لَمَّا عَبَرَ أبو يوسف يعقوب، صاحِبُ المغرب، إلى الأندلُسِ، وأقام مجاهدًا ثلاثَ سنين، انقطعت أخبارُه عن إفريقية، فقَوِيَ طَمَعُ علي بن إسحق الملثم الميورقي، وكان بالبريَّة مع العرب، فعاود قَصْدَ إفريقية، فبَثَّ جنوده في البلاد فخَرَّبوها، وأكثروا الفسادَ فيها، فمُحِيَت آثارُ تلك البلاد وتغَيَّرَت، وصارت خاليةً من الأنيس، خاويةً على عروشها، وأراد المسيرَ إلى بجاية ومحاصَرتَها لاشتغالِ يعقوب بالجهاد، وأظهَرَ أنه إذا استولى على بجاية سار إلى المغرب، فوصل الخبر إلى يعقوب بذلك فصالح الفرنج، وعاد إلى مراكش عازمًا على قَصْدِه، وإخراجِه من البلادِ.
خرجَ المَلِكُ العزيزُ عُثمانُ بنُ صلاح الدين من مِصرَ في عساكره إلى دمشقَ يريدُ حَصْرَها مرَّةً أخرى، فعاد عنها مُنهَزِمًا، وسبب ذلك أنَّ مَن عنده من مماليكِ أبيه، وهم المعروفون بالصلاحيَّة، كانوا لا يزالون يخوِّفونَ العزيزَ مِن أخيه، وبيَّنوا له أنَّ المصلحةَ أخْذُ دمشق، فخرج من العام الماضي وعاد، فتجَهَّزَ هذه السنة ليخرُجَ، فبلغ الخبَرُ إلى الأفضل، فسار من دمشقَ إلى عمه الملك العادل، فاجتمع به بقلعةِ جعبر، ودعاه إلى نُصرَتِه، وسار مِن عندِه إلى حلب، إلى أخيه المَلِك الظاهر غازي، فاستنجدَ به، وسار الملك العادِلُ من قلعة جعبر إلى دمشق، فسبقَ الأفضلَ إليها ودخلها، وكان الأفضَلُ لثِقَتِه به قد أمر نوَّابه بإدخالِه إلى القلعة، ثم عاد الأفضل من حلب إلى دمشق، ووصل الملك العزيز إلى قُربِ دمشق، ثم استقَرَّت القاعدة أنَّ الأفضَلَ يملك الديارَ المصريَّة، ويُسَلِّم دمشقَ إلى عَمِّه الملك العادل، فلم يُمكِن العزيزَ المقامُ، بل عاد منهزمًا يطوي المراحِلَ خَوفَ الطَّلَبِ، ولا يصدق بالنجاة، وتساقَطَ أصحابُه عنه إلى أن وصل إلى مصر، ورَكِبَ وراءه العادِلُ والأفضل ليأخذا منه مصر، وقد اتَّفَقا على أن يكون ثُلُثُ مصر للعادل وثُلثاها للأفضل، ثمَّ بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يُثَبِّتُه، وأقبل على الأفضَلِ يُثَبِّطُه، وأقاما على بلبيس أيامًا حتى خرج إليهما القاضي الفاضِلُ مِن جهة العزيز، فوقع الصُّلحُ على أن يُرجِعَ القدسَ ومُعاملَتَها للأفضل، ويستقِر العادِلُ مقيمًا بمصر على إقطاعِه القديم، فأقام العادِلُ بها طمعًا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعد ما خرج العزيز لتوديعِه، وهي هُدنةٌ على قذا، وصُلحٌ على دَخَن، فلما استقرَّ الأمر على ذلك وتعاهدوا عاد الأفضَلُ إلى دمشقَ وبَقِيَ العادلُ بمصرَ عند العزيز.
جهَّز الخليفةُ النَّاصِرُ لدين الله جيشًا وسَيَّرَه إلى أصفهان، ومُقَدَّمُهم سيف الدين طغرل، مُقطع بلد اللحف من العراق، وكان بأصفهان عسكَرٌ لخوارزم شاه مع ولده، وكان أهلُ أصفهان يكرهونَهم، فكاتب صَدرُ الدين الخجندي رئيسُ الشافعية بأصفهان الديوانَ ببغداد يبذُلُ من نفسِه تسليمَ البلد إلى من يَصِلُ الديوان من العساكر، وكان هو الحاكِمَ بأصفهان على جميعِ أهلها، فسُيِّرَت العساكر، فوصلوا إلى أصفهان، ونزلوا بظاهِرِ البلد، وفارقه عسكَرُ خوارزم شاه، وعادوا إلى خراسان، وتَبِعَهم بعض عسكر الخليفة، فتخَطَّفوا منهم، وأخذوا مِن ساقةِ العَسكَرِ مَن قَدَروا عليه، ودخل عسكَرُ الخليفة إلى أصفهان ومَلَكوها.
