أخذ حسن بك بن علي بك بن قرايلك مدينة حصن كيفا، ثم أخذ قلعتَها في ذي القعدة بعد ما حاصرها سبعةَ أشهر، وانقطع من الحصنِ ملك الأكراد الأيوبية، بعدما ملكوها أكثَرَ من مائتي سنة، وذلك بعد قتلِ صاحبها الملك خلف بيد بعض أقاربه، فاختلف الأكراد فيما بينهم، فوجد حسن بك بذلك فرصةً في أخذها، فحاصرها حتى أخذها، وقوِيَ أمر حسن بأخذِها، فإنه أخذ بعد ذلك عدةَ قلاع من أعمالِ ديار بكر من تعلُّقات الحصنِ وغيرِه.
أمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جامِعِه في موقع كنيسة بيزنطة القديمة التي دمَّرها الصليبيون أثناء الحملة الصليبية الرابعة، وسمي الجامعُ باسم جامع الفاتح نسبةً إليه، وأمر كذلك أن يُبنى بجانب مسجده ثماني مدارس، على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسَّطُها صَحنٌ فسيح، وفيها يقضي الطالبُ المرحلة الأخيرة من دراسته، وأُلحقت بهذه المدارس مساكِنُ للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامَهم، ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وكان الموسمُ الدراسي على طول السنة في هذه المدارس، وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة، وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى، متبحرًا في أسماء الكتب والمؤلِّفين، وكان المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين ما يطلبونَه من الكتب بطريقةٍ منظمة دقيقة ويسجل أسماء الكتب المستعارة في دفتر خاص، وهذا الأمين مسؤول عن الكتب التي في عهدته، ومسؤول عن سلامة أوراقها، وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل ثلاثة أشهر على الأقل، وكانت مناهج هذه المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص، وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضًا، ثم صار الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في إنشاء المعاهد والمدارس والمساجد والأوقاف الخيرية، وكان الفاتح مهتمًّا باللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن الكريم، كما أنها من اللغات العلمية المنتشرة في ذلك العهد، وليس أدلَّ على اهتمام الفاتح باللغة العربية من أنه طلب إلى المدرسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة، كالصحاح، والتكملة، والقاموس، وأمثالها، ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة، وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم. كان السلطان محمد الفاتح مغرمًا ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات، والخانات والحمامات، والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة، وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات، وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقًا، واهتم بالعاصمة إسلامبول اهتمامًا خاصًّا، وكان حريصًا على أن يجعلها حاضرة العلوم والفنون، وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر، واهتم بدُور الشفاء ووضع لها نظامًا مثاليًّا في غاية الروعة والدقة والجمال؛ فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب، ثم زيد إلى اثنين من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحَّال- طبيب عيون- وجراح وصيدلي، وجماعة من الخدم والبوابين، ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وألا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفًا بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان، ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم!
امتنع أميرُ البوسنة من أداء الجزية المتعاهَد عليها للدولة العثمانية، فسار إليه السلطان محمد الفاتح بجيشه وانتصر عليه، فضمَّ بذلك بلاد البوسنة إلى الدولة العثمانية، وحاول ملك المجر مساعدةَ أهل البوسنة البوشناق ضد العثمانيين ولكنه انهزم هو الآخر، ويُذكر أن كثيرًا من البوشناق اعتنقوا الإسلام، وانتشر في تلك البلاد الدين الإسلامي على يد العثمانيين.
