في شهر رجب ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة، وكان سبب خروجه عن الطاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظاهر ططر، ربَّاه صغيرًا، ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته، فلما قام الملك الأشرف برسباي بعد الملك الظاهر ططر بالأمر ولى إينال نيابة صفد، وبلغه خلع ابن أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة، فشَقَّ عليه ذلك، وأخذ في تدبيرِ أمره، واتَّفق مع جماعة على العصيان، وخرج عن الطاعة، وأفرج عمن كان محبوسًا بقلعة صفد، وهم: الأمير يشبك أنالي المؤيدي الأستادار، ثم رأس نوبة النوب، والأمير إينال الجكمي أمير سلاح ثم نائب حلب، والأمير جلبان أمير آخور أحد مقدَّمي الألوف، وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها، ففي الحال كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامي الدوادار حاجب حجاب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمِرَّ إقطاع الحجوبية بيده حتى يتسلم صفد، ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بعسكر دمشق لقتال إينال، ثم ورد على السلطان الأشرف كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشام بمجيء الأمير إينال الجكمي، ويشبك أنالي، وجلبان أمير آخور إليه من صفد طائعين للسلطان، وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل الدوادار بعساكر دمشق انهزم إلى قلعة صفد إلى يوم الاثنين رابع شوال، فنزل إليه إينال بمن معه، بعد أن ترددت الرسل بينهم أيامًا كثيرة، فتسلم أعوان السلطان قلعةَ صفد في الحال، وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميرًا بطرابلس، وكان قد وعد ذلك، لما ترددت الرسل بينهم وبينه مرارًا حتى استقرَّ الأمر على أن يكون إينال من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أمانًا ونسخةَ يمين فانخدع الخمول ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيَّدوه وعاقبوه أشد عقوبة على إظهار المال، ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلَّقوهم بأعلاها.
كثُرَ عَبثُ الفرنج بالسواحل، وهجم في الليل غرابان -مركبان- فيهما طائفة من الفرنج، على ميناء الإسكندرية، فوجدوا فيها مركبًا للتجار فيه بضائع بنحو مائة ألف دينار، فاقتتلوا معهم عامة الليل، فخرج الناس من المدينة، فلم يقدروا على الوصول إليهم؛ لعدم المراكب الحربية عندهم، ولا وصلت سهامهم إلى الفرنج، بل كانت تسقط في البحر، فلما طال الحرب بين الفرنج والتجار المسلمين، واحترقت مركب التجار، نجَوا في القوارب إلى البر، فأتت نار الفرنج على سائر ما في المركب من البضائع، حتى تَلِفَ بأجمعها، ومضى الفرنج نحو برقة، فأخذوا ما قدروا عليه، ثم عادوا إلى الإسكندرية، ومضَوا إلى نحو الشام.
