كان سُلطان شاه أخو خوارزم شاه قد تعَرَّض إلى بلاد غياث الدين ومعز الدين مَلِكَي الغورية، من خراسان، فتجهَّزَ غياث الدين وخرج من فيروزكوه إلى خراسان سنة خمس وثمانين وخمسمائة، فبَقِيَ يتردد بين بلاد الطالقان، وبنجدة، ومرو، وغيرها يريد حربَ سلطان شاه، فلم يزَلْ كذلك إلى أن دخلت سنة ست وثمانين، فجمع سلطان شاه عساكِرَه وقصد غياث الدين، فتصافَّا واقتتلا، فانهزم سلطان شاه، وأخذ غياث الدين بعضَ بلاده وعاد إلى غزنة.
بعد رحيلِ صلاح الدين عن عكَّا إلى الخروبة لِمَرَضِه، سمع الفرنج أنَّ صلاح الدين قد سار للصيد، ورأوا أنَّ عسكر اليزك- اليزك كلمة فارسية تعني مقدِّمة الجيش- عندهم قليلًا، وأنَّ الوحل الذي في مرج عكا كثيرٌ يمنع من سلوكه من أراد أن ينجدَ اليزك، فاغتنموا ذلك، وخرجوا من خندَقِهم على اليزك وقت العصر، فقاتلهم المسلمونَ، وقُتِلَ من الفريقين جماعة كثيرة، وعاد الفرنجُ إلى خندقهم، ولما عاد صلاح الدين إلى المعسكر سَمِعَ خبر الوقعة، فندب الناسَ إلى نصر إخوانهم، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج عادوا إلى خندقهم، فأقام، ثم إنه رأى الشتاء قد ذهب، وجاءته العساكِرُ من البلاد القريبة منه دمشق وحمص وحماة وغيرها، فتقدم من الخروبة نحو عكَّا، فنزل بتل كيسان، وقاتل الفرنجَ كُلَّ يومٍ لِيَشغَلَهم عن قتال من بعكَّا من المسلمين، فكانوا يقاتِلون الطائفتَينِ ولا يسأمون، وكان الفرنجُ، في مدة مقامهم على عكا، قد عملوا ثلاثة أبراج من الخَشَب عالية جدًّا، وعملوا كل برج منها خمسَ طبقات، كل طبقة مملوءة من المقاتلة، وغَشُوها بالجلود والخل والطين والأدوية التي تمنَعُ النار من إحراقها، وأصلحوا الطرُقَ لها، وقدَّموها نحو مدينة عكا من ثلاثِ جِهات، وزحفوا بها في العشرين من ربيع الأول، فأشرَفَت على السور، وقاتَلَ من بالأبراج العالية مِن على السور، فانكشف المُسلمون، وشرع الفرنجُ في طم خندق المدينة، فأشرف البلدُ على أن يملِكَه الفرنج عَنوةً وقهرًا، فأرسل أهلُ عكا إلى صلاح الدين إنسانًا سبَحَ في البحر، فأعلمه ما هم فيه من الضيقِ، وما قد أشرفوا عليه من أخْذِهم وقَتْلِهم، فركب هو وعساكره وتقدموا إلى الفرنجِ وقاتلوهم من جميعِ جهاتهم قتالًا عظيمًا دائمًا يشغَلُهم عن مكاثرة البلد، فافترق الفرنجُ فرقتين: فرقةٌ تقاتل صلاح الدين، وفِرقةٌ تقاتل أهل عكا، إلَّا أنَّ الأمر قد خَفَّ عمن بالبلد، ودام القتالُ ثمانية أيام متتابعة، آخِرُها الثامن والعشرون من الشهر، وسَئِمَ الفريقان القتال، وملُّوا منه لملازمته ليلًا ونهارًا، والمسلمون قد تيقَّنوا استيلاء الفرنج على البلد؛ لِما رأوا من عَجزِ مَن فيه عن دفع الأبراج، فإنَّهم لم يتركوا حيلةً إلَّا وعملوها، فلم يُفِدْ ذلك ولم يُغنِ عنهم شيئًا، وتابَعوا رميَ النفطِ الطيار عليها، فلم يؤثِّرْ فيها، فأيقنوا بالبوارِ والهلاك، فأتاهم الله بنصرٍ مِن عنده وإذنٍ في إحراقِ الأبراج، فلما احترق البرجُ الأوَّلُ انتقل إلى الثاني، وقد هَرَب مَن فيه لخوفِهم، فأحرقوه، وكذلك الثالث، وأرسل صلاحُ الدين يطلب العساكِرَ الشرقيَّة، فأول من أتاه عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، وهو صاحِبُ سنجار وديار الجزيرة، ثم أتاه علاء الدين ولد عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، سيَّرَه أبوه مقدَّمًا على عسكره وهو صاحِبُ الموصل، ثم وصل زين الدين يوسف صاحِبُ إربل، وكان كل منهم إذا وصل يتقَدَّم إلى الفرنج بعسكره، وينضَمُّ إليه غيرهم ويقاتلونهم، ثم ينزلون، ووصل الأسطول من مصر، فلما سَمِعَ الفرنج بقُربِه منهم جَهَّزوا إلى طريقه أسطولًا ليلقاه ويقاتِلُه، فركب صلاح الدين في العساكر جميعِها، وقاتلهم من جهاتهم ليشتَغِلوا بقتاله عن قتالِ الأسطول ليتمَكَّنَ مِن دخول عكا، فلم يشتغلوا عن قَصدِه بشيء، فكان القتالُ بين الفريقين برًّا وبحرًا، وكان يومًا مشهودًا لم يؤرَّخْ مِثلُه، وأخذ المسلمونَ من الفرنج مركبًا بما فيه من الرِّجالِ والسلاح، وأخذ الفرنجُ من المسلمين مثلَ ذلك، إلا أن القتلَ في الفرنج كان أكثَرَ منه في المسلمين، ووصل الأسطولُ الإسلاميُّ- بحمد الله- سالِمًا.