غزا أبو يوسُفَ يعقوبُ بنُ عبد المؤمن، صاحِبُ بلاد المغرب والأندلس، بلادَ الفِرنجِ بالأندلُسِ، وسبَبُ ذلك أنَّ ألفونسو مَلِك الفرنج بها، ومَقَرُّ مُلكِه مدينة طليطلة، كتب إلى يعقوبَ كتابًا فحواه أنَّه يريد الإغارةَ على البلادِ والقَتلَ، وأنَّه لا مانع له من ذلك ويستهزئُ بقوة المسلمين ويتَّهِمُهم بالضَّعفِ مع أنَّهم- أي المسلمين- مأمورون بالجهاد، حتى لو كان العدوُّ ضِعفَ العَدَد، واستهزأ بالمَلِك أبي يوسف يعقوب، فلمَّا وصل كتابُه وقرأه يعقوبُ، كتب في أعلاه هذه الآية: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37]، وأعاده إليه، وجمع العساكِرَ العظيمةَ من المسلمينَ وعبَرَ المجاز إلى الأندلس، وقيل: كان سبَبُ عبوره إلى الأندلس أن يعقوبَ لَمَّا قاتل الفرنج سنة ست وثمانين وصالحهم، بَقِيَ طائفة من الفرنج لم تَرْضَ الصلح، فلما كان الآن جَمَعت تلك الطائفة جمعًا من الفرنجِ، وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقَتَلوا وسَبَوا وغَنِموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا، فانتهى ذلك إلى يعقوب، فجمع العساكِرَ، وعبَرَ المجاز إلى الأندلس في جيشٍ يضيقُ عنهم الفضاء، فسَمِعَت الفرنج بذلك، فجمعت قاصيَهم ودانيهم، فالتقوا تاسِعَ شعبان شماليَّ قُرطبةَ عند قلعة رياح، بمكانٍ يعرف بمرج الحديد، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكانت الدائرة أولًا على المسلمين، ثمَّ عادت على الفرنج، فانهزموا أقبحَ هزيمةٍ، وانتصر المسلمون، وغَنِمَ المسلمون منهم شيئًا عظيمًا، ولَمَّا انهزم الفرنج اتَّبَعهم أبو يوسف، فرآهم قد أخذوا قلعةَ رياح، وساروا عنها من الرُّعبِ والخوف، فمَلَكَها وجعل فيها واليًا وجندًا يحفظونها، وعاد إلى مدينة إشبيلية، وأما ألفونسو فإنه لما انهزم حَلَقَ رأسَه، ونكَّسَ صليبَه، ورَكِبَ حمارًا، وأقسَمَ أنْ لا يركب فرسًا ولا بغلًا حتى تُنصَرَ النَّصرانيَّة.
لَمَّا انتصر أبو يوسفَ يعقوب الموحِّدي على نصارى الأسبان السَّنةَ الماضية, حَلَقَ ألفونسو رأسه، ونكَّس صليبه، وركب حمارًا، وأقسم أنْ لا يركب فرسًا ولا بغلًا حتى تُنصر النصرانيَّة, فجمع جموعًا عظيمة، وبلغ الخبَرُ بذلك إلى يعقوب، فأرسل إلى بلاد المغربِ مراكش وغيرها يستنفِرُ النَّاسَ مِن غير إكراه، فأتاه من المتطوِّعة والمرتزقين جمعٌ عظيم، فالتَقَوا في ربيع الأول من هذه السنة، فانهزم الفرنجُ هزيمة قبيحة، وغَنِمَ المسلمون ما معهم من الأموال والسلاح والدواب وغيرها، وتوجَّه إلى مدينة طليطلة فحصرها، وقاتلها قتالًا شديدًا، وقطَعَ أشجارها، وشنَّ الغارةَ على ما حولها من البلاد، وفتَحَ فيها عِدَّةَ حصون، فقتل رجالَها، وسبى حريمَها، وخَرَّب دُورَها، وهَدَم أسوارها، فضَعُفَت النصرانية حينئذٍ، وعَظُمَ أمر الإسلام بالأندلس، وعاد يعقوبُ إلى إشبيلية فأقام بها، فلمَّا دخَلَت سنة ثلاث وتسعين سار عنها إلى بلاد الفرنج، وذلوا واجتمَعَ ملوكها، وأرسلوا يطلُبونَ الصُّلحَ، فأجابهم إليه بعد أن كان عازمًا على الامتناعِ مريدًا لملازمة الجهادِ إلى أن يفرغَ منهم، فأتاه خبَرُ علي بن إسحق الملثم الميورقي أنَّه فعل بإفريقيَّة من الأفاعيل الشنيعة، فتَرَك عزمه، وصالَحَهم مدة خمس سنين، وعاد إلى مراكش آخِرَ سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
سار شِهابُ الدين الغوري، صاحِبُ غُزنةَ، إلى بلد الهند، وحصَرَ قلعة بهنكر، وهي قلعةٌ عظيمةٌ منيعةٌ، فطلب أهلُها منه الأمان على أن يُسَلِّموها إليه، فأمَّنَهم وتسَلَّمها، وأقام عندها عشرة أيام حتى رتَّب جندَها وأحوالها، وسار عنها إلى قلعة كوالير، وبينهما مسيرةُ خمسة أيام، وفي الطريق نهرٌ كبيرٌ، فجازه، ووصل إلى كوالير، وهي قلعةٌ منيعة حصينة على جبلٍ عالٍ لا يَصِلُ إليها حَجَرُ منجنيق ولا نشاب، وهي كبيرة، فأقام عليها صَفرًا جميعَه يُحاصِرُها، فلم يبلغ منها غَرَضًا، فراسله مَن بها في الصُّلحِ، فأجابهم إليه على أن يُقِرَّ القلعةَ بأيديهم على مالٍ يحمِلونَه إليه، فحَمَلوا إليه فيلًا حِملُه ذَهَب، فرحل عنها إلى بلاد آي وسور، فأغار عليها ونَهَبها، وسبى وأسر ما يعجِزُ العادُّ عن حصره، ثم عاد إلى غُزنةَ سالِمًا.