في السابع والعشرين ذي الحجة نزل الحاج بينبع، وقد استعدَّ من فيهم من المماليك السلطانية مع الأمير جانبك الخازندار أحد أمراء العشرات لحرب الشريف مقبل: متولي ينبع، وقد قدم الشريف عقيل بن وبير الحسني من القاهرة بصحبتهم بعدما خُلِع عليه بها في شوال من هذه السنة، واستقرَّ أمير ينبع شريكًا لعمه مقبل، بمالٍ التزم للدولة، فلما عَلِمَ مقبل بذلك نزح عن ينبع إلى واد بالقرب منها، وكان الحاج قد دخلوا ينبع في ذي القعدة، فبعث أمراء الحاج الثلاثة، وهم افتخار الدين ياقوت أمير المحمل، وأسندمر الأسعردي من أمراء العشرات أمير الركب الأول، وجانبك أمير الركب الثاني، إلى الشريف مقبل حتى يحضر إليهم، فجرت أمور آخرها أن يستقر عقيل شريكًا له كما كان أبوه وبير، وأن يكاتب السلطان الأشرف برسباي بذلك، ومهما ورد المرسوم به اعتمده، ورحل الحاج من ينبع إلى مكة، وقد وجَّهوا نجابًا إلى السلطان الأشرف بكتبهم، وتركوا عقيلًا بينبع، فاقتتل هو وعمه، فظَفِرَ به عمُّه، وقَيَّده، وأقام بينبع حتى عاد الحاج إليها، فاستعدَّ الأمير جانبك وركب في جمع من المماليك وغيرهم ليلة الأحد الثامن والعشرين ذي الحجة، وطرقَ مقبلًا على حين غفلة، فكانت بينه وبين مقبل وقعة قتل فيها جماعة من أشراف بني حسن، وجُرِح كثير من العربان والعبيد، وانهزم مُقبِل، فمَدَّت المماليك أيديها، وانتهبت ما قدرت عليه، وسلبت النساء الشريفات ما عليهن، وساقوا خمسمائة وخمسين رجلًا، وثلاثين فرسًا، وأمتعة كثيرة، ومالًا جزيلًا، وعادوا من يومهم إلى ينبع، ومعهم عقيل قد خلصوه من الأسر ورحلوا، وقد أقام عقيل بينبع أميرًا، فلم يكن إلا ليالٍ حتى عاد مقبل، واحترب مع عقيل، فانهزم مُقبِل، وقُتِل بينهما جماعة.
غَضِبَ متملِّك الحبشة، وهو أبرم -ويقال إسحاق- بن داود بن سيف أركد؛ بسبب إغلاق المسلمين كنيسةَ القيامة بالقدس، وقَتَل عامة من كان في بلاده من رجال المسلمين، واسترقَّ نساءهم وأولادهم، وعذَّبهم عذابًا شديدًا، وهدم ما في مملكته من المساجد، وركِبَ إلى بلاد جبرت، فقاتلهم حتى هزمهم، وقتل عامة من كان بها، وسبى نساءهم، وهدم مساجدهم، فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة في هذه السنة لا يُحصى فيها من قُتِلَ من المسلمين، فاشتاط غضبًا السلطانُ الأشرف برسباي الظاهري، وأراد قَتْلَ بطرك النصارى وجميعِ ما في مملكته من النصارى ثم رجع عن ذلك، ورسم في السنة التالية بفتح كنيسة القيامة.
بدأت هذه السنة والوباءُ يتزايد في الشام والموتى بالمئات، وبدأ يتزايد شيئًا فشيئًا، ثم في شهر رجب تناقص الوباء ببلاد الشام، بعدما عم كورة دمشق وفلسطين والساحل، وبلغت عدة من مات بصالحية دمشق زيادة على خمسة عشر ألف إنسان، وأُحصي من ورد ديوان دمشق من الموتى فكانوا نحو الثمانين ألفًا، وكان يموت من غزة في كل يوم مائة إنسان وأزيد، وكان معظم من مات الصغار والخدم والنساء، فخلت الدور منهم إلا قليلًا، وفي رجب وقع الوباء ببلاد الخليل عليه السلام، ثم وقع بدمياط.