في يوم الأثنين الثاني عشر محرم نودي بشوارع القاهرة أن أحدًا من الأعيان لا يستخدم ذميًّا في ديوانه من الكَتَبة وغيرهم، فمنعت هذه المناداة أهل الذمة قاطبةً من التصرف والمباشرة بقلم الديوان بوجه من الوجوه في أعمال مصر، وكُتِب بذلك إلى سائر الأقطار، ثم عقد السلطان بالصالحية ببين القصرين مجلسَ بالقضاة الأربعة، وحضره الدوادار الكبير، وجماعة من الأعيان، وقُرئت العهود المكتوبة قديمًا على أهل الذمة، فوجدوا في بعضِها أن أحدًا من أهل الذمة لا يباشِرُ بقلم الديوان عند أحد من الأعيان، ولا في عمل من الأعمال، وأشياء من هذه المقولة، إلى أن قال فيها: ولا يلفُّ على رأسه أكثر من عشرة أذرع، وأن نساءَهم يتميزن من نساء المسلمين بالأزرق والأصفر على رؤوسهن في مشيهن بالأسواق، وكذلك بشيء في الحمامات، فحكم قاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني الشافعي بإلزام أهل الذمة بذلك جميعه، ما عدا الصرفَ والطبَّ بشروطه، وصمَّم السلطان على هذا الأمر، وفرح المسلمون بذلك قاطبةً، فأسلم بسبب ذلك جماعةٌ من أهل الذمة من المباشرين، وعظُمَ ذلك على أقباط مصر، ودام ذلك نحو السنة، وعاد كل شيء على حالِه أولًا، وبلغ السلطان ذلك فلم يتكلَّم بكلمة واحدة!!
في يوم الجمعة الثالث والعشرين جمادى الآخرة وصل رسول صاحب قبرص جاك، وأخبر أنه أخذ مدينة الماغوصة وقلعتها من يد الفرنج، وأنَّه سلمها للأمير جانبك الأبلق المقيم بجزيرة قبرص بمن بقيَ معه من المماليك السلطانية، فأساء جانبك السيرةَ في أهل الماغوصة، ومدَّ يده لأخذ الصبيان الحِسان من آبائهم وهم أعيانُ أهل الماغوصة، فشق ذلك عليهم، وقالوا: نحن سلَّمناكم البلد بالأمان، وقد حلفتم لنا أنَّكم لا تفعلوا معنا بعد أخذكم المدينة إلا كل خير، وأنتم مسلمون، فما هذا الحال؟ فلم يلتفت جانبك الأبلق إلى كلامِهم، واستمرَّ على ما هو عليه، فأرسل أهل الماغوصة إلى جاك عرفوه الخبر، فأرسل جاك إلى جانبك ينهاه عن هذه الفعلة، فضرب جانبك القاصِدَ بعد أن أوسعه سبًّا، فأرسل إليه قاصدًا آخر، فضربه جانبك بالنشَّاب، فركب جاك إليه من الأفقسية مدينة قبرص، وجاء إليه وكلَّمه، فلم يلتفت إليه، وخشَّن عليه الكلام، فكلمه جاك ثانيًا، فضربه بشيءٍ كان في يده، فسقط جاك مغشيًّا عليه، فلما رأت الفرنج ذلك مدَّت أيديها إلى جانبك ومن معه من المسلمين بالسيوفِ، فقُتِلَ جانبك وقُتِل معه خمسة وعشرون مملوكًا من المماليك السلطانية، واستولى جاك على الماغوصة على أنَّه نائب بها عن السلطان، فعيَّن السلطان سودون المنصوري الساقي وتوجَّه لقبرص مع يعقوب قاصد جاك.
اصطدم السلطان العثماني محمد الفاتح مع البنادقة الذين يملِكونَ بعض المواقع في بلاد المورة، وجزرًا كثيرة في بحر إيجة، وقد هاجم البنادقة بعض المراكز العثمانية ودخلوها فسار إليهم السلطان ففرُّوا من مواقعهم ودخلها العثمانيون، وبعد هدنةِ سنة عاد البنادقة لغيِّهم ونقضوا العهد فأرادوا استعادةَ ما فقدوه، وبدؤوا يُغيرون على الدولة العثمانية، ولكنهم باؤوا بالفشل وفقَدوا بعض مواقعهم المهمَّة.