تبدأُ قِصَّةُ بناء مسجد الكتيبة منذ الأيامِ الأولى لانتصارِ الموحِّدين على المرابطين؛ فقد أبى كثيرٌ من الموحِّدين دخولَ البلدة أو الاستقرار فيها؛ لأنهم كانوا يسمعون مُؤَسِّسَ دولتهم المهدي (ابن تومرت) يقول لهم دائمًا: لا تدخلوا مراكش حتى تُطَهِّروها، ولما التمسوا معنى تطهيرِها لدى فقهائِهم أجابوهم أنَّ مساجد مراكش فيها انحرافٌ قليلٌ في القبلة عن الجهةِ الصَّحيحةِ، فعليكم أن تبنوا مسجِدًا دقيق الاتجاه، صحيحَ القبلة فيها. وهكذا قام عبدُ المؤمن بن علي أمير الموحِّدين بهدم مسجدِ قَصرِ الحجر ذي القبلة الخطأ، وهدم الجامِعَ الذي كان قد بناه علي بن يوسف أميرُ المرابطين بأدنى المدينة، ثم شرع في بناءِ جامعٍ عظيم مكانه. أُطلِقَ على هذا الجامِع اسمُ جامع الكتيبة الذي ابتدأ بناؤه سنة 548 ويعتبر واحدًا من ثلاثة آثار معمارية كبرى في دولة الموحِّدين، وهذه الآثار هي: رباط تازا، وجامع تيمنلل، وجامع الكتيبة. ويذهَبُ بعض الباحثين إلى أنَّ الموحِّدينَ وَقَعوا أوَّلَ الأمرِ رَغمَ حِرصِهم في نفس خطأ المرابطين؛ حيث لم يُصَوِّبوا مسجِدَهم الجديد نحو القبلة بالدقة التي كانوا يرجونَها؛ مِمَّا حمَلهم على بناءِ جامعٍ آخَرَ إلى جواره صحيحِ المحراب دقيق الاتجاه؛ ولهذا فجامع الكتيبة أنشئَ في ظن هؤلاء مرَّتين لا مرة واحدة.. وما تزال آثارُ الجامع الأول ظاهرة، وارتفاعُ المنارة إلى أعلى يصل إلى 67.5 مترًا، أي: ما يوازي عمارةً مِن عشرين طابقًا. وجُدرانُها مَطليَّة كُلُّها بالجصِّ الأبيض المائِلِ إلى الأصفر.
مَلَك المَلِكُ العادِلُ أبو بكر بنُ أيوب مدينة دمشقَ مِن ابن أخيه الأفضَلِ عليِّ بن صلاح الدين، وكان أبلَغُ الأسباب في ذلك وثوقَ الأفضل بالعادل، فلما أقام العادِلُ عند العزيز بمصر استمالَه، وقَرَّرَ معه أنَّه يخرج معه إلى دمشقَ ويأخُذُها من أخيه ويُسَلِّمُها إليه، فسار معه من مصرَ إلى دمشق، وحَصَروها، واستمالوا أميرًا من أمراءِ الأفضَلِ يقال له العزيزُ بن أبي غالب الحمصي، فسَلَّمَ إليه بابًا من أبواب دمشقَ يُعرَفُ بالباب الشرقي ليحفَظَه، فمال إلى العزيزِ والعادل، ووعَدَهما أنه يفتَحُ لهما الباب، ويُدخِل العسكر منه إلى البلدِ غِيلةً، ففتحه اليوم السابع والعشرين من رجب وقتَ العصر، وأدخَلَ المَلِك العادِلَ منه ومعه جماعةٌ من أصحابه، فلم يشعُرِ الأفضَلُ إلَّا وعَمُّه معه في دمشق، ورَكِبَ الملك العزيز ووقف بالميدان الأخضَرِ غربيَّ دمشق، ثمَّ أرسلا إلى الأفضَلِ وأمَراه بمفارقةِ القلعة وتسليمِ البلد على قاعدةِ أن تُعطى قلعة صرخد له، ويُسَلَّم جميع أعمال دمشق، فخرج الأفضَلُ ونزل في جوسق بظاهر البلد، غربيَّ دمشق، وتسلَّم العزيزُ القلعة ودخلها، وأقام بها أيامًا، ثمَّ لم يزل به عَمُّه العادل حتى سَلَّمَ البلد إليه، وخرج منه، وعاد إلى مصر، وسار الأفضَلُ إلى صرخد، وكان العادِلُ يَذكُرُ أنَّ الأفضَلَ سعى في قَتلِه؛ فلهذا أخذ البلد منه، وكان الأفضَلُ يُنكِرُ ذلك ويتبرَّأُ منه، وقيل: بل كان سبَبُ ذلك سوء تدبير وزير الأفضَلِ ضياء الدين بن الأثير الجزري، الذي هرب بعد إخراجِ الأفضَلِ مِن دمشق، وقيل: إن العزيز استناب عمَّه العادِلَ على دمشق وبَقِيَت الخطبة له والسكَّة باسمِه.
