هو العلامةُ المجتهد السيد الحسني صاحب التصانيف: الأمير محمد بن إسماعيل الكحلاني، ثم الصنعاني. ولِدَ ليلة الجمعة نصف جمادى الآخرة سنة 1099هـ بكحلان ثم انتقل مع أسرته إلى صنعاء سنة 1107هـ وأخذ عن علمائها، ووالده كان من الفضلاء الزاهدين في الدنيا الراغبين في العمل، وله شعر جيد، مات في ثالث شهر ذي الحجة سنة 1142هـ. رحل الصنعاني إلى مكة وقرأ الحديث على أكابر علمائها وعلماء المدينة، وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وأظهر الاجتهاد وعَمِل بالأدلة، ونفر عن التقليد وزيَّف ما لا دليلَ عليه من الآراء الفقهية، وجرت له مع أهل عصره خطوبٌ ومِحَنٌ، منها في أيام المتوكل على الله القاسم بن الحسين، ثم في أيام ولده الإمام المنصور بالله الحسين بن القاسم، ثم في أيام ولده الإمام المهدى العباس بن الحسين، وتجمع العوامُّ لقتلِه مرة بعد أخرى، وحفظه الله من كيدهم ومكرهم، وكفاه شرهَّم، وولاه الإمامُ المنصور بالله الخطابةَ بجامع صنعاء، فاستمر كذلك إلى أيام ولده الإمام المهدي، واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرِهم في الخطبة الأخرى، فثار عليه جماعةٌ من آل الإمام الذين لا أنسةَ لهم بالعلم، وعضَّدهم جماعة من العوام وتواعدوا فيما بينهم على قتلِه في المنبر يوم الجمعة المقبلة، ولم يفلحوا، واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا، وما زال في محَنٍ من أهل عصره، ووقعت له فِتَن كبار وقاه الله شَرَّها, وكان الصنعاني قد بدأ بعقد حلقات العلم ولَمَّا يُتِمَّ الرابعة والعشرين من عمره, فقد كان بارعًا في الفقه والأصول، ومؤلفاته تنمُّ عن سعة علمه وجودة ذهنه، واستحضاره للأدلة ومناقشتها، واستخراج الأحكام الفقهية، وكان يدعو إلى تجديد الدين والعودة إلى أصوله وحقيقته كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ ولذلك لَمَّا بلغته دعوةُ الشيخ المجدد أيَّدَها وأرسل للشيخ قصيدةً يثني فيها عليه وعلى دعوته، ومما قاله فيها: سلامي على نجدٍ ومن حلَّ في نجـدِ وإن كان تسليمي على البعدِ لا يُجدي وقد صدرت من سفحِ صنعا سقى الحيا رباهـا وحـياهـا بقهقهة الرعـدِ سرت من أسير ينشد الريح أن سرت ألا يا صبا نجـدٍ متى هِجتَ من نجـدِ قفي واسألي عن عالمٍ حَـَّل سوحها به يهتدي من ضَلَّ عن منهج الرشدِ محمَّـد الهـادي لسنة أحمـد فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرَت كلُّ الطوائف قولَهبلا صدَرٍ في الحقِّ منهم ولا وردِ وللإمام الصنعاني مؤلفات كثيرة، منها: التحبير لإيضاح معاني التيسير، وهو شرح كتاب تيسير الوصول لابن الديبع, والتنوير شرح الجامع الصغير، وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار, وثمرات النظر في علم الأثر, والعدة على شرح العمدة، وهو مليء بالفوائد الفقهية والأصولية، وتطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد, وحاشية على البحر الزخار في الفقه الزيدي, وسبل السلام اختصره من البدر التمام للمغربي, ومنحة الغفار جعلها حاشية على ضوء النهار للجلال, وشرح التنقيح في علوم الحديث للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، وسماه التوضيح, ومنظومة الكافل لابن مهران في الأصول وشرحها شرحًا مفيدًا, وله مصنفات غير هذه، وقد أفرد كثيرًا من المسائل بالتصنيف بما يكون جميعه في مجلدات، وله شعر فصيح منسجم، جمعه ولده العلامة عبد الله بن محمد في مجلد، وغالبه في المباحث العلمية والتوجع من أبناء عصره والردود عليهم، وبالجملة فهو من الأئمة المجدِّدين لمعالم الدين. أما وفاته فقد أصيب بالحمى والإسهال الشديد حتى توفي في الثالث من شعبان من هذا العام, وقد بلغ من العمر ثمانين سنة. ونظم بعضُهم تاريخه، ورثاه شعراءُ العصر وتأسَّفوا عليه.