اضطربت أحوال الدولة المرينية بفاس وتسلَّط بها اليهود, بعد تعيين السلطان عبد الحق هارون اليهودي رئيسًا لدولته كما عين عددًا منهم في حكومته، وكانوا قد أظهروا الإسلام, فاجتمع رؤساءُ فاس عند خطيب القرويين الفقيه أبي فارس عبد العزيز بن موسى الورياكلي وكانت له صلابة في الحقِّ وجَلادة عليه بحيث يلقي نفسَه في العظائم ولا يبالي، وقالوا له: ألا ترى إلى ما نحن فيه من الذلَّة والصغار وتحكُّم اليهود في المسلمين والعبث بهم حتى بلغ حالهم إلى ما سمعت، فأثر كلامهم فيه, وللحينِ أغراهم بالفتك باليهودِ وخلع طاعة السلطانِ عبد الحق وبيعة الشريفِ أبي عبد الله الحفيد، فأجابوه إلى ذلك واستدعوا الشريف الحفيد فبايعوه والتفَّت عليه خاصَّتُهم وعامَّتهم وتولى كِبْرَ ذلك أهل حومة القلقليين منهم ثم تقدم الورياكلي بهم إلى فاس الجديد فصمدوا إلى حارة اليهود فقتلوهم واستلبوهم واصطلموا نعمَتَهم واقتسموا أموالهم، وكان السلطان عبد الحق يومئذ غائبًا في حركة له ببعض النواحي, وقيل إن السلطان عبد الحق خرج بجيشه إلى جهة القبائل الهبطية وترك اليهودي يقبض من أهل فاس المغارم فشَدَّ عليهم حتى قبض على امرأةٍ شريفة وأوجعها ضربًا وحكى ما تقدَّمَ فاتصل بعبد الحق خبَرُ خلعه فانفضَّ مُسرعًا إلى فاس واضطرب عليه أمر الجند ففسدت نيَّاتُهم وتنكَّرت وجوهُهم، وصار في كل منزلة تنفض عنه طائفة منهم فأيقن بالنكبةِ وعاين أسبابَ المنية، ولما قَرُب من فاس استشار هارون اليهوديَّ فيما نزل به فقال اليهودي له: لا تَقدَم على فاس لغَلَيان قِدرِ الفتنة بها، وإنما يكون قدومنا على مكناسة الزيتون؛ لأنها بلدنا وبها قوَّادنا وشيعتنا، وحينئذ يظهر لنا ما يكون، فما استتمَّ اليهودي كلامه حتى انتظمه بالرمحِ رجلٌ من بني مرين يقال له تيان، وعبد الحق ينظر، وقال: وما زلنا في تحكم اليهود واتِّباعِ رأيهم والعمل بإشارتِهم، ثم تعاورت اليهوديَّ الرماحُ من كل جانب وخرَّ صريعًا، ثم قالوا للسلطان عبد الحق: تقدم أمامَنا إلى فاس؛ فليس لك اليوم اختيار في نفسِك، فأسلم نفسه وانتُهِبت محلَّتَه وفيئَت أموالُه وحلَّت به الإهانة وجاؤوا به إلى أن بلغوا عين القوادس خارج فاس الجديد، فاتصل الخبر بأهل فاس وسلطانهم الحفيد، فخرج إلى عبد الحق وأركبه على بغل بالبردعة، وانتزع منه خاتم المُلك وأدخله البلد في يومٍ مشهود حضره جمعٌ كبير من أهل المغرب، وأجمعوا على ذمه، وشكروا الله على أخذِه، ثم جُنِّب إلى مصرعه، فضُربت عنقه صبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين رمضان من هذه السنة, ودفن ببعض مساجد البلد الجديد ثم أُخرج بعد سنة ونُقِل إلى القلعة، فدفن بها وانقرضت بمَهلِكِه دولةُ بني عبد الحق من المغرب.