عزم العزيزُ عُثمانُ بنُ صلاح الدين الأيوبي على نَقضِ الأهرام، ونَقْل حجارتها إلى سورِ دمياط لبنائه، فقيل له: إن المؤنةَ تَعظُمُ في هَدمِها، والفائدةَ تَقِلُّ مِن حَجَرِها، فانتقل رأيُه من الهَرَمين الكبيرين إلى الهرم الصغيرِ، وهو مبنيٌّ بالحجارة الصوان، فشرع في هدمه، وأراد كذلك إخراجَ الكنوز من تحته فبَقِيَ العمال شهورًا، ثم تركوه بعد أن عَجَزوا عن هَدمِه أيضًا.
يرجِعُ تاريخُ مدينةِ الرِّباط إلى فتراتٍ تاريخية مختلفة، إلَّا أنَّ التأسيس الأوَّلي للمدينة يعودُ إلى عهد المرابطين الذين أنشؤوا رباطًا مُحَصَّنًا؛ ذلك أنَّ هاجِسَ الأمن كان أقوى العوامِلِ التي كانت وراء هذا الاختيار؛ ليكون نقطةً لتجَمُّع المجاهدين، ورَدِّ الهَجَمات خلالَ عهد الموحدين، عرفَت المدينة إشعاعًا تاريخيًّا وحضاريًّا؛ حيث تمَّ تحويلُ الرباط (الحصن) على عهدِ عبد المؤمن الموحِّدي إلى قصبة مُحصَّنة لحماية جيوشِه التي كانت تَنطلِقُ في حملات جهادية صَوبَ الأندلس، وفي عهد حفيدِه يعقوب المنصور، أراد أن يجعَلَ مِن رباط الفتح عاصِمةً لدولته، وهكذا أمرَ بتَحصينِها بأسوارٍ مَتينةٍ، وشَيَّدَ بها عِدَّةَ بنايات من أشهرِها مسجِدُ حسان بصومعتِه الشَّامخة.
مَلَك العادِلُ أبو بكرِ بنُ أيوبَ مدينةَ يافا من الساحِلِ الشاميِّ وهي بيد الفرنج، وسَبَبُ ذلك أنَّ الفرنجَ كان قد مَلَكَهم الكند هري، وكان الصُّلحُ قد استقَرَّ بين المسلمين والفرنج أيَّامَ صلاح الدين الأيوبي، فلما توفِّيَ ومَلَك أولادُه بعده، جَدَّد المَلِكُ العزيزُ عثمان بن صلاح الدين الهُدنةَ مع الكند هري وزاد في مُدَّة الهدنة، وبَقِيَ ذلك إلى هذه السَّنة، وكان بمدينةِ بيروت أميرٌ يُعرَفُ بأسامة، وهو مقطِعُها، فكان يُرسِلُ الشواني تقطَعُ الطريقَ على الفرنج، فاشتكى الفرنجُ مِن ذلك غيرَ مَرَّةٍ إلى الملك العادل بدمشق، وإلى المَلِك العزيز بمصر، فلم يمنعا أسامةَ مِن ذلك، فأرسلوا إلى مُلوكِهم الذين داخِلَ البحر يَشتَكون إليهم ما يفعَلُ بهم المسلمون، ويقولون: إن لم تُنجِدونا، وإلَّا أخَذَ المسلمون البلاد، فأمَدَّهم الفرنجُ بالعساكِرِ الكثيرة، وكان أكثَرُهم مِن مَلِك الألمان، وكان المقَدَّم عليهم قسيس يُعرَفُ بالخنصلير، فلما سَمِعَ العادل بذلك أرسل إلى العزيزِ بمصرَ يَطلُبُ العساكِرَ، وأرسل إلى ديارِ الجزيرة والموصل يَطلُبُ العساكر، فجاءته الأمدادُ واجتمعوا على عين جالوت، فأقاموا شَهرَ رمضان وبعضَ شوال، ورحلوا إلى يافا، وملكوا المدينةَ، وامتنع مَن بها بالقلعةِ التي لها، فخَرَّب المُسلِمونَ المدينة، وحَصَروا القلعةَ، فمَلَكوها عَنوةً وقهرًا بالسَّيفِ في يومها، وهو يومُ الجمعة، وأُخِذَ كلُّ ما بها غنيمةً أسرًا وسَبيًا، ووصل الفرنجُ من عكَّا إلى قيسارية؛ ليَمنَعوا المسلمين عن يافا، فوصلهم الخبَرُ بها بمِلكِها فعادوا، وكان سبَبُ تأخُّرِهم أنَّ مَلِكَهم الكندي هري سَقَط من موضعٍ مُرتفعٍ بعكَّا فمات، فاختَلَّت أحوالُهم فتأخَّروا لذلك.
