توجَّه أبو الحَسَنِ علي بن عثمان المريني من فاس على رأسِ جَيشٍ واستولى على تلمسان التي كانت تحتَ حكم آل زيان، والقضاء على أبي تاشفين عبد الرحمن بن موسى خامس ملوك آل زيان من بني عبد الواد، وبذلك انتهى حكمُ بني زيان وامتَدَّ سلطان المرينيين إلى المغرِبِ الأوسَطِ.
بعد مَوتِ أبي سعيد تولى أربا كاؤن معز الدين لكنَّه لم يدُمْ سوى ثلاثة أشهر، حيث كان حَسَنُ بن حسين بن أقبغا بن هولاكو معتقَلًا في بلاد آسيا الصغرى، فأُطلِقَ سَراحُه بعد موت أبي سعيد فانطلق إلى بغداد فخلع أربا كاؤن هذا وجرت بينهم حروبٌ كثيرة كان نهايتها خلع أربا كاؤن وتنصيب محمد بن عنبرجي الإيلخاني، وتمكَّن حسن بن حسين من بغداد وتبريز وأسَّسَ الدولة الجلائرية، ثمَّ إنَّ حسن بن دمرداش سار من آسيا الصغرى فغلب على تبريز وقَتَل محمد بن عنبرجي، فسار حَسَنُ بن حسين الجلائري إلى بغداد واستقَرَّ بها، واستقر ابن دمرداش في تبريز ونَصب صاتبيك أختَ أبي سعيد سلطانةً على تبريز وزَوَّجَها أحد أسباط هولاكو واسمُه سليمان، ثم إنَّ أولاد جوبان الذي كان نائبًا لأبي سعيد استولَوا على أذربيجان وتبريز.
كان سلاطينُ العُثمانيِّينَ حَريصينَ على أن يَبنُوا في كُلِّ بَلَدٍ يَفتَحونَه مَسجِدًا، ويُخَصِّصونَ له الأئمَّة والفقهاء، وينشرون الإسلامَ بين أهل هذا البلد، وكان أوَّلُ مسجد أمر ببنائه سنة 687 في عهد أرطغرل والد عثمان، وكان ذلك قبل إعلانِ الدولة رسميًّا. وفى عهد أورخان بن عثمان تم تشييدُ مسجد بورصة، وألحق به بناءًا كبيرًا ليكونَ مَدرسةً للعُلومِ الشَّرعية. وفي سنة 737 سَقَطت مدينةُ أزميت في يد العثمانيين, فبنوا فيها مسجدًا كبيرًا، وبجواره مدرسةٌ ضخمة لتدريس العلوم وعُهد بإدارتها للشيخِ داوود القصيري الذي تعلَّم في مصر، واعتَبَرَ بعض المؤرخين الغربيين هذه المدرسةَ أوَّلَ جامعةٍ عُثمانية.
أُفرِجَ عن الخليفة من سِجنه بالقلعة يوم الأربعاء من ربيع الأول، فكانت مُدَّةُ اعتقاله خمسة أشهر وسبعة أيام، ثم أُمِرَ به فأخرج إلى قوص، ومعه أولادُه وابنُ عَمِّه، وكُتِبَ لوالي قوص أن يحتَفِظَ بهم، وكان سَبَبُ ذلك أن السلطان لما نزل عن المُلكِ في سنة 708، وحصل الاجتماعُ على المظَفَّر بيبرس وقَلَّدَه المستكفي بالسلطنة، نَقَمَها عليه السلطانُ النَّاصِرُ وأسَرَّها له، ثم لما قام السلطانُ لاسترجاع مُلكِه، جَدَّد المستكفي للمظَفَّر الولاية، ونُسِبَت في السلطان أقوالٌ إليه حَمَلت السلطان على التحامُل عليه، فلما عاد السلطانُ إلى الملك في سنة 709 أعرض عن المستكفي كلَّ الإعراض، ولم يزَلْ يكَدِّرُ عليه المشارب حتى تَرَكه في برج بالقلعة في بَيتِه وحَرَمِه وخاصَّتِه، فقام الأميرُ قوصون في أمره، وتلَطَّف بالسلطان إلى أن أنزله إلى داره، ثم نُسِبَ إلى ابنه صَدَقة أنه تعَلَّق ببعض خاصة السلطان، وأن ذلك الغلام يتردَّدُ إليه، فنُفِيَ الغلام وبلغ السلطان أنَّه هو يكثر من اللهو في داره التي عَمَرها على النيل بخَطِّ جزيرة الفيل، وأن أحد الجمدارية- حامل ملابس السلطان- يقال له أبو شامة جميل الوجهِ ينقطع عنده ويتأخَّرُ عن الخدمة، فقُبِضَ على الجمدار وضُرب، ونفي إلى صفد، وضُرِبَ رجل من مؤذني القلعة- اتُّهِمَ أنه كان السفير بين الجمدار وبين الخليفة- حتى مات، واعتُقِلَ الخليفة، ثمَّ لَمَّا أُفرِجَ عنه اتُّهِمَ أنه كتب على قصة رُفِعَت إليه "يحمل مع غريمه إلى الشرع"، فأحضره السلطان إلى القلعة ليجتَمِعَ به بحضرة القضاء، فخيله قاضي القضاة جلال الدين القزويني من حضوره أن يَفرُطَ منه كلامٌ في غَضَبِه يَصعُبُ تَدارُكُه، فأعجَبَ السلطان ذلك، وأمر به أن يخرُجَ إلى قوص، فسار بصحبة الأمير سيف الدين قطلوا تمرقلي في يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة، بجميع عيالِه وهم مائة شخص، وكان مُرَتَّبُه في كل شهر خمسة آلاف درهم، فعُمِلَ له بقوص ثلاثة آلاف درهم، ثم استقَرَّ ألف درهم، فاحتاج حتى باع نساؤُه ثيابَهنَّ.