خرجت الفرنج فارسُها وراجِلُها من وراء خنادقهم في عكا، وتقَدَّموا إلى المسلمين، وهم كثيرٌ لا يُحصى عددهم، وقصدوا نحوَ عسكر مصر، ومُقَدَّمهم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وكان المصريونَ قد ركبوا واصطَفُّوا للقاء الفرنج، فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانحاز المصريون عنهم، ودخل الفرنجُ خيامَهم، ونَهَبوا أموالهم، فعطف المصريُّون عليهم، فقاتلوهم مِن وَسطِ خيامهم فأخرجوهم عنها، وتوجَّهت طائفة من المصريين نحو خنادِقِ الفرنج، فقطعوا المَدَد عن أصحابِهم الذين خرجوا، وكانوا متَّصِلينَ كالنمل، فلما انقطعت أمدادُهم ألقَوا بأيديهم، وأخَذَتْهم السيوفُ مِن كل ناحية، فلم ينج منهم إلا الشَّريدُ، وقُتِلَ منهم مقتلة عظيمة، يزيد عددُ القتلى على عشرة آلاف قتيل، وكانت عساكِرُ الموصل قريبةً من عسكر مصر، وكان مُقَدَّمُهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل، فحملوا أيضًا على الفرنج، وبالغوا في قتالِهم، ونالوا منهم نيلًا كثيرًا، ولَمَّا جرى على الفرنج هذه الحادثة خَمَدت جمرتُهم، ولانت عريكتُهم، فلما كان بعد يومين أتت الفرنجَ أمدادٌ في البحر فعادت نفوسُهم فقَوِيَت واطمأنَّت، وأخبرهم أن الأمدادَ واصلة إليهم يتلو بعضُها بعضًا، فتماسكوا وحَفِظوا مكانهم، ثمَّ إن الكند هري نصَبَ منجنيقًا ودباباتٍ وعرادات، فخرج مَن بعكا من المسلمين فأخذوها، وقَتَلوا عندها كثيرًا من الفرنج؛ ثم إنَّ الكند هري بعد أخْذِ مجانيقه أراد أن ينصِبَ منجنيقًا، فلم يتمَكَّنْ من ذلك؛ لأن المسلمينَ بعكا كانوا يمنعونَ مِن عَمَلِ ستائِرَ يستَتِرُ بها مَن يرمي من المنجنيق، فعمل تلًّا من تراب بالبعد من البلد، ونَصَبوا وراءه منجنيقين، وصار التلُّ سترة لهما، وكانت الميرةُ قد قلَّت بعكا، فأرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية يأمُرُهم بإنفاذ الأقوات واللحوم وغير ذلك في المراكب إلى عكا، فتأخَّرَ إنفاذها، فسَيَّرَ إلى نائبه بمدينةِ بيروت في ذلك، فسَيَّرَ سفينةً عظيمة مملوءةً مِن كل ما يريدونه، وأمَرَ مَن بها فلَبِسوا ملبسَ الفِرنجِ وتَشَبَّهوا بهم ورفعوا عليها الصُّلبانَ، فلَمَّا وصلوا إلى عكا لم يشُكَّ الفِرنجُ أنَّها لهم، فلم يتعَرَّضوا لها، فلما حاذت ميناء عكَّا أدخلها مَن بها، ففرح بها المسلمون، وانتَعَشوا وقَوِيَت نفوسُهم، وتبلَّغوا بما فيها إلى أن أتَتْهم الميرةُ من الإسكندرية، ثم في حادي عشر شوال، خرج النصارى في عددٍ كالرمل كثرةً وكالنارِ جَمرةً، فلما رأى صلاح الدين ذلك نقل أثقالَ المسلمين إلى قيمون، وهو على ثلاثةِ فراسِخَ عن عكَّا، وكان قد عاد إليه فَرقٌ مِن عساكِرِه لَمَّا هلك ملك الألمان، ولَقِيَ الفرنج على تعبئة حسنة، فسار الفرنجُ شَرقيَّ نهرٍ هناك حتى وصلوا إلى رأس النهر، فشاهدوا عساكِرَ الإسلام وكثرتها، فارتاعوا لذلك، ولقيهم الجالشية- جالش كلمة فارسية تعني تحدي- وأمطروا عليهم من السِّهام ما كاد يستُرُ الشمس، فلما رأوا ذلك تحولوا إلى غربيَّ النهر، ولَزِمَهم الجالشية يقاتلونهم، والفرنجُ قد تجمعوا، ولزم بعضُهم بعضًا، فلما كان الغدُ عادوا نحو عكا ليعتَصِموا بخندَقِهم، والجالشيةُ في أكتافهم يقاتلونهم تارةً بالسيوف وتارةً بالرماح وتارةً بالسهام، فلما بلغ الفرنجُ خَندَقَهم، ولم يكُنْ لهم بعدها ظهورٌ منه، عاد المسلمون إلى خيامِهم، وقد قتلوا من الفرنج خلقًا كثيرًا، وفي الثالث والعشرين من شوال كَمَن جماعة من المسلمين، فخرج لهم الفرنجُ في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا الكمينَ، فخرجوا عليهم فلم يُفلِتْ من الفرنج أحد, واشتَدَّ الغلاء عليهم, ثم زاد الأمرُ شِدَّةً عليهم عند هيجانِ البَحرِ وانقطاعِ المراكِبِ في فصل الشتاء, فأرسى الفرنجُ مراكِبَهم بصور؛ خوفًا عليها على عادتِهم في صور في فَصلِ الشتاء, فانفتح الطريقُ إلى عكا في البَحرِ، فأرسل أهلُها إلى صلاح الدين يَشكُونَ ما نزل بهم، وكان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فشكى مِن ضَجَرِه بطول المقام والحرب، فأمر صلاح الدين بإنفاذِ نائبٍ وعسكَرٍ إليها بدلًا منهم وأمَرَ أخاه العادِلَ بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبَلِ حيفا وجمَعَ المراكبَ والشواني- سفن حربية كبيرة- وبَعَث العساكر إليها شيئًا فشيئًا، كلما دخلت طائفةٌ خرج بدلها، فدخل عشرون أميرًا بدلا من ستين, وعادت مراكِبُ الفرنج بعد انحسارِ الشتاء فانقطعت الأخبارُ عن عكا وعنها، وكان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب، وعز الدين أرسلان مقَدَّم الأسدية، وابن عز الدين جاولي، وغيرهم، وكان دخولهم عكا أوَّلَ سنة سبع وثمانين.