هو المَلِكُ سَيفُ الإسلام أبو الفوارِسِ طغتكين بن أيوب بن شاذي بن مروان المنعوتُ بالملك العزيز ظهير الدين، صاحِب اليمن بزبيد، أخو صلاح الدين الأيوبي، لَمَّا ملك صلاحُ الدين الدِّيارَ المصريَّةَ سَيَّرَ أخاه شمسَ الدولة توران شاه إلى بلادِ اليمن، فمَلَكَها واستولى على كثيرٍ مِن بلادها، ورجع عنها، ثمَّ سَيَّرَ السلطان إليها بعد ذلك أخاه سيفَ الإسلام، وذلك في سنة 577, وكان رجلًا شجاعًا شديدَ السيرة، مُضَيِّقًا على رعيَّتِه، يشتري أموالَ التجار لنفسه ويبيعُها كيف شاء، وأراد مِلكَ مَكَّةَ، فأرسل الخليفةُ الناصر لدين الله إلى أخيه صلاح الدين في المعنى، فمَنَعَه من ذلك، وجمعَ مِن الأموال ما لا يحصى، حتى إنَّه مِن كثرته كان يَسبِكُ الذهب ويجعلُه كالطاحون ويدَّخِرُه، لما قدم للديارِ المصرية وسلطانها يومئذٍ ابنُ أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن السلطان صلاح الدين، ألزمه أربابُ ديوان الزكاة بدَفعِ الزكاة من المتاجِرِ التي وصلت بصُحبتِه، حارب الزيدية في اليمن، وبعد أعوامٍ أخَذَ صنعاء, وكانت دولتُه أربع عشرة سنة، ولَمَّا توفي مَلَكَ اليَمنَ بعده ابنُه المعز إسماعيل، وكان أهوج كثير التخليط، بحيث إنَّه ادَّعى أنه قُرَشيٌّ من بني أمية، وخَطَب لنفسه بالخلافة، وتلقَّبَ بالهادي، فلمَّا سَمِعَ عمُّه الملك العادل ذلك ساءه وأهمَّه، وكتب إليه يلومُه ويوبِّخُه، ويأمُرُه بالعود إلى نسَبِه الصحيح، وبتَرْك ما ارتكبه ممَّا يُضحِكُ الناس منه، فلم يلتَفِت إليه ولم يرجِعْ، وبقي كذلك، وحارب رأسَ الزيديَّة وهزمه، وأنشأ بزبيد مدرسة، ولَمَّا أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، وثَبَوا عليه فقتلوه، وملَّكوا عليهم بعده أميرًا من مماليك أبيه.
بعد فراغ الملك العادل من فتح يافا عاد المسلمون إلى عين جالوت، فوصَلَهم الخبَرُ بأن الفرنج على عَزمِ قصد بيروت، فرحل العادِلُ والعسكر في ذي القعدة إلى مرج العيون، وعزم على تخريبِ بيروت، فسار إليها جمعٌ مِن العسكر، وهَدَموا سور المدينة سابِعَ ذي الحجة، وشَرَعوا في تخريب دورها وتخريبِ القلعة، فمَنَعَهم أسامة من ذلك، وتكَفَّل بحِفظِها، ورحل الفرنجُ مِن عكَّا إلى صيدا، وعاد عسكَرُ المسلمين من بيروت، فالتَقَوا بالفرنج بنواحي صيدا، وجرى بينهم مناوشة، فقُتِلَ من الفريقين جماعةٌ، وحَجَزَ بينهم الليل، وسار الفرنجُ تاسع ذي الحجة، فوصلوا إلى بيروت، فلما قاربوها هَرَب منها أسامة وجميعُ من معه من المسلمين، فملكها الفرنج صفوًا عَفْوًا بغيرِ حَربٍ ولا قتال، فكانت غنيمةً باردةً، فأرسل العادل إلى صيدا من خرَّبَ ما كان بَقِيَ منها؛ فإن صلاح الدين كان قد خَرَّبَ أكثَرَها، وسارت العساكر الإسلامية إلى صور، فقطعوا أشجارَها، وخَرَّبوا ما لها من قُرًى وأبراج، فلما سَمِعَ الفرنج بذلك رحلوا من بيروت إلى صور، وأقاموا عليها، ونزل المسلمون عند قلعة هونين وأذِنَ العادل للعساكر الشرقيَّة بالعود ظنًّا منه أن الفرنجَ يقيمونَ ببلادِهم.
