بعد محاربة الصربِ للعثمانيين سنة 788, وحصولِهم على بعض النجاحِ نتيجةَ انشغال العثمانيين بالحرب مع علاء الدين أمير القرمان، ثم إنَّ أمير البلغار سيسمان تأهَّب للقيام بدوره في محاربة القوات العثمانيةِ، غيرَ أنَّه تفاجأ بها وقد داهمَتْه واحتلَّت بعضَ أجزاء بلاده، ففَرَّ إلى الشمالِ واعتصم في مدينة نيكوبلي القريبة من الحدود الرومانية، وجمع فلولَه مَرَّة أخرى وحارب العثمانيِّينَ إلَّا أنه باء بالهزيمةِ مَرَّة أخرى، ووقع أسيرًا، لكِنِ السلطانُ مراد الأولُ أحسَنَ إليه فأبقاه أميرًا على نصف بلاده، وضَمَّ الباقيَ إلى الدولة العثمانيَّةِ، فلما علم ملك الصرب لازار بهذا، انسحب بجيوشه نحو الغرب منضَمًّا إلى الألبانيين لمحاربة العثمانيينَ معهم، غيرَ أن الجيوش العثمانية أدركَتْه قبل وصوله إلى مبتغاه، والتقت معه في هذه السنة في معركة وسط سهل قوص أوه- إقليم كوسوفو- جنوبي يوغسلافيا، وكان القتالُ سِجالًا بين الطرفين، ثمَّ إنَّ صِهرَ لازار انضَمَّ إلى جانب العثمانيين بفرقته المؤلَّفة من عشرة آلاف مقاتل، فانهزم الصرب ووقع مَلِكُهم لازار أسيًرا جريحًا فقتلوه جزاءَ بما فعله بأسرى المسلمين، وبينما السلطان مراد الأول يتفقد الجرحى في أرض المعركة طَعَنه جريحٌ صِربي فقَتَله!
هو السُّلطانُ الغازي أبو الفتح غيَّاث الدنيا والدين: مراد الأول بن أورخان بن عثمان القايوي المعروف بغازي خداوندكار، التُركماني، ولِدَ سنة 726 (1326م). لَمَّا توفِّيَ والده الغازي أورخان سنة 761 جلس على سرير السلطنة, ووُلِدَ ابنُه السلطان يلدرم بايزيد خان عقيب جلوسِه على سرير السلطنة, ولما استَقَرَّ على سرير الملك كان الغزاةُ في روم إيلي منتظرينَ قُدومَه إليهم، فسار وجاوز البحر فاحتَلَّ مدينة أنقرة مقَرَّ سلطنة القرمان، ثم افتتح مدينة أدرنه في أوروبا في هذه السنة، ونقل إليها عاصمته واستمَرَّت عاصمة للدولة العثمانية إلى أن فتح محمد الفاتح مدينة القُسطنطينية سنة 853 (1453م) وفتح أيضًا مراد الأول مدينةَ فيلبه عاصمة الرومللي الشرقية، وفتح القائد أفرينوس بك مدينتي وردار وكلجمينا باسم سلطان العثمانيين، وبذلك صارت مدينة القسطنطينية محاطةً مِن جهة أوروبا بأملاك آلِ عُثمان منذ عَهْدِ مراد الأول, وصارت الدولة العَليَّة متاخمةً لإمارات الصرب والبلغار وألبانيا المستقلة, ولَمَّا دخل الربيع في شعبان سنة 791 خرج السلطان مراد الأول بجيشٍ عَرَمرم فالتقى في أول شهر رمضان بالصِّربِ، وانتصر عليهم, فبينما كان السلطان يتفرج بين القتلى مع أصحابه إذ نهض من بين الصرعى رجلٌ من الصرب، وكان من أمرائِهم، فقصد السلطان، فهَمَّ الحواشي أن يمنَعُوه فنهاهم السلطانُ فجاء كأنَّه يُظهِرُ الطاعة، فضربه بخنجر كان قد خبَّأه في كمِّه فجَرحَه جُرحًا مُنكرًا فلَحِقَ القوم ذلك الصربي فقَتَلوه، ثم خَيَّموا على السلطان طاقةً، فأنزلوه فيها، فلم يمض عليه يوم حتى توفي, فتكون مدةُ سلطنته إحدى وثلاثون سنة، وعمره خمس وستون. وكان قد بنى لنفسِه تربة في قرب جامعه بقبلوجه، فحملوه إلى بروسا –بورصة- مع تابوت ابنه يعقوب جلبي، فدفنوهما في تلك القبَّة، وبنيت قبة في موضع شهادته. قال حاجي خليفة: "كان مرادُ الأول من أجلِّ الملوك قَدْرًا ودِينًا، وكان دائِمَ الغَزوِ بحيث أفنى عمُرَه في الجهاد، وكان منصورًا في حروبه كثيرَ الخير، مواظِبًا على الجماعات في الصَّلَواتِ" ثم جلس على سرير السلطنة بعده ابنُه السلطان بايزيد الأول.