دخلت سنة سبع وثمانين والسلطان بالخروبة على حصارِ الفرنج، وقَدِمَت عساكر المسلمين من الشرق ومِن بقية البلاد، فرَحَل من الخروبة لاثنتي عشرة بقيت من ربيع الأول إلى تل كيسان وتتابع مجيءُ العساكر. وكملت أبراجُ الفرنج الثلاثة، التي بَنَوها تجاه عكا في مدة سبعة أشهر، وكانت غايةً في القوة والمتانة والارتفاع حتى علت على أسوار البلد، وامتلأت بالعَدَد والعُدَّة، وطَمُّوا كثيرا من الخندق، وضايقوا البلد. واشتَدَّ خَوفُ المسلمين، واشتدت الحربُ بين الفريقين، حتى تمكَّن المسلمون مِن حَرقِ الأبراج الثلاثة بمن فيها من الفرسان، ثم خرج أهل عكا منها، فنَظَّفوا الخندق، وسَدُّوا الثغر، وغَنِموا ما كان في الأبراجِ مِن الحديد، فتَقَوَّوا به، والفرنجُ في غاية الذهول مِمَّا حدث لأبراجهم الثلاثة. وكان بين أسطولِ المصريين وبين مراكب الفرنج عِدَّة معارك، قُتِلَ فيها كثير من الفرنج. ودخل مَلِك الألمان بجيوشه إلى حدود بلاد الإسلام، وقد فَنِيَ منهم كثير، فواقَعَهم عز الدين قلج بن أرسلان السلجوقي، فانكسر منهم، فلَحِقَ به الفرنج إلى قونية وهاجَموها، وأحرقوا أسواقَها، وساروا إلى طرسوس يريدون بيت المقدس، واسترجاع ما أخَذَه منهم السلطان صلاح الدين الأيوبي من البلاد والحصون، فمات بها ملك الألمان, وقام مِن بَعدِه ابنه، فسار إلى أنطاكية. وندب السلطانُ كثيرًا مِمَّن كان معه على حربِ عكا إلى جهة أنطاكية، ووقع فيمن بَقِيَ معه مرض كثير، وأمَرَ بتخريب أسوار طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل، فخرب ذلك كله، ونَقَل من كان فيها إلى بيروت وطمع الفرنجُ في السلطان لقِلَّةِ من بقي معه، فركبوا لحَربِه, فكانت للمسلمين معهم حربٌ، انكسر فيها الفرنجُ إلى خيامهم، وقُتِلَ منهم آلاف، فوَهَنَت قواهم. غيرَ أن المدد أتاهم، ونَصَبوا المجانيقَ على عكا، فتحول السلطانُ إلى الخروبة، وسار ابنُ ملك الألمان عن أنطاكية إلى طرابلس في جيوشِه، وركب منها البحرَ إلى عكا، فوصَلَ إليها سادس رمضان، فأقام عليها إلى أن هَلَك ثاني عشر ذي الحجة، بعدما حارب المسلمينَ، فلم ينَلْ منهم كبيرَ غَرَض. ودخل الشتاءُ وقد طالت مدة- البيكار- الحرب، وضجِرَت العساكر من كثرة القتال، فرحل صاحِبُ سنجار وصاحِبُ الجزيرة وصاحِبُ الموصل.
في يومِ الجُمُعة سابِعَ عشر جمادى الآخرة، استولى الفرنجُ على مدينة عكا، وكان أوَّل وَهَن دخل على مَن بالبلد أنَّ الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري، المعروف بالمشطوب، كان فيها ومعه عدة من الأمراء كان هو أمثَلَهم وأكبَرَهم، خرج إلى ملك إفرنسيس وبذل له تسليمَ البلدِ بما فيه على أن يُطلِقَ المسلمين الذين فيه، ويُمَكِّنَهم من اللَّحاق بسلطانهم، فلم يجِبْه إلى ذلك، فعاد عليُّ بن أحمد إلى البلد، فوَهَن من فيه، وضَعُفَت نفوسهم، وتخاذلوا، وأهمَّتْهم أنفُسُهم، ثمَّ إن أميرين ممن كانا بعكَّا، لَمَّا رأيا ما فعلوا بالمشطوب، وأن الفرنجَ لم يجيبوا إلى الأمان، اتخذوا الليلَ جَمَلًا، وركبوا في شيني صغيرٍ، وخرجوا سرًّا من أصحابهم، ولَحِقوا بعسكر المسلمين، وهم عزُّ الدين أرسلان الأسدي، وابن عز الدين جاولي، ومعهم غيرهم، فلما أصبح الناسُ ورأوا ذلك ازدادوا وهنًا إلى وهنِهم، وضعفًا إلى ضَعفِهم، وأيقنوا بالعطب، ثم إنَّ الفرنج أرسلوا إلى صلاح الدين في معنى تسليمِ البلد، فأجابهم إلى ذلك، والشَّرطُ بينهم أن يُطلِقَ مِن أسراهم بعَدَدِ مَن في البلد ليُطلِقوا هم مَن بعكا، وأن يسَلِّمَ إليهم صليبَ الصلبوت، فلم يَقنَعوا بما بذل، فأرسل إلى مَن بعكا من المسلمين يأمُرُهم أن يَخرُجوا مِن عكا يدًا واحدةً ويسيروا مع البحرِ ويَحمِلوا على العدوِّ حملةً واحدة، ويتركوا البلدَ بما فيه، ووعَدَهم أنه يتقَدَّمَ إلى تلك الجهة التي يخرجونَ منها بعساكره، يقاتِلُ الفرنج فيها ليلحقوا به، فلم يدركوا ذلك، وحملوا على الفرنجِ مِن جميع جهاتهم ظنًّا منهم أن الفرنجَ يَشتَغِلونَ عن الذين بعكا، وصلاح الدين يُحَرِّضُهم، وهو في أوَّلِهم، وكان الفرنجُ قد زحفوا من خنادِقِهم ومالوا إلى جهة البلد، فقَرُبَ المسلمون من خنادقهم، حتى كادوا يدخلونها عليهم ويَضَعونَ السيف فيهم، فوقع الصوتُ فعاد الفرنجُ ومنعوا المسلمين، وتركوا في مقابلة من بالبلد من يقاتِلُهم، فاتفقوا على تسليمِ البلد، فلما ملكه الفرنج غَدَروا واحتاطوا على من فيه من المسلمين وعلى أموالهم، وحَبَسوهم، وأظهروا أنَّهم يفعلون ذلك ليَصِلَ إليهم ما بُذِلَ لهم بالتسليم وراسلوا صلاح الدين في إرسال المال والأسرى والصليب، حتى يُطلِقوا من عندهم، فعَلِمَ النَّاسُ غَدْرَهم، وإنما يُطلِقونَ غِلمانَ العسكر والفقراء والأكراد ومن لا يؤبَهُ له، ويمسكون عندهم الأمراءَ وأرباب الأموال، يَطلُبونَ منهم الفداءَ، فلم يجبهم السلطان إلى ذلك، فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من رجب، ركب الفرنج، وخرجوا إلى ظاهِرِ البلد بالفارس والراجل، وركب المسلمون إليهم وقَصَدوهم، وحملوا عليهم، فانكشَفوا عن موقِفِهم، وإذا أكثَرُ من كان عندهم من المسلمينَ قتلى قد وَضَعوا فيهم السيفَ وقتلوهم واستبقَوا الأمراءَ والمُقَدَّمين ومن كان له مال، وقَتَلوا مَن سواهم من سوادِهم وأصحابِهم ومن لا مال له، فلما رأى صلاح الدين ذلك تصَرَّفَ في المال الذي كان جَمَعَه، ورد الأسرى والصليب إلى دمشق.