عبَرَ كُفَّارُ الخطا الترك نهرَ جيحون إلى ناحية خراسان، فعاثُوا في البلاد وأفسَدوا، فلَقِيَهم عسكر غياث الدين الغوري وقاتلَهم فانهزم الخطا، وكان سَبَبُ ذلك أنَّ خوارزم شاه تكش كان قد سار إلى بلد الري، وهمذان وأصفهان وما بينهما من البلادِ، ومَلَكَها وتعرض إلى عساكر الخليفة، وأظهر طَلَبَ السلطنة والخطبة ببغداد، فأرسل الخليفةُ إلى غياث الدين ملك الغور وغُزنة يأمُرُه بقَصدِ بلاد خوارزم شاه ليعودَ عن قَصدِ العراق، وكان خوارزم شاه قد عاد إلى خوارزم، فراسَلَه غياث الدين يُقَبِّحُ له فِعْلَه، ويتهَدَّدُه بقَصدِ بلاده وأخْذِها، فأرسل خوارزم شاه إلى الخطا الكُفَّار يشكو إليهم من غياثِ الدين، فساروا وعبروا جيحون في جمادى الآخرة، وكان الزمان شتاءً، وكان شهاب الدين الغوري أخو غياث الدين ببلاد الهند، والعساكِرُ معه، وغياث الدين به من النقرسِ ما يمنَعُه من الحركة، إنما يُحمَلُ في محفَّة، والذي يقود الجيشَ ويباشِرُ الحروب أخوه شهاب الدين، فلما وصل الخطا الترك إلى جيحون سار خوارزم شاه إلى طوس، عازمًا على قَصدِ هراة ومحاصَرتِها، وعبَرَ الخطا النهر، ووصلوا إلى بلاد الغور وقَتَلوا وأسروا ونهبوا وسَبَوا كثيرًا لا يحصى، فاستغاث النَّاسُ بغياث الدين، فلم يكُنْ عنده من العساكر ما يلقاهم بها، فراسل الخطا بهاء الدين سام ملك باميان يأمرونَه بالإفراج عن بلخ، أو أنَّه يَحمِلُ ما كان مِن قبَلِه يحمِلُه من المالِ، فلم يجِبْهم إلى ذلك، وعظُمَت المصيبة على المسلمين بما فعله الخطا، فانتدبَ الأمير محمد بن جربك الغوري، وهو مقطع الطالقان من قِبَل غياث الدين، وكان شجاعًا، وكاتب الحُسَين بن خرميل، وكان بقلعة كرزبان، واجتمع معهما الأميرُ حروش الغوري، وساروا بعساكِرِهم إلى الخطا، فبَيَّتوهم، وكبسوهم ليلًا، فأتاهم هؤلاء الغوريَّة وقاتلوهم، وأكثروا القتلَ في الخطا، وانهزم مَن سَلِمَ منهم من القتل، ثم قَوِيَت قلوبهم، وثَبَتوا واقتتلوا عامَّةَ نَهارِهم، فقتل من الفريقين خلقٌ عظيم، ولَحِقَت المتطوعة بالغوريِّينَ، وأتاهم مَدَدٌ من غياث الدين وهم في الحرب، فثبت المسلمونَ، وعَظُمَت نكايتُهم في الكفار.
لَمَّا ورد رسولُ ملك الخطا التُّرك الكُفَّار على خوارزم شاه، أعاد الجوابَ: إنَّ عَسكَرَك إنَّما قَصَد انتزاعَ بلخ، ولم يأتُوا إلى نصرتي، ولا اجتَمَعْتُ بهم، ولا أمرتُهم بالعبور، إن كنتُ فعلْتُ ذلك، فأنا مقيمٌ بالمال المطلوب مني، ولكِنْ حيث عجزتم أنتم عن الغوريَّة عُدتُم عليَّ بهذا القول وهذا المطلب، وأمَّا أنا فقد صلحت مع الغورية، ودخلت في طاعتِهم، ولا طاعةَ لكم عندي، فعاد الرسولُ بالجواب، فجَهَّزَ ملك الخطا جيشًا عظيمًا وسَيَّرَه إلى خوارزم فحصروها، فكان خوارزم شاه يخرجُ إليهم كل ليلة، ويقتُلُ منهم خلقًا، وأتاه من المتطوِّعة خلقٌ كثير، فلم يَزَلْ هذا فِعْلَه بهم حتى أتى على أكثَرِهم، فدخل الباقون إلى بلادِهم، ورحل خوارزم شاه في آثارهم، وقَصَد بخارى فنازلها وحَصَرها، وامتنع أهلُها منه، وقاتلوه مع الخطا، فلم يَزَلْ هذا دأبَهم حتى ملك خوارزم شاه البلدَ بعد أيام يسيرة عَنوةً، وعفا عن أهله، وأحسَنَ إليهم، وفَرَّقَ فيهم مالًا كثيرًا، وأقام به مُدَّةً ثم عاد إلى خوارزم.