هو الشَّيخُ الزَّاهِدُ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الحاج الفاسي المغربي نزيلُ مِصرَ العَبدري الفقيه المالكي عُرِفَ بابنِ الحاجِّ، وأخذ عن جماعةٍ منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن سعيد بن أبي جمرة، قَدِمَ القاهرة وسَمِعَ بها الحديث وحَدَّث بها وهو أحدُ المشايخ المشهورين بالزُّهدِ والخير والصلاح، صَحِبَ جماعة من الصلحاء أربابِ القلوب وتخَلَّق بأخلاقهم وأخذ عنهم الطريقةَ, وصَنَّف كتابه المشهور "المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انتحلت وبيان شناعتها وقبحها" قال عنه ابن حجر: " جمع ابن الحاجِّ كتابًا سَمَّاه المدخَل كثير الفوائد كشف فيه من معايبَ وبِدَع يفعلها الناسُ ويتساهلون فيها، وأكثَرُها مما ينكَرُ وبَعضُها مما يُحتَمَل". #قال الألباني عن هذا الكتاب ما نصه: "قولُ بَعضِهم: إنه ينبغي ألَّا يذكُرَ حوائِجَه ومغفرةَ ذُنوبِه بلِسانِه عند زيارةِ قَبرِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم لأنَّه أعلَمُ منه بحوائِجِه ومصالحه! ومما يؤسَفُ له أن هذه البدعة واللتين بعدها قد نقلتها من «كتاب المدخل» لابن الحاج (1/ 259، 264) حيث أوردها مسلِّمًا بها كأنَّها من الأمور المنصوصِ عليها في الشِّريعةِ، وله من هذا النحو أمثلة كثيرة سبق بعضُها دون التنبيه على أنها منه، وسنذكر قسمًا كبيرًا منها في الكتابِ الخاصِّ بالبدع إن شاء الله تعالى، وقد تعجَّبَ من ذلك لِما عُرِف أن كتابه هذا مَصدرٌ عظيم في التنصيص على مفردات البدع، وهذا الفصل الذي خَتَمتُ به الكتاب (أحكام الجنائز) شاهِدٌ عدل على ذلك، ولكِنَّك إذا علمت أنَّه كان في عِلمِه مُقَلِّدًا لِغَيره، ومتأثرًا إلى حد كبير بمذاهِبِ الصوفية وخُزَعبلاتها، يزول عنك العَجَبُ وتزداد يقينًا على صِحَّةِ قول مالك: "ما مِنَّا من أحد إلا رَدَّ ورُدَّ عليه الا صاحِبُ هذا القبر" صلَّى الله عليه وآله وسلم, و قوله- ابن الحاج-: لا فَرقَ بين موتِه صَلَّى الله عليه وآله وسلم وحياتِه في مشاهدتِه لأُمَّتِه ومعرفتِه بأحوالِهم ونيَّاتِهم وتحَسُّراتهم وخواطِرِهم! قال شيخ الإسلام في "الرد على البكري" (ص 31): "ومنهم من يظنُّ أن الرَّسولَ أو الشيخَ يَعلَمُ ذنوبه وحوائِجَه وإن لم يذكُرْها، وأنه يَقدِرُ على غفرانِها وقضاء حوائجه ويَقدِرُ على ما يقدِرُ الله، ويَعلَمُ ما يعلم الله، وهؤلاء قد رأيتُهم وسَمِعتُ هذا منهم وعنهم شيوخٌ يقتدى بهم، ومُفتون وقضاة ومدرسون! والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله" توفي ابن الحاج عن بضع وثمانين، وكانت وفاته في العشرين من جمادى الأولى، ودُفِنَ بالقرافة وقد عَلَت سِنُّه وكُفَّ بَصَرُه، وكانت جنازتُه عظيمةً.
في عاشر جمادى الأولى استهَلَّ الغيث بمكَّةَ مِن أول الليل، فلما انتصف الليلُ جاء سيلٌ عظيمٌ هائِلٌ لم يُرَ مِثلُه من دهر طويل، فخَرَّب دورا كثيرةً نَحوًا من ثلاثين أو أكثر، وغَرِقَ جماعة وكَسَرَ أبواب المسجد، ودخل الكعبةَ وارتفع فيها نحوًا من ذراعٍ أو أكثر.
