قام المستعين بالله سعد بن علي بن يوسف الثاني بخلع الأحنف محمد العاشر بن عثمان ملك بني نصر وتولي بدلًا عنه حُكمَ غرناطة، وقد تكرر الخلعُ بينهما أكثَرَ من مرة؛ فقد ثار الأمير سعد على الأحنف سنة 850 فخلعه، ثم لم يلبَث الأحنفُ أن عاد للحُكم وخلَعَ الأمير سعد بن علي بدعم من ملك قشتالة.
وفي هذه السنة زالت دولةُ بنى رسول ملوك اليمن في زبيد وعدن بعد ما حكموا ممالكَ اليمن نحوًا من مائتين وثلاثين سنة, وكان أولُ ملوكهم الملكَ المنصور أبا الفتح عمر بن على بن رسول إلى آخر من ملَكَ منهم، وهو الملِكُ المسعود أبو القاسم بن إسماعيل الثاني، وقد استولى على جميع ممالك اليمن بعد بني رسول أمراءُ بني طاهر بزعامة الملك الطاهر صلاح الدين عامر الأول بن طاهر، ويُذكَرُ أن دولة بني رسول تأسَّست سنة 626.
في يوم الاثنين التاسع والعشرين صفر من هذه السنة استقرَّ شمس الدين نصر الله بن النجار ناظر الدولة وزيرًا عِوَضًا عن سعد الدين فرج بن النحال بحكم عزلِه، وكان قد طرأ على أمر الوزارة من الضعفِ ما جعل ابن تغري بردي يقول عنها: "لم تَرَ عيني فيما رأيتُ ممن لبس خِلَعَ الوزارة أقبح زيًّا من ابن النجار، حتى إنَّه أذهب رونقَ الخِلعة مع حسن زيِّ خِلعةِ الوزارة وأبَّهة صفتها، ولو منَّ الله سبحانه وتعالى بأن يُبطِلَ اسمَ الوزير من الديار المصرية في هذا الزمانِ كما أبطلَ أشياء كثيرة منها، لكان ذلك أجودَ وأجمل بالدولة، ويصير الذي يلى هذه الوظيفة يسمَّى ناظر الدولة؛ لأنَّ اسم الوزارة عظيمٌ، وقد سمِّيَ به جماعةٌ كبيرة من أعيان الدنيا قديمًا وحديثًا في سائر الممالك والأقطار، مثل الصاحب إسماعيل بن عبَّاد، وهلَّم جرًّا، إلى القاضي الفاضل عبد الرحيم، ثم بني حنَّاء وغيرهم من العلماء والأعيان، إلى أن تنازلت ملوكُ مصر في أواخر القرن الثامن حتى ولِيَها في أيامهم أوباش النَّاسِ وأسافِلُ الكَتَبة الأقباط، وتغيَّرَ رسومها، وذهب بهم أبَّهة هذه الوظيفة الجليلة التي لم يكن في الإسلامِ بعد الخلافة أجَلُّ منها ولا أعظم، وصارت بهؤلاء الأصاغرِ في الوجود كلا شيء، وليت مع ذلك كان يلي هذه الوظيفةَ من هؤلاء الأسافلِ من يقوم بما هو بصَدَدِه، بل يباشر ذلك بعَجزٍ وضَعفٍ وظُلمٍ وعَسْفٍ، مع ما يمدُّه السلطانُ بالأموال من الخزانة الشريفة، فليت شعري لم لا كان ذلك مع من هو أهلٌ للوزارة وغيرِها، فلا قوة إلَّا بالله, وباشر ابن النجَّار الوزارة أشرَّ مباشرة، وأقبح طريقة، ولم تطُلْ أيَّامه، وعجز وبلغ السلطانَ عَجزُه، فلما كان يوم الخميس أول شهر ربيع الآخر طلب السلطان الوزراء الثلاثة ليختار منهم من يوليه، وهم: ابن النجَّار الذي عجز عن القيام بالكُلَف السلطانية، والصاحب أمين الدين بن الهيصم، وسعد الدين فرج بن النحَّال، فوقع في واقعة طريفةٍ، وهي أن السلطان لما أصبح وجلس على الدكَّة من الحوش استدعى أوَّلًا ابن النجَّار، فقيل له: هرب واختفى، فطلب أمينَ الدين بن الهيصم، فقيل له: مات في هذه الليلةِ، وإلى الآن لم يُدفَن، فطلب فرج بن النحَّال، فحضر، وهو الذي فَضَل من الثلاثة، فكلَّمه السلطان أن يستقرَّ وزيرًا على عادته، فامتنع واعتذر بقلَّة متحصَّل الدولة، وفي ظنِّه أن السلطان قد احتاج إليه بموتِ ابن الهيصم وتسحَّب ابن النجَّار، وشرع يكرِّرُ قوله بأنَّ لحم المماليكِ السلطانية المرتَّب لهم في كل يوم ثمانية عشر ألف رطل، خلا تفرقة الصُّرَر التي تعطى لبعض المماليك السلطانية وغيرهم، عوضًا عن مرتَّب اللحم، فلما زاد تمنُّعُه أمر به السلطان فحُطَّ إلى الأرض وتناولته رؤوسُ النوب بالضرب المبَرِّح إلى أن كاد يهلك، ثم أقيم ورُسِمَ عليه بالقلعة عند الطواشي فيروز الزمام والخازندار إلى أن عُمِلَت معه مصالحة وأعيد للوزارةِ"
في يوم الاثنين آخر جمادى الآخرة كانت وقعةُ المماليك الظاهرية الجقمقية مع الملك الأشرف إينال، وسببُ هذه الفتنة ثورةُ المماليك الأجلاب أولًا، وأفعالُهم القبيحة بالناس، ثم عقب ذلك أنَّ السلطان كان عيَّنَ تجريدة إلى البحيرة، نحوًا من خمسمائة مملوك، وعليهم من أمراء الألوف الأمير خشقدم المؤيدي أمير سلاح، والأمير قرقماس رأسُ نوبة النوب، وعِدَّةٌ من أمراء الطبلخانات والعشرات، ورسم لهم السلطانُ بالسفر، ولم يفرِّقْ على المماليك المكتوبة للسفر الجمالَ على العادة، فعَظُم ذلك عليهم، وامتنَعوا إلى أن يأخذوا الجِمالَ، فسافر الأمير خشقدم في صبيحة يوم الاثنين المذكور، وتبعه الأمير قرقماس في عصر نهاره، وأقاما ببر منبابة تجاه بولاق، فلم يتبَعْهم أحد من المماليك المعيَّنة معهم، بل وقف غالبُهم بسوق الخيل تحت القلعة ينتظِرونَ تفرقةَ الجِمال عليهم، إلى أن انفَضَّ الموكب السلطاني ونزلت الأمراءُ إلى جهة بيوتهم، فلما صار الأميرُ يونس الدوادار بوسط الرميلة احتاطت به المماليك الأجلاب، وتحقق الغدرَ، فأمر مماليكه بإشهار سيوفِهم ففعلت ذلك، ودافعت عنه، وجرَحَ من المماليك الأجلاب جماعةً، وقطع أصابِعَ بعضِهم، وشقَّ بطنَ آخر على ما قيل، فعند ذلك انفرجت ليونس فرجةٌ خرج منها فارًّا إلى جهة داره، ونزل بها، ورمى عنه قماش الموكِبِ، ولَبِسَ قماشَ الركوبِ، وطلع من وقتِه إلى القلعةِ من أعلى الكبش، ولم يشق الرميلة، وأعلم السلطانَ بخبَرِه، فقامت لذلك قيامةُ المماليك الأجلاب، وقالوا: نحن ضربناهم بالدبابيس فضربونا بالسيوفِ، وثاروا على أستاذِهم ثورةً واحدةً، وساعدهم جماعةٌ من المماليك القرانيص وغيرِهم لِما في نفوسهم من السلطانِ لعدم تفرقةِ الجِمالِ وغيرها، ووقفوا بسوق الخيل وأفحشوا في الكلامِ في حقِّ السلطان، وهددوه إن لم يسلِّم لهم الأميرَ يونس، ثم ساقوا غارةً إلى بيت يونس الدوادار، فمنعهم مماليكُه من الدخول إلى داره، فجاؤوا بنار ليحرقوا الباب، فمنعوهم من ذلك أيضًا، فعادوا إلى سوق الخيل، فوافَوا المنادي ينادي من قبل السلطانِ بالأمان، فمالوا على المنادي بالدبابيس، فسكت من وقته، وهرب إلى حالِ سبيله، وقد طلعت جميعُ أمراء الألوف إلى السلطانِ، وهو على حالة السكوتِ غير أنه طلب بعضَ مماليكه الأجلاب الأعيان، وكلَّمه بأنَّه يعطي من جُرِحَ من الأجلاب ما يكفيه، وأنه يعطي للذي قُطِعَت أصابعه إقطاعًا ومائة دينار، فلم يقع