بدأ البابا بالدعوة إلى حرب صليبية فشجَّع إسكندر بك ملك ألبانيا على نقض العهدِ الذي أبرَمَه مع العثمانيين سابقًا، داعيًا ملوك أوربا وأمراءها لمساندته، غير أن البابا هلك فجأةً ولم تقم تلك الحرب المزعومة، ولكنَّ إسكندر بك نقض عهده وحارب العثمانيين، فكانت الحرب بينهم سِجالًا إلى أن توفي إسكندر بك بعد حُمَّى شديدة أصابته في مدينة السيو، واستطاع العثمانيون أن يضمُّوا ألبانيا إليهم.
في يوم الخميس الثاني عشر محرم ورد الخبر من نائب حلب يشبك البجاسي أن شاه سوار نائب أبلستين خرج عن طاعةِ السلطان سيف الدين خشقدم، ويريد المشيَ على البلاد الحلبية، فرسم السلطانُ في الحال بخروج نائب طرابلس ونائب حماة إلى جهة البلاد الحلبية لمعاونة نائب حلب إن حصل أمر، ثم عيَّن السلطان تجريدة- خيل لا رَجَّالة فيها- من مصر إلى جهات البلاد الحلبية إن ألجأت الضرورة إلى سفرهم، ثم إنَّ الأمير بردبك نائب الشام خرج من دمشق بعساكرها في آخر المحرم إلى جهة حلب لمعاونة نائب حلب على قتال شاه سوار، كما أن جميع نواب البلاد الشامية قد خرجوا من أعمالهم إلى البلاد الحلبية، لقتال شاه سوار بن دلغادر، كان بردبك قد تهاون في قتال شاه سوار، وخذل العسكر الشامي لِما كان في قلبه من الملك الظاهر خشقدم، فكان ذلك سببًا لكسر العسكر الشامي والحلبي وغيرهم ونهْبِهم، وقتل في هذه الواقعة نائب طرابلس قاني باي الحسني المؤيدي، ونائب حماة تنم خوبي الحسيني الأشرفي، وأتابك دمشق قراجا الخازندار الظاهري، وأتابك حلب قانصوه المحمدي الأشرفي، وغيرهم من أمراء البلاد الشامية، وغيرهم، ثم ورد الخبر من البلاد الحلبية من أمر شاه سوار، وقتل أكابر أمراء البلاد الشامية، ونهبه للبلاد الحلبية، وأخذه قلاع أعمالها، وأنَّ نائب الشام بردبك في أسره، وأن يشبك البجاسي نائب حلب دخل إلى حلب على أقبح وجهٍ، وورد الخبَرُ بأن الأمير بردبك نائب الشام فارق شاه سوار، وقدم إلى مرعش طائعًا، ثم سار إلى منزلة قارا في يوم الخميس السابع عشر ربيع الآخر، ثم استطاع الجيش بعد ذلك من أسر شاه سوار وأخذ إلى القاهرة وقتل فيها وعُلِّقَ على باب زويلة.