هو الفقيهُ الحنفي علاءُ الدين أبو بكر بن مسعود بن أحمد الكاساني أو الكاشاني، وكاسان، ويقال قاشان: بلدة وراء الشاس بها قلعة حصينة، وقد لقب بملك العلماء؛ لبراعته في الفقه. ألَّفَ كتابه "بدائع الصنائع وترتيب الشرائع". تفَقَّه صاحب "البدائع" على محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي المنعوت علاء الدين، وقرأ عليه معظم تصانيفه، مثل "التحفة في الفقه" وغيرها من كتب الأصول، وزوَّجه شيخُه ابنته الفقيهة العالِمة، فقال الفقهاء في عصره: شرَحَ تُحفَتَه وزَوَّجه ابنته, واتَّفق أن علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني سُيِّرَ رسولًا من الروم إلى نور الدين فعرض عليه المقام بحلب والتدريس بالحلوية، فأجابه إلى ذلك ووعده أن يعود إلى حلب بعد رد جواب الرسالة، فعاد إلى الروم. ثم قدم حلب. فولاه التدريس بالحلوية. ولم يزل بها إلى أن توفي يوم الأحد بعد الظهر عاشر رجب من هذه السنة.
هو الفيلسوف أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السَّهروردي الحلبيُّ المقتولُ. وُلِدَ السهروردي سنة 549 في بلدةِ سهرورد الواقعةِ في شمال إيران بين قزوين وسلسلة جبالِ البرز ونشأ في مدينةِ مراغة، كان شابًّا فاضِلًا، متكَلِّمًا مناظِرًا، يتوقَّدُ ذكاءً. كان أوحَدَ في العلوم الحكميَّة، جامعًا لفنون الفلسفة، بارعًا في أصول الفقه، مُفرِطَ الذكاءِ، فصيح العبارة، لم يناظر أحدًا إلا أربى عليه، وكان عِلمُه أكثَرَ مِن عقله. قال فخر الدين المارديني: "ما أذكى هذا الشابَّ وأفصَحَه إلَّا أني أخشى عليه لكثرةِ تهَوُّرِه واستهتارِه تَلافَه" قرأ الحِكمةَ والأصول على مجد الدين الجيلي شيخ الفخر الرازي بمراغة، كان شافعيَّ المذهَبِ، وله في النظم والنثر أشياءُ، وكان يُتَّهَمُ بانحلالِ العقيدة والتعطيل، ويعتَمِدُ مذهب الحكماء المتقَدِّمين، وقد اشتهر ذلك عنه، وقيل: إنه تأثر بعقيدة الإسماعيليَّة الباطنية. قال السيف الآمدي: "اجتمعْتُ بالسهروردي بحلب، قال لي: لا بدَّ أن أملِكَ الأرضَ، رأيت كأني قد شَرِبتُ ماء البحرِ. فقلت: لعلَّ هذا يكونُ اشتهارَ العِلمِ وما يناسِبُ هذا، فرأيته لا يرجِعُ عمَّا وقع في نفسه، ورأيتُه كثيرَ العِلمِ قَليلَ العقل" كان السهروردي لا يلتَفِتُ إلى ما يلبَسُه، ولا يحتَفِلُ بأمور الدنيا. وله شعرٌ رائق حسن، وله مصنفات منها كتاب " التلويحات اللوحيَّة والعرشيَّة "، وكتاب " اللمحة "، وكتاب " هياكل النور "، وكتاب " المعارج " وكتاب " المطارحات "، وكتاب " حكمة الإشراق". قال الذهبي: "سائِرُ كُتُبِه فلسفةٌ وإلحادٌ، نسأل الله السَّلامةَ في الدين". قَدِمَ الشام فناظر فُقَهاءَ حلب، ولم يجارِه أحَدٌ، فاستحضره الملك الظاهر بن صلاح الدين، وعقد له مجلسًا، فبان فَضلُه، وبهر علمُه، وحَسُن مَوقِعُه عند السلطان، وقَرَّبه واختص به، فشَنَّعوا عليه فأفتى علماء حلب بإباحة دَمِه. وكان أشَدُّهم عليه زين الدين ومجد الدين ابنا جهبل، وعملوا محاضر بكفره، وسيَّروها إلى السلطان صلاح الدين، وخوَّفوه من أن يُفسِدَ اعتقادَ وَلَدِه، وزادوا عليه أشياءَ كثيرة، فبعث إلى وَلَدِه الملك الظاهر بخطِّ القاضي الفاضل يقول فيه: لا بدَّ مِن قتله، ولا سبيلَ إلى أن يُطلَقَ ولا يبقى بوجهٍ، فلما لم يبقَ إلَّا قتْلَه اختار هو لنفسِه أن يُترَكَ في بيتٍ حتى يموتَ جوعًا، ففُعِلَ به ذلك, فقُتِلَ زنديقًا بقلعة حلب, وقيل قُتِلَ خَنقًا, وقد عاش ثماني وثلاثين سنة. وهو يختلف عن شهاب الدين عمر السهروردي الذي توفي سنة 632، صاحِب الطريقة السهروردية، ومؤلِّف كتاب عوارف المعارف في التصوُّف.