هو أبو الفَتحِ وأبو الجود عِمادُ الدين زنكي بنُ قُطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن اقسنقر، صاحِبُ سنجار ونصيبين، والخابور والرقة، كان قد مَلَك حلب سنة 577 بعد ابنِ عَمِّه الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، ومَلَك بعدَه ابنُه قطب الدين محمد، وتولَّى تدبير دولته مجاهِدُ الدين يرنقش مملوكُ أبيه، كان يحِبُّ أهل العلم والدين، ويحتَرِمهم ويجلس معهم ويرجع إلى أقوالهم، وكان شديد التعَصُّب لمذهب الحنفية، كثيرَ الذَّمِّ للشافعيَّة، فمِن تعَصُّبِه أنه بنى مدرسة للحنفيَّة بسنجار، وشَرَط أن يكون النظَرُ للحنفيَّةِ مِن أولاده دونَ الشافعيَّة، وشَرَطَ أن يكون البوَّاب والفراش على مذهب أبي حنيفةَ، وشَرَط للفُقَهاءِ طبيخًا يُطبَخُ لهم كلَّ يَومٍ.
في مُنتَصَف المحَرَّم، بلغ المَلِكَ العادِلَ أنَّ الفرنج قد نازلوا حِصنَ تبنين، فسَيَّرَ إليه عسكرًا يحمونَه ويَمنَعون عنه، ورحلَ الفرنج من صور، ونازلوا تبنين أوَّلَ صفر وقاتلوا من به، وجدُّوا في القتال، ونَقَبوه من جهاتهم، فلمَّا عَلِمَ العادل بذلك أرسل إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين بمصرَ يطلُبُ منه أن يَحضُرَ هو بنفسه، فسار العزيزُ مُجِدًّا فيمن بَقِيَ معه من العساكر، وأمَّا مَن بحصنِ تبنين فإنَّهم لَمَّا رأوا النقوبَ قد خَرَّبَت تل القلعة، ولم يبقَ إلَّا أن يَملِكوها بالسَّيفِ، نزل بعضُ من فيها إلى الفرنجِ يَطلُبُ الأمانَ على أنفُسِهم وأموالِهم لِيُسَلِّموا القلعة، وكان المرجِعُ إلى القسيس الخنصلير من أصحابِ مَلِك الألمان، فقال لهؤلاء المسلمينَ بَعضُ الفرنج الذين مِن ساحِلِ الشامِ: إنْ سَلَّمتُم الحِصنَ استأسَرَكم هذا وقتَلَكم؛ فاحفَظوا نُفوسَكم، فعادوا كأنَّهم يُراجِعونَ مَن في القلعةِ لِيُسَلِّموا، فلما صَعِدوا إليها أصرُّوا على الامتناع، وقاتلوا قتالَ من يحمي نفسَه، فحَمَوها إلى أن وصل المَلِكُ العزيز إلى عسقلان في ربيع الأول، فلما سمع الفرنجُ بوصوله واجتماعِ المُسلِمين، وأنَّ الفرنجَ ليس لهم مَلِكٌ يَجمَعُهم، وأنَّ أمْرَهم إلى امرأة، وهي المَلِكة؛ اتفقوا وأرسلوا إلى مَلِك قبرص واسمُه هيمري، فأحضروه فزَوَّجوه بالمَلِكة زوجة الكند هري، فلمَّا مَلَكَهم لم يَعُدْ إلى الزَّحفِ على الحِصنِ، ولا قاتَلَه، واتَّفَق وصول العزيز أوَّل شهر ربيع الآخر، ورحل هو والعساكِرُ إلى جبل الخليل الذي يُعرَفُ بجبل عاملة، فأقاموا أيامًا، والأمطارُ متداركة، فبَقِيَ إلى ثالث عشر الشهر، ثم سار وقارب الفرنجَ، وأرسل رماةَ النشاب، فرموهم ساعةً وعادوا، ورَتَّب العساكر ليزحَفَ إلى الفرنج ويجِدَّ في قتالهم، فرحلوا إلى صور خامس عشر ربيع الآخر ليلًا، ثم رَحَلوا إلى عكَّا، فسار المسلمون فنزلوا اللجون، وتراسلوا في الصُّلحِ، وتطاول الأمرُ، فعاد العزيز إلى مصر قبل انفصالِ الحال، وبقي العادلُ وترَدَّدَت الرسلُ بينه وبين الفرنج في الصُّلحِ، فاصطَلَحوا على أن تبقى بيروت بِيَدِ الفرنج، وكان الصُّلحُ في شعبان، فلما انتَظَم الصلح عاد العادِلُ إلى دمشق، وسار منها إلى ماردين من أرضِ الجزيرة.