استطاع الأميرُ يلبغا الناصري إزالةَ مُلكِ السلطان برقوق، وكان من أعوانه منطاش الأفضلي ولكن لم يكن ما بينهما صافيًا، فلما كان سادس عشر شعبان أشيعَ في القاهرة بتنكُّر منطاش على الناصري، وانقطع منطاش عن الخدمة، وأظهر أنَّه مريض، ففَطِنَ الناصري بأنه يريد أن يعمل مكيدةً، فلم ينزل لعيادتِه، وبعث إليه الأمير ألطنبغا الجوباني رأس نوبة كبيرًا في يوم الاثنين سادس عشر شعبان ليعودَه في مرضه، فدخل عليه وسَلَّم عليه، وقضى حقَّ العيادة وهَمَّ بالقيام، فقَبَض عليه منطاش وعلى عشرين من مماليكِه، وضرب قرقماس دوادار الأمير الجوباني ضربًا مبَرِّحًا، مات منه بعد أيام، ثم رَكِبَ منطاش حالَ مَسْكِه للجوباني في أصحابِه إلى باب السلسلة، وأخذ جميعَ الخيول التي كانت واقفةً على باب السلسلة، وأراد اقتحامَ الباب ليأخُذَ الناصريَّ على حين غفلة، فلم يتمكَّنْ من ذلك وأُغلقَ الباب، ورمى عليه مماليكُ الناصري من أعلى السور بالنشَّاب والحجارة، فعاد إلى بيته ومعه الخيول، وتلاحقت المماليكُ الأشرفية خشداشيته- زملاء مهنته- والمماليك الظاهرية بمنطاش، فعَظُم بهم أمرُه، وقَوِيَ جأشُه، وانضمت اليلبغاوية على الناصريِّ، وهم يوم ذاك أكابِرُ الأمراء وغالِبُ العسكر المصري، وتجمَّعَت المماليك على منطاش حتى صار في نحو خمسمائة فارس معه، بعدما كان في سبعين فارسًا في أوَّلِ ركوبه، ثم أتاه من العامةِ عالمٌ كبيرٌ، فترامى الفريقان واقتتلا، ونزل الأميرُ حسام الدين حسين بن الكوراني والي القاهرة، والأمير مأمور حاجب الحجاب من عند الناصري، ونودي في الناس بنهب مماليكِ منطاش، والقَبضِ على من قَدَروا عليه منهم، وإحضاره إلى الناصري، فخرج عليهما طائفةٌ من المنطاشية فضربوهما وهزموهما، فعادوا إلى الناصريِّ وسار الوالي إلى القاهرة، وأغلَقَ أبوابها، واشتَدَّت الحرب، ثم أتى منطاش طوائِفُ من مماليك الأمراء والبطالة وغيرهم شيئًا بعد شيءٍ، فحَسُنَ حاله بهم، واشتد بأسُه، وعَظُمَت شوكته بالنسبة لما كان فيه أولًا، لا بالنسبة لحواشي الناصري ومماليكِه، هذا وقد انزعج الناصريُّ وقام بنفسه وهيَّأ أصحابه لقتال منطاش، ونَدَب من أصحابه من أكابر الأمراء جماعةً لقتاله، واستمر القتالُ بينهما، وكل ذلك يزداد أمرُ منطاش بهروب الأمراء الناصرية إليه، حتى إن منطاش أمر فنادى بالقاهرة بالأمان والاطمئنان، وإبطال المكس والدعاء للأمير الكبير منطاش بقبَّة النصر، هذا وقد أخذ أمر الناصري في إدبار، وتوجَّه جماعة كبيرة من أصحابِه إلى منطاش، فلما رأى الناصري عَسكَرَه في قِلَّة، وقد نفر عنه غالبُ أصحابه، بعث بالخليفةِ المتوكل على الله إلى منطاش يسأله في الصلحِ وإخماد الفتنة، فنزل الخليفة إليه وكَلَّمه في ذلك، فقال له منطاش: أنا في طاعة السلطانِ، وهو أستاذي وابن أستاذي، والأمراء إخوتي، وما غريمي إلا الناصري؛ لأنَّه حلف لي وأنا بسيواس ثم بحلب ودمشق أيضًا بأننا نكون شيئًا واحدًا، وأن السلطانَ يحكُمُ في مملكَتِه بما شاء، فلما حصَلَ لنا النصر وصار هو أتابك العساكر، استبَدَّ بالأمر، ومنع السلطانَ من التحكم، وحَجَر عليه، وقَرَّب خشداشيَّتَه اليلبغاوية، وأبعدني أنا وخشداشيتي الأشرفيَّة، ثم ما كفاه ذلك حتى بعثني لقتالِ الفلاحين، وكان الناصريُّ أرسله من جملة الأمراء إلى جهة الشرقية لقتال العربان، لَمَّا عَظُم فساد فلاحيها، ثم قال منطاش: ولم يُعطِني الناصريُّ شيئًا من المال سوى مائة ألف درهم، وأخذ لنفسِه أحسَنَ الإقطاعاتِ، وأعطاني أضعفها، والإقطاعُ الذي قرره لي يعمل في السنة ستمائة ألف درهم، واللهِ ما أرجع عنه حتى أقتُلَه أو يقتُلَني، ويتسلطن ويستبِدَّ بالأمر من غير شريكٍ، فأخذ الخليفةُ يلاطِفُه، فلم يرجع له وقام الخليفة من عنده وهو مُصَمِّمٌ على مقالته، وطلع إلى الناصري وأعاد عليه الجوابَ، فعند ذلك ركب الناصري بسائِرِ مماليكه وأصحابه، ونزل بجمعٍ كبير لقتال منطاش، وصَفَّ عساكِرَه تجاه باب السلسلة، وبرز إليه منطاش أيضًا بأصحابِه، وتصادما واقتتلا قتالًا شديدًا، وثَبَت كُلٌّ من الطائفتين ثباتًا عظيمًا، حتى انكسر الناصري وأصحابُه، وطلع إلى باب السلسلة، وندم الناصري على خَلعِ الملك الظاهر برقوق وحَبْسِه؛ لَمَّا عَلِمَ أن الأمر خرج من اليلبغاوية وصار في الأشرفية حيث لا ينفعه الندم، وأما منطاش فركب بمن معه بعد أن انهزم الناصري عدة مرات وترَكَه أكثَرُ أمرائه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني ومَلَكَه، ووقع النهب فيه، فأخذوا من الخيل والقماش شيئًا كثيرًا، وتفَرَّق الزعر والعامة إلى بيوت المنهزمين، فنَهَبوا وأخذوا ما قدروا عليه، ومنعهم الناسُ من عدة مواضع، وبات منطاش بالإسطبل، وأصبح من الغدِ، وهو يوم الخميس تاسع عشر شعبان، وطلع إلى السلطان الملك المنصور حاجي، وأعلمه بأنَّه في طاعته، وأنَّه هو أحقُّ بخدمتِه؛ لكونِه من جملة المماليك الذين لأبيه الأشرَفِ شعبان، وأنه يمتَثِلُ مَرسومَه فيما يأمُرُه به، وأنه يريدُ بما فعله عمارةَ بيت الملك الأشرف، فسُرَّ المنصور بذلك هو وجماعة الأشرفية؛ فإنهم كانوا في غاية ما يكون من الضِّيقِ مع اليلبغاوية من مُدَّة سنين.