لما فرغ الفرنجُ من إصلاح أمْرِ عكا، ساروا مستهلَّ شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارِقونَه، فلما سمع صلاح الدين برحيلِهم نادى في عسكره بالرحيلِ، فضايقوا الفرنج في مسيرِهم، وأرسلوا عليهم مِن السهام ما كاد يحجُبُ الشمس، ووقعوا على ساقةِ الفرنج، فقتلوا منها جماعةً، وأسَروا جماعةً، وأرسل الأفضَلُ بن صلاح الدين إلى والِدِه يستَمِدُّه ويُعَرِّفُه الحال، فأمر صلاح الدين العساكِرَ بالمسير إليه، فاعتذروا بأنَّهم ما ركبوا بأُهبةِ الحَربِ، وإنما كانوا على عَزمِ المسيرِ لا غير، فبَطَل المددُ وعاد مَلِك الإنكليز إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجَمَعَهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنَزَلوا بها، ونزل المسلمونَ لِيُقيموا في قرية بالقرب من الفرنج، وأحضر الفرنجُ مِن عكا عِوَض من قُتِلَ منهم وأُسِرَ ذلك اليوم، وعِوَضَ ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونَهم ويتخَطَّفون منهم مَن قَدَروا عليه فيَقتُلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنَّه لا يظفَرُ بأحدٍ منهم إلا قَتَلَه بمن قَتَلوا بعكا، فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشدَّ قتال، فنالوا منهم نيلًا كثيرًا، ونزل الفرنجُ بها، وبات المسلمون قريبًا منهم، فلما نزلوا خرجَ من الفرنج جماعةٌ فأبعدوا عن جماعتِهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك – المقَدِّمة- فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيساريَّة إلى أرسوف، وكان المسلمونَ قد سبقوهم إليها، ولم يُمكِنْهم مسايرة الفرنج لضِيقِ الطريق، فلما وصل الفرنجُ إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضُهم فقُتِل منهم كثير، فلما رأى الفرنجُ ذلك اجتمعوا، وحملت الخيَّالة على المسلمين حملةَ رجل واحد، فوَلَّوا منهزمين، فلما انهزم المسلمون عنهم قُتِلَ خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاحُ الدين، وكان بالقُربِ من المسلمين روضةٌ كثيرة الشجر، فدخلوها وظَنَّها الفرنج مكيدةً، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضِّيقِ، ثم سار الفرنجُ إلى يافا فنزلوها، ولم يكُنْ بها أحد من المسلمين، فملكوها، وسار صلاحُ الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقالِه بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريبِ عسقلان، فأمر بتخريبِها، فخُرِّبَت تاسع عشر شعبان، وأُلقِيَت حجارتها في البحر، وهَلَك فيها من الأموال والذخائر التي للسُّلطانِ والرعية ما لا يُمكِنُ حَصرُه، وعفى أثَرَها حتى لا يبقى للفرنجِ في قَصدِها مَطمَعٌ، ولَمَّا سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانَهم ولم يسيروا إليها، فلما خَرِبَت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهرِ رمضان، ومضى إلى الرملة فخَرَّبَ حِصنَها وخَرَّب كنيسة لد، ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريبِ الرملة، فاعتَبَرَه وما فيه من سلاحٍ وذخائر، وقرَّرَ قواعِدَه وأسبابه، وما يُحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان، وفي هذه الأيام خرج ملك الإنكليز من يافا، ومعه نفرٌ من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفرٌ من المسلمين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكاد ملك الإنكليز يؤسَرُ، ففداه بعضُ أصحابه بنَفسِه، فتخلَّصَ المَلِكُ وأُسِرَ ذلك الرجُل.
هو المَلِك قزل أرسلان، واسمُه عثمان بن الأتابك إيلدكز، صاحب أران، وأذربيجان، وهمذان، وأصفهان، والري، وما بينها، وقد مَلَك البلاد بعد وفاة أخيه البهلوان، وأطاعه صاحبُ فارس وخوزستان، واستولى على السلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل، فاعتقله في بعض القلاع، ودانت له البلادُ، وفي آخِرِ أمره سار إلى أصفهان، والفِتَن بها متَّصِلة من وفاة البهلوان إلى هذا الوقت، فتعَصَّب على الشافعية، وأخذ جماعةً مِن أعيانهم فصَلَبَهم، وعاد إلى همذان، وخطب لنَفسِه بالسلطنة، ثم إنه دخل ليلةَ قُتِلَ إلى منزله لينام، وتفَرَّق أصحابه، فدخَلَ إليه مَن قَتَلَه على فراشه، ولم يُعرَفْ قاتله، فأخَذَ أصحابُه صاحِبَ بابِه ظنًّا وتخمينًا. كانت دولته سبع سنين، وكان فيه كرم وعدل وحلم في الجملة.
لما رأى صلاح الدين أنَّ الفِرنجَ قد لزموا يافا ولم يفارِقوها، وشَرَعوا في عمارتها. رحَلَ مِن مَنزله إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيَّمَ به، فراسله ملكُ الإنكليز يطلُبُ المهادنة، فكانت الرسُلُ تتردَّدُ إلى المَلِك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقَرَّت القاعدة أنَّ مَلِكَ الإنكليز يزوجُ أختَه من العادل، ويكون القُدسُ وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحِلِ للعادل، وتكون عكَّا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملكِ الإنكليز، مضافًا إلى مملكةٍ كانت لها داخِلَ البحر قد وَرِثَتها مِن زَوجِها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاقُ عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبَرُ اجتمع القسيِّسون والأساقفة والرهبان إلى أخت ملك الإنكليز، وأنكروا عليها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانِعُ منه غير ذلك، ولم يتِمَّ بينهما صلح، وكان ملك الإنكليز يفعَلُ ذلك خديعةً ومكرًا، ثم إن الفرنج أظهروا العزمَ على قصد بيت المقدس، فسار صلاحُ الدين إلى الرملة، جريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- وترك الأثقالَ بالنطرون، وقَرُب من الفرنج، وبقي عشرين يومًا ينتَظِرُهم، فلم يبرحوا، فكان بين الطائفتين، مُدَّة المُقام، عدة وقعات، انتصر فيها كلها المسلمون على الفرنج، وعاد صلاح الدين إلى النطرون، ورحل الفرنجُ من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، على عَزمِ قَصدِ بيت المقدس، فقَرُب بَعضُهم من بعضٍ، فعَظُم الخَطبُ واشتَدَّ الحذر، فكان كلَّ ساعة يقع الصوتُ في العسكرين بالنَّفيرِ، فلقوا من ذلك شدَّةً شديدة، وأقبل الشتاءُ وحالت الأوحال والأمطارُ بينهما.