توجَّهت تجريدةٌ- جيش لا رجَّالةَ فيه- في خامس عشر شعبان إلى بلاد سيس، وسبَبُ ذلك وصول رسول القان موسى وعلي بادشاه بطلب النَّجدة على الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي وأولاد دمرداش ليكون علي بادشاه نائب السلطنة ببغداد، فاستشار السلطانُ نائب الشام والأمراء، واستقَرَّ الرأي على تجريد العسكر نحو سيس؛ فإن تكفور نقض الهُدنةَ بقَبضِه على عِدَّة مماليك وإرسالِهم إلى مدينة إياس، فلم يُعلَمْ خَبَرُهم وقَطَع الحَملَ المقَرَّر عليه، ويكون في ذلك إجابةُ علي بادشاه إلى ما قَصَده من نزول العسكر قريبًا من الفرات، مع معرفة الشيخ حسن بأنا لم نساعِدْ علي بادشاه عليه، وإنما بعثنا العسكرَ لغزو سيس، وعَمِلَ مُقَدَّم العسكر الأمير أرقطاي ويكون في الساقة، ويتقَدَّم الجاليش صحبة الأمير طوغاي الطبَّاخ ومعهما من الأمراء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساري وقطلوبغا الطويل، وجوكتمر بن بهادو وبيبغا تتر حارس الطير، ومن أمراء الشَّام قطلوبغا الفخري مُقَدَّم الجيش الشامي، وكتب بخروجِ عَسكَرِ دِمشقَ وحماة وحلب وحمص وطرابلس إلى ناحية جعبر، فإذا وصل عسكرُ مصر إلى حلب عادت عساكر الشامِ ثم مَضَوا جميعًا إلى سيس، فيكون في ذلك صِدقُ ما وعد به علي بادشاه، وبلوغ الغَرَض من غزو سيس فسار العسكرُ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وتوجه الأمير تنكز إلى محل ولايته.
لما سار الجيش الذي قَدِمَ من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وقَدِموا دمشق تلقَّاهم الأمير تنكز، ولم يعبأْ تنكز بالأمير أرقطاي مُقَدَّم العسكر لِما في نفسه منه، ومَضَوا إلى حلب، فقدموها في رابع عشر رمضان، وأقاموا بها يومين فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعساكرِ الشام، وقد وصل إلى جعبر ثمَّ ساروا جميعًا يومَ عيد الفطر، ومعهم الأميرُ علاء الدين ألطبغا نائب حلب، وهو مُقَدَّم على العسكر جميعًا، حتى نزلوا على الإسكندرونة أوَّلَ بلاد سيس، وقد تقَدَّمَهم الأمير مغلطاي الغزي إليها بشهرينِ حتى جهَّزَ المجانيق والزحَّافات والجسور الحديد والمراكِبَ وغير ذلك لعبور نهر جهان، فقَدِمَ عليهم البريد من دمشق بأن تكفور وعَدَ بتسليم القلاع للسلطان، فلْتُرَدَّ المجانيق وجميع آلات الحصار إلى بغراس، ولْيَقُمِ العسكر على مدينة إياس حتى يَرِدَ مرسوم السلطان بما يُعتَمَدُ في أمرهم وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس، ومعهم عسكَرُ ابن فرمان فتركوها أوحشَ مِن بطن حمار، فبعث تكفور رسُلَه في البحر إلى دمياط، فلم يأذَن السلطان لهم في القدومِ عليه، من أجل أنهم لم يعلموا نائِبَ الشام بحضورِهم، فعادوا إلى تكفور، فبعث تكفور بهديَّة إلى تنكز نائب الشام، وسأله مَنْعَ العسكر من بلاده، وأنه يسَلِّمُ القلاع التي من وراء نهر جهان جميعًا للسلطان، فكاتب تنكز السلطانَ بذلك، وبعث أوحَدَ المهمندار إلى الأمير علاء الدين ألطبغا نائِبِ حلب وهو المقَدَّم على العسكر جميعًا بمَنعِ الغارة ورَدِّ الآلات إلى بغراس، فردَّها ألطبغا وركب بالعسكَرِ إلى إياس، فقَدِمَها يوم الاثنين ثاني عشر شوال، وكانت إياس قد تحصَّنت، فبادر العسكَرُ وزحف عليها بغير أمرِه، فكان يومًا مهولًا، جُرح فيه جماعة كثيرة، واستمَرَّ الحِصارُ إلى يوم الخميس خامس عشره، وأحضر نائب حلب خمسين نجارًا وعَمِلَ زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوبِ للزحف، فاشتد القتالُ حتى وصلت الزحَّافات والرجال إلى قريب السورِ، بعدما استُشهِدَ جماعة كثيرة، فترجَّلَ الأمراء عن الخيول لأخذِ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافَوا برسالة نائِبِ الشام، فعادُوا إلى مخَيَّمِهم فبلَّغَهم أوحَدُ المهنمدار أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحالُ على أن يسلموا البلادَ والقلاع التي شرقي نهر جهان، فتسَلَّموا منهم ذلك، وهو مُلكٌ كبير، وبلادٌ كثيرة، كالمصيصة، وكويرا، والهارونية، وسرفندكار، وإياس، وباناس، وبخيمة، والنقبر، وغير ذلك. وعلى أن تُسَلَّم إياس بعد ثمانية أيام، فلما كان اليومُ الثامن أرسل تكفور مفاتيحَ القلاع، على أن يُرَدَّ ما سُبِيَ ونُهِبَ من بلاده، فنُودِيَ بِرَدِّ السَّبيِ، فأُحضِرَ كثير منه، وأخرب الجسر الذي نُصِبَ على نهر جهان، وتوجَّه الأمير مغلطاي الغزي فتسَلَّمَ قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع الأرمن، ولها سورٌ مساحته فدان وثلث وربع فدان، وارتفاعه اثنان وأربعون ذراعًا بالعَمَل، وأنفق تكفور على عمارته أربعَمائة ألف وستين ألف دينار، وتسَلَّم العسكر إياس، وهدم البرج الأطلس في ثمانية أيام، بعدما عَمِلَ فيه أربعون حَجَّارًا يومين وليلتين حتى خرج منه حجَرٌ واحد، ثمَّ نُقِبَ البرج وعُلِّقَ على الأخشاب، وأُضرِمَت فيه النار، فسَقَط جميعه، وكان برجًا عظيمًا، بلغ ضمانُه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حسابًا عن كلِّ يومٍ ألف دينار سوى خَراجِ الأراضي، وكان ببلدة إياس أربعمائة خمَّارة وستمائة بَغِيٍّ، وكان بها في ظاهرها ملَّاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتان وستة عشر بستانًا تغرس فيها أنواع الفواكه، ودور سورها فدانان وثلثا فدان، ثم رحل العسكَرُ عن إياس بعدما قاموا عليها اثنين وسبعين يومًا، فمر نائِبُ حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وقد أخربهما مغلطاي الغزي حتى عبَرَ بالعسكر إلى حلب في الرابع عشر من ذي الحجة.