حاصر المَلِكُ العادل أبو بكر بن أيوب قلعةَ ماردين في شهر رمضان، وقاتَلَ مَن بها، وكان صاحِبُها حسام الدين يولق أرسلان, وكان صبيًّا والحاكِمُ في بلده ودولته مملوكَ أبيه النظام يرنقش، وليس لصاحِبِه معه حُكمٌ البتَّةَ في شيء من الأمور، ولَمَّا حصر العادل ماردين ودام عليها سَلَّمَ إليه بعضُ أهلها الربض بمخامرةٍ بينهم، فنهب العسكَرُ أهلَه نهبًا قبيحًا، وفَعَلوا بهم أفعالًا عظيمة لم يُسمَعْ بمِثلِها، فلما تسَلَّمَ الربض تمكنَ من حصر القلعة وقَطَع الميرةَ عنها، وبَقِيَ عليها إلى أن رحل عنها سنة خمس وتسعين.
لما استقَرَّت أمورُ خوارزم شاه في الريِّ اشتغَلَ بقتالِ الملاحدة، فافتتح قلعةً على باب قزوين تسمَّى أرسلان كشاه، وانتقل إلى حصارِ قلعة ألموت، فقُتِلَ عليها صدرُ الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية بالري، وكان قد تقَدَّم عنده تقدمًا عظيمًا، قَتَله الملاحدة، وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم، فوثَب الملاحِدةُ على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقَتَلوه في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، فأمر تكش ولَدَه قطب الدين بقَصدِ الملاحدة، فقَصَد قلعة ترشيش وهي من قلاعِهم، فحصرها فأذعنوا له بالطاعة، وصالحوه على مائة ألف دينار، ففارَقَها، وإنما صالحهم لأنَّه بلَغَه خبَرُ مَرَضِ أبيه، وكانوا يراسِلونَه بالصلح فلا يفعَلُ، فلما سمع بمرض أبيه لم يرحَلْ حتى صالَحَهم على المال المذكور والطاعة ورحل.
كان أبو علي يونُس بنُ عمر وَلِيَ المهديَّةَ، وجَعَل قائِدَ الجيش بالمهدية محمَّد بن عبد الكريم، وهو شجاعٌ مشهور، فعَظُمَت نكايته في العرب، فلم يَبقَ منهم إلَّا من يخافه، فاتَّفَق أنه أتاه الخبَرُ بأن طائفة من عوف نازلون بمكان، فخرج إليهم، وعَدَل عنهم حتى جازهم، ثم أقبَلَ عائدًا يطلُبُهم، وأتاهم الخبَرُ بخروجه إليهم، فهربوا من بين يديه، فلَقُوه أمامهم، فهربوا وتركوا المالَ والعيال من غيرِ قتال، فأخذ الجميعَ ورجع إلى المهديَّة، وسَلَّم العيالَ إلى الوالي، وأخَذَ مِن الأسلاب والغنيمة ما شاء، وسَلَّمَ الباقيَ إلى الوالي وإلى الجند، ثمَّ إن العرب من بني عوف قصدوا أبا سعيدِ بن عمر اينتي، فوحدوا وصاروا من حِزبِ الموحِّدين، واستجاروا به في رَدِّ عيالهم، فأحضَرَ محمد بن عبد الكريم، وأمره بإعادةِ ما أخذ لهم من النَّعَم، فقال: أخَذَه الجُندُ، ولا أقدِرُ على رده، فأغلظ له في القَولِ، وأراد أن يبطِشَ به، فاستمهَلَه إلى أن يرجِعَ إلى المهديَّة ويسترِدَّ مِن الجند ما يجِدُه عندهم، وما عَدِمَ منه غُرِّمَ العِوَضَ عنه من ماله، فأمهله، فعاد إلى المهديَّة وهو خائف، فلما وصلها جمَعَ أصحابَه وأعلمهم ما كان من أبي سعيد، وحالفهم على موافقتِه، فحَلَفوا له، فقَبَضَ على أبي علي يونس، وتغلَّب على المهديَّة ومَلَكَها، فأرسل إليه أبو سعيد في معنى إطلاقِ أخيه يونس، فأطلَقَه على اثني عشر ألف دينار، فلما أرسَلَها إليه أبو سعيد فَرَّقَها في الجند وأطلق يونس، وجمَعَ أبو سعيد العساكرَ، وأراد قَصْدَه ومحاصرته، فأرسل محمد بن عبد الكريم إلى عليِّ بن إسحاق الملثم فحالفه واعتضَدَ به، فامتنع أبو سعيدٍ مِن قصده، ومات يعقوبُ وولي ابنه محمد، فسير عسكرًا مع عَمِّه في البحر، وعسكرًا آخَرَ في البر مع ابنِ عَمِّه الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، فلما وصلَ عسكر البحر إلى بجاية، وعسكَرُ البَرِّ إلى قسنطينة الهوى، هرب الملثَّم ومن معه من العرب من بلاد إفريقيَّة إلى الصحراء، ووصل الأسطولُ إلى المهديَّة، فشكا محمد بن عبد الكريم ما لَقِيَ من أبي سعيد، وقال: أنا على طاعةِ أمير المؤمنين محمد، ولا أسَلِّمُها إلى أبي سعيد، وإنما أسلمها إلى من يَصِلُ من أمير المؤمنين؛ فأرسل محمَّد مَن يتَسَلَّمُها منه، وعاد إلى الطاعةِ.