خرج المَلِكُ الظاهر برقوق مِن سجن الكرك، واستولى على مدينتِها ووافقه نائِبُها الأمير حسام الدين حسن الكجكني، وقام بخِدمتِه، وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابنُ خاطر أمير بني عقبة من عرب الكَركِ، ودخل في طاعته، وقَدِمَ هذا الخبر من ابن بأكيش نائب غزة، فلمَّا سمعه منطاش- الذي تغلب على الناصري وأصبح هو نائِبَ السلطنة- أرسل من يقتُلُ الظاهر برقوق في سجنه، واضطربت الديارُ المصرية، وكَثُرَت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويلُ، وتشَغَّب الزعر، وكان مِن خَبَرِ الملك الظاهر برقوق أنَّ منطاش لَمَّا وثب على الأمر وقهر الأتابك يلبغا الناصري وحبسه وحَبَس عِدَّةً من أكابر الأمراء، عاجَلَ في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصًا يُعرَفُ بالشهاب البريدي، ومعه كتُبٌ للأمير حسام الدين الكجكني نائب الكرك وغيره بقَتلِ الملك الظاهر برقوق من غير مراجَعةٍ، ووعده بأشياءَ غيرِ نيابة الكرك، وكان الشهابُ البريدي أصلُه من الكرك، فجَهَّزه منطاش لذلك سرًّا، فلما وصل الشهاب إلى الكرك أخرج الشهابُ إلى نائبها كتابَ منطاش الذي بقَتلِ برقوق، فأخذه الكجكني منه ليكونَ له حُجَّةً عند قَتْلِه السلطان برقوق، ووعَدَه بقضاء الشُّغلِ وأنزل الشهابَ بمكان قلعة الكرك قريبًا من الموضِعِ الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنَسَ به، ثم قام الكجكني من فَورِه ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقَتلِه، فأوقفه على الكتابِ، فلمَّا سمعه الملك الظاهر كاد أن يَهلِكَ من الجزع، فحَلَف له الكجكني بكلِّ يمين أنَّه لا يُسَلِّمُه لأحد ولو مات، وأنَّه يطلِقُه ويقومُ معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسُه، واطمأنَّ خاطِرُه، وقد اشتهر في مدينة الكرك مجيءُ الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق، وكان في خدمةِ الملك الظاهر غلامٌ مِن أهل الكرك يقال له عبد الرحمن، فنزل إلى جماعةٍ في المدينة وأعلَمَهم أن الشهابَ قد حضر لقَتلِ أستاذه الملك الظاهر، فلمَّا سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال، وقَصَدوا القلعة وهجموها حتى دخَلوا إلى الشهاب وهو بسَكَنِه من قلعة الكرك، ووثَبوا عليه وقَتَلوه، ثم جَرُّوه برجله إلى الباب الذي فيه المَلِك الظاهر برقوق، وكان نائِبُ الكرك الكجكني عند الملك الظاهر، وقد ابتدؤوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة 791 فلم يشعر الملك الظاهر والكجكني إلَّا وجماعة قد هجموا عليهم، وهم يدعون للملك الظاهر بالنَّصرِ، وأخذوا الملك الظاهِرَ بيَدِه حتى أخرجوه من البرجِ الذي هو فيه، وقالوا له: دُسْ بقدمك عند رأس عدُوِّك، وأروه الشهابَ مقتولًا، ثم نزلوا به إلى المدينةِ فدُهِشَ النائب مما رأى، ولم يجِدْ بدًّا من القيامِ في خدمة الملك الظاهر وتجهيزِه، وانضَمَّ على الملك الظاهِرِ أقوام الكرك وأجنادُها، وتسامع به أهلُ البلاد، فأتَوه من كُلِّ فَجٍّ بالتقادم والخيول، كل واحدٍ بحَسَبِ حالِه، وأخذ أمرُ الملك الظاهر برقوق من يومِ ذلك في استظهارٍ، وأما أمر منطاش فإنه لما سَمِعَ هذا الخبر وتحقَّقَه، علم أنه وقع في أمرٍ عظيم، فأخذ في تدبيرِ أحوالِه، فأول ما ابتدأ به أن قَبَض على جماعةٍ كبيرة من المماليك الظاهرية، وسجنهم وقَتَل بَعْضَهم.
بعد أن قام الظَّاهِرُ برقوق بالاستيلاء على مِصرَ وعودَتِه إليها، بقي منطاش في دمشق عاصيًا على السلطان برقوق، وأخَذَ منطاش بعلبكَّ بعد أن حاصرها محمد بن بيدمر أربعةَ أشهر، ثم إنَّ الظاهر برقوقًا جَهَّز العساكِرَ إلى دمشق لأخْذِها من منطاش، فلما بلغ منطاش قدومُ العساكر برز من دمشق، وأقام بقبَّة يلبغا، ثم رحل نصفَ ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصِّه، وهم نحو الستمائة فارس، ومعه نحو السبعينَ حملًا ما بين ذَهَبٍ ودراهم وقماش، وتوجه نحو قارا والنبك، بعد أن قَتَل المماليك الظاهرية، والأميرُ ناصر الدين محمد بن المهمندار، وإن الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق وأفرجَ عَمَّن بها، ومَلَك القلعة، وبعث إلى النوابِ يُعلِمُهم، وسَيَّرَ كتابه إلى السلطان بذلك، فسار النوابُ إلى دمشق ومَلَكوها بغير حرب، ثمَّ إن منطاش توجه إلى الأمير نعير، ومعه عنقا بن شطى أمير آل مرا، ثم قدم البريدُ بأن منطاش ونعيرًا جمعَا جمعًا كبيرًا من العُربان والأشرفية والتركمان، وساروا لمحاربة النواب، فخرج الأمير يلبغا الناصري والأمير ألطبغا الجوباني بالعساكر من دمشق إلى سليمة، ثم اجتمع البَيْدَمرية والطازية والجنتمرية في طوائف من العامة بدمشق يريدون أخْذَها، فسَرَّح الأمير الكبير أيتمش الطائر من القلعةِ إلى سليمة يُعلِمُ الأمير يلبغا الناصري بذلك، فركب ليلًا في طائفةٍ مِن العسكر، وقَدِمَ دمشق وقاتَلَهم ومعه ألابغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، فقُتِلَ بينهما خلقٌ كثير من الأتراك والعوام وكَسَرَهم، وقَبَض على جماعة ووسَّطَهم تحت قلعة دمشق، وحَبَس جماعة، وقَطَع أيديَ سبعمائة رجل، وعاد إلى سليمة، وافترقت جمائِعُ منطاش وعساكر الشام ثلاث فرق، وتولى الأميرُ يلبغا الناصري محاربةَ الأمير نعير، فكسَرَه، وقتل جمعًا مِن عُرْبانه، وركب قفا نعيرٍ إلى مَنازِلِه، وحارب الأميرُ قرا دمرداش منطاشَ ومَن معه من التركمان، فضرَبَ كُلٌّ منهما الآخر، فوقعت الضربةُ بكَتِفِ منطاش، وقُطِعَت أصابع قرا دمرداش، وخامَرَ جماعة من الأشرفية على منطاش وصاروا في جملةِ الأمير ألطبغا الجوباني، فأحسن إليهم وقرَّبَهم، فلما وقعت الحربُ اتفق الأشرفيَّةُ مع بعض مماليكِه وقَتَلوه، وقبضوا على الأمير مأمور ووسَّطوه- قتلوه- وقتلوا الأمير أقبغا الجوهري وعِدَّةً من الأمراء، فكانت حروبًا شديدة، قُتِلَ فيها بين الفِرَق الثلاث خَلقٌ لا يُحصي عددَهم إلا خالقُهم سبحانه وتعالى, ونَهَبَت العربُ والعشير جميعَ ما كان مع العسكَرينِ، وقَدِمَ البريد بذلك، وأن منطاش انكسر، فأقام الأشرفيَّةُ بدله ألطبغا الأشرفي، فحضر منطاش من الغَدِ وأراد قتْلَه، فلم تمَكِّنْه الأشرفية من ذلك، وإنَّ الناصري لَمَّا رجع من محاربة نعير جمع العساكِرَ وعاد إلى دمشق، ثم خرج بعد يومين وأغار على آل علي، ووسَّط- قتل- منهم مائتي نفس، ونهب كثيرًا من جِمالِهم، وعاد إلى دمشق، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بأن الأمير قَشْتَمُر الأشرفي، الحاكِمَ بطرابلس من جهة منطاش، سَلَّمَها من غير قتال، وأنَّ حماة وحمص أيضًا استولت العساكرُ السلطانية عليهما، ثم قَدِمَ البريد من دمشق بفرار منطاش عن أرض حَلَب، ومعه عنقاءُ بن شطي، خوفًا على نَفسِه مِن نعير، وأنَّه توجَّهَ في نحو سبعمائة فارس من العَرَبِ، أخذهم على أنَّه يكبس التركمان ويأخذ أعناقَهم، فلما قطع الدربند أخذَ خُيولَ العرب، وسار إلى مرَعش، وترك العربَ مُشا، فعادوا.