هو الحافِظُ المؤَرِّخ عَلَم الدين القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الأشبيلي الشافعي، وُلِدَ بدمشق سنة 665, من أُسرةٍ عِلميَّة جاءت من المغرب، وكانت أسرتُه قد نزلت إشبيليَّةَ، ثم رَحَلت إلى الشام وبرزالة: قبيلة قليلة جدًّا، كان البرزالي محدِّثًا حافظًا فاضلًا، سَمِعَ الكثير ورحل إلى البلاد وحصَّل ودأب وسَمِعَ خلائِقَ كثيرةً تزيد عِدَّتُهم على ألفي شيخ، وحَدَّث وخرَّج وأفاد وأفتى وصَنَّف تاريخًا على السنين، رحل إلى بعلبك وحلب ومصر، تولى مشيخة دار الحديث بدمشق ومعها المدرسة النورية، قال ابن كثير: "قرأ شيئًا كثيرًا، وأسمع شيئًا كثيرًا، وكان له خَطٌّ حَسَن، وخُلُق حسن، وهو مشكورٌ عند القضاة ومشايخه أهل العلم. سمعت العلامة ابن تيمية يقول: نَقْلُ البرزالي نَقْرٌ في حَجَر, وكان أصحابُه من كل الطوائف يحبُّونه ويكرمونه، وكان له أولادٌ ماتوا قبله، وكَتَبَت ابنته فاطمة البخاريَّ في ثلاثة عشر مجلَّدًا فقابله لها، وكان يقرأُ فيه على الحافظ المِزِّي تحت القبة، حتى صارت نسختُها أصلًا مُعتَمَدًا يكتب منها الناس، وكان شيخَ حديث بالنورية، وفيها وَقَف كُتُبَه بدار الحديث السنية، وبدار الحديث القوصية وفي الجامع وغيره، وعلى كراسي الحديث، وكان متواضِعًا مُحَبَّبًا إلى الناس، متودِّدًا إليهم، له مُصَنَّف المعجم الكبير في الحديث. وكتاب "المقتفى على كتاب الروضتين"، توفي بخليص وهو مُحرِم في رابع ذي الحجة عن أربع وسبعين سنة, فغُسِّلَ وكُفِّنَ ولم يُستَرْ رأسُه، وحمله الناسُ على نعشِه وهم يبكون حولَه، وكان يومًا مشهودًا.
قَدِمَ رَسولُ الشيخ حسن بن الأمير حسين بن آقبغا بن أيدكين سبط القان أرغون أبغا بن هولاكو بن طولي بن جنكيزخان متولي العراق، بكتابه يتَضَمَّنُ طَلَبَ عسكر يتسَلَّمُ بغداد والمَوصِل وعراق العجم ليقامَ بها الدعوةُ للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وسأل أن يَبعَثَ السلطان إلى طغاي بن سونتاي في الصلحِ بينه وبين الشيخ حسن، فأجيب إلى ذلك، ووُعِدَ بتجهيز العسكر، ورَكِبَ أمير أحمد قريب السلطان إلى طغاي ومعه هدية لينظم الصلحَ بينه وبين الشيخِ حسن.
أنشأها الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد، مقدَّم المماليك في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون. وكان موضِعُ هذه المدرسة دارًا للأمير الكبير عز الدين أيدمر الحلي. وعندما تمَّ بناءُ المدرسة قرَّر فيها الأميرُ أقبغا درسًا للشافعية، ودرسًا للحنفية، ورتَّب لها ما يلزمُها من المستخدَمين. وظلَّت هذه المدرسة عامرةً إلى سنة 845 هـ / 1442م, ويشغلُها الآن جزءٌ من مكتبةِ الجامع الأزهر.