في يوم الخميس التاسع عشر محرم ورد الخبَرُ بأن إقامة الحاج التي جهزت من القاهرة أُخِذَت عن آخرها، أخذها مبارك شيخ بني عقبة بمن كان معه من العرب، وأنه قتل جماعة ممن كان مع الإقامة المذكورة، منهم جارقطلو السيفي دولات باي أحد أمراء آخورية السلطان، فعظم ذلك على السلطان، وزاد توعُّكُه، وعلى الناس قاطبة، وضَرَّ أخذُ إقامة الحاج غايةَ الضرر، وأشرف غالبهم على الموت، فلما كان يوم الجمعة العشرين من المحرم وصل الحاج الرجبي، وعظيم من كان فيه زين الدين بن مزهر كاتب السر وأمير حاج الركب الأول سيباي، إلى بركة الحاج معًا، بعد أن قاست الحجاج أهوالًا وشدائد من عدم الميرة والعلوفة وقلَّة الظهر، ودخل نانق أمير الحاج من الغد، فلما كان يوم الاثنين الثالث والعشرين محرم عين السلطان الأميرَ أزبك رأس نوبة النوب الظاهري، والأمير جانبك حاجب الحجاب الأشرفي المعروف بقلقسيز، وصحبتهما أربعة من أمراء العشرات، وعدة مماليك من المماليك السلطانية؛ لقتال مبارك شيخ عرب بني عقبة ومن معه من الأعراب، وكتب السلطان أيضًا لنائب الكرك الأمير بلاط، ونائب غزة الأمير إينال الأشقر، بالمسير إلى جهة الأمير أزبك بعقبة أيلة، ومساعدته على قتال مبارك، وخرج الأميرُ أزبك بمن عيِّن معه من القاهرة في يوم الاثنين سابع صفر، وخرج نائب صفد، ونائب غزة أيضًا إلى جهة العقبة لقتال مبارك شيخ عرب بني عقبة، ووصل الخبَرُ بقدوم الأمير أزبك رأس نوبة النوب من تجريدة العقبة، بعد أن أمسك مباركًا شيخ بني عقبة، الذي قطع الطريقَ على إقامة الحجَّاج، ورسم بتسمير مبارك شيخ بني عقبة ورفقته، وكانوا أزيد من أربعين نفرًا، فسَمَّروا الجميع، وطِيفَ بهم الشوارع، ثم وسِّطوا- قتلوا- في آخر النهارِ عن آخِرِهم.
هو السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم بن عبد الله الناصري المؤيدي، تسلطن في يوم الأحد التاسع عشر رمضان بعد أن أجمع أمراء المماليك على خلع السلطان المؤيد أحمد بن إينال واختاروا الأمير الكبير خشقدم؛ لأنه ليس من جنس المماليك؛ فهو رومي ورجل غريب ليس له شوكة، ومتى أردوا خلعه أمكنهم ذلك، فلما كان يومُ قرروا خلع المؤيد الجمعة السابع عشر رمضان وقت الزوال طُلِبَ الخليفة المستنجد بالله يوسف والقضاة والأعيان، وقد حضر جميع الأمراء في الإسطبل السلطاني بباب السلسلة بالحراقة، وبويع بالسلطنة، وكان قد بويع بها من بكرة يوم السبت ثامن عشر شهر رمضان قبل قتال الملك المؤيد أحمد، ولقب بالملك الظاهر، وكنِّي بأبي سعيد، ويذكر أن الذي جلبه إلى الديار المصرية خواجا ناصر الدين وسِنُّه يوم ذلك دون البلوغ، فاشتراه الملك المؤيَّد شيخ، وجعله كتابيًّا سنين كثيرة، ثم أعتقه وجعله من جملة المماليك السلطانية. بدأ المرض بالسلطان الظاهر خشقدم من يوم عاشوراء وتزايد يومًا بعد يوم