بعد أن خرج الظاهِرُ برقوق السلطانُ المخلوعُ مِن سجن الكرك واجتمَعَ له أهلُ الكرك ونصروه، وما زال أمرُه في ظهور حتى العُربان اجتمعت عليه، وأخلاطُ أهل مدينة الكرك، فخرج من الكرك يريد الشَّامَ فأقام بالثنية خارج الكرك يومين، ورحل في الثامِنِ والعشرين من شوال، وسار بهم يريد دمشقَ، وبها الأمير جَنتمُر أخو طاز، متولِّي نيابتها وقد وصل إليه الأمير ألطنبغا الحلبي الدوادار من مصر نائبًا على حلب بحُكم عصيان كمشبغا الحموي، فاستعَدَّا لقتال الظاهر، وتوجَّه إليهما الأميرُ حسام الدين حسين بن باكيش نائب غزة بعساكرها وعشيرها، وأقبل الظاهِرُ بمن معه، فخرجوا إليه وقاتلوه بشقحب قريبًا من دمشق قتالًا شديدًا، كسَروه فيه غيرَ مرة، وهو يعودُ إليهم ويقاتِلُهم، إلى أن كسرهم وانهزموا منه إلى دمشق، وقَتَل منهم ما ينيفُ على الألف، فيهم خمسةَ عشر أميرًا، وقُتِلَ من أصحابه نحو الستين، ومن أمرائِه سَبعةٌ، وركب أقفيةَ المنهزمين، فامتنع جَنتمر بالقلعة، وتوجَّه بالقلعة وتوجَّهَ من أمراء دمشق ستة وثلاثون أميرًا، ومعهم نحو الثلاثمائة وخمسين فارسًا، قد أُثخِنوا بالجراحات، وأخَذوا نائِبَ صفد، وقَصَدوا ديار مصر، فلم يمضِ غيرُ يوم واحد حتى وصل ابنُ باكيش بجمائعه، فقاتله الظاهِرُ وهَزَمَه، وأخذ جميعَ ما كان معه، فقَوِيَ به قوة كبيرة، وأتاه عِدَّةٌ من مماليكه، ومن أمراء الشام، فصار في عسكرٍ كبير، وأقبل إليه الأميرُ جبرائيل حاجِبُ الحجاب بدمشق، وأمير علي بن أسندمر الزيني، وجَقمَق، ومقبل الرومي، طائعين له، فصاروا في جملته، ونزل السلطان برقوق على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وقد امتنع أهلُها بها، وبالغوا في تحصينِها، فحصرها وأحرق القبيبات وخربها، وأهلك في الحريق خلقًا كثيرًا، وجَدَّ أهل المدينة في قتالِه، وأفحشوا في سَبِّه، وهو لا يفتُرُ عن قتالهم، فأمَدَّه الأمير كمشبغا من حلب بثمانين فارسًا من المماليك الظاهريَّة، فأخرج إليهم الأمير جَنتمر خمسمائة فارس من دمشق، ليَحُولوا بينهم وبين الظاهر، فقاتلوهم فكسَرَهم الظاهرية، واستولوا على جميعِ ما معهم، وأتَوا إلى الظاهر فأقبل الأمير نعير بعُربانه يريدُ محاربته، فحاربه وكَسَرَه فانهزم عنه، وتقوى ممَّا صار إليه في هذه الوقائع، واستمَرَّ الظاهرُ برقوق على حصار دمشق وقتال أهلها، فورد الخبَرُ بذلك إلى منطاش في خامس عشر ذي القعدة، فتقَدَّم في السابع عشر منه إلى الصاحب موفق الدين أبي الفرج بتجهيز المَلِك المنصور حاجي للسَّفَر، فلم يجِدْ في الخزائن ما يجَهِّزُه به، فأخذ أموال اليتامى التي في الخزائِنِ وأخذ كذلك من اليهود والنصارى أموالًا، واستصدر فتوى بحلِّ قَتلِ الظَّاهِرِ برقوق بسَبَبِ ما قام به من خَلعِ الخليفة والسلطان السابق وغيرها من الأمور، ثمَّ جُهِّزَت العساكر من مصر للسير لقتال الظاهر برقوق، ففي ثاني محرم من سنة 792 وصل السلطانُ الملك المنصور إلى مدينة غزَّةَ بعساكرِ مِصرَ، وبلغ ذلك المَلِكَ الظاهر فترك قتالَ أهل دمشق، وأقبل نحوَهم، فنزل العسكَرُ المصري على قرية المليحة، وهي تبعد عن شقحب بنحو بريدٍ، وأقاموا بها يومَهم، وبعثوا كشافَتَهم، فوجدوا الظاهِرَ برقوق على شقحب، فكان اللقاءُ يوم الأحد الرابع عشر، وقد وافاهم الظاهِرُ برقوق، فوقف الأمير منطاش في الميمنةِ وحمل على ميسرة الظاهر، فحمل أصحابُ ميمنة الظاهر على ميسرة المنصور، وبذل كلٌّ من الفريقين جُهدَه، وكانت حروبًا شديدة، انهزمت فيها ميمنةُ الظاهر وميسرتُه، وتَبِعَهم منطاش بمن معه، وثبت الظاهرُ في القلب، وقد انقطع عنه خبَرُ أصحابه، وأيقَنَ بالهلاك، ثم حمل على المنصورِ بمن بقي معه، فأخذ المنصورَ والخليفةَ المتوكِّلَ والقُضاة والخزائِنَ، ومالت الطائفةُ التي ثبتت معه على الأثقال، فأخَذَتْها عن آخرها، وكانت شيئًا يخرُجُ عن الحَدِّ في الكثرة، ووقع الأميرُ قجماس ابن عم الظاهر في قبضةِ منطاش، ومَرَّ في أثر المنهزمين حتى وصل إلى دمشق، وأما الظاهر وأصحابه، فإن الأمير كمشبغا نائب حلب كان ممن انهزم على شَقْحب، فتَمَّ في الهزيمة إلى