والى ألفونسو الحادي عشر مَلِكُ قشتالة غزواتِه على مملكةِ غرناطة؛ مما اضطر أبا الحَجَّاج يوسف ملك غرناطة أن يستنجِدَ بملك بني مرين أبي الحَسَنِ علي بن عثمان، فأرسل إليه الأخيرُ جَيشًا بقيادة ابنه أبي مالك، فواجه هذا الجيشُ جيش ثلاث دول هي قشتالة وأراغون والبرتغال، فكانت نهايةُ المعركة موتَ أبي مالك وانهزام الجيش المُسلِم.
هو شَرَفُ الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو القبطي ناظِرُ الخاص للسلطان، كان أبوه يكتُبُ عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرةِ ديوان الأمير أركتمر الجمدار، وعندما جمَعَ السلطان الناصر كتَّاب الأمراء, فرآه وهو واقِفٌ وراء الجميعِ وهو شابٌّ طويل نصراني حلوُ الوجه فاستدعاه وقال: أيش اسمك؟ قال: النشو، فقال: أنا أجعلك نشوي، ثمَّ إنه رتَّبَه مستوفيًا في الجيزية، وأقبلت سعادته، فأرضاه فيما يندبه إليه وملأ عينيه, ثم نقله إلى استيفاء الدولة فباشر ذلك مدة، ثم نقل إلى نظر الخاص مع كتابة ابن السلطان، وحَجَّ مع السلطان في تلك السنة وهي سنة 732 ولما كان في الاستيفاء وهو نصراني, وكانت أخلاقُه حسنة وفيه بِشرٌ وطلاقة وجه وتسَرُّع إلى قضاء حوائج الناس، وكان الناس يحبونه، فلما تولى الخاص وكثُرَ الطلب عليه من السلطان, و أُكرِهَ حتى أظهَرَ الإسلام, فبلغ ما لم يبلُغْه أحَدٌ من الأقباط في دولة الترك- المماليك- وتقَدَّمَ عند السلطان على كل أحد، وخَدَمه جميع أرباب الأقلام، وزاد السلطانُ في الإنعامات والعمائر عليه, وزَوَّج بناته واحتاجَ إلى الكُلَف العظيمة المُفرِطة الخارجة عن الحَدِّ، فساءت أخلاقُه وأنكر مَن يَعرِفُه، وفُتِحَت أبواب المصادرات للكتَّاب ولِمَن معه مال, وكان محضرَ سوءٍ لم يشتَهِرْ عنه بعدها شيءٌ من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمَعْه وزير للدولة التركية، وكان مُظَفَّرًا، ما ضرب على أحدٍ إلا ونال غَرَضَه منه بالإيقاع به وتخريبِ دياره، وقُتِلَ على يديه عِدَّةٌ من الولاة والكتَّاب، واجتهد غايةَ جُهدِه في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبه ستَّة أشهر بأنواع العقوبات، من الضَّربِ بالمقارع والعَصرِ في كعابه وتسعيطِه - الاستنشاق بالأنف- بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك، مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يَمُت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو، وكان النشوُ هذا بلغ منه في أذيَّة الناس بالمُصادَرات والضرائب الشيء الكثير الكثير، مِمَّا كاد أن يخرب الديارَ كُلَّها، فشكا منه كُلُّ أحد: الفقير والغني، والأمير والحقير، فلم يسلَمْ مِن ظُلمِه وأخْذِ المال منه أحدٌ، وكل ذلك يدَّعي الفَقرَ وقِلَّة المال وأنه لا يأخُذُ لِنَفسِه شيئًا، ولما مات بعد أن اعتُقِلَ لكثرة الشكاوى والتحريضات حُصِّلَت أمواله فكانت خارجةً عن الحصر، ولو كتبت لخرجت عن الحد المعهودِ، فهي تحتاج إلى عِدَّة صفحات مِمَّا كان له من مالٍ عَينٍ وبضائِعَ وإقطاعاتٍ وحواصِلَ وحيواناتٍ وغَيرِها من الجوهر واللؤلؤ ما يفوق الحَصرَ، توفي في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، ثم إنَّه بعد موته وُجِدَ أنه ما يزال غير مختونٍ، فدُفِنَ بمقابر اليهودِ.
هو الخليفةُ المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكِمُ بأمر الله أبو العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي بن الحسن العباسي، توفِّيَ بمدينة قوص في منفاه، عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يومًا، في خامِس شعبان، وكانت خلافتُه تسعًا وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يومًا، ثم خُطِبَ للخليفة الواثق بالله إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله، وذلك أنَّ الخبَرَ قَدِمَ في يوم الجمعة ثاني عشر شعبان بموت الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمانَ بقَوصٍ بعد موتِ ابنه صدقة بقليلٍ، وأنه اشتَدَّ جزعه عليه، وأنه قد عَهِدَ لولده أحمد بشهادةِ أربعين عَدلًا وأثبَتَ قاضي قوص ذلك، فلم يُمضِ السُّلطانُ عَهدَه.