الصلحُ، وانفضَّ الأمر على غير طائلٍ؛ لشدة حر النهار، ولما تفرقت المماليك نزلت الأمراءُ إلى دورهم ما خلا الأمير يونس الدوادار؛ فإنه بات في القلعة، فلما تضحى النهارُ أرسل إليهم السلطان بأربعة أمراء، وهم: الأمير يونس العلائي أحد مقدَّمي الألوف، وسودون الإينالي المؤيدي قراقاش رأس نوبة ثان، ويلباي الإينالي المؤيدي أحد أمراء الطبلخانات ورأس نوبة، وبردبك البجمقدار أحد الطبلخانات أيضًا ورأس نوبة، فنزلوا إليهم من القلعة؛ فما كان إلَّا أن وقع بصر المماليك الأجلاب على هؤلاء الأمراء احتاطوا بهم، وأخذوهم بعد كلامٍ كثير، ودخلوا بهم إلى بيتِ الأمير خشقدم أمير سلاح تجاه باب السلسلة، ورسموا عليهم بعضَهم، كلُّ ذلك والمماليك الظاهرية الجقمقية وقوفٌ على بُعدٍ، لا يختلفون بهم، لينظروا ما يصيرُ من أمرهم، فلما وقع ما ذُكِرَ تحققوا خروجَهم على أستاذهم، وثار ما عندهم من الكمائنِ التي كانت كامنةً في صدورهم من الملك الأشرف إينال لِما فَعَل بابن أستاذِهم الملك المنصور عثمان، وحَبْسِ خشداشيَّتِهم- زملائهم- وتقريب أعدائهم الأشرفية مماليك الأشرف برسباي، فانتهزوا الفرصة، وانضافوا إلى المماليك الأجلاب، وعرَّفوهم أن الأمر لا يتم إلا بحضرة الخليفةِ ولبس السلاح، فساق قاني باي المشطوب أحد المماليك الظاهريَّة من وقته إلى بيت الخليفة القائم بأمر الله حمزة، وكان في الخليفةِ خِفَّةٌ وطَيشٌ، فمال إليهم ظنًّا أنه يكون مع هؤلاء وينتَصِرُ أحدُهم ويتسلطنُ، فيستفحلُ أمره ثانيًا أعظَمَ من الأول، ولما حضر الخليفة عندهم، تكامل لُبسُهم السلاح، وانضافت إليهم خلائقُ من المماليك السيفية، وأوباش الأشرفية، وغيرُهم من الجياع الحرافيش، فلما رأت الأجلابُ أمر الظاهرية حسبوا العواقب، وخافوا زوالَ ملك أستاذهم، فتخلَّوا عن الظاهرية قليلًا بقليلٍ، وتوجه كل واحد إلى حالِ سبيله، فقامت الظاهريةُ بالأمر وحدهم، وما عسى يكونُ قيامهم من غير مساعدة، وقد تخلَّى عنهم جماعة من أعيانهم وخافوا عاقبةَ هذه الفتنة، وقد تعبَّأ السلطان لحربهم، ونزل من القلعة إلى باب السلسلة من الإسطبل السلطاني، وتناوش القومُ بالسهام، وأرادوا المصاففة، فتكاثر عليهم السلطانيةُ، وصدموهم صدمةً واحدة بدَّدوا شملهم، بل كانوا تشتَّتوا قبل الصدمة أيضًا، وهجم السلطانيةُ في الحال إلى بيت الأمير خشقدم أمير سلاح، وأخذوا الأمراءَ المرسَّم عليهم، وأخذوا فيمن أخذوا الخليفةَ معهم، وطلعوا بهم إلى السلطانِ، فلما رأى السلطان الخليفةَ وبَّخه بالكلام الخَشِن، وتفرقت من يوم ذاك أجلابُ السلطان فرقتين: فرقةٌ وهم الذين اشتراهم من كتابية الظاهر جقمق وابنه، وفرقةٌ اشتراهم هو في أيام سلطنته، وقويت الفرقةُ الذين اشتراهم على الفرقةِ الظاهرية، ومنعوهم من الطلوعِ إلى القلعة، والسكنى بالأطباق، ولما انتهت الوقعة أمسك جماعةً من المماليك الظاهرية وحبسهم بالبرج من قلعة الجبل، ونفى بعضَهم واختفى بعضُهم.
لما وقف الخليفةُ القائم بأمر الله في صفِّ المماليك الظاهرية في فتنتِهم ضِدَّ السلطان الأشرف إينال ظنًّا منه أنه يُخلَعُ فيزداد بذلك مرتبةً فوق التي هو فيها بوقوفِه مع هؤلاء المماليك، ولكن لما انكسر أمرُهم ومَسَك السلطانُ الأشرف إينال الخليفةَ ووبَّخه على وقفته هذه، أمر بحبسه بالبحرةِ من قلعة الجبل، وخلعه من الخلافة بأخيه يوسف في يوم الخميس ثالث شهر رجب، ثم أرسل الخليفةَ القائمَ بأمر الله في يوم الاثنين سابع رجب إلى سجن الإسكندرية، فسجن بها مدة سنين، ثم أُطلِقَ من السجن، وسكنَ بالإسكندرية إلى أن مات بها في أواخر سنة 862، فأصبح الخليفةُ هو أبو المحاسن يوسف بن المتوكل ولقِّب بالمستنجد بالله.
هو العلَّامةُ العِزُّ مجد الدين عبد السلام بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد بن كيدوم بن عمر بن أبي الخير سعيد الحسيني القيلوي البغدادي ثم القاهري الحنبلي ثم الحنفي. ولدَ تقريبًا بعد سنة 770 والقيلوي نسبة لقرية بالجانب الشرقي من بغداد يقال لها قيلويه نشأ بها العز. قرأ القرآنَ لعاصم وحَفِظَ كتبًا جمة في فنون كثيرة، وبحث في غالب العلوم على مشايخ بغداد والعجم والروم، حتى إنه بحث في مذهبي الشافعي وأحمد وبرع فيهما وصار يقرأ كتبَهما ولازم الرحلةَ في العلم إلى أن صار أحدَ أركانه، وأدمن الاشتغال والأشغال بحيث بقي أوحدَ زمانه، ومن شيوخه في فقه الحنفية الضياء محمد الهروي أخذ عنه المجمع بعد أن حفظه، وسمع غالب الهداية على عبد الرحمن التشلاقي أو القشلاغي، وسمع عليه أصولَ الحنفية، وفي فقه الحنابلة محمد بن الحادي، وسمع عليه البخاري، وتزايد اشتغاله بالمذهب الحنبلي لكون والده كان حنبليًّا، وفي فقه الشافعية ناصر الدين محمد المعروف بأيادي الأبهري ولازمه مدة طويلة أخذ عنه فيها النحو والصرف، ولم يتسير له البحث في فقه المالكية، وقصد ذلك فما قدر، وأخذ أصول الدين وآداب البحث عن السراج الزنجاني، وأصول الفقه عن أحمد الدواليبي، وحضر بحث المختصر الأصلي لابن الحاجب والعضد وكثيرًا من شروح التلخيص في المعاني، وكثيرًا من الكشَّاف على ميرك الصيرامي أحد تلامذة التفتازاني، وبحث بعض الكشاف أيضًا والمعاني والبيان على عبد الرحمن ابن أخت أحمد الجندي، وجميع الشاطبية بعد حفظها على الشريف محمد القمني، والنحو عن أحمد بن المقداد وعبد القادر الواسطي، وبحث عليه الأشنهية في الفرائض بخلوة الغزالي من المدرسة النظامية ببغداد، وانتفع به في غير ذلك, وعُنِيَ بالطب والمعاني والبيان بعد حفظه للتلخيص عن المجد محمد المشيرقي السلطاني الشافعي, والمنطق بعد حفظه الشمسية عن القاضي غياث الدين محمد الخراساني الشافعي، كذا بحث عليه علم الجدل والطب عن موفق الدين الهمذاني، وسمع على موسى باش الرومي علم الموسيقى بحثًا، وارتحل إلى تبريز فأخذ بها عن الضياء التبريزي النحو وأصول الفقه، وعن الجلال محمد القلندشي فقه الشافعية وأصولهم، وحضر المعاني والبيان وبعض الكشاف عند حيدر، ثم ارتحل إلى أرزنجان من بلاد الروم فأخذ علم التصوف عن يارغلي السيواسي، ثم عاد من بلاد الروم بعد أن جال الآفاق وقاسى شدة مع تيمورلنك بحيث كانوا يقطعون الرؤوس ويحمِّلونه إياها إلى البلاد الشامية في سنة 810, ولقي