هو الحافِظُ الإمام قاضي قضاة الديار المصرية، الإمام الحافظ، وأستاذ المحدِّثين، ولي الدين أبو زُرعة أحمد ابن الحافظ الكبير الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم المعروف بابن العراقي الشافعي، كردي الأصل قاهري الولادة والنشأة والوفاة، وُلِدَ في ذي القعدة سنة 762، اعتنى به والده مبكرًا في صِغَرِه، فرحل به إلى الشام سنة خمس وستين، فأدرك جماعة من مُسنِدِي دمشق, ثم رجع به فحفظ القرآن وعدة مختصرات في الفنون, ونشأ يقِظًا وأسمعه أبوه الكثير ثم طلب هو بنفسِه، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره, ثم رحل بنفسه إلى الشام ثانية، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره, ومهر في عدة فنون واشتغل فيها وهو شاب، ونشأ على طريقة حسنة من الصيانة، والديانة والأمانة والعفَّة، مع طلاقة الوجه وحسن الصورة، وطيب النغمة، وضيق الحال، وكثرةِ العيال، إلى أن اشتهَرَ أمره، وطار ذِكرُه. ولما مات والِدُه تقرر في مناصبه الجليلة، فزادت رياسته. برع في علم الحديث، ثم غلب عليه الفقه فبرع فيه أيضًا، وأفتى ودرس سنين في عدة أماكن منذ حياة والده ومشايخه، وتولى نيابة الحكم بالقاهرة، ثم تنزه عن ذلك ولَزِمَ داره مدة طويلة، إلى أن استقدَمَه الملك الظاهر ططر بعد وفاة جلال الدين البلقيني، وخلع عليه وأقره قاضيَ قضاة الديار المصرية في قضاء الشافعية. فباشره بعفة ونزاهة، وشهامة ومعرفة، وصار يصمِّمُ في أمور لا يحتملها أهلُ الدولة, فتمالؤوا عليه ثم صُرِفَ بقاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني، فلزم داره, فحصل له بذلك قهر أداه إلى التلف، ومات مبطونًا شهيدًا في يوم الخميس السابع عشر شعبان عن خمس وستين سنة، ودفن إلى جانب والده، وكثر الأسفُ عليه خصوصًا من طلبة العلم. ولم يخلفْ بعده مثلُه في جمعِه بين الفقه والحديث والدين والصلاح، وله مصنفاتٌ كثيرة، منها: تحفة التحصيل بذكر رواة المراسيل، والبيان والتوضيح لمن أُخرج له في الصحيح وقد مُسَّ بضربٍ من التجريح، وشارك والده في طرح التثريب شرح تقريب الأسانيد، وله الأطراف في أوهام الأطراف، وله المستفاد من مبهمات المتن والإسناد، وشرح الصدر بذكر ليلة القدر، وغيرها من المؤلفات. قال ابن حجر: "صَنَّف أبو زُرعة في الفنون الحديثة عدة تصانيف، وأكمل شرح تقريب الأسانيد لأبيه فأجاد فيه. وشرع في شرح مُطَوَّل لسنن أبي داود، لو كمل كان قدر ثلاثين مجلَّدة بل يزيد. وجمع النكت على المختصرات الثلاثة: التنبيه، والحاوي، والمنهاج. فزاد فيها على من تقدَّمه ممن عمل تصحيح التنبيه، وكذا المنهاج، وكذا الحاوي؛ فإنه جمع بين تصانيفهم وبين ما استفاده من حاشية الروضة لشيخنا البلقيني الكبير. وكان قد جرَّدها فجاءت في مجلدين. وجردها قبله الشيخ بدر الدين الزركشي، وقد ملكتُها بخطِّه، لكن كان قبل أن يجرِّدَها أبو زرعة بعشرين سنة. فزادت في تلك المدة فوائد جمة. واختصر المهمات للإسنوي، وضم إليه فوائد وزوائد من الحاشية المذكورة. وعُقِد مجلس الإملاء بعد أن كان انقطع بموت شيخِنا والده من سنة 806 إلى أن شرع هو فيه في سنة عشر. ولم يزل يملي في كل يوم ثلاثاء، إلى أن مرض المرض الذي توفي فيه، مع ما كان فيه من شغل البال بالدرس والحكم وغير ذلك".
في رابع عشر شهر صفر قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق، وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام عوضا عن تنبك، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابِعَه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السِّرِّ، وقد لبس السلاحَ في جمع من مماليكه، فثار إليه الأمراءُ واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد، ثم خرج تنبك البجاسي من دمشق بعد محاربته الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة الحادي عشر، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسرَ، فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت الثاني عشر يترامَون نهارهم كلَّه حتى حجز الليلُ بينهم، فباتوا ليلةَ الأحد على تعبيتهم، وأصبح تنبك يوم الأحد الثالث عشر راحلًا إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقويةً له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس، وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء السادس عشر، فتمكن من القلعة، فللحال أدركهم تنبك وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربةٍ أصابت كَتِفَه حتى خلعته، فتكاثروا عليه وجروه إلى القلعة ومعه نحو عشرين من أصحابه، وكُتِبَ بذلك للسلطان، فقَدِمَ الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرين، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأُحضِرَت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدُقَّت البشائر، وكُتِبَ بقتله وحَمْل رأسه إلي مصر، وتتبُّع من كان معه، وبطلت حركةُ السَّفَرِ.