إلى أن أصبح يوم السبت عاشر شهر ربيع الأول، فلم يكن بعد أذان الظهر إلا بنحو ساعة رمل لا غير ومات السلطان بقاعة البيسرية، بعد أذان الظهر بدرجات، وفي حال وفاته طلعت جميع الأمراء إلى القلعة، وأخذوا في تجهيز السلطان الملك الظاهر خشقدم، وغسَّلوه وكفَّنوه، وصلَّوا عليه بباب القلة من قلعة الجبل، كل ذلك قبل أن تبايع العساكِرُ يلباي الإينالي بالسلطنة، وذلك أن الأمراء الأكابر بمقعد الإسطبل السلطاني عند الأمير آخور الكبير، وجلس الأتابك يلباي وهو أتابك العساكر وخشداش- زميل- السلطان في صدر المجلس وبإزائه الأمير تمربغا أمير مجلس، وهو متكلِّم القوم، ولم يحضر قرقماس أمير سلاح لإقامته بساحل النيل، وحضر جماعة من أمراء الألوف، وكبير الظاهرية الخشقدمية يوم ذاك خيربك الدوادار الثاني، وأخذوا في الكلام إلى أن وقع الاتفاق بينهم على سلطنة الأتابك يلباي، ورضي به عظيم الأمراء الظاهرية الكبار الأمير تمربغا أمير مجلس، وكبير الظاهرية الصغار الخشقدمية خيربك الدوادار، وجميع من حضر، وكان رضا الظاهرية الكبار بسلطنة يلباي بخلاف الظن، وكذلك الظاهرية الصغار، ثم تكلم بعضهم بأن القوم يريدون من الأمير الكبير أن يحلف لهم بما يطمئن به قلوبهم وخواطرهم، فتناول المصحف الشريف بيده، وحلف لهم يمينًا بما أرادوه، ثم حلف الأمير تمربغا أمير مجلس، كل ذلك كان قبل وفاة السلطان، ولما صلِّيَ على السلطان الظاهر خشقدم بباب القلة، وحُمل نعشه، وعلى نعشِه مرقعة الفقراء، ساروا به إلى أن أوصلوه إلى تربته ومدرسته التي أنشأها بالصحراء بالقرب من قبة النصر، ودُفن بالقبة التي بالمدرسة، وكانت مدة سلطنته ست سنين وخمسة أشهر واثنين وعشرين يومًا، ثم لما عادوا من الصلاة على الملك الظاهر خشقدم جلسوا عند باب الستارة وقتًا هينًا، وإذا بالأمير خيربك خرج من باب الحريم ومعه جماعة من خشداشيته وأخذوا الأتابك يلباي وأدخلوه من باب الحريم، ومضوا به إلى القصر السلطاني، وخاطبوه بالسلطنة، فامتنع امتناعًا هينًا، فلم يلتفتوا إلى كلامِه، وأرسلوا إلى الأمراء أحضروهم إلى القصر من خارج، فدخل الأمراء قبل أن يحضر الخليفة والقضاة، وطال جلوسُهم عنده، وقبَّل الأمراء الأرض قبل المبايعة، وهم في هرج لإحضار الخليفة والقضاة إلى أن حضروا بعد مشقة كبيرة، وتكاملوا بعد أن فرغ النهار، وقد أخذوا في بيعته وسلطنته، ولبَّسوه خِلعة السلطنة بالقصر، وجلس على تخت الملك من غير أن يركب فرسًا بأبهة الملك على العادة، وقبَّل الأمراء الأرض بين يديه وتمَّ أمره، ونودي بسلطنته، وتلقب بالملك الظاهر أبي نصر يلباي الإينالي، ويُذكَر أن أصله شركسي الجنس، جلبه الأمير إينال ضضع من بلاد الشراكس إلى الديار المصرية في عدة مماليك، فاشتراه الملك المؤيد شيخ قبل سنة 820، وأعتقه وجعله من جملة المماليك السلطانية.