بحلب مَن شاء الله من العلماء، وناظر في الشام الجمالَ الطيماني واجتمع في القدس بالشهاب بن الهائم فعظَّمه كثيرًا وارتحل إلى القاهرة بعد هذا كله, فأشير إليه في الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والجدل وآداب البحث والأصلين، والطب والعروض، والفقه والتفسير والقراءات، والتصوف وغيرها، فنزل بالجمالية وقرر في صوفيتها وأقبل الناس عليه فأخذوا عنه، وزوَّجه الشيخ مصطفى المقصاتي ابنته وتدرب به في عمل المقصات، وتكسب بها وقتًا مع اشتهاره بالفضيلة التامة حتى إنه لما تمت عمارة الجامع المؤيدي وحضر السلطان عند مدرسيه ومنهم البدر الأقصرائي الحنفي كان من جملة الحاضرين فلم يتكلم معه غيره، بحيث عظُمَ في عين السلطان، وأشار لما تم الدرس ورام المدرس الدعاء بنفسه مبالغة في تعظيم السلطان القيلوي أن يفعل ففعل، وأعلمه البدر بن مزهر وذلك قبل أن يلي كتابة السر بأنه رجل عالم يتكسب بعمل المقصات، فوعد ببناء مدرسة من أجله يكون هو شيخًا فما تيسر، وربما أقرأه ولده إبراهيم بل رام المؤيد الاجتماع به في محل خلوة للقراءة عليه، فما وافق العز خوفًا من إلصاق كثير مما يصدر عن السلطان به، وعُدَّ ذلك من وفور عقله، واستمر العز ملازمًا للإشغال غير مفتقر للاستفادة من أحد إلا في علم الحديث دراية ورواية؛ فإنه أخذ علوم الحديث جميعًا لابن الصلاح عن الولي العراقي بعد قراءته وسائره سماعًا، وسمع المنظومة في غريب القرآن، ومن أول السيرة الألفية إلى ذكر أزواجه والكثير من النكت على ابن الصلاح، وقرأ منها جميع الألفية الحديثية رواية، والمورد الهني، ومن غيرها الكثير من الأصول الكبار وغيرها، قال شمس الدين السخاوي: " قرأ العز عبد السلام على شيخنا الكمال الشمني صحيح البخاري والنخبة له، واختص به كثيرًا، وكان أحد الطلبة العشرة عنده بالجمالية، وحضر دروسه وأماليه، ورأيت بخط شيخنا بتصنيفه النخبة كتبها برسمه قال في آخرها ما صورته: علقها مختصرها تذكرةً للعلامة مجد الدين عبد السلام نفع الله به آمين، وتمت في صبيحة الأربعاء ثاني عشر شوال سنة أربع عشرة، وقال في أولها ما نصه: رواية صاحبها العلامة الأوحد المفنن مجد الدين عبد السلام البغدادي، وكتب له عليها أنه قرأها قراءة بحث وإتقان وتقرير وبيان، فأفاد أضعاف ما استفاد، وحقق ودقق ما أراد، وبنى بيت المجد لفكره الصحيح وأشاد، ثم قال: وأذن له أن يُقرئها لمن يرى ويرويها لمن درى، والله يسلمه حضرًا وسفرًا، ويجمع له الخيرات زُمَرًا" وأما الرواية فإنه سمع وقرأ على غير واحد وطلبها بنفسه فأكثر وكتب الطباق، وضبط الناس ورافق المتميزين، صار غالب فضلاء الديار المصرية من تلامذة العز عبد السلام، كل ذلك مع الخير والديانة والأمانة والزهد والعفة، وحب الخمول والتقشف في مسكنه وملبسه ومأكله، والانعزال عن بني الدنيا والشهامة عليهم وعدم مداهنتهم، والتواضع مع الفقراء والفتوة والإطعام وكرم النفس والرياضة الزائدة، والصبر على الاشتغال واحتمال جفاء الطلبة والتصدي لهم طول النهار، والتقنع بزراعات يزرعها في الأرياف ومقاساة أمر المزارعين، والإكثار من تأمل معاني كتاب الله عز وجل وتدبره، مع كونه لم يستظهر جميعه ويعتذر عن ذلك بكونه لا يحب قراءته بدون تأمل وتدبر، والمحاسن الجمة بحيث سمعت عن بعض علماء العصر أنه قال: لم نعلم من قَدِمَ مصر في هذه الأزمان مثل العز عبد السلام البغدادي, ولقد تجملت هي وأهلها به, وكان ربما جاءه الصغير لتصحيح لوحه ونحوه من الفقراء المبتدئين لقراءة درسه وعنده من يقرأ من الرؤساء، فيأمرهم بقطع قراءتهم حتى ينتهي تصحيح ذاك الصغير أو قراءة ذاك الفقير لدرسه، ويقول: أرجو بذلك القربة وترغيبهم وأن أندرج في الربانيين ولا يعكس، ولم يحصل له إنصاف من رؤساء الزمان في أمر الدنيا ولا أُعطي وظيفة مناسبة لمقامه، وكان فصيح اللسان مفوهًا طلْقَ العبارة قوي الحافظة سريع النظم جدًّا. مات في ليلة الاثنين الخامس العشر رمضان سنة تسع وخمسين، وصلى عليه من الغد بمصلى باب النصر، ودُفن بتربة الأمير بورى خارج باب الوزير تحت التنكزية، ولم يخلَّف بعده في مجموعِه مثله.
في يوم الخميس الخامس عشر جمادى الآخرة من هذه السنة أمسك السلطان الأشرف إينال الأمير زين الدين الأستادار، واستقرَّ عِوَضَه في الأستادارية سعد الدين فرج بن النحال الوزير، فلمَّا سمعت المماليك الأجلاب بهذا العزل والولاية نزلوا من وقتهم غارةً إلى بيت الأستادار لينهبوه، فمنعهم مماليك زين الدين، وقاتلوهم وأغلقوا الدروبَ، فلما عجزوا عن نهب بيت زين الدين نهبوا بيوت الناسِ من عند بيت زين الدين فأخذوا ما لا يدخُلُ تحت حصر كثرةً، واستمرُّوا في النهب من نهار الغد إلى قريب العصر، وفعلوا بالمسلمين أفعالًا لا تفعلها الكفَرةُ ولا الخوارجُ، فكانت هذه الحادثةُ من أقبح الحوادث الشنيعة، ومن ثمَّ دخل في قلوب الناس من المماليك الأجلاب من الرجيف والرعب أمرٌ لا مزيد عليه؛ لعلمهم أنه مهما فعلوا جاز لهم، وأنَّ السلطان لا يقوم بنصرِ من قُهِرَ منهم، وفي يوم الأربعاء الثالث والعشرين رمضان نودي بالقاهرة من قبل السلطان بعدم تعرُّض المماليك الأجلاب إلى الناس والباعة والتجار، فكانت هذه المناداة كضرب رباب أو كطنين ذباب، واستمرُّوا على ما هم عليه من أخذِ أموال الناس والظلمِ والعنف حتى غلت الأسعارُ في سائر الأشياء من المأكول والملبوس والغلال والعلوفات، وصاروا يخرجون إلى ظواهر القاهرة، ويأخذون ما يريدون بأبخس الأثمان، إن أعطوا ثمنًا، وإن شاؤوا أخذوه بلا ثمنٍ، ثم شرعوا في نهب حواصل البطيخ الصيفي وغيره، ثم تزايد أمرُهم، فغلت جميع الأسعار مع كثرتِها عند أربابها، فضرَّ ذلك بحال الناس قاطبة؛ رئيسِها وخسيسِها.
التقى السلطان العثماني محمد الفاتح مع هونياد زعيم الصرب في معركة انتهت بقتل هونياد واستيلاء العثمانيين نهائيًّا على بلاد الصرب وجعْلها ولاية عثمانية، ولكن بقيت بلغراد التي حاصرها السلطانُ ومعه مائة وخمسون ألف مقاتل ومعه مائتا سفينة حربية، ولكنه فَشِلَ مع كثرة الغارات؛ وذلك بسبب الجرح الذي أصاب السلطان محمد الفاتح؛ مما اضطره للعودة عن الحصار، ولكنَّه فتح في عوده دوقية أثينا التي كانت بيد عائلة من فلورنسة.