كان الخليفةُ المستكفي بالله قد أوصى بالخلافةِ مِن بعده لابنه أحمد، لكِنَّ السلطانَ النَّاصِرَ لم يُمضِ للسلطان عهده, وكان قد بايع لإبراهيمَ بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله ولَقَّبَه بالواثق بالله, وفي يوم الاثنين خامس عشر شعبان طلب الناصِرُ إبراهيمَ الواثق بالله، وأجلسه بجانِبِه وحادَثَه، ثم قام إبراهيم وخرج معه الحُجَّاب بين يديه، ثم طلع إلى السلطانِ في يوم الاثنين ثالث عشر رمضان، وقد اجتمع القضاةُ بدار العدل على العادة، فعَرَّفَهم السلطان بما أراد من إقامةِ إبراهيم في الخلافةِ وأمَرَهم بمبايعته، فأجابوا بعَدَمِ أهليَّتِه، وأنَّ المستكفيَ عَهِدَ إلى ولده أحمَدَ بشَهادةِ أربعين عدلًا وحاكِمِ قوص، ويحتاج إلى النَّظَرِ في عهده، فكتب السلطانُ بطلب أحمد وعائلةِ أبيه، وأقام الخُطَباء بديار مِصرَ والشام نحو أربعة أشهر لا يذكُرونَ في خُطَبِهم الخليفة، فلما قَدِمَ أحمد من قوص لم يُمضِ السُّلطانُ عَهْدَه، وطلب إبراهيمَ وعَرَّفَه قُبحَ سِيرتِه، فأظهَرَ التوبةَ منها والتزم بسلوكِ طَريقِ الخير، فاستدعى السلطانُ القضاةَ في يوم الاثنين وعَرَّفَهم أنه أقام إبراهيم في الخلافة، فأخذ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة يُعَرِّفُه سوءَ أهليَّتِه للخلافة، فأجاب بأنه قد تاب، والتائِبُ من الذنبِ كَمَن لا ذَنبَ له، وقد ولَّيتُه فاشهَدوا عليَّ بولايتِه، ورتَّبَ له السلطانُ ما جرت به العادة، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة وستون درهمًا وتسعة عشر أردب شعير في كل شهر، فلم يعارِضْه أحَدٌ، وخُطِبَ له في يوم الجمعة سادس ذي القعدة، ولُقِّبَ بالواثق بالله أبي اسحاق، فكانت العامَّةُ تسميه المستعطي؛ فإنَّه كان يستعطي من النَّاسِ ما يُنفِقُه، وشُهِرَ بارتكابٍ أمورٍ غَيرِ مَرضِيَّة.
اجتمَعَ جماعةٌ من رؤوس النصارى في كنيستِهم وجَمَعوا من بينهم مالًا جزيلًا فدَفَعوه إلى راهبينِ قَدِما عليهما من بلاد الروم، يُحسِنانِ صَنعةَ النِّفطِ، اسم أحدِهما ملاني، والآخر عازر، فعملا كحطًا من نفط، وتلطَّفا حتى عملاه لا يظهَرُ تأثيرُه إلا بعد أربع ساعات وأكثر من ذلك، فوُضِعا في شقوق دكاكين التجَّار بسوق الرجال في عدَّة دكاكين من آخِرِ النهار، بحيث لا يشعُرُ أحَدٌ بهما، وهما في زي المُسلِمينَ، فلما كان في أثناء الليل لم يشعُرِ النَّاسُ إلا والنَّارُ قد عَمِلَت في تلك الدكاكين حتى تعلَّقَت في درابزينات المأذنة الشرقيَّة المتَّجِهة للسوق المذكور، وأحرَقَت الدرابزينات، وجاء نائب السلطنة تنكز والأمراء أمراء الألوف، وصَعِدوا المنارة وهي تشتَعِلُ نارا، واحترسوا عن الجامِعِ فلم ينَلْه شيءٌ من الحريق ولله الحمد والمنة، وأمَّا المئذنة فإنها تفَجَّرت أحجارُها واحترقت السقَّالات التي تدُلُّ السلالم وأعيدَ بناؤها بحجارةٍ جُدُدٍ، وهي المنارة الشرقية التي جاء في الحديثِ أنَّه يَنزِلُ عليها عيسى بن مريم، والمقصودُ أنَّ النصارى بعد ليالٍ عَمَدوا إلى ناحية الجامع من المغرب إلى القيسارية بكمالِها، وبما فيها من الأقواس والعُدَد، وتطاير شَرَرُ النار إلى ما حول القيسارية- السوق الكبير- من الدُّورِ والمساكن والمدارِس، واحترق جانِبٌ من المدرسة الأمينية إلى جانب المدرسة المذكورة وما كان مقصودُهم إلَّا وصول النار إلى مَعبَد المسلمين، فحال اللهُ بينهم وبين ما يرومون، وجاء نائبُ السلطنة والأمراء وحالوا بين الحريقِ والمسجِدِ، جزاهم اللهُ خَيرًا، ولَمَّا تحقق نائِبُ السَّلطنةِ أنَّ هذا مِن فِعلِهم أمَرَ بمَسكِ رؤوس النصارى فأَمسَكَ منهم نحوًا من ستين رجلًا، فأُخِذوا بالمُصادَرات والضَّربِ والعقوبات وأنواع المَثُلاتِ، ثمَّ بعد ذلك صُلِبَ منهم أزيدُ مِن عَشرةٍ على الجمال، وطاف بهم في أرجاءِ البلاد وجَعلوا يتماوتون واحِدًا بعد واحد، ثمَّ أُحرِقوا بالنارِ حتى صاروا رمادًا لَعَنَهم اللهُ.