حلب، وتَبِعَه الأمير حسام الدين حسن الكجكني نائب الكرك، ومن بَقِي من عساكر حلب، فاستولى عليها، وانهزم أهلُ الكرك إليها، فلم يَصِلوا حتى مرَّت بهم شدائد، ولم يتأخَّرْ مع الظاهر إلا نحو الثلاثين، وقد تمَزَّقت عساكره وعساكِرُ مصر، فلم يقصِدْ إلا المنصور، فأخذه بمن معه فصار السلطانُ حاجي والخليفةُ المتوكل في قبضة الظاهر، ثم في يوم الاثنين أقبل منطاش في عالمٍ كبير من عوام دمشقَ وعساكرها ومن كان معه، فدارت بينه وبين الظاهِرِ في هذا اليوم منذ شروق الشمسِ إلى آخره حروبٌ لم يُعهَدْ بمصر والشام في هذه الأعصُرِ مِثلُها، وبعث الله ريحًا ومطرًا في وجهِ منطاش ومن معه، فكانت من أكبَرِ أسبابِ خِذلانه، ولم تغرُب الشمس حتى فَنِيَ من الفريقين خلقٌ كثير من الفرسان والعامة، وانهزم منطاش إلى دمشق، وعاد الظاهِرُ إلى منزلته فأقام بها سبعة أيام، وعَزَّت عنده الأقواتُ، وفي أثناء إقامته أمر الظاهر فجَمَع كُلَّ من معه من الأعيان، وأشهد على المنصور حاجي أنَّه خلع نفسه، وحَكم بذلك القضاة، ثم بويع الظاهِرُ، وأثبت القضاةُ بَيعَتَه، فولَّى الظَّاهِرُ الأميرَ فخر الدين إياس الجرجاوي نيابة صفد، والأمير سيف الدين قديد القَمطاي الكرك، والأمير علاء الدين أقبغا الصغير غزة، ورحل الظاهِرُ فأتاه عند رحيله منطاش بعَسكرِ الشام، ووقف على بُعدٍ فاستعد الظاهر إلى لقائه، فولى عنه وعاد إلى دمشق، وسار الملك الظاهِرُ ومن معه يريدُ ديار مصر، وبعث إلى غزة يأمرُ منصور الحاجب بالقبضِ على حسام الدين حسن بن باكيش، فقُبِض عليه واستولى على غزة، وبعث بابن باكيش إلى السلطان الظاهر برقوق فضربه بالمقارع وهو بالرملة، وسار الظاهر إلى غزة فضربه بها ضربًا مبَرِّحًا يوم دخلها مستهَلَّ صفر، ثم في بكرة نهار يوم الثلاثاء رابع عشر صفر نزل الملك الظاهر بالريدانية خارج القاهرة، فخرج إلى لقائِه الأشرفُ مع السيد علي نقيب الأشراف، وخرجت طوائِفُ الفقراء بصناجِقِها، وخرجت العساكِرُ بلبوسِها الحربية، وكانت العساكِرُ منذ خرج بطا وأصحابه لابسةً السلاح ليلًا ونهارًا، وخرجت اليهودُ بالتوراة، والنصارى بالإنجيل، ومعهم شموعٌ كثيرةٌ مُشعَلة، وخرج من عامةِ الناس رجالُهم ونساؤهم ما لا يحصيه إلا الله، وعندهم من الفَرَحِ والسرور شيءٌ زائد، وهم يضجُّون بالدعاء للسلطان، حتى لَقُوه وأحاطوا به، وقد فُرِشَت الشُّقَق الحريرُ من الترب إلى باب السلسة، فلما وصل إليها تنحى بفَرَسِه عنها، وقَدَّمَ المَلِكَ المنصور حاجي بن الأشرف حتى مشى بفَرَسِه عليها، ومشى بجانِبِه، فصار كأنَّ الموكِبَ للمنصور، فوقع هذا من الناسِ مَوقعًا عظيمًا، ورفعوا أصواتَهم بالدعاء والابتهال له؛ لتواضعه مع المنصور في حال غَلَبتِه وقَهْرِه له، وأنَّه معه أسيرٌ! وعُدَّ هذا من فضائله، واستَدعى الخليفةَ وشيخَ الإسلام وقضاة القضاة وأهل الدولة، وهو بالإسطبل، وجدد عقد السلطنة وتجديد التفويض الخليفتية، فشهد بذلك القضاةُ على الخليفة ثانيًا، وأُفيضَت التشاريف الخليفتيَّة على السلطان، ثم أُفيضَت التشاريف السلطانية على الخليفة، وركب السلطانُ مِن الإسطبل وصَعِدَ القلعة، وتسَلَّمَ قُصوره، وقد عاد إليها حَرَمُه وجواريه، فحقت البشائرُ.
قَدِمَ البريدُ بنُزولِ عِدَّةِ مراكب للإفرنج على طرابلس، فعندما أشرفوا على الميناءِ بَعَث الله عليهم ريحًا أغرَقَت مركبًا، وفَرَّقَت البقية، وكانت نحو السبعين، فرُدُّوا خائبين، قَدِم الخبَرُ من الإسكندرية بأنَّ الفرنج الذين مَزَّقَت الريحُ مراكِبَهم على طرابلس ساروا إلى إفريقيَّة وحاصروا المهدية، وبها وَلَدُ أبي العباس صاحِبُ تونس، فكانت حروبًا شديدةً، انتصر فيها المسلمونَ على الفرنج، وقَتَلوا كثيرًا منهم.
إن الفِرنجَ قَدِموا إلى المهدية وساعَدَهم هذه السَّنةَ أسطول فرنسيٌّ؛ عونًا لأسطول جنوة، فقام الأميرُ الحفصي أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي العباس أحمد المستنصر بصَدِّهم؛ مِمَّا اضطرهم إلى الانسحابِ؛ مما عَزَّزَ مكانة مركز أبي العباس أحمد، وأعيد إلى السلطنة الحفصية كما كانت سالِفَ عَهدِها.