في ثالث جمادى الأولى جاء سيل عظيم حتى صار المسجد الحرام بحرًا، ووصل الماء إلى قريب من الحجر الأسود، وصار في المسجد أوساخ وخِرَق كثيرة جاء بها السيل، وأنَّ الخطبة أعيدت بمكة لصاحب اليمن في سابع جمادى الأولى بعدما تُرِك اسمه والدعاء له من أيام الموسِم.
جهَّز أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد صاحب تونس وبلاد إفريقية وملك الحفصيين ابنَه المعتمد أبا عبد الله محمدًا، من بجاية في عسكر إلى مدينة تلمسان، فحارب مَلِكَها أبا عبد الله عبد الواحد بن أبي محمد عبد الله بن أبي حمو موسى ملك بني زيان حروبًا كثيرة، حتى ملكها في جمادى الآخرة، وخطب لنفسه ولأبيه، فزالت دولة بني عبد الواد من تلمسان بعدما ملكت مائة وثمانين سنة، وولَّى على تلمسان الأمير الزياني محمد بن أبي تاشفين عبد الرحمن الثاني.
هو العلامة البحر الزاخر المولى حافظ الدين محمد بن محمد بن شهاب بن يوسف الكردي البريقيني الخوارزمي الحنفي الشهير بالبزازي، برع في الأصول حتى ذاع صيته في البلاد، اشتهر بفتاويه وخاصة فتواه بتكفير تيمورلنك، وتُعرَف بالفتاوى البزازية، وله مصنفات؛ منها: مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة، ومناسك الحج، وآداب القضاة، وتعريفات الأحكام، وغيرها من الكتب. قال عصام الدين طاشْكُبْري زادَهْ: "له كتاب في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو كتاب نافع في الغاية، مشتمل على المطالب العالية، طالعته من أوله إلى آخره واستفدت منه، ولما دخل بلاد الروم باحَثَ مع المولى الفناري وغلب هو عليه في الفروع، وغلب ذلك عليه في الأصول وسائر العلوم".
كانت أسواق القاهرة ومصر ودمشق في كساد، وظلمُ ولاة الأمر من الكشاف والولاة فاشٍ. ونواب القضاة قد شنعت قالة العامة فيهم من تهافتهم، وأرض مصر أكثرها بغير زراعة؛ لقصور مد النيل في أوانه، وقلة العناية بعمل الجسور؛ فإن كشَّافها إنما دأبهم إذا خرجوا لعملها أن يجمعوا مال النواحي لأنفسهم وأعوانهم، والطرقات بمصر والشام مخوفة من كثرة عبث العربان والعشير، والناس على اختلاف طبقاتهم قد غلب عليهم الفقر، واستولى عليهم الشح والطمع فلا تكاد تجد إلا شاكيًا مهتمًّا لدنياه، وأصبح الدِّين غريبًا لا ناصر له، وسعر القمح بمائتي درهم الأردب، والشعير بمائة وعشرة، والفول بنحو ذلك، ولحم الضأن السليخ كل رطل بسبعة دراهم ونصف، ولحم البقر كل رطل بخمسة دراهم، والفلوس كل رطل بتسعة دراهم، وهي النقد الذي يُنسَب إليه ثمن ما يباع وقيمة ما يُعمل. والفضة كل درهم وزنًا بعشرين درهمًا من الفلوس، والذهب الإفرنجي المشخَّص بمائتي وخمسة وعشرين درهمًا!