إنَّ الملك الظاهر يلباي الإينالي لما تسلطن وتم أمره غطَّاه المنصب، وصار كالمذهول، ولزم السكوتَ وعدم الكلام، وضَعُف عن بتِّ الأمور، وردْع الأجلاب، بل صارت الأجلاب في أيامه كما كانت أولًا وأعظم، فلم يَحسُن ذلك ببال أحد، وصار الأمير خيربك الدوادار الثاني هو صاحب الحل والعقد في مملكته، وإليه جميعُ أمور المملكة، وشاع ذلك في الناس والأقطار، فبهذا وأشباهه اضطربت أحوالُ الديار المصرية، ولما كان عصر يوم الأربعاء رابع جمادى الأولى، وطلعت الأمراء الألوف إلى القلعة ليبيتوا بالقصرِ على العادة، امتنعت المؤيدية عن الطلوع بمن وافقهم ما خلا الأمير جانبك الإينالي الأشرفي المعروف بقلقسيز أمير مجلس، وهو كبير الأشرفية الكبار يومئذ، واستمالت الظاهرية أيضًا الأمير جانبك قلقسيز الأشرفي أمير مجلس، فمال إليهم، ووعدهم بممالأة خشداشيته- زملائه- الأشرفية إليهم، وخذلان يشبك الدوادار، فعند ذلك صار الملك الظاهر يلباي وحده أسيرًا في أيدي القلعيين، فلما أصبحوا يوم الخميس خامس جمادى الأولى أعلن الأمير يشبك الفقيه الوثوب على الخشقدمية، ولبسوا آلة الحرب، وركب بمن معه من المؤيدية والأشرفية الكبار والأشرفية الصغار، والسيفية، واجتمع عليهم خلائقُ من كل طائفة، ومالت زعر الديار المصرية إليهم، وبلغ مَن بالقلعة أمرهم، فخافوهم خوفًا شديدًا، ولَبِسوا هم أيضًا آلة الحرب، ونزلوا بالسلطان الملك الظاهر يلباي إلى مقعد الإسطبل السلطاني المطل على الرميلة، وشرعوا في قتال الأمير يشبك بمن معه في الأزقة والشوارع بالصليبية، وأصبح يوم الجمعة سادس جمادى الأولى والقتال قائم بين الفريقين بشارع الصليبية من أول النهار إلى آخره، فلما جاء الليل ليلة السبت أدخل يلباي إلى مبيت الحراقة، وبات به على هيئة عجيبة، إلى أن أصبح النهار وأخذوه وطلعوا به إلى القصر الأبلق، وحبسوه في المخبأة التي تحت الخرجة، بعد أن طلعوا به ماشيًا على هيئة الخَلعِ من السلطنة ثم سُجِنَ بعد ذلك بسجن الإسكندرية إلى أن توفي في العام التالي وقد جاوز السبعين من عمره، وأخذ الناس في سلطنة الملك الظاهر تمربغا، وزال ملك يلباي هذا كأنه لم يكن، وكانت مدة ملكه شهرين إلا أربعة أيام، ليس له فيها إلا مجرد الاسم فقط، أما السلطان الجديد الظاهر أبو سعيد تمربغا فجلس بصدر المقعد بالإسطبل السلطاني المعروف بالحراقة، وحضر الخليفة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، والقاضي الشافعي والقاضي الحنفي، وتخلف المالكي لتوعكه، والحنبلي لإبطائه، وحضر غالب أرباب الدولة والأعيان وبايعوه بالسلطنة، فقام من وقته ودخل مبيت الحراقة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي.
في الخامس من رجب حصل بين المماليك الأجلاب وبعض الأمراء مناوشات، وكان عند السلطان جماعة من خشداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرق الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة الحرب وعادوا إلى القصر بقوة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم لنهب الحريم السطاني بداخل الدور، ودخل على السلطان ثلاثة أنفار منهم وهم ملثَّمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلًا، ثم قام معهم مخافةً من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشًا ومقعدًا، ونزل معه بعض مماليكِه وبعض الأجلاب أيضًا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النمجة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خير بك، بعد أن أطلقوا عليه اسم السلطان، وقبَّل له الأرض جماعةٌ من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هؤلاء الأجلاب الأوباش، غير أن خير بك لما أخذ النمجة والدرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصينِ القلعة، وبينما هو في ذلك فرَّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدي ومغلباي وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خير بك بدًّا من الإفراج عن الملك الظاهر تمربغا ومن معه من خشداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خير بك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبِّلُها، ويبكي ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرع أنواعًا كثيرة، فقَبِل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النمجة والدرقة، وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوي أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباي بمن معه من الأمراء بالرملة، فلما تم جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته، أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباي لمساعدته، ولما تم أمر الأتابك قايتباي من قتال الأجلاب وانتصر، طلع من باب السلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل بتلك العظمة الزائدة فكلَّمه بعض الأمراء في السلطنة، وحسَّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعًا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبَّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضًا، فقالوا: ما بقي يفيد الامتناع، وقد قبَّلنا لك الأرض، فإمَّا تذعن وإما نسلطن غيرك، فأجاب عند ذلك، فلما تمَّ أمر الأتابك قايتباي في السلطنة، طلع الأمير يشبك بن مهدي الظاهري الكاشف بالوجه القبلي إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرَّفه بسلطنة قايتباي، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة فكانت مدة سلطنته ثمانية وخمسين يومًا، وحضر الخليفة والقضاة، وبايعوا الأتابك قايتباي بالسلطنة، ولبس خلعة السلطنة السواد الخليفتي، ونودي في الحال بسلطنته بشوارع القاهرة، وتلقب بالملك الأشرف قايتباي المحمودي.