في يوم الخميس ثالث صفر ثارت المماليك الأجلاب على السلطان، وأفحشوا في أمرِه إلى الغاية، فبينما هو جالسٌ بقاعة قلعة الدهيشة، وكانت الخدمةُ بطالةً في هذا اليوم، وذلك قبل أن يصلِّيَ السلطان الصبح، وإذا بصياح المماليك، فأرسل السلطانُ يسأل عن الخبر، فقيل له إن المماليك أمسكوا نوكار الزردكاش وهددوه بالضرب، وطلبوا منه القرقلات-جمع قرقل وهو ثوب بغير كمين- التي وعدهم السلطان بها من الزردخاناه السلطانية، فحلف لهم أنه يدفع لهم ذلك في أول الشهر، فتركوه ومضَوا، فلقوا الشيخ عليًّا الخراساني الطويل محتسب القاهرة، وهو داخل إلى السلطان، فاستقبلوه بالضرب المبَرِّح المتلِف، وأخذوا عمامتَه من على رأسه، فرمى بنفسه إلى باب الحريم السلطاني حتى نجا، ثم إنَّ الصياح قوي ثانيًا فعُلم أن ذلك صياح الأجلاب، فأرسل إليهم الأميرُ يونس الدوادار، فسألهم يونس عن سبب هذه الحركة، فقالوا: نريد نقبض جوامكنا- المخصصات- كل واحد سبعة أشرفية ذهبًا في كل شهر، وكانت جامكية الواحد منهم ألفين قبل تاريخه يأخذها ذهبًا وفضة، بسعر الذهب تلك الأيام، فلما غلا سعر الذهب تحيَّلوا على زيادة جوامكهم بهذه المندوحة، ثم قالوا: ونريد أن تكون تفرقة الجامكية في ثلاثة أيام، أي على ثلاث نفقات كما كانت قديمًا، ونريد أيضًا أن يكون عليقنا السلطاني الذي نأخذه من الشونة مُغَرْبلًا، ويكون مرتبنا من اللحم سمينًا, فعاد الأمير يونس إلى السلطان بهذا الجواب، ولم يتفوَّه به إلى السلطان، وتربص عن ردِّ الجواب على السلطان حتى يفرغَ السلطان من أكل السماط، فأبطأ الخبر لذلك عن الأجلاب، فندبوا مرجانًا مقدَّم المماليك للدخول بتلك المقالة إلى السلطان، فدخل مرجان أيضًا ولم يخبِر السلطان بشيء حتى فرغ من أكل السماطِ، فعند ذلك عرفه الأمير يونس بما طلبوه، فقال السلطان: لا سبيل إلى ذلك، وأرسل إليهم مرجانًا المقدَّم يعرفهم مقالة السلطان، فعاد مرجان ثانيًا إلى السلطان بالكلام الأول، وصار يتردُّد مرجان بين السلطان والمماليك الأجلاب نحو سبعة مرار، وهم مصمِّمون على مقالتهم، والسلطان ممتنع من ذلك، وامتنع الناس من الدخول والخروج إلى السلطان خوفًا من المماليك؛ لما فعلوه مع العجمي المحتسِب، فلما طال الأمر على السلطان خرج هو إليهم بنفسه، ومعه جماعةٌ من الأمراء والمباشرين، فلما علموا بمجيء السلطان أخذوا في الرجم، فلما رأى شدةَ الرجم، قصد العودَ إلى الدهيشة، ورسم لمن معه من الأمراء أن ينزلوا إلى دورهم، فامتنعوا إلَّا أن يوصلوه إلى باب الحريم، فعاد عليهم الأمر فنزلوا من وقتهم، وبقي السلطان في خواصِّه وجماعة المباشرين وولده الكبير المقام الشهابي أحمد، فلما سار السلطان إلى نحو باب الستارة، ووصل إلى باب الجامع أخذه الرجمُ المفرط من كل جهة، فأسرع في مشيته والرجم يأتيه من كل جانب، وسقط الخاصكي الذي كان حامِلَ ترس السلطان من الرجم، فأخذ الترسَ خاصكيٌّ آخر فضُرِبَ الآخر فوقع وقام، وشج دوادار ابن السلطان في وجهه وجماعة كثيرة، وسقطت فردةُ نعل السلطان من رجله فلم يلتفت إليها لأنَّه محمول من تحت إبطيه مع سرعة مشيهم إلى أن وصل إلى باب الستارة، وجلس على الباب قليلًا، فقصدوه أيضًا بالرجم، فقام ودخل من باب الحريم وتوجه إلى الدهيشة، واستمر وقوف المماليك على ما هم عليه إلى أذان المغرب، وبات القوم وهم على وجل، والمماليك يكثرون من الوعيد في يوم السبت؛ فإنهم زعموا أن لا يتحركوا بحركةٍ في يوم الجمعة مراعاةً لصلاة الجمعة، وأصبح السلطان وصلَّى الجمعة مع الأمراء على العادة، فتكلم بعض الأمراء مع السلطان في أمرهم بما معناه أنه لا بد لهم من شيء يطيب خواطرهم به، ووقع الاتفاق بينهم وبين السلطان على زيادة كسوتهم التي يأخذونها في السنة مرة واحدة، وكانت قبل ذلك ألفين، فجعلوها يوم ذاك ثلاثة آلاف درهم، وزادوهم أيضًا في الأضحية، فجعلوا لكل واحد ثلاثة من الغنم الضأن، فزيدوا رأسًا واحدًا على ما كانوا يأخذونه قبل ذلك، ثم رُسِمَ لهم أن تكون تفرقة الجامكية على ثلاث نفقات في ثلاثة أيام من أيام المواكب، فرَضُوا بذلك وخَمَدت الفتنة.
في يوم السبت أول شهر ربيع الآخر نودي في المماليك السلطانية المعينين إلى تجريدة البلاد الشامية لقتال ابن قرمان، ثمَّ في يوم الخميس خامس جمادى الأولى برز الأمراء والعساكر من القاهرة إلى الريدانية خارج القاهرة، وأقاموا بالريدانية إلى ليلة الاثنين تاسِعَه، فاستقلوا فيه بالمسير من الريدانية إلى جهة البلاد الشامية، ثم سافر الأمير نوكار الزردكاش، ومعه عدة من الرماة والنفطية وآلات الحصار وهو مريض، ورسم له أن يأخذ من قلعة دمشق ما يحتاج إليه من أنواع الآلات وغيرها للحصار، ويلحق العساكر المتوجِّهة لقتال ابن قرمان، وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر جمادى الأولى ورد الخبر على السلطان بوصول العساكر المتوجهة لقتال ابن قرمان إلى حلب، وأنه اجتمع رأي الجميع على السير من حلب إلى جهة ابن قرمان في يوم السبت السادس والعشرين جمادى الآخرة، ثمَّ في يوم الاثنين رابع شعبان وصل الخبر من الأمير خشقدم أمير سلاح ومن رفقته النواب بالبلاد الشامية بأنهم وصلوا إلى بلاد ابن قرمان، وملكوا قلعة دوالي، ونهبوها وأخربوها، وأنهم جهَّزوا الأمير بردبك البجمقدار رأس نوبة ومعه عدَّةٌ من المماليك السلطانية والأمراء بالبلاد الشاميَّة إلى جهةٍ من جهات بلاد ابن قرمان، فصدفوا في مسيرهم عسكرًا من أصحاب ابن قرمان فواقعوهم وهزموهم، وأنَّه قُتل من المماليك السلطانية أربعة في غير المصاف، بل من الذين صدفوهم في أثناء الطريق، ثم ورد الخبرُ بأن العساكر المتوجهة إلى بلاد ابن قرمان قصدت العودَ إلى جهة حلب بعد أن أخذوا أربع قلاع من بلاد ابن قرمان، وأخربوا غالب قرى ممالكه، وأحرقوا بلاطه وسَبَوا ونهبوا وأمعنوا في ذلك، حتى إنهم أحرقوا عدة مدارس وجوامع، وذلك من أفعال أوباش العسكر، وأنهم لم يتعرَّضوا إلى مدينة قونية ولا مدينة قيصرية لنفودِ زادهم، ولضجَر العسكر من طول مدَّتِهم بتلك البلاد، مع غلوِّ الأسعار في المأكل وغيره من سائر الأشياء، ولولا هذا لاستولوا على غالب بلاد ابن قرمان، وأنَّ ابن قرمان لم يقاتل العسكر السلطاني، بل إنه انحاز إلى جهة منيعة من جهاته وتحصَّن بها هو وأعيان دولته، وترك ما سوى ذلك من المتاع والمواشي وغيرها مأكلةً لمن يأكله، فحصل له بما أخذ له وهَنٌ عظيم في مملكته.
