسكر إليها ليملِكَها له، وكان عَزمُه أنَّه إذا ملك البلادَ واستقَرَّ فيها أقام مُظهِرًا للطاعة، مستقِلًّا بالحكم فيها، ليأمَنَ على نفسه، فاتَّفَق أنَّ صاحِبَها ابن شملة توفِّيَ، واختَلَف أولادُه بَعدَه، فراسل بعضُهم مؤيِّدَ الدين يستنجِدُه لِمَا بينهم من الصُّحبة القديمة، فقَوِيَ الطمعُ في البلاد، فجُهِّزَت العساكِرُ وسُيِّرَت معه إلى خوزستان، فوصلها سنةَ إحدى وتسعين وجرى بينه وبين أصحابِ البلاد مراسَلاتٌ ومحاربةٌ عَجَزوا عنها، ومَلَك مدينةَ تستر في المحرم، ومَلَك غيرها من البلاد، ومَلَك القلاع، وأنفذ بني شملةَ أصحابَ بلادِ خوزستان إلى بغداد، فوصلوا في ربيع الأول.