هو الأميرُ الكبيرُ المَهيبُ سَيفُ الدين أبو سعيد تنكز نائِبُ السلطنة بالشام، جُلِبَ إلى مصر وهو حَدَثٌ، فنشأ بها، وكان أبيض يميل إلى السمرة، رشيق القَدِّ، مليح الشَّعر، خفيف اللحية قليل الشَّيب، حَسَن الشَّكلِ، جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، فاشتراه الأمير حسام الدين لاجين، فلما قُتِلَ لاجين في سلطنته صار من خاصكية السلطان الناصر، وشهد معه وقعة وادي الخزندار ثم وقعة شقحب، سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم. تولى نيابةَ السلطان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة 712 وتمكَّن في النيابة, وسار بالعساكِرِ إلى ملطية فافتتحها وعظُمَ شأنُه وهابه الأمراءُ بدمشق ونوَّاب الشام، وأمِنَ الرعايا به ولم يكُنْ أحدٌ من الأمراء ولا من أربابِ الجاه يَقدِرُ يظلِمُ أحدًا ذِمِّيًّا أو غيره خوفًا منه؛ لبطشه وشِدَّة إيقاعه, ثمَّ تغير السلطان الناصر على تنكز, وكان سَبَبُ تغير الحال بينهما- مع أن السلطان متزوج من بنته وأراد كذلك تزويجَ ولديه من بناته- لَمَّا قَتَل تنكز جماعةً من النصارى بسَبَبِ افتعالهم الحريقَ بدمشق، عَنَّف عليه السلطان، وأن في ذلك سببًا لقتل المسلمين في القُسطنطينية، وزاد الأمرَ أنَّه أمَرَه بإحضار الأموال المتحَصَّلة من جرَّاء هذه الحادثة وأن يجهِّزَ بناتِه، فاعتذر تنكز بانشغالِه بعمارةِ ما أكَلَه الحريقُ وأنَّه أنفق تلك الأموالَ في ذلك، وزاد الأمرَ كذلك سعايةُ بعض الحاسدين عليه لدى السلطانِ حتى أمر السلطان بإحضارِه إلى مصر، فخرج جيشٌ من مصر لإحضاره من دمشقَ، وكان تنكز قد عرف بالأمرِ، فخرج وأخرج أموالَه وأهله، فوصلَ إليه الأمراء من القاهرةِ وعَرَّفوه مرسومَ السلطان وأخَذوه وأركبوه إكديشًا- حصانًا غير أصيل يُستخدَم في حمل الآلات والعدَّة- وساروا به إلى نائب صفد، وأمر طشتمر بتنكز فأُنزِلَ عن فرسه على ثوب سرج، وقيده قرمجي مملوكُه، وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجَّه به إلى الكسوة، فحدث له إسهالٌ ورِعدةٌ خيفَ عليه منه الموتُ، وأقام بها يومًا وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة, وفي يومِ الثلاثاء سابِعَ المحرم وصل الأمير سيف الدين تنكز نائِبُ الشام وهو متضَعِّفٌ، بصحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأُنزِلَ من القلعة بمكانٍ ضَيقٍ حَرَجٍ، وقَصَد السلطان ضَرْبَه بالمقارعِ، فقام الأميرُ قوصون في الشفاعة له حتى أجيبَ إلى ذلك، وبعث إليه السلطان يُهَدِّدُه حتى يعترف بما له من المالِ، ويَذكُر من كان موافِقًا على العصيان من الأمراء، فأجاب تنكز بأنَّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعةً عنده لأيتامِ بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرجَ عن الطاعة، فأمر السلطانُ في الليلِ فأُخرِجَ مع ابن صابر المقَدَّم وأمير جندار، وحُمِلَ في حراقة –سفينة- بالنيل إلى الإسكندرية، فقَتَلَه بها إبراهيم بن صابر المقَدَّم في يوم الثلاثاء خامس عشر ودفنوه بالإسكندرية، وقد جاوز الستينَ، ثم نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعةِ ابنتِه زوجة السُّلطانِ الناصر، فأَذِنَ في ذلك وأرادوا أن يُدفَنَ بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يُمكِنْ، فجيء به إلى تربته بدمشق وقيل: كانت وفاتُه بقلعة إسكندرية مسمومًا، وتأسَّفَ الناسُ عليه كثيرًا، وطال حُزنُهم عليه، وفي كل وقتٍ يتذكَّرون ما كان منه من الهَيبةِ والصيانةِ والغَيرةِ على حريمِ المسلمينَ ومحارم الإسلام، ومن إقامتِه على ذَوي الحاجاتِ وغَيرِهم؛ يشتَدُّ تأسفهم عليه. ويُذكَرُ أنَّ لتنكز هذا أوقافًا كثيرة، من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار الحديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وتُتبِّعَت أموال تنكز، فوجِدَ له ما يجِلُّ وَصفُه واشتملت جملةُ ما بيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملةُ العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار، ومع ذلك كان له أعمالٌ جدية في دمشق فأزال المظالمَ، وأقام منارَ الشَّرعِ، وأمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحِشِ والخانات والخَمَّارات، وبالغ في العقوبةِ على ذلك حتى قَتَل فيه، وغيرها من عمارة المدارس والأوقاف والمساجد.