هو الملك المظَفَّر: تقي الدين عمر بن الأمير نور الدولة شاهنشاه بن أيوب بن شاذي صاحِب حماة، كان بطلًا شجاعًا فاتِكًا مِقدامًا جوادًا مُمَدَّحًا، له مواقِفُ مشهودة مع عَمِّه السلطان صلاح الدين، وكان عزيزًا على عمه صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماة ومدنًا كثيرة حولها في بلاد الجزيرة، وكان مع عَمِّه صلاح الدين على عكا، ثم استأذنه أن يذهب ليُشرِفَ على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات، فلما صار إليها اشتغَلَ بها وامتَدَّت عينه إلى أخذِ غَيرِها من أيدي الملوك المجاورين له، فقاتَلَهم فاتَّفَق موتُه وهو كذلك، والسلطان عَمُّه غضبان عليه؛ بسبب اشتغاله بذلك عنه، وحُمِلَت جنازته حتى دُفِنَت بحماة، وله مدرسة هناك هائلة كبيرة، وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة، وعليها أوقاف كثيرة، وقد أقام بالمُلكِ بعده ولده المنصور ناصر الدين محمد، فأقره صلاحُ الدين على ذلك بعد جَهدٍ جهيدٍ، ووعدٍ ووعيدٍ، ولولا السلطانُ العادل أخو صلاح الدين تشفَّعَ فيه لَمَّا أقَرَّه في مكان أبيه، توفِّيَ يوم الجمعة تاسع عشر رمضان.
سار صلاحُ الدين إلى بيت المقدس فيمن بَقِيَ معه من العساكر، فنزلوا جميعًا داخِلَ البلد، فاستراحوا مما كانوا فيه، ونَزَل هو بدار الأقسا مجاوِر بيعة قمامة، وقَدِمَ إليه عسكر من مصر مُقَدَّمُهم الأمير أبو الهيجاء السمين، فقَوِيَت نفوس المسلمين بالقُدس، وسار الفرنجُ من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة، على عزمِ قَصدِ القدس، فكانت بينهم وبين يزك- مقدِّمة جيش- المسلمينَ وقَعات، أَسَرَ المسلمون في وقعةٍ منها نيفًا وخمسينَ فارسًا من مشهوري الفرنجِ وشُجعانِهم، وكان صلاحُ الدين لَمَّا دخل القُدسَ أمَرَ بعمارة سوره، وتجديدِ ما رث منه، فأحكم الموضِعَ الذي مَلَك البلد منه، وأتقَنَه، وأمر بحفر خندقٍ خارِجَ الفَصيلِ، وسلَّمَ كُلَّ برج إلى أمير يتولى عمَلَه.
في العشرين من ذي الحجة عاد الفرنج إلى الرملة، وكان سبَبُ عودهم أنَّهم كانوا ينقلون ما يريدونَه مِن الساحل، فلما أبعدوا عنه كان المسلمون يخرجونَ على مَن يجلِبُ لهم الميرةَ فيَقطَعونَ الطريق ويَغنَمونَ ما معهم، ثم إنَّ ملك الإنكليز قال لمن معه من الفرنج الشاميين: صَوِّروا لي مدينةَ القدس؛ فإني ما رأيتُها، فصوروها له، فرأى الواديَ يُحيطُ بها ما عدا موضِعًا يسيرًا من جهة الشمال، فسأل عن الوادي وعن عُمقِه، فأُخبِرَ أنه عميق، وَعرَ المسلك، فقال: هذه مدينةٌ لا يُمكِنُ حَصرُها ما دام صلاح الدين حيًّا وكَلِمةُ المسلمين مجتمعةً، فأشاروا عليه بالعَودِ إلى الرملة، فعادوا خائبينَ خاسرين.
في سنة ثلاث وثمانين غزا شهاب الدين الغوري بلد الهند، وانهزم أمامَ أحد ملوكها وبَقِيَ إلى الآن في نفسه غَضَبٌ عظيمٌ على الجند الغورية الذين انهزموا، فألزَمَهم من الهوان، حتى هذه السَّنة فخرج من غزنة وقد جمع عساكِرَه وسار منهم يطلُبُ عَدُوَّه الهندي الذي هزمه تلك النوبةَ، قال ابن الأثير: " لما وصل الغوري إلى برشاوور تقَدَّمَ إليه شيخ من الغورية كان يدُلُّ عليه، فقال له: قد قَرُبنا من العدو، وما يعلَمُ أحد أين نمضي، ولا من نَقصِدُ، ولا نَرُدُّ على الأمراء سلامًا، وهذا لا يجوز فِعلُه. فقال له السلطان: اعلَمْ أنَّني منذ هزمني هذا الكافِرُ، ما نمت مع زوجتي، ولا غيَّرْتُ ثياب البياضِ عني، وأنا سائِرٌ إلى عدوي، ومعتَمِدٌ على الله تعالى لا على الغوريَّة، ولا على غيرهم، فإن نَصَرَني الله سبحانه ونَصَرَ دينَه، فمِن فَضلِه وكَرَمِه، وإن انهَزَمْنا فلا تطلبوني فيمن انهَزَم، ولو هَلكْتُ تحت حوافِرِ الخيل, فقال له الشيخ: سوف ترى بني عَمِّك من الغورية ما يفعلونَ، فينبغي أن تكَلِّمَهم وتَرُدَّ سلامهم. ففعل ذلك وبَقِيَ أمراء الغورية يتضَرَّعون بين يديه، ويقولون سوف ترى ما نفعَلُ" ثم سار إلى أن وصل إلى موضع المصافِّ الأول، وجازه مسيرة أربعة أيام، وأخذ عِدَّةَ مواضِعَ مِن بلاد العدو، فلما سمع الهندي تجهَّزَ وجمع عساكره، وسار يطلب المسلمين، فلما بقِيَ بين الطائفتين مرحلةٌ عاد شهاب الدين وراءه والكافِرُ في أعقابه أربع منازل، وتمَّ على حاله عائدًا إلى أن بَقِيَ بينه وبين بلاد الإسلام ثلاثة أيام، والكافِرُ في أثره يتبعه، حتى لحقه قريبًا من مرندة فجَرَّدَ شهاب الدين من عسكَرِه سبعين ألفًا، وقال: أريدُ هذه الليلة تدورونَ حتى تكونوا وراء عسكَرِ العدو، وعند صلاة الصبحِ تأتون أنتم من تلك الناحية، وأنا من هذه الناحية، ففعلوا ذلك، وطلع الفجرُ، ومن عادة الهنود أنَّهم لا يبرحون مِن مضجعهم إلى أن تطلُعَ الشَّمسُ، فلما أصبحوا حمل عليهم عسكَرُ المسلمين من كل جانب، والقَتلُ قد كَثُرَ في الهنود، والنصرُ قد ظهر للمسلمين، فلما رأى ملك الهند ذلك أحضر فرسًا له سابقًا، وركب ليهرُبَ، فقال له أعيان أصحابه: إنَّك حلفت لنا أنَّك لا تُخَلِّينا وتهرُب، فنزل عن الفرس وركِبَ الفيل ووقَفَ مَوضِعَه، والقتالُ شديد، والقَتلُ قد كثر في أصحابه، فانتهى المسلمونَ إليه وأخذوه أسيرًا، وحينئذ عَظُمَ القتلُ والأسر في الهنود، ولم ينجُ منهم إلا القليلُ، وغَنِمَ المُسلِمونَ مِن الهنود أموالًا كثيرة وأمتعة عظيمة، وفي جملة ذلك أربعةَ عشر فيلًا، فسار شهاب الدين وهو معه إلى الحِصنِ الذي له يعول عليه، وهو أجمير، فأخذه، وأخذ جميع البلاد التي تقاربه، وأقطع جميع البلاد لمملوكه قطب الدين أيبك، وعاد إلى غزنة، وقتل ملك الهند.