أهلَّت هذه السنة وخليفةُ الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، وليس له من الخلافة إلا مجرد الاسم بلا زيادة. وسلطانُ مصر والشام والحجاز الملِكُ الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير الأتابك قجق، والدوادار الكبير صاحب الأمر والنهي في الدوادارية بل في سائر أمور الدولة, وأمير سلاح أينال النوروزي، وأمير مجلس أينال الجكمي، وأمير أخور جقمق، ورأس نوبة تغري بردي المحمودي، وحاجب الحجاب جرباش قاشق، وأستادار صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، وكاتب السر نجم الدين عمر بن حجي الدمشقي، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وليس لأحد في الدولة تصرُّف غير السلطان برسباي والأمير جانبك الدوادار، والقضاة: الشافعي: شمس الدين محمد الهروي. والقاضي الحنفي: زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة المالكي: شمس الدين محمد البساطي، والقاضي الحنبلي: علاء الدين علي بن مغلي، ونائب الشام سودن بن عبد الرحمن، ونائب حلب شار قطلوا، ونائب حماة جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس قصروه، ونائب صفد مقبل الدوادار، ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي، وبمكة الشريف علي بن عنان والأمير قرقماس.
في سنة 827 تأخر الأمير قرقماس الدوادار في ينبع، وطلب عسكرًا ليقاتِلَ به الشريف حسن بن عجلان، ويستقر عِوَضَه في إمارة مكة، فأُجيب إلى ذلك، ثم خَلَع على الشريف علي بن عنان بن مغامس، واستقر في إمارة مكة شريكًا للأمير قرقماس، ثم قَدِمَ الخبر بوصول الشريف علي بن عنان إلى ينبع بمن معه من المماليك المجردين، وتوجه الأمير قرقماس معه إلى مكة، فدخلوها يوم الخميس سادس جمادى الأولى بغير حرب، وأن الشريف حسن بن عجلان سار إلى حلي بني يعقوب من بلاد اليمن، ثم في الرابع والعشرين من محرم من هذه السنة قدم الرَّكبُ الأول من الحجاج إلى مصر، ثم قدم من الغد المحمَل ببقية الحاجِّ، ومعهم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد، وقد قبض عليه الأمير قرقماس بمكة، ثم في شهر جمادى الآخرة خرج الأمير قرقماس من مكة بمن معه في طلب الشريف حسن بن عجلان حتى بلغ حلي من أطراف اليمن، فلم يقابله ابن عجلان مع قوته وكثرة من معه، بل تركه وتوجَّه نحو نجد تنزُّهًا عن الشر، وكراهة الفتنة، فعاد قرقماس وقدم مكة في العشرين منه، ثم في شهر ذي الحجة قدم كتاب الأمير تغري بردي المحمودي من مكة وقد توجه حاجبًا يتضمن أنه بعث لَمَّا نزل من عقبة أيلة، قاصدًا إلى الشريف حسن بن عجلان يرغِّبه في الطاعة ويحذِّره عاقبة المخالفة، فقَدِمَ ابنه الشريف بركات بن حسن، وقد نزل بطن مر في الثامن والعشرين ذي القعدة، فسُرَّ بقدومه ودخل به معه مكة أول ذي الحجة، وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم أن أباه لا يناله مكروه من قِبَلِه ولا من قِبَل السلطان، فعاد إلى أبيه، وقدم به مكة يوم الاثنين ثالث ذي الحجة، وأنه حلف له ثانيًا، وألبسه التشريف السلطاني، وقرَّره في إمارة مكة على عادته، وأنه عزم على حضوره إلى السلطان صحبة الركب، واستخلاف ولده بركات على مكة، ثم في شهر محرم من سنة 829 قدم الأمير قرقماس المقيم هذه المدة بمكة، وقدم الشريف حسن بن عجلان، فأُكرِمَ ثم خُلِعَ عليه في السابع والعشرين، واستقر في إمارة مكة على عادته، وأُلزم بثلاثين ألف دينار، فبعث قاصده إلى مكة حتى يحصرها، وأقام هو بالقاهرة رهينة، ولم يقع في الدولة الإسلامية مثلُ هذا، ثم في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين رمضان من سنة 829 قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان من مكة، وقد استُدعي بعد موت أبيه فخُلِع عليه، واستقر في إمرة مكة، على أن يقوم بما تأخَّر على أبيه وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، فإنه كان قد حمل قبل موته من الثلاثين الألف التي التزم بها مبلغ خمسة آلاف دينار، وأُلزم بركات أيضًا بحمل عشرة آلاف دينار في كل سنة، وألَّا يتعرض لما يؤخذ بجدة من عشور بضائع التجار الواصلة من الهند وغيره.