بعد أن تسَلَّمَ بايزيد بن مراد السلطةَ بعد مقتل أبيه، بَقِيَ على ما كان عليه من الجهادِ، فكان ينتَقِلُ من أوروبا إلى الأناضول ثم يعود مُسرعًا إلى أوروبا، يحقِّقُ فيها نصرًا جديدًا أو تنظيمًا حديثًا، حتى لُقِّبَ باسم يلدرم- يعني الصاعقة، وفي هذه السنة انتقل إلى الأناضول فضَمَّ إمارة منتشا، وإمارة آيدين، وإمارة صاروخان دون قتالٍ، وفَرَّ أبناء حكَّامها إلى أمير قسطموني مركز ولاية أسفنديار, كما تنازل أميرُ دولة القرمان عن جزء من أملاكِه إلى السلطان مقابِلَ بقاء الجزء الباقي بيَدِه.
فتح بايزيد الأوَّلُ مدينةَ الأشهر بقُربِ أزمير، وهي آخِرُ مدينة كانت قد بَقِيَت للروم في غرب بلادِ الأناضول وهي المعروفةُ بفلادلفيا، وهي آخِرُ مَعقِل بيزنطي بآسيا الصغرى، وبذا يكون قد أمِنَ خلفه؛ إذ كان حُكَّامُ هذه الإمارات يمكِنُ أن يتعاونوا مع أيِّ قُوَّة في سبيل المحافظةِ على إمارتِهم.
هو السُّلطانُ أبو عبد الله محمد الخامس الغني بالله بن يوسف الأول إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر ملك دولة بني نصر أو بني الأحمر في غرناطة، الذى ساعده ملك البرتغال وسلطان بنى مرين على استرداد مُلكِه، وقام بالأمرِ بعده ابنُه أبو الحجَّاج يوسف الثاني، الذي أبرم معاهدةَ سلم مع ملك قشتالة بعد الحروبِ التي كانت بين أبيه وبين قشتالة. وبعد وفاةِ محمد الخامس تعاقَبَ على حكم غرناطة عددٌ من السلاطين الضِّعافِ، وتعَرَّضَت دولة بني الأحمر في الأندلس لكثيرٍ مِن الفتن والدسائس والمؤامرات وتحالفات مع ملوك النصارى، وبلغ الاضطراب حدًّا تعاقب فيه على مملكةِ غرناطة اثنا عشر سُلطانًا خلال القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي.
زادت الوَحشةُ بين تيمورلنك وتوقتاميش حاكِمِ تُركستان، وكان تيمورلنك قد حاول أن يستثير غضَبَ توقتاميش؛ حيث اجتاح بعضَ أطراف بلاده مثل سيرام على أطراف تركستان، وحصلت مناوشات حربية بين جيوشِ الطرفين خلال ثلاث سنوات، واستولى تيمورلنك على خوارزم ثم انتزعها منه توقتاميش، ثمَّ إن تيمورلنك كان في قوشون من بلاد تركستان، فسمع بعصيان خراسان عليه، فأرسل من يوقِفُ عصيانَهم، ثم عاد في أواخر سنة 792 وتوجَّهَ من سمرقند فسار إلى توقتاميش ومعه عساكر خراسان، ثم وصل في أول صفر من سنة 793 إلى بقرا أسمان ووقف بها لتوالي هطول الأمطار والثلوج، وجاءه رسلٌ من توقتاميش للصلحِ فرفَضَ،ثم وصل في جمادى الآخرة إلى نهر بايق، ثم وصل إلى نهر صقمار، ثم في رجب وصل إلى أينك، ثم بعد أيام بدأت المناوشات حتى كان التقاءُ الطرفين في قراغول، واشتَدَّ القتال بينهما، ثم توقف القتال بسبب الأمطارِ أسبوعًا، ثم عاد القتالُ على أشُدِّه في أواخر رجب، حتى اشتد الحالُ إلى أن انهزم توقتاميش واستولى تيمورلنك على بلادِه يقتُلُ وينهَبُ ويأسِرُ، بقي على ذلك ستة وعشرين يومًا، ثم عاد إلى بلاده.
في أوَّلِ شَهرِ رَجَب قَدِمَ منطاش دمشق، وسار إليها من مرعش على العُمق، حتى قارب من حماة، فانهزم منه نائِبُها إلى جهة طرابلس من غيرِ لقاء، ودخلها منطاش، ولم يُحدِثْ حدثًا، وتوجَّه منها إلى حمص، ففَرَّ منه أيضًا نائِبُها إلى دمشق، ومعه نائِبُ بعلبك، فخرج الأميرُ يلبغا الناصري يريد لقاءه من طريق الزبداني، فثار أحمد شكر بجماعة البيدمرية، ودخل دمشقَ من باب كيسان، وأخذ ما في الإسطبلاتِ من الخيول، وخرج في يوم الأحد التاسع والعشرين جمادى الآخرة، وقدم منطاش في يوم الاثنين أولَ رَجَب من طريق أخرى، ونزل القصرَ الأبلق، ونزل جماعتُه حوله، وقد أَحضر إليه أحمد شكر من الخيول التي نهبها ثمانمائة فرس، وندبه ليدخُلَ المدينة ويأخذ من أسواقها المالَ، فبينا هو كذلك إذ قَدِمَ الناصري بعساكر دمشقَ فاقتتلا قتالًا كبيرًا مدَّةَ أيام، ثم إن منطاش انكسر وقُتِلَ كثيرٌ مِمَّن معه، وفَرَّ معظم التركمان الذين قَدِمَ بهم، وصار محصورًا بالقَصرِ الأبلق، ثم إنَّ السلطان برقوق سار بنفسِه إلى دمشق ثم سار إلى حلب وفي ذي القعدة قَبَض سالم الذكرى على منطاش، وإن صاحب ماردين قبض على جماعةٍ مِن المنطاشية حَضَروا إليه، فبعث السلطانُ قرا دمرداش نائِبَ حلب على عسكر، والأميرَ يلبغا الناصري نائب دمشق على عسكرٍ، والأميرَ أينال اليوسفي أتابك العساكر على عسكر، فساروا لإحضارِ منطاش ومن معه، فنودِيَ في القاهرة بالأمان، وقد حصل غريمُ السلطان.