هو الإمامُ العلامة كمال الدين محمد ابن الشيخ همام الدين عبد الواحد ابن القاضي حميد الدين عبد الحميد ابن القاضي سعد الدين مسعود الحنفي السيرامي الأصل المصري المولد والدار والوفاة، المشهور بابن الهمام، ولد سنة 790 بالإسكندرية ومات أبوه وكان قاضي الإسكندرية وهو ابن عشر أو نحوها، فنشأ في كفالة جدته لأمه، وكانت مغربية خيِّرة تحفظ كثيرًا من القرآن وقدم بصحبتها القاهرة فأكمل بها القرآن عند الشهاب الهيثمي وتلاه تجويدًا على الزراتيتي، وبالإسكندرية على الزين عبد الرحمن الفكيري، وكان شيخه يصفه بالذكاء المفرط والعقل التام والسكون، وحَفِظَ مختصر القدوري والمنار والمفصَّل للزمخشري وألفية النحو، ثم عاد بصحبتها أيضًا إلى الإسكندرية فأخذ بها النحو عن قاضيها الجمال يوسف الحميدي الحنفي، وقرأ في الهداية على الزين السكندري، وفي المنطق على العز عبد السلام البغدادي والبساطي، وعنه أخذ أصول الدين وقرأ عليه شرح هداية الحكمة لملا زادة, ولم يبرح عن الاشتغال بالمعقول والمنقول حتى فاق في زمن يسير أقرانه, وأشير إليه بالفضل التام والفطرة المستقيمة، بحيث قال البرهان الأبناسي أحد رفقائه حين رام بعضهم المشي في الاستيحاش بينهما: "لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره. ثم قال: وشيخنا البساطي وإن كان أعلم، فالكمال أحفظ منه وأطلق لسانًا، هذا مع وجود الأكابر إذ ذاك، بل أعلى من هذا أن البساطي لما رام المناظرة مع العلاء البخاري بسبب ابن الفارض ونحوه قيل له: من يحكم بينكما إذا تناظرتما، فقال: ابن الهمام لأنه يصلح أن يكون حَكَم العلماء" وقال يحيى بن العطار: "لم يزل يُضرَب به المثل في الجمال المفرد مع الصيانة وفي حسن النغمة مع الديانة، وفي الفصاحة واستقامة البحث مع الأدب" واستمر يترقى في درج الكمال حتى صار عالِمًا مفننًا علَّامة متقنًا، درَّس وأفتى وأفاد، وعكف الناس عليه، واشتهر أمره وعظُم ذِكرُه، قال شمس الدين السخاوي: "فقد كان إمامًا علامة عارفًا بأصول الديانات والتفسير والفقه وأصوله، والفرائض والحساب، والتصوف والنحو والصرف والمعاني والبيان، والبديع والمنطق والجدل والأدب والموسيقى، وجُل علم النقل والعقل، متفاوت المرتبة في ذلك, ومع قلة علمه في الحديث فهو عالم أهل الأرض ومحقِّق أولي العصر حُجة أعجوبة ذا حجج باهرة واختيارات كثيرة وترجيحات قوية, وقد تخرج به جماعة صاروا رؤساء في حياته، فمن الحنفية التقي الشمس والزين قاسم وسيف الدين، ومن الشافعية ابن خضر والمناوي. ومن المالكية عبادة وطاهر والقرافي, ومن الحنابلة الجمال بن هشام. وهو أنظَرُ من رأيناه من أهل الفنون ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة وأجلدِهم على ذلك مع الغاية في الإتقان والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة، كل ذلك مع ملاحة الترسل وحسن اللقاء والسمت والبِشر والبزَّة ونور الشيبة وكثرة الفكاهة والتودد والإنصاف وتعظيم العلماء، والإجلال لتقي الدين ابن تيمية وعدم الخوض فيما يخالف ذلك، وعلو الهمة وطيب الحديث ورقة الصوت وطراوة النغمة جدًّا, وسلامة الصدر وسرعة الانفعال والتغير والمحبة في الصالحين وكثرة الاعتقاد فيهم والتعهد لهم والانجماع عن التردد لبني الدنيا حتى الظاهر جقمق مع مزيد اختصاصه به، ولكنه كان يراسله هو ومن دونه فيما يسأل فيه" وقد حجَّ غير مرة وجاور بالحرمين مدة، وشرب ماء زمزم- كما قاله في شرحه للهداية- للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها. ونشر في الحرمين علمًا جمًّا, وعاد في رمضان سنة ستين وهو متوعِّك فسُرَّ المسلمون بقدومِه وعكف عليه من شاء الله من طلبته وغيرهم أيامًا من الأسبوع إلى أن مات في يوم الجمعة سابع رمضان، ودفِنَ من يومه، وصُلِّيَ عليه عصرًا بمصلى المؤمني، وكانت جنازته مشهودة، شهده السلطانُ فمَن دونه، قدِمَ للصلاة عليه قاضي مذهبه ابن الديري، ودُفِنَ بالقرافة في تربة ابن عطاء الله، ولم يخلف بعده في مجموعه مثله. وله مصنفات أشهرها فتح القدير في الفقه الحنفي، وله التحرير في أصول فقه الأحناف، وغيرها من المصنفات.
وقع حريق عظيم بساحل بولاق لم يُسمَعْ بمثله في سالف الأعصار إلا قليلًا، بحيث إنَّه أتى على غالب أملاك بولاق من ساحل النيل إلى خط البوصة التي هي محل دفن أموات أهل بولاق، وعجز الأمراء والحكام عن إخماده، وكان من أمر هذا الحريق أنه لما كان صبيحة يوم الجمعة سادس رجب هبت ريح عظيمة وعظمت حتى اقتلعت الأشجار وألقت بعض المباني، واستمرت في زيادة ونمو إلى وقت صلاة الجمعة، فلما كان وقت الزوال أو بعده بقليل احترق ربع الحاج عبيد البرددار بساحل البحر، وذهب الربع في الحريق عن آخره ومات فيه جماعة من الناس، كل ذلك في أقل من ساعة رمل، ثم انتقلت النار إلى ربع القاضي زين الدين أبي بكر بن مزهر وغيره، وهبت الرياح وانتشرت النيران على الأماكن يمينًا وشمالًا، وحاجب الحجَّاب وغيره من الأمراء والأعيان وكل أحد من الناس في غاية الاجتهاد في تخميد النار بالطفي والهدم، وهي لا تزداد إلا قوة وانتشارًا على الأماكن، إلى أن وصلت النار إلى ربع الصاحب جمال الدين ناظر الجيش والخاص، وإلى الحواصل التي تحته، وأحرقت أعلاه وأسفله، وذهب فيه من بضائع الناس المخزونة فيه ما لا ينحصر كثرة، وسارت النار إلى الدور والأماكن من كل جهة، هذا وقد حضر الحريق جميع أمراء الدولة بمماليكهم وحواشيهم، شيئًا بعد شيء، والأمر لا يزداد إلا شدة، إلى أن صار الذي حضر من الناس لأجل طفي النار كالمتفرِّج من عِظَم النار والعجز عن إخمادها، وصارت النار إذا وقعت بمكان لا تزال به حتى يذهب جميعه، ويضمحل عن آخره، فعند ذلك فطن كل أحد أن النار تسير من دار إلى دار إلى أن تصل إلى القاهرة؛ لعِظَم ما شاهدوا من هولها، والريح يتداول هبوبها من أول النهار إلى نصف الليل؛ ولشدة هبوب الريح صارت رياحًا؛ لأنها بقيت تهب من سائر الجهات، فيَئِس كل من كان له دار تحت الريح، وتحقق زوالها، وشرع في نقل متاعه وأثاثه، واستمر الأمراء والأعيان يشاهدون الحريق، ويطفئون ما قدروا عليه من أطراف المواضع المنفردة؛ وأما الحريق العظيم فلا يستجرئ أحد أن يقربه لعِظَمِه، بل يشاهدونه من بعيد، واستمروا على ذلك إلى بعد أذان عشاء الآخرة، ثم ذهب كل واحد إلى داره والنار عمالة إلى نصف الليل، فأخذ أمر الريح في انحطاط، فعند ذلك اجتهد كل أحد في إخمادها، وأقاموا على ذلك أيامًا كثيرة، والنار موجودة في الأماكن والجُدُر والحيطان، والناس تأتي لبولاق أفواجًا للفرجة على هذا الحريق العظيم، فكان عدة ما احترق فيه من الأرباع زيادة على ثلاثين رَبْعًا، كل رَبْع يشتمل على مائة سكن وأكثر، وما به من الحوانيت والمخازن ما خلا الدور والأماكن والأفران والحوانيت وغير ذلك، وقد اختُلِفَ في سبب هذا الحريق على أقوال كثيرة، منهم من قال: إنها صاعقة نزلت من السماء، ومنهم من قال: إن الأرض كأن النار تنبع منها، ثم بعد ذلك بأيام أشيع أن الذي كان يفعل ذلك ويلقي النار في الأماكن هم جماعة من القرمانية ممن أحرق العسكر المصري أمكنَتَهم لما توجهوا إلى تجريدة ابن قرمان، وشاع القولُ في أفواه الناس، ثم ظهر للناس بعد ذلك أن الذي صار يحرق من الأمكنة بالقاهرة وغيرها بعد حريق بولاق إنما هو مِن فِعلِ المماليك الجلبان، لينهبوا ما في بيوت الناس عندما تُحرق، فإنه تداول إحراق البيوت أشهرًا، ثم تداول الحريق بعد ذلك بخط بولاق والقاهرة، وقوي عند الناس أن الذي يفعل ذلك إنما هو من تركمان ابن قرمان، ثم وقع الحريق أيضًا في شعبان بأماكن كثيرة، وتداول الحريق بالقاهرة وظواهرها، وضرَّ ذلك كثيرًا بحال الناس، وقد قوي عندهم أن ذلك من فعل القرمانية والمماليك الأجلاب: يعنون بالقرمانية والأجلاب أن القرمانية إذا فعلوا ذلك مرةً ويقع الحريق، فتَنهَبُ المماليك الأقمشة وغيرها لِما يطلبون الدور المحروقة للطفي، فلما حسن ببال المماليك ذلك صاروا يفعلون ذلك.