اجتمع بنو عامر في خلقٍ كثير، وأميرُهم اسمُه عميرة، وقَصَدوا البصرةَ، وكان الأميرُ بها محمد بن إسماعيل، ينوبُ عن مُقطِعِها الأمير طغرل، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، فوصلوا إليها يومَ السبت سادس صفر، فخرج إليهم الأميرُ محمد فيمن معه من الجند، فوقعت الحربُ بينهم بدرب الميدان، بجانب الخريبة، ودام القتالُ إلى آخر النهار، فلما جاء الليلُ ثَلَم العربُ في السور عدَّةَ ثُلَم، ودخلوا البلد من الغد، فقاتلهم أهلُ البلد، فقُتِلَ بينهم قتلى كثيرة من الفريقين، ونَهَبَت العرب الخانات بالشاطئ وبعضَ محالِّ البصرة، وعبَرَ أهلُها إلى شاطئ الملاحين، وفارق العربُ البلد في يومهم وعاد أهله إليه، وكان سببُ سرعة العرب في مفارقة البلد أنَّهم بلغهم أن خفاجة والمنتفق قد قاربوهم، فساروا إليهم وقاتلوهم أشدَّ قتال، فظَفِرَت عامر وغَنِمَت أموالَ خفاجة والمنتفق، وعادوا إلى البصرةِ بكرة الاثنين، وكان الأميرُ قد جمع من أهل البصرةِ والسواد جمعًا كثيرًا، فلما عادت عامر قاتَلَهم أهل البصرة ومن اجتمع معهم، فلم يقوموا للعربِ وانهزموا، ودخل العربُ البصرة ونهبوها، وفارق البصرةَ أهلُها، ونُهِبَت أموالهم، وجرت أمور عظيمة، ونُهِبَت القسامل- وهي محلة بالبصرة - وغيرها في يومين، وفارقها العرب وعاد أهلُها إليها.
في ثالث عشر ربيع الآخر قُتِلَ المركيس الفرنجي، صاحِبُ صور، وهو أكبَرُ شياطينِ الفرنج، وقيل في سبب قتله: إن صلاح الدين راسل مُقَدِّمَ الإسماعيلية، وهو سنان، وبذَلَ له أن يُرسِلَ مَن يقتُلُ مَلِك الإنكليز، وإن قَتَل المركيسَ فله عشرةُ آلاف دينار، فلم يمكِنْهم قتلُ ملك الإنكليز، ولم يَرَه سنان مصلحةً لهم؛ لئلَّا يخلو وجه صلاح الدين من الفرنجِ ويتفَرَّغ لهم، وطَمِعَ في أخذ المال، فعَدَل إلى قتل المركيس، فأرسل رجلينِ في زي الرُّهبان، واتَّصَلا بصاحب صيدا وابن بارزان، صاحِبِ الرملة، وكانا مع المركيس بصور، فأقاما معهما ستة أشهُرٍ يُظهِرانِ العبادة، فأنِسَ بهما المركيس، ووَثِقَ بهما، ثمَّ عَمِلَ الأسقف بصور دعوةً للمركيس فحَضَرَها، وأكل طعامَه، وشَرِبَ مُدامَه، وخرج من عنده، فوَثَب عليه الباطنيَّان, فجَرَحاه جراحًا وثيقةً، وهرب أحدُهما، ودخل كنيسةً يختفي فيها، فاتَّفَق أن المركيس حمل إليها ليشدَّ جراحه، فوثب عليه ذلك الباطنيُّ فقتله، وقُتِلَ الباطنيَّان بعده، وقيل: بل قتله ملك الإنكليز وضع له هذان الرجلانِ فقتلاه لينفرد بمُلْك الساحل الشامي، فلما قُتِلَ المركيس وَلِيَ بعده مدينة صور كند- قائد- من الفرنج، من داخل البحر، يقال له الكند هري، وتزوج بالملكة في ليلته، ودخل بها وهي حامل، وليس الحَملُ عندهم ممَّا يمنع النكاح، وهذا الكند هري هو ابنُ أخت ملك الإنكليز من أمِّه، ومَلَكَ الكند هري هذا بلاد الفرنج بالساحل بعد عودة ريتشارد ملك الإنكليز.