وقَدِمَ البَريدُ مِن حَلَب بِأَن الأمير قرا دمرداش وصل بعسكر حلب إلى أبيات سالم الذكرى، وأقام أربعة أيام يطالِبُه بتسليم منطاش وهو يماطِلُه، فحنق منه وركب بمن معه ونهب بيوته، وقتل عِدَّة من أصحابه، ففَرَّ سالم بمنطاش إلى سنجار وامتنع بها، ثم إنَّ الأميرَ يلبغا الناصري حضر بعساكر دمشق بعد ذلك، فأنكر على قرا دمرداش ما وقع منه وأغلَظَ في القول وهَمَّ بضَربِه، فكادت تكون فتنةٌ كبيرة وعادا، وإن الأمير أدينال وصل بعسكرِ مِصرَ إلى رأس عين، وتسَلَّمَ من صاحب ماردين الذين قَبَضَهم من المنطاشية، وكبيرهم قشتمر الأشرفي، وحضر بهم وبكتاب صاحب ماردين، وهو يعتذر ويَعِدُ تحصيل غريم السلطان، وفي يوم الاثنين أول ذي الحجة خرج السلطان من حلب يريد دمشق، وفي سادسه قدم البريد بأن السلطان لما بلغه ما جرى من قرا دمرداش وما وقع بينه وبين الناصري من الفتنة، وأنهما عادا بغير طائل، غَلَب على ظَنِّه صِحَّةُ ما نُقِلَ عن الناصري مِن أنَّ قَصْدَه مطاولةُ الأمر مع منطاش، وأنه لم يحضُرْ إلى دمشق إلا بمكاتبَتِه له بذلك، وأَنه قَصَّر في أخذه بدمشق، وأنَّ سالم الذكرى لم يرحَلْ بمنطاش إلى سنجار إلا بكتابِ الناصري إليه بذلك، فلما قَدِمَ إلى حلب قُبِضَ عليه وعلى شهاب الدين أحمد بن المهمندار نائب حماة، وكشلي أمير أخور الناصري، وشيخ حسن رأس نوبته، وقَتَلَهم في ليلة قَبْضِهم، ويُذكَرُ أن يلبغا الناصري هذا هو الذي تمالأ مع منطاش أولًا على برقوق، وسَعَيَا حتى خلعاه، ثم فسد الحالُ بينهما وفاز منطاش بالنيابةِ فسَجَنَ يلبغا، وعندما تسلَّم برقوق السلطنة مرة أخرى أخرج يلبغا وعفا عنه رغم ما فعَلَه ضِدَّه وأنعم عليه بنيابةِ دمشق، ثمَّ إنه تمالأ مرةً أخرى مع منطاش، فكان عاقبته القتل!
خرج جَماعةٌ مِن بلاد المغرب يريدون أرضَ مِصرَ لأداء فريضة الحجِّ، وساروا في بحر الملح، فألقَتْهم الريحُ إلى جزيرة صقلية، فأخذهم النصارى وما معهم، وأتَوا بهم إلى مَلِك صقلية، فأوقَفَهم بين يديه وسألهم عن حالِهم، فأخبروه أنَّهم خرجوا يريدون الحَجَّ، فألقَتْهم الريحُ إلى هنا، فقال: أنتم غنيمةٌ قد ساقكم الله إليَّ، وأمَرَ بهم أن يُقَيَّدوا حتى يُباعُوا ويُستَخدَموا في مِهَنِهم! وكان من جُملَتِهم رجلٌ شَريفٌ، فقال له على لسانِ تَرجُمانه: أيُّها المَلِكُ، إذا قَدِمَ عليك ابنُ ملك ماذا تَصنَعُ به؟ قال: أُكرِمُه, قال: وإن كان على غيرِ دينِك؟ قال: وما كرامتُه إلَّا إذا كان على غيرِ ديني! وإلَّا فأهلُ ديني واجِبٌ كرامَتُهم، قال: فإني ابنُ أكبَرِ ملوك الأرضِ، قال: ومَن أبوك؟ قال: عليُّ بنُ أبى طالب رَضِىَ الله عنه، قال: ولم لا قُلتَ: أبي محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم، قال: خشيتُ أن تَشتُموه، قال: لا نَشتُمُه أبدًا. قال: بيِّنْ لي صِدْقَ ما ادَّعَيْتَ به، فأخرَجَ له نِسْبَتَه وكانت معه في رَقٍّ، فأمر بتخليتِه وتخليةِ مَن معه لسَبيلِهم، وجَهَّزَهم!!
قام السلطانُ بايزيد بن مراد الأوَّل بالاتجاه إلى الغَربِ ومحاصرة القُسطنطينية وضَيَّقَ عليها الحصار، لكنَّه لم يستمِرَّ هو في الحصار، بل تركها محاصَرةً مِن قِبَل بعض الجيش، وتوجه هو إلى الأفلاق، وهي الجزء الجنوبي من رومانيا اليوم، وأجبر حاكِمَها على توقيع معاهدة يعتَرِفُ فيها بسيادة العُثمانيين على بلاده، ويدفع كذلك جِزيةً سَنَوية على أن يُبقِيَه حاكِمًا على بلاده بقوانينِه وأنظِمَتِه الخاصة، ولكنَّ بايزيد اضطر للعودةِ إلى الأناضول مسرعًا؛ لأن أمير دولة القرمان علاء الدين لَمَّا وجد السلطان العثماني مشغولًا، وكان قد نَدِمَ على إعطاء جزء من بلاده له، فاستغل الظرفَ وعَبَّأ جنوده وأثار خصومَ السلطان من بعضِ الأمراءِ وهاجم العثمانيِّينَ وأحرز بعض النصر، وأسَرَ أميرَ قُوَّاد العثمانيين في الأناضول، ولكِنَّ السلطان أسرع وهزمه ولاحَقَه حتى أخذه ووليدَه أسرى، وأنهى بذلك دولة القرمان، أمَّا القُسطنطينية فما زالت محاصرةً، وسار السلطانُ إلى البلغار وقد قُتِلَ أميرها سيسمان، فجعل تلك البلاد ولايةً عُثمانية، وأسلم ابنُ الأمير المقتول، فأخذه السلطانُ وجعله واليًا على صامسون.
هو الإمامُ العلَّامة بدرُ الدين أبو عبد الله محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المنهاجي، تركي الأصل، ولد بمصر سنة 745, وتعلَّمَ الفِقَه فيها، عُنِيَ بالاشتغال مِن صِغَرِه، فحَفِظَ كُتبًا وأخذ عن الشيخ جمال الدين الإسنوي والشيخ سراج الدين البلقيني ولازمه، حتى أصبح من كبار علماء الشافعيَّة في مصر، وبرع في الأصول، له تصانيفُ عديدة أشهرها: (البرهان في علوم القرآن)، (البحر المحيط في الأصول)، (إعلام الساجد بأحكام المساجد)، (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة)، (المنثور في القواعد الفقهية والأصولية)، (التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح)، وغيرها من الكتب. قال ابن حجر: "رحل إلى دمشقَ فأخذ عن ابن كثير في الحديثِ وقرأ عليه مُختَصَره ومَدَحَه ببيتين، ثم توجه إلى حلب فأخذ عن الأذرعي، ثم جمع الخادم على طريق المهمات، فاستمد من التوسط للأذرعي كثيرًا، لكنه شحنه بالفوائد الزوائد من المطلب وغيره، وجمع في الأصول كتابًا سماه البحر في ثلاثة أسفار، وشرح علوم الحديث لابن الصلاح، وجمع الجوامع للسبكي، وشرع في شرح البخاري فتركه مُسَوَّدة وقفت على بعضها، ولخص منه التنقيح في مجلد، وشرح الأربعين للنووي، وولي مشيخة كريم الدين، وكان منقطعًا في منزله لا يتردَّدُ إلى أحدٍ إلا إلى سوق الكتبِ، وإذا حضره لا يشتري شيئًا، وإنما يطالِعُ في حانوت الكُتبي طول نهارِه ومعه ظهورُ أوراقٍ يُعَلِّقُ فيها ما يُعجِبُه، ثم يرجع فينقِلُه إلى تصانيفِه، وخرَّج أحاديث الرافعي، ومشى فيه على جمع ابن الملَقِّن، لكنه سلك طريق الزيلعي في سَوق الأحاديث بأسانيد خرَّجها، فطال الكتاب بذلك" ولَمَّا ولي البلقيني قضاءَ الشام استعار منه نُسختَه من الروضة مجلدًا بعد مجلدٍ، فعَلَّقَها على الهوامش من الفوائِدِ؛ فهو أول من جمع حواشي الروضة للبُلقيني، توفي في الثالث من رجب في القاهرة عن 50 عامًا.