لم يستطع الجيش العثماني أن يفتح بلغراد سنة 861 بعد أن حاصرها ورجع الجيش بعد أن تعهد ملك الصرب بدفع جزية سنوية، ثم في هذه السنة استطاع الجيش العثماني بقيادة الصدر الأعظم محمود باشا بعد أن حاصر بلغراد وفتحها كما تمكَّن من فتح بلاد المورة من هذا العام، وفر مَلِكُها إلى إيطاليا، كما فتح الجزر التي في بحر إيجة قرب مضيق الدردنيل، كما عقد صلحًا مع إسكندر بك أمير ألبانيا، وكان قبل ذلك يرفض أن يعقد الصلح مع العثمانيين بعد أن هرب منهم، كما فتح ميناء أماستريس بعد أن توجه سرًّا إلى الأناضول، وهذا الميناء يتبع جنوة وأكثر سكانه من التجار، كما دخل ميناء سينوب واحتل مملكة طرابزون دون مقاومة وهي تابعة للقسطنطينية.
تعرَّض جماعة من المماليك الأجلاب للأمير زين الدين الأستادار، فهرب منهم فضربوه، ولا يختلف اثنان في قوة شوكة الأجلاب في هذه الأيام، حتى تجاوزت الحدَّ، وبطل أمر حكام الديار المصرية قاطبةً، وصار من كان له حقٌّ أو شِبهُ حق لا يشتكي غريمَه إلا عند الأجلاب، ففي الحال يخلص حقه من غريمه، إما على وجه الحقِّ أو غيره، فخافهم كل أحد، لا سيما التجَّار والبَيَعة من كل صنف، وترك غالب الناس معايشَهم؛ خوفًا على رأس مالهم، فعزَّ بسبب ذلك وجود أشياء كثيرة، ووقع الغلاء في جميع الأشياء، ثم في يوم الأحد السابع عشر رجب تعرَّض بعض المماليك الأجلاب للقاضي محب الدين ابن الشحنة كاتب السر، وهو طالِعٌ إلى الخدمة السلطانية، وضربه من غير أمرٍ يوجِبُ ضربه أو الكلام معه، وفي يوم الأحد تاسع شعبان ضرب السلطان مملوكينِ من مماليكه الأجلاب وحبَسَهما؛ لأجل قتلهما نانق الظاهري، ولم يقتُلْهما به كما أمر الله تعالى, ثم في يوم الجمعة الثاني عشر رمضان نهبت العبيد والمماليك الأجلاب النسوةَ اللاتي حضرن صلاة الجمعة بجامع عمرو بن العاص بمصر القديمة، وأفحشوا في ذلك إلى الغاية، وفي يوم الأحد الحادي والعشرين منه أغلقت المماليك الأجلاب باب القلعةِ، ومنعوا الأمراء والمباشرين من النزول إلى دورِهم؛ بسبب تعويق عليقِ خيولهم، وفعلوا ذلك أيضًا من الغدِ إلى أن رُسِمَ لهم عوضًا عن كل عليقة مائتا درهم!
هو الإمام العلامة جلال الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم بن الكمال الأنصاري المحلي الأصل نسبة للمحلة الكبرى من الغربية بالقاهرة، الشافعي المصري، ويعرف بالجلال المحلي. ولد في مستهل شوال سنة 791 ونشأ بها فقرأ القرآن وحفظ المتون واشتغل في فنون، فأخذ الفقه وأصوله والعربية وأفتى ودرَّس عدة سنين، وله عدة مصنفات، ولم يكمل بعضها، ورُشِّح لقضاء الديار المصرية غير مرة. قال شمس الدين السخاوي: "مهَر المحلي وتقدم على غالب أقرانه وتفنَّن في العلوم العقلية والنقلية، وكان أولًا يتولى بيع البزِّ في بعض الحوانيت ثم أقام شخصًا عوضه فيه وتصدى هو للتصنيف والتدريس والإقراء، فشرح كلًّا من جمع الجوامع والورقات والمنهاج الفرعي والبردة، وأتقنها ما شاء مع الاختصار، وعمل منسكًا وتفسيرًا لم يكمل وغيرهما، ورَغِب الأئمة في تحصيل تصانيفه وقراءتها وإقرائِها وكان شيخنا ابن خضر يكثر من وصفه بالمتانة والتحقيق, وقرأ على جلال الدين من لا يحصى كثرة، وارتحل الفضلاء للأخذ عنه، وتخرج به جماعة درَّسوا في حياته، ولكنه صار بأخرة أيامه يستروح في إقرائه لغلبة الملل والسآمة عليه وكثرة المخبطين، ولا يصغي إلا لمن علم تحرزه خصوصًا، وهو حاد المزاج لا سيما في الحر، وإذا ظهر له الصواب على لسان من كان، رجع إليه مع شدة التحرز، وحدَّث باليسير وسمع منه الفضلاء، وقد ولِيَ تدريس الفقه بالبرقوقية، وبالمؤيَّدية وعرض عليه القضاء فأبى، وشافه الظاهرَ العجزَ عنه، بل كان يقول لأصحابه: إنه لا طاقة لي على النار، وكان إمامًا علامة محققًا نظَّارًا مفرط الذكاء صحيح الذهن؛ بحيث كان يقول بعض المعتبرين: إن ذهنه يثقب الماس، وكان هو يقول عن نفسه: إن فهمي لا يقبل الخطأ، حاد القريحة قوي المباحثة" وأشهر مصنفاته هو التفسير الذي لم يكمله، وأكمله بعده جلال الدين السيوطي، والمعروف اليوم بتفسير الجلالين نسبة إليهما، وله كنز الراغبين في فقه الشافعية، وله البدر الطالع في شرح جمع الجوامع في أصول الفقه، وغيرها من المصنفات, وقد حج مرارًا. توفي بالقاهرة وسنه نحو ثلاث وسبعين بعد أن تعلل بالإسهال من نصف رمضان, وفي صبيحة يوم السبت مستهل محرم سنة أربع وستين، وصلِّيَ عليه بمصلى باب النصر في مشهد حافل جدًّا، ثم دفن مع آبائه بتربته التي أنشأها تجاه جوشن، وتأسف الناس عليه كثيرًا وأثنوا عليه جميلًا ولم يخلف بعده في مجموعة مثله، ورثاه بعض الطلبة بل مدحه في حياته جماعة من الأعيان.