أخذ السلطان في تجهيز الغزاة وعيَّن جماعة كبيرة من المماليك السلطانية والأمراء، وقام السلطان في الجهاد أتمَّ قيام، ثم في العشرين من هذا الشهر سارت خيول الأمراء والأعيان من المجاهدين في البر إلى طرابلس، وعِدَّتُها نحو ثلاثمائة فرس؛ لتحمل من طرابلس صحبة غزاتها في البحر، ثم في يوم الخميس تاسع شوال ورد الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج، وبينما الناس مستبشرون في غاية ما يكون من السرور والفرح بنصر الله قَدِمَ الخبر في يوم الاثنين الثالث عشر شوال بوصول الغُزاة المذكورين إلى الطينة من مصر، وكان من خبرهم أنهم لما توجهوا من ساحل بولاق إلى دمياط ساروا منه في البحر المالح إلى مدينة طرابلس فطلعوا إليها، فانضم عليهم بها خلائق من المماليك والعساكر الشامية وجماعة كبيرة من المطوعة إلى أن رحلوا عن طرابلس في بضعة وأربعين مركبًا، وفي يوم الجمعة ثاني رجب سار أربعة أمراء إلى الجهاد، وهم تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وقد جُعِل مقدَّمَ عسكر البر، والأمير أينال الجكمي أمير مجلس، وجُعِل مقدَّمَ عسكر البحر، والأمير تغري برمش، والأمير مراد خجا، وتبعهم المجاهدون، وتوجهوا في النيل أرسالًا حتى كان آخرهم سفرًا في يوم السبت الحادي عشر، ثم في شهر شعبان في خامسه قدم الخبر بأن طائفة من الغزاة لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية وجدوا في البحر أربع قطع بها الفرنج، وهي قاصدة نحو الثغر، فكتبوا لمن في رشيد من بقيتهم بسرعة لحاقهم، وتراموا هم والفرنج يومهم، وباتوا يتحارسون، واقتتلوا من الغد، فما هو إلا أن قَدِمَت بقية الغزاة من رشيد، فولى الفرنج الأدبار بعدما استُشهد من المسلمين عشرة. وصلت في رجب عساكر المسلمين الماغوصة لغزو قبرص، فنزلوا عليها بأجمعهم، وخيَّموا في برها الغربي، وقد أظهر متملك الماغوصة طاعة السلطان الأشرف برسباي وعرَّفهم تهيؤَ صاحب قبرص واستعداده لقتالهم وحربهم، فاستعدوا وأخذوا حِذْرَهم وباتوا بمخيمهم على الماغوصة، وهي ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، ولما أصبحوا يوم الاثنين شنُّوا الغارات على ما بغربيِّ قبرص من الضِّياع، ونهبوا وأسروا وقتلوا وأحرقوا وعادوا بغنائم كثيرة، ثم ساروا ليلة الأربعاء يريدون الملاحة، وتركوا في البر أربعمائة من الرجَّالة يسيرون بالقرب منهم إلى أن وصلوا إليها ونهبوها وأسَروا وأحرقوا أيضًا، ثم ركبوا البحر جميعًا وأصبحوا باكر النهار فوافاهم الفرنج في عشرة أغربة -نوع من المراكب- وقرقورة كبيرة، فلم يثبتوا للمسلمين وانهزموا من غير حرب، واستمر المسلمون بساحل الملاحة وقد أرست مراكبهم عليها، وبينما هم فيما هم فيه كرَّت أغربة الفرنج راجعة إليهم، وكان قصد الفرنج بعودهم أن يخرج المسلمون إليهم فيقاتلوهم في وسط البحر، فلما أرست المسلمون على ساحل الملاحة كرَّت الفرنج عليهم، فبرز إليهم