قام المَلِكُ أبو الحَسَن علي بن عثمان مَلِكُ بني مرين باجتيازِ البحرِ على رأسٍ جيشٍ كثيفٍ لمحاربةِ المتحالفين من قشتالة والبرتغال وأراغون، فجَرَت بينهم معركةٌ قُربَ مدينة طريف انكسَرَ فيها جيشُ المسلمين المكَوَّن من جيش بني مرين وجيش غرناطة، وسَقَط معسكرُ الملك المريني بيد الأسبان فذبحوهم بأجمَعِهم واستطاع المَلِكُ المريني عبورَ البحر إلى المغرب مع بعضِ فلول جيشِه، وانهزم مَلِكُ غرناطة إلى غرناطة بأسوأ حالٍ شَهِدَه المسلمون منذ وقعة العقاب، واستولى الأسبانُ على طريف والجزيرة الخضراء وجبل طارق، ويُذكَرُ أن المسلمين استعملوا في هذه الحربِ آلاتٍ تُشبِهُ المدافع كانت تسمَّى الأنفاط، وكانت هي أساسًا لاختراع المدافِعِ فيما بعد.
هو الصوفيُّ الاتحادي عثمان الدكاكي الدمشقي, خالطَ الصوفية ودعاةَ وَحدةِ الوجودِ، فتأثَّرَ بهم حتى ادَّعى الألوهيَّةَ وانتَقَص من الأنبياء, فعُقِدَ له مجلسٌ في دار العدل بدار السعادة في يوم الثلاثاء آخر شَهرِ شوال واجتَمَع القضاة والأعيانُ على العادة وأُحضِرَ يومئذ عثمان الدكاكي، وادُّعِيَ عليه بعظائمَ من القول لم يؤثَرْ مِثلُها عن الحلَّاجِ ولا عن ابن أبي الغدافر السلقماني، وقامت عليه البيِّنةُ بدعوى الإلهية- لعنه الله- وأشياءَ أُخَر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الرَّيبِ من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية- عليهم لعائن الله- ووقع منه في مجلسٍ من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي، وتضَمَّنَ ذلك تكفيرُه من المالكية أيضًا، فادعى أنَّ له دوافِعَ وقوادِحَ في بعض الشهود، فرُدَّ إلى السجنِ مُقَيَّدًا مغلولًا مقبوحًا، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أُحضِرَ عثمان الدكاكي إلى دار السعادة وأُقيمَ بين يدي الأمراء والقُضاة وسُئِلَ عن القوادح في الشهودِ فعَجَز فلم يقدِرْ، وعجز عن ذلك فتوَجَّهَ عليه الحُكم، فسئل القاضي المالكي الحُكمَ عليه، فحَمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على رسولِه، ثمَّ حكم بإراقة دَمِه وإن تاب، فأُخِذَ الدكاكيُّ فضُرِبَت رَقَبتُه بدمشق بسوقِ الخيل، ونودي عليه: هذا جزاءُ مَن يكون على مَذهَبِ الاتحاديَّة، وكان يومًا مشهودًا بدار السعادة، حضَرَ خلقٌ من الأعيان والمشايخِ.
كتب السُّلطانُ النَّاصِرُ بتَجهيزِ عساكِرِ دمشق وحَلَب وغيرهما للتجريدةِ إلى توريز، صحبة الأمير طشتمر نائب حلب، ويكونُ معه عامَّةُ أمراء التركمان والعربان، فتجَهَّزَ الأمراء والأجناد بمماليك الشام، وبَرَز نائب حلب بمخيَّمِه إلى ظاهر المدينة وأقام ينتَظِرُ قدومَ عساكِرِ مصر، فأصبح السلطان في مستهَلِّ ذي الحجة وبه وَعكٌ من قرف حدث عنه إسهالٌ لزم منه الفِراشَ خمسةَ أيام، فتصَدَّقَ بمال جزيل، وأفرَجَ عن المسجونينَ بسِجنِ القُضاة والولاة بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال، ثم قَدِمَ إدريس القاصد بصُحبة مملوك صاحب ماردين بكتابِه يتضَمَّنُ أن أولاد دمرداش بن جوبان بن تلك المغولي لَمَّا بلغهم طلَبُ الشيخ حسن الكبير بن أقبغا أيلخان سبط أرغون المغولي وطغاي بن سونتاي المغولي من السلطان أن يجَهِّزَ لهم عسكرًا ليأخُذَ البلاد، وأنَّهما حلفا له وحلفا أهلُ البلاد وخَطَبا باسمه على منابر بغداد والموصل، وركبوا إلى محاربتِهما، فطَلَب منهم الشيخ حسن الكبير الصُّلحَ، وحلف لهم وسار إليها طائعًا، فأكرموه وكتبوا لطغاي بن سونتاي أمانًا، واتَّفَقوا على أن يعدوا الفرات إلى الشام، وأشار صاحب ماردين ألا تخرُجَ التجريدة إلى توريز؛ فإنَّه ليس لِسَيرِها فائدة، فتفَرَّقت الأجنادُ من القلعة بغيرِ عرض، وبَعَث السلطان من ليلته بجوابِ صاحب ماردين، واقتضى رأيُه أن يكشِفَ عما ذكره، فإنَّ برهشين بن طغاي اتَّهَمه في ذلك، ثم قَدِمَ البريد من حلب بصحَّة الخبر بصُلح الشيخ حسن الكبير وطغاي مع أولاد دمرداش، فانزعَجَ السلطان لذلك انزعاجًا شديدًا، واضطرب مزاجُه.