حضر لمصر في هذه السنة جاك بن ملك قبرص بعد أن توفِّيَ والده ونصبوا على عرش قبرص أخته عوضًا عنه، قيل: لأنه ولَدُ زنا، وقيل غير ذلك، ثم بقي في مصرَ على أمل أن يوليه السلطان عرش قبرص, وحضر كذلك جماعة من قبرص نيابة عن أخته وهي تطلب كذلك أن تبقى هي الملكة, وفي يوم الثلاثاء سادس شعبان وقع في مصر أمرٌ شنيع بسبب هذا الأمر، وهو أن السلطان جمع أعيان الفرنج القبارصة في الملأ بالحوش السلطاني، وأراد بقاء الملكة صاحبة قبرص على عادتها، وخلَعَ على قصَّادها أعيان الفرنج، واستقَرَّ تغري بردي الطياري مُسفرها، وعلى يده تقليدُها وخِلعتُها، وكان الفرنجي جاك أخوها حاضر الموكب، وقد جلس تحت مقدمي الألوف، فعز عليه ولاية أخته وإبقاؤها على ملك الأفقسية من جزيرة قبرص مع وجوده، فقام على قدميه واستغاث وتكلَّم بكلام معناه أنه قد جاء إلى مصر، والتجأ إلى السلطان، ودخل تحت كنَفِه، وله عنده هذه المدة الطويلة، وأنه أحقُّ بالملك من أخته، وبكى، فلم يسمع السلطان له، وصمَّم على ولاية أخته، وأمره بالنزول إلى حيث هو سكَنُه، فما هو إلا أن قام جاك وخرج من باب الحوش الأوسط، ثم خرج بعده أخصامُه حواشي أخته، وعليهم الخِلَعُ السلطانية، فمَدَّت الأجلاب أيديها إلى أخصام جاك من الفرنج، وتناولوهم بالضربِ والإخراق، وتمزيق الخِلَع، واستغاثوا بكلمة واحدة: أنهم لا يريدون إلا تولية جاك هذا مكان والِدِه، وعظُمَت الغوغاء، فلم يسع السلطان إلا أن أذعن في الحال بعزلِ الملكة وتولية جاك، فتولى جاك على رغم السلطانِ، بعد أن أمعن المماليك الأجلاب في سبِّ الأمير بردبك الدوادار الثاني، وقالوا له: أنت إفرنجي وتحامي للفرنج، فاستغاث بردبك، ورمى وظيفة الدوادارية، وطلب الإقالة من المشي في الخدمة السلطانية، فلم يسمع له السلطان، وفي الحال خُلِعَ على جاك، ورسم بخروج تجريدة من الأمراء إلى غزو قبرص، تتوجَّهُ مع جاك إلى قبرص، ثم في يوم الثلاثاء السابع عشر شوال سافر المجاهدون في بحر النيل إلى ثغر دمياط ومعهم جاك هذا ليساعدوه على تولي الملك مكان أخته، ثم في يوم الجمعة الثالث والعشرين محرم من السنة التالية حضر البعض من هناك وأخبر أنهم ساروا على ظهر البحر الملح يريدون السواحل الإسلامية، فهبت ريح عظيمةٌ شتَّتَت شملهم، وتوجهوا إلى عدة جهات بغير إرادة، وترك بجزيرة جماعة من المماليك السلطانية ومماليك الأمراء قوة لجاك صاحب قبرص.
وصل القاهرة كتابُ جانبك الأبلق الظاهري من قبرص أنَّه هو ومن معه من المماليك السلطانية وغيرهم من الفرنج واقعوا أهلَ شرينة في عاشر شهر ربيع الآخر، وحصروا قلعتَها، وقتلوا من الفرنج بشرينة ثمانية نفر، وأسروا مثلَهم، ثم ذكر أنه واقع ثانيًا أهل شرينة، وقتل صاحب الشرطة بقلعتها، وآخر من عظمائها رمى بنفسِه إلى البحر فغرق، وأنَّه قبض على خمسة منهم، وأن الملكة صاحبة شرينة أخت جاك صاحب قبرص قد توجَّهت من شرينة إلى رودس تستنجد بهم، ثم ذكر أنه ظَفِرَ بعدة مراكب ممَّن كان قَدِمَ من الفرنج نجدة للملكة، وأنه أسَرَ منهم خلائق تزيد عدَّتُهم على مائة نفر، وأنه أخذ بالحصار عدة أبراج من أبراج قلعة باف بعد أن قاسوا منه شدائد، وأنه يستحِثُّ السلطان في إرسال عسكر بسرعة قبل مجيء نجدةٍ لهم من الفرنج أهل الماغوصة الجنوية، وإلى أهل شرينة من غير الجنوية.
هو السلطان الأشرف سيف الدين أبو النصر إينال بن عبد الله العلائي الظاهري ثم الناصري، أصله شركسي الجنس، أُخذَ من بلاده، فاشتراه خواجا علاء الدين علي، وقدم به إلى القاهرة، فاشتراه الملك الظاهر برقوق، ودام إينال كتابيًّا بطبقة الزمام، إلى أن مَلَكه الملك الناصر فرج بن برقوق وأعتقه. وهو السادس والثلاثون من ملوك الترك. تولى السلطنة بعد أن خلع المنصور عثمان بن السلطان جقمق سنة 857. تسلَّط في أيامه مماليك السلطان الأجلاب وتعدوا على العامة نهبًا وقتلًا دون أن يعمل السلطان لهم ما يردعهم, ولما أصيب السلطان بمرض الموتِ يوم السبت ثالث جمادى الأولى لزم الفراش، وفي يوم الأربعاء الرابع عشر طلب السلطان إينال الخليفةَ والقضاة الأربعة إلى القلعة، وطلعت الأمراء والأعيان، واجتمع الجميع بقاعة الدهيشة، وكان الطلب لسلطنة ولده المقام الشهابي أحمد قبل موته، فلما تكامل الجمعُ خلع السلطان نفسَه من السلطنة بالمعنى؛ لأنه ما كان إذ ذاك يستطيع الكلامَ، بل كلَّمَهم بما معناه أن الأمر يكون من بعده لولدِه، فعلموا من ذلك أنه يريد خلعَ نفسه وسلطنة ولده، ففعلوا ذلك، وتوفي السلطان من الغد، وكانت مدة تملكه ثماني سنين وشهرين وستة أيام، فجُهز من وقته، وغُسل وكُفن، وصُلي عليه بباب القلة من قلعة الجبل، ودُفن من يومه بتربته التي عمرها بالصحراء، وقد ناهز الثمانين من العمر، أما السلطان الجديد المؤيد أبو الفتح أحمد بن إينال فتسلطن في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى وتلقَّب بالمؤيد أحمد وانتدب كاتب السر لتحليف الأمراء، فحلف من حضر من الأمراء الأيمان المؤكدة، فلما انقضى التحليف وتمت البيعة قام كل أحد من الأمراء والخاصكية والأعيان وبادر إلى لبس الكلفتاة والتتري الأبيض، كما هي العادة، وأُحضِرت خِلعة السلطنة الخليفتية السوداء، ولُفَّت له عمامة سوداء حرير، وقام المقام الشهابي أحمد بن إينال ولبس الخلعة والعمامة على الفور.
كان الباعث لهذه الفتنة وخلع المؤيَّد أنه لما تسلطن لم يحرك ساكنًا ولم يتغير أحدٌ مما كان عليه، فشقَّ ذلك على الظاهريَّة، وقال كل منهم في نفسه: كأن الملك الأشرف إينال ما مات، فإن الغالبَ كلٌّ منهم كان أخذ ما بيده من الإقطاعات، وحبس ونفى في أوَّل سلطنة الأشرف إينال، كما هي عادة أوائل الدُّول، وبقى منهم جماعة كثيرة بلا رزق ولا إمرة ولم يجدوا عندهم قوةً ليخلعوا الملك المؤيد هذا ويسلطنوا غيره وحدهم، فكلَّموا الأشرفيَّة في هذا المعنى غير مرَّة، وترققوا لهم، فلم يقبلوا منهم ذلك؛ لنفرةٍ كانت بين الطائفتين قديمًا وحديثًا، وأيضا فلسان حال الأشرفية: نحن الآن في كفاية من الأرزاق والوظائف، فعلام نحرك ساكنًا، ونخاطر بأنفسنا؟ فعجز فيهم الظاهرية وقد ثقُل عليهم الملك المؤيَّد، وكثر خوفُهم منه، فإنه أوَّل ما تسلطن أبرق وأرعد، فانخزى كل أحد، قال ابن تغري بردي: "كان دخول المؤيد السلطنة بحرمة وافرة؛ لأن سنَّه كان نحو الثلاثين سنة يوم تسلطن، وكان قد ولِّيَ الأتابكية في أيَّام أبيه، وأخذ وأعطى، وسافر أميرَ حاجِّ المحمل، وحجَّ قبل ذلك أيضًا وسافر البلاد، ومارس الأمورَ في حياة والده وهذا كلُّه بخلاف من تقدَّمه من سلاطين أولاد الملوك؛ فإن الغالب منهم حدث السِّنِّ يريد له من يدبِّرُه، فإنه ما يعرف ما يرادُ منه، فيصير في حكم غيرِه من الأمراء فتتعلَّق الآمالُ بذلك الأمير، وتتردَّد الناسُ إليه، إلى أن يدبِّر في سلطنة نفسه، بخلاف المؤيَّد هذ؛ فإنَّه ولِيَ السلطنة وهو يقول في نفسه: إنه يدبِّرُ مع مملكة مصر ممالكَ العجم زيادةً على تدبير مصرَ! قلت: وكان كما زعم؛ فإنه كان عارفًا عاقلًا مباشرًا، حسن التدبير، عظيمَ التنفيذ شهمًا، وكان هو المتصرفَ في الأمور أيَّام أبيه في غالب الولايات والعَزلِ وأمور المملكة، فلما تسلطن ظنَّ كل أحد أنْ لا سبيل في دخول المكيدة على مثل هذا؛ لمعرفة الناس بحذقه وفطنته, وكان مع هذه الأوصاف مليح الشكل، وعنده تؤدة في كلامه، وعقل وسكوت خارج عن الحد، يؤديه ذلك إلى التكبُّر، وهذا كان أعظم الأسباب لنفور خواطر الناس عنه؛ فإنه كان في أيام سلطنته لا يتكلَّمُ مع أحد حتى ولا أكابر الأمراء إلا نادرًا، ولأمر من الأمور الضروريات، وفعل ذلك مع الكبير والصغير، وما كفى هذا حتى صار يبلُغُ الأمراءَ أنَّه في خلوته يسامِرُ الأطرافَ الأوباشَ الذين يُستحيا من تسميتهم، فعظم ذلك على الناس، فلما وقع ذلك وجد من عنده حقدٌ فرصةً، وأشاع عنه هذا المعنى وأمثاله، وبشَّع في العبارة وشنَّع، وقال هذا وغيره: إنَّه لا يلتفت إلى المماليك ويزدريهم، وهو مستعزٌّ بمماليك أبيه الأجلاب وأصهاره وحواشيه وخشداشية أبيه- زملاء مهنته-وبالمال الذي خلَّفه أبوه، ومنهم من قال أيضًا: إنما هو مستعزٌّ بحسن تدبيره، فإنه قد عبَّأ لكل سؤال جوابًا، ولكل حرب ضربًا، وكان مع هذا قد قمع مباشري الدولة وأبادهم، وضيَّق عليهم، ودقَّق في حسابهم كما هو في الخاطر وزيادة، فما أحسن هذا لو كان دام واستمر, فنفرت قلوب المباشرين منه، وأخذ أمره في إدبار؛ لعدم مثابرته على سير طريقه الأوَّل من سلطنته، فلو جَسَر لكَسَر، لكنه هاب فخاب" فلما كان آخرُ يوم الجمعة السابع عشر رمضان رسم السلطان الملك المؤيد أحمد لنقيب الجيش الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج أن يدور على الأمراء مقدَّمي الألوف، ويُعلمَهم أن السلطان رسم بطلوعهم من الغد في يوم السبت إلى الحوش السلطاني من قلعة الجبل بغير قماش الموكب، ولم يعلِمْهم لأيِّ معنى يكون طلوعهم واجتماعهم في هذا اليوم بالقلعة، وهو غيرُ العادة، وأخذ الأمراء من هذا الأمر أمرٌ مريج، وخلا كل واحد بمن يثق به، وعرفه الخبر، وهو لا يشكُّ أن السلطان يريد القبضَ عليه من الغد، ووجد لذلك من كان عنده كمينٌ من الملك المؤيد أو يريد إثارةَ فتنة فرصةً، وحرَّض بعضهم بعضًا، إلى أن ثارت المماليك الظاهرية في تلك الليلة، وداروا على رفقتهم وإخوانهم وعلى من له غرضٌ في القيام على الملك المؤيد، وداموا على ذلك ليلتَهم كلها، فلما كان صبح نهار السبت تفرَّقوا على أكابر الدولة والأمراء في بيت الأتابك خشقدم لعمل المصلحة، وقد اجتمعت طوائفُ المماليك والجميع في بيت الأمير الكبير، ولم يطلع إلى القلعة في هذا اليوم أحدٌ من الأمراء والأعيان إلا جماعة يسيرة جدًّا، فلما تكامل جمعهم في بيت الأمير الكبير وصاروا على كلمة واحدة؛ على خلع الملك المؤيَّد أحمد من السلطنة، وسلطنة غيره، وتكلموا فيمن يولونه السلطنة, فأجمع رأي الجميع على سلطنة أحد من أعيان الأمراء، ثم تكلموا فيمن يكون هذا السلطان، فقال جانبك: الرأي عندي سلطنةُ الأمير الكبير خشقدم المؤيدي؛ فإنه من غير الجنس يعني كونه روميَّ الجنس وأيضًا إنه رجل غريبٌ ليس له شوكة، ومتى أردتم خلعَه أمكنكم ذلك، وحصل لكم ما تقصدونه من غير تعب، فأعجب الجميعَ هذا الكلامُ، بخلاف المماليك الأشرفية، وإن كانوا هم أيضًا متفقين على خلع المؤيد؛ لتطَلُّعهم تسلطُنَ خشداشهم الأمير جانم نائب الشام، ولو أنَّ أمر المؤيد طرقهم بغتةً ما طاوعوا على الرُّكوبِ في مثل هذا اليوم قبل مجيء خشداشهم جانم، فبويع خشقدم ولقِّبَ بالملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم ونودي بالحال بسلطنته بشوارع القاهرة، ثم شرعوا بعد ذلك في قتالِ الملك المؤيد أحمد، كل ذلك والملك المؤيَّدُ في القلعة في أناس قليلة من مماليكه ومماليك أبيه الأجلاب، ثم التحم القتال بين الطائفتين مناوشةً لا مصاففةً، غير أن كلًّا من الطائفتين مُصِرٌّ على قتال الطائفة الأخرى، والملك المؤيَّد في قلة عظيمة من المقاتلة ممن يعرف مواقِعَ الحرب وليس معه إلا أجلاب، فلم ينقضِ النهار حتى آل أمرُ الملك المؤيد إلى زوال، وهو مع ذلك ينتظر من يجيء إليه لمساعدته، حتى من ليس له غرض عند أحد بعينه جاء إلى الأمير الكبير مخافة على رزقه ونفسه؛ لِما علم من قوة شوكة الأمير الكبير وما يؤول أمره إليه، هذا مع حضور الخليفة والقضاة الأربعة عند الأمير الكبير وجميع أعيان الدولة من المباشرين وأرباب الوظائف وغيرهم، والملك المؤيَّد في أناس قليلة جدًّا، وظهر ذلك للملك المؤيد عيانًا، فأراد أن يسَلِّمَ نفسه، ثم أمسك عن ذلك من وقته، فلما رأى الملك المؤيد أنَّ ذلك لا يفيده إلا شدةً وقسوةً أمر عساكره ومقاتلته بالكفِّ عن القتال، وقام من وقته وطلع القلعة بخواصِّه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى حيث شاؤوا، ثم دخل هو إلى والدته خوند زينب بنت البدري حسن بن خاص بك، وترك باب السلسلة لمن يأخذه بالتسليم، وتمزَّقت عساكره في الحال كأنها لم تكن، وزال ملكه في أقل ما يكون، وخُمِدت الفتنة كأنَّها لم تكن، ثم أرسل الأتابك خشقدم في الحال جماعةً من أصحابه قبضوا على الملك المؤيد أحمد هذا من الدور السلطانية، فأُمسِكَ من غير ممانعة، وسلَّم نفسه، وأُخرِجَ من الدور إلى البحرة من الحوش السلطاني، وحُبِسَ هناك بعد أن اقتِيدَ واحتُفظ به، وكانت مدة حكمه أربعة أشهر وستة أيام، ثم رسم السلطان الملك الظاهر خشقدم بتوجُّهِه وتوجه أخيه محمد إلى سجن الإسكندرية.
حاول الأمير جانم نائب دمشق قبل هذا أن يتسلطنَ، ولكنه كان يخاف، وكان قد أرسل ولده يحيى في السنة الماضية إلى مصر أيام السلطان المؤيد أحمد وكلم بعض الأمراء بذلك وبعضهم وعده أن يقِفَ معه، حتى إنَّ أمر سلطنة خشقدم السلطان الحالي كان على أساس أنه يكون مؤقتًا؛ لأن كثيرًا من الأمراء كاتبوا الأمير جانم على أنهم يسلطنونه وأرسلوا له أن يحضُرَ إلى مصر لذلك؛ لذا فإن جانم هذا وفي هذا شهر جمادى الأولى من هذا العام أرسل يدعو تركمان الطاعة إلى موافقته، كما أنه دُعي لجانم على منابر ديار بكر، ثم ورد الخبر بأن جانم نائب الشام كان عدَّى الفرات في جمعٍ كثير من المماليك وتركمان حسن بك بن قرايلك، وسار بعساكره حتى وصل إلى تل باشر من أعمال حلب، وتجهَّز نائب حلب لقتاله، ففي الحال عين السلطان تجريدةً إلى حلب لقتال جانم ثمَّ رسم بإبطال التجريدة، وسَبَبُ ذلك ورود الخبر من نائب حلب بعود جانم على أقبحِ وجه، وأن جماعة كثيرة من مماليكه فارقوه، وقَدِموا إلى مدينة حلب، وأمرُ رجوع جانم أنَّه كان لما وصل إلى تل باشر وقع بينه وبين تركمان حسن بك- الذين كانوا معه- كلامٌ طويل، فتركوه وعادوا، فتلاشى أمر جانم لذلك وعاد، ثم في يوم الثلاثاء الثالث عشر ربيع الآخر من سنة 867 ورد الخبر من جانبك التاجي نائب حلب أن جانم نائب الشام قُتِل بمدينة الرها، وقد اختُلِف في قتله على أقاويل.