استطاع الأمير حسن الطويل التتري الذي تزعَّم قبيلتي الخِراف البيض والخراف السود بعد توحُّدهما أن ينتزع خراسان من الأمير أبي سعيد بن محمد بن ميران شاه بن تيمورلنك بعد معركة انتهت بقتل أبي سعيد، ثم أبرم الأمير حسن هذا معاهدة مع دولة البنادقة ضد الدولة العثمانية، فأصبح قادرًا على تهديد الدولة العثمانية من ناحية المشرق، فهاجم الدولة العثمانية واحتلَّ مدينة توقات، فأرسل إليه السلطان العثماني محمد الفاتح جيشًا في هذا العام فهزمه، ثم سار السلطان الفاتح بنفسه وقاتله حتى قضى على من بقي من جيوشِه.
هو جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن الأمير سيف الدين تغري بردي بن عبد الله الظاهري الحنفي، ولد في القاهرة سنة 813، كان أبوه من مماليك الظاهر برقوق ومن أمراء جيوشه، بل صار نائب دمشق في آخر حياته وتوفي فيها، وتفقه ابنه جمال الدين وقرأ الحديث وبرع في التاريخ، وامتاز به واشتهر بتآليفه التاريخية التي منها: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ومنها حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، وله المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، وهو معجم تراجم، وله نزهة الرأي في التاريخ، وله كتب أخرى في غير التاريخ، مثل: نزهة الألباب في اختلاف الأسماء والألقاب، والبحر الزاخر في علم الأوائل والأواخر، وغيرها من المصنفات. توفي بالقاهرة
كان بنو وطاس فرقة من بني مرين غير أنهم ليسوا من بني عبد الحق، ولما دخل بنو مرين المغرب واقتسموا أعماله كان لبني وطاس بلاد الريف، فكانت ضواحيها لنزولهم وأمصارها ورعاياها لجبايتهم، وكان بنو الوزير من بني وطاس يتطلعون إلى الرياسة ويسعون في الخروج على بني عبد الحق، وقد تكرر ذلك منهم، ثم أذعنوا إلى الطاعة وراضوا أنفسهم على الخدمة، فاستعملهم بنو عبد الحق في وجوه الولايات والأعمال واستظهروا بهم على أمور دولتهم، فحَسُن أثرهم لديها وتعدد الوزراء منهم فيها، ولم يزل السرور متربعًا بين أعينهم لذلك والرياسة شامخة بأنوفهم، ولما كانت دولة السلطان أبي عنان واستولى على بجاية عقد عليها لعمر بن علي الوطاسي من بني الوزير فثار عليه أهلها, ثم ولِيَ والد محمد الشيخ أبو زكريا يحيى بن زيان الوطاسي الوزارة للسلطان عبد الحق، وتولى بعده ابنه يحيى فقتله السلطان عبد الحق في جماعة من عشيرته لما رأى منافستهم له في الحكم, وفرَّ أخوه أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي إلى الصحراء وبقي متنقلًا في البلاد حتى تمكن من جمع الأتباع حوله وهو في الصحراء ودخل بهم آصيلا، وتمكن من حكمها, ثم زحف على فاس وتمكن من دخولها وتمت البيعة له سنة 896.