في تاسع جمادى الأولى من هذه السنة استولى الفرنجُ على حصن الداروم، فخَرَّبوه، ثمَّ ساروا إلى بيت المقدس وصلاحُ الدين فيه، فبَلَغوا بيت نوبة، وكان سَبَبُ طمعهم أن صلاح الدين فَرَّقَ عساكره الشرقية وغيرَها؛ لأجل الشتاء ليستريحوا، ولِيَحضُرَ البَدَل عِوَضَهم، وبَقِيَ من قواته الخاصة بعض العساكر المصريَّة، فظنوا أنهم ينالون غَرَضًا، فلما سمع صلاح الدين بقُربِهم منه فَرَّقَ أبراجَ البلد على الأمراء، وسار الفِرنجُ مِن بيت نوبة إلى قلونية، آخِرَ الشهر، وهي على فرسخين من القُدس، فصَبَّ المسلمون عليهم البلاءَ، وتابعوا إرسالَ السرايا فبُلِيَ الفرنج منهم بما لا قِبَلَ لهم به، وعَلِموا أنهم إذا نازلوا القدسَ كان الشرُّ إليهم أسرعَ والتسَلُّطُ عليهم أمكَنَ، فرجعوا القهقرى، وركب المسلمونَ أكتافَهم بالرِّماح والسهام، ولما أبعد الفرنجُ عن يافا سيَّرَ صلاح الدين سرية من عسكَرِه إليها، فقاربوها، وكَمَنوا عندها، فاجتاز بهم جماعةٌ من فرسان الفرنج مع قافلة، فخَرَجوا عليهم، فقتلوا منهم وأسَروا وغَنِموا، وكان ذلك آخِرَ جمادى الأولى.
في تاسع جمادى الآخرة بلغ الفرنجَ الخبَرُ بوصول عسكر من مصر، ومعهم قفل- حِمل كبير- فأسرى الفرنجُ إليهم، فواقعوهم بنواحي الخليل، فانهزم الجندُ، ولم يُقتَلْ منهم رجل من المشهورينَ، إنما قُتِلَ مِن الغلمان والأصحاب، وغَنِمَ الفرنج خيامَهم وآلاتِهم، وأما القفل فإنه أُخِذَ بَعضُه، وصَعِدَ من نجا جبل الخليل، فلم يُقدِم الفرنج على اتِّباعهم، وتمَزَّقَ من نجا من القفل، وتقَطَّعوا، ولَقُوا شدة إلى أن اجتَمَعوا.
لما رحل الفرنج نحو عكا كان قد اجتمع عند صلاح الدين عسكر حلب وغيره، فسار إلى مدينة يافا، وكانت بيد الفرنج، فنازلها وقاتَلَ مَن بها منهم، وملَكَها في العشرين من رجب بالسَّيفِ عَنوةً، ونَهَبها المسلمون، وغَنِموا ما فيها، وقتلوا الفرنجَ وأسَروا كثيرًا، وكان بها أكثَرُ ما أخذوه من عسكرِ مِصرَ والقفل -حِمل كبير- الذي كان معهم، وكان جماعةٌ من المماليك الصلاحيَّة قد وقفوا على أبوابِ مدينة يافا، وكلُّ مَن خرج من جند الفرنجِ ومعه شيء من الغنيمةِ أخذوه منه، فإن امتَنَع ضَرَبوه وأخذوا ما معه قهرًا، ثم زَحَفَت العساكر إلى قلعة يافا، فقاتلوا عليها آخِرَ النهار، وكادوا يأخُذونَها، فطلب مَن بالقلعة الأمان على أنفُسِهم، وخرج البطرك الكبيرُ الذي لهم، ومعه عِدَّةٌ من أكابر الفرنج، في ذلك، وترَدَّدوا، وكان قَصدُهم منع المسلمين عن القتال، فأدركهم الليلُ، وواعدوا المسلمينَ أن ينزلوا بكرةَ غَدٍ ويسَلِّموا القلعة، فلما أصبح الناسُ طالبهم صلاح الدين بالنزول عن الحِصنِ، فامتنعوا، وإذا قد وصلهم نجدةٌ مِن عكَّا، وأدركهم ملك الإنكليز، فأخرج مَن بيافا من المسلمين، وأتاه المدَدُ مِن عكا وبرز إلى ظاهِرِ المدينة، واعترض المسلمينَ وَحدَه، وحمل عليهم، فلم يتقَدَّم إليه أحد، وعاد عن الفرنجِ. ونزل في خيامه، وأقام حتى اجتَمَعَت العساكر، وجاء إليه ابنُه الأفضل وأخوه العادل وعساكرُ الشرق، فرحل بهم إلى الرملة لينظُرَ ما يكون منه ومن الفرنج، فلزم الفرنجُ يافا ولم يبرَحوا منها.
هو السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق السلجوقي التركماني، ملك الروم. فيه عَدلٌ في الجملة، وسداد وسياسة، وهو والدُ زوجة الخليفة الناصر لدين الله الست سلجوقي خاتون المعروفة بالخلاطية. كان له من البلاد قونية وأعمالها، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغير ذلك من البلاد، وقد امتَدَّت أيام ملكه نحو تسع وعشرين سنة، وقيل: بضعًا وثلاثين سنة, وغزواته كثيرة في بلاد الروم، ولما كَبِرَ فَرَّق بلاده على أولاده، فاستَضعَفوه، ولم يلتَفِتوا إليه، وحَجَر عليه ولَدُه قطب الدين، وكان قلج أرسلان قد استناب في تدبير ملكه رجلًا يعرف باختيار الدين حسن، فلما غَلَب قُطبُ الدين على الأمرِ قَتَلَ حَسنًا، ثم أخذ والِدَه وسار به إلى قيسارية ليأخُذَها من أخيه الذي سَلَّمَها إليه أبوه، فحصرها مدَّة، فوجد والِدُه قلج أرسلان فرصةً، فهرب ودخل قيسارية وحدَه، فلما عَلِمَ قطب الدين ذلك عاد إلى قونية وأقصرا فمَلَكَهما، ولم يزل قلج أرسلان يتحوَّلْ من ولد إلى ولد، وكل منهم يتبَرَّم منه، حتى مضى إلى ولده غياث الدين كيخسرو، صاحب مدينة برغلوا، فلما رآه فَرِحَ به، وخَدَمَه، وجمع العساكِرَ، وسار هو معه إلى قونية، فمَلَكَها، وسار إلى أقصرا ومعه والِدُه قلج أرسلان، فحصرها، فمَرِضَ أبوه، فعاد به إلى قونية, وتوفِّيَ ودفن بها في منتصف شعبان، وبَقِيَ ولده غياث الدين في قونية مالكًا لها، حتى أخَذَها منه أخوه ركن الدين سليمان.