المسلمون وقاتلوهم قتالًا شديدًا إلى أن هزمهم الله تعالى، وعادوا بالخِزي، وبات المسلمون ليلة الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فلما كان بُكرة نهار الجمعة أقبل عسكر قبرص وعليهم أخو الملك، ومشى على المسلمين، فقاتله مقدار نصف عسكر المسلمين أشد قتال حتى كسروهم، وانجَلَت المعركة عن وقوع جينوس بن جاك متمَلِّك قبرص في الأسر بأمر من عند الله يُتعَجَّبُ منه؛ لكثرة مَن معه وقوتهم، وقلَّة من لَقِيَه، ووقع في الأسر عدة من فرسانه، فأكثر المسلمون من القتل والأسر، وانهزم بقية الفرنج، ووُجد معهم طائفة من التركمان قد أمدهم بهم علي بك بن قرمان، فقُتِل كثير منهم، واجتمع عساكر البر والبحر من المسلمين في الملاحة في يوم الاثنين ثانيه، وقد تسلم ملك قبرص الأمير تغري بردي المحمودي، وكثرت الغنائم بأيدي الغُزاة، ثم ساروا من الملاحة يوم الخميس خامسه يريدون الأفقسية، مدينة الجزيرة، ودار مملكتها، فأتاهم الخبر في مسيرهم أن أربعة عشر مركبًا للفرنج قد أتت لقتالهم، منها سبعة أغربة -نوع من المراكب- وسبعة مربعة القلاع، فأقبلوا نحوها وغنموا منها مركبًا مربعًا، وقتلوا عدة كثيرة من الفرنج، وتوجه الغزاة إلى الأفقسية وهم يقتلون ويأسِرون ويغنمون، حتى دخلوها، فأخذوا قصر الملك، ونهبوا جانبًا من المدينة، وعادوا إلى الملاحة بعد إقامتهم بالأفقسية يومين وليلة، فأراحوا بالملاحة سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام, وكان من خبر ذلك أن الغُزاة نازلوا قلعة اللمسون حتى أخذوها عَنوةً في يوم الأربعاء السابع والعشرين شعبان، وهدموها وقتلوا كثيرًا من الفرنج وغنموا، ثم ساروا بعد إقامتهم عليها ستة أيام، في يوم الأحد أول شهر رمضان وقد صاروا فرقتين؛ فرقة في البر، وفرقة في البحر، حتى كانوا فيما بين اللمسون والملاحة، إذا هم بجينوس بن جاك متملك قبرص قد أقبل في جموعِه، فكانت بينه وبين المسلمين حرب شديدة، ثم ركبوا البحر عائدين بالأسرى والغنيمة في يوم الخميس الثاني عشر، وقد بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان، ثم في يوم الاثنين الثالث والعشرين رمضان قدم الخبر في النيل بأخذ جزيرة قبرص وأسْر ملكها، وفي يوم الأحد سابع شهر شوال قَدِمَ الأمير تغري بردي المحمودي والأمير أينال الجكمي -مُقَدَّمَا الغُزاة المجاهدين- بمن معهما من العسكر، وصُحبتهم جينوس بن جاك متملك قبرص، وعاد ومن أسروه وسَبَوه من الفرنج، وما غنموه، وجميعهم في مراكبهم التي غزوا قبرص فيها، فمروا على ساحل بولاق حتى نزلوا بالميدان الكبير، فكان يومًا مشهودًا، ثم طال الكلام فيما يَفدي به نفسه، وطُلِبَ منه خمسمائة ألف دينار، فتقرر الصلح على مائتي ألف دينار، يقوم منها مائة ألف دينار، فإذا عاد إلى مُلكِه بعث بمائة ألف دينار، ويقوم في كل سنة بعشرين ألف دينار، واشترط على السلطان أن يكُفَّ عنه الطائفة البندقية وطائفة الكيتلان.