بعدَ وفاة أبو تاشفين الثاني عبد الرحمن بن أبي حمو موسى سلطان بني زيان، قام بالأمرِ بَعدَه ابنُه أبو ثابت يوسف، ولكِنَّ عَمًّا لأبي تاشفين يدعى أبا الحجَّاج يوسف قام فنزع السُّلطةَ من ابن أخيه، واحتل تلمسان عاصمةَ دولة بني زيان، فكان هذا الاختلافُ أكبَرَ فُرصة لبني مرين الذين لم يتركوا الفرصةَ تَمُرُّ عليهم، بل قاموا باحتلالِ تلمسان وإلحاق الدولة الزيانية بدولتِهم، وقاموا بتولية أبي محمد عبد الله بن أبي حمو الزياني عاملًا لهم على تلمسان.
هو شاه منصور بن محمد بن مظفر: أخو شاه شجاع آخر حكام دولة آل المظفر، وثب على زين العابدين ابن أخيه فكحَلَه، واستقَلَّ بالحكم, فبلغ ذلك تيمورلنك فجعله سبيلًا إلى قصد بلاد فارس، فسار تيمورلنك ومعه ابنه شاه رخ إلى جهة فارس التي كان يحكمُها منصور شاه، فنازلَها ودافع شاه منصور عن بلاده، وظهرت منه شجاعةٌ عظيمة حتى هزمه تيمورلنك واحتلَّ بلاده وقتَلَه، وبمقتَلِه قضى تيمورلنك على دولةِ آل المظفر في أصفهان، وقد اشتهر المظفريون بحبِّهم للعلم وأهلِه طيلةَ عمرِ دولتِهم من النشأةِ حتى السُّقوطِ.
هو الحافظُ زيْنُ الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن شِهاب الدِّين أحمد ابن رجَب الحنبلي، ولد ببغداد سنة 736هـ، وسافر إلى دمشق وهو صغير واستقر بها، كان محدثًا بارعًا على طريقة المتقدمين، وفقيهًا حنبليَّا، وواعظًا زاهدًا، له مصنفاتٌ عديدة أشهرُها: شرح الأربعين النَّوويَّة، وشرح سنن الترمذي، والقواعد الفقهية، وطبقات الحنابلة، وشَرَحَ صحيح البخاري وأسماه ((فتح الباري في شرح البخاري)) ولم يُكمِله، وغيرها من المصنفات. توفي رحمه الله في اليوم الرابع من شهر رمضان وقيل رجب
هو منطاش الأشرفي نسبةً إلى الأشرف شعبان بن حسين، كان اسمُه تمربغا، ويقال له أخو تمربيه، وكانت لتمربيه منزلةٌ من الأشرف، وتنقل منطاش إلى أنْ ولاه الظاهر برقوق نيابةَ السلطنة بملطية في سنة 788 فجمع كثيرًا من التركمان وأظهر العِصيانَ وانضوى إليه كثيرٌ مِن الأشرفيَّة الذين شَرَّدَهم برقوق لَمَّا تسَلْطَنَ في البلادِ، فلما بلغ الظاهِرَ ذلك جهَّزَ إليه عسكَرَ حلب مع أربعة أمراء من مقَدَّمي الألوف بالقاهرة، فانضوى منطاش إلى برهان الدين صاحب سيواس فحوصر، ثم آل الأمر إلى رجوع العسكر وقد فر منطاش، واتفق أنَّ الناصريَّ عصى على برقوق وكاتبَ نواب البلاد، فوافقوه فراسَلَ منطاش فجمع من أطاعَه، وحضر إلى حلب وذلك سنة 91 فجهَّزَه الناصري إلى حماة فمَلَكَها إلى أن قَدِمَ الناصري بالعسكر، فتوجهوا إلى القاهرة واستولى الناصريُّ على المملكة وأعاد السلطان حاجي، واستقر منطاش أميرًا كبيرًا، ثم استولى منطاش على المملكة، فطاش وكان أهوجَ كثيرَ العطايا، كما قيل نهابًا وهَّابًا، فاعتقل الناصِرَ والجوباني وغيرَهما بالإسكندرية، وفي غضون ذلك بعد دخول سنة 92 بلغه أن الظاهرَ برقوق خلَصَ مِن سجن الكرك وانضَمَّ إليه جماعة، فجهز العسكر وتوجَّه إلى جهته، فوقعت لهم الوقعة الشهيرة، فانهزم منطاش واحتوى الظاهِرُ على المملكةِ وعلى غالب من كان معه مِن رؤوس المملكة, وفي سنة 93 توجه منطاش من جهة العمق إلى أن وصل إلى قربِ دمشق، ولما لم يحصُلْ للعسكر السلطاني منه غَرَضٌ رجعوا إلى أوطانهم، ونازل منطاش دمشقَ فجَهَّزَ له الناصريُّ من هزمه، فتوجه إلى بلاد نعير فأقام عنده ثم راسَلَ الظاهِرُ نعيرًا في أمر منطاش واسترضاه ورَدَّ عليه إمرتَه، وأوسَعَ له في الوعدِ، فغدر بمنطاش وقَبَضَ عليه وجَهَّزَه إلى حلب فاعتقل بقلعَتِها إلى أن جاء الأمرُ بقَتلِه وتجهيز رأسِه، ففُعِلَ به ذلك في سنة 795 وطِيفَ برأسِه بالقاهرةِ، ثم عُلِّقَ على باب زويلة، وكان شجاعًا قَتَّالًا عاليَ الهِمَّة كثيرَ البَذلِ، أهلك جميعَ ما كان الظاهِرُ حَصَّلَه من الأموال في أيسَرِ مُدَّةٍ.