غزا الإمامُ عبد العزيز بن محمد بأهل الدرعية وقراها بلدةَ الهلالية وهي مِن قرى القصيم، فوصلها ليلًا وأعدَّ لها كمينًا، فلما أصبحوا حاربَ أهلَها حتى هزموهم, وقُتِل منهم رجالٌ، ثم دخل عبد العزيز الهلاليةَ وأقام فيها أيامًا، فوفد إليه أهلُ القصيم يعلنون له السمع والطاعة، فأخذ عليهم العهدَ ووضع عندهم معلِّمين يعلمونهم التوحيدَ والشَّرائعَ والأحكامَ.
في هذه السَّنةِ غَزَت جماعةٌ من الدرعية، فصادفت الشريف منصورًا فأسَرَتْه مع ركبٍ كان معه، فمَنَّ الإمامُ عبد العزيز وأطلقه دون فداءٍ, فلما عاد الشريف منصور إلى مكةَ استأذن من شريفِ مكَّةَ ليَسمحَ لأتباع الدرعية بالحَجِّ، فحجَّت طائفةٌ منهم آمنة وقضت فرضها بعد أن كان الحجُّ متعسرًا على أتباع الدعوة بسبَبِ الشائعات التي لدى أشرافِ مكَّةَ ضِدَّ أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
كان السلطانُ مصطفى الثالث يرى أنَّ الخطرَ الدَّاهِمَ على الدولة العثمانية يتمثَّلُ في ظهورِ القوة الروسية الجديدة، ويبدو أنَّه اطَّلع على المخطط الأسود الروسي لتفتيت الدولة العثمانية الذي وضعه بطرس الأكبر في وصيَّتِه؛ ولذلك أعدَّ السلطان مصطفى الثالث لحرب روسيا، فخاضت الدولةُ العثمانية حربًا مع روسيا بسبب اعتداءات القوزاق التابعين لروسيا على مناطق الحدود، فنجح ملِكُ القرم في غارته وهدم عددًا من الضِّياع وحمل كثيرًا من الأسرى، وذلك عام 1182هـ، ثم سار الصدرُ الأعظم الوزير نشانجي محمد أمين باشا بجيوشِه للدفاع عن مدينة شوكزيم التي حاصرها الروسُ، فلم ينجح لعدمِ اتِّباعِه الأوامر العسكرية الواردة إليه من السلطانِ المهتمِّ بنفسِه بأمور الحرب، ولو لم يقد الجيوشَ بذاتِه، فكان جزاءَ هذا القائد أن قُتِلَ بأمر السلطان وأُرسِلَ رأسُه إلى الأستانة عبرةً لغيره من القوَّاد, وهُزِمَ الصدر مولدواني على باشا- الذي أتى بعد نشانجي أيضًا- وهو يجتاز بجيشِه نهر الدينستر بالفيضانِ؛ حيث غرق عددٌ كبير من الجند والمراكب، وبعد هذا الانهزامِ الذي لم يكن فيه للروس من فخرٍ, التزم مولدواني باشا بالتقهقرِ بعد إخلاء مدينة شوكزيم، فاحتلَّ الروسُ إقليمي الأفلاق والبغدان، ثم أخذوا يثيرون النصارى من الروم الأرثوذكس للقيام بثوراتٍ ضِدَّ الدولة العثمانية، فأثاروا نصارى شبه جزيرة المورة فقاموا بثورة غيرَ أنَّ ثورتَهم أُخمِدَت.
لَمَّا كانت روسيا ليس لها عمارةٌ بالبحر الأسود استقدمت أساطيلَها من بحر البلطيك واستعانت بسفن من إنكلترا والفلمنك والبنادقة، واستأجرت ضباطًا ورجالًا لها، فأقبل هذا الأسطول إلى البحر الأبيض ومَرَّ بسواحل مورة، وأمَدَّ رجال الثورة هناك بالمال والسلاح. فلما رأت فرنسا تغلغل روسيا في البحر الأبيض كرهت ذلك جدًّا، وعرضت على الدولة العثمانية النجدةَ فقَبِلتْها، فحضر أحد مهندسيها واسمه البارون (توت) ليساعد مهندسي الترك على ترميم القلاع وبناء الاستحكامات، وعرضت إسبانيا مساعدتها على أن تمنَحَها امتيازات تجارية، فأبى الترك ذلك، وظهر عجز الجيش العثماني في تعليماته ونظاماته أمامَ الجيوش الأوروبية التي كانت قد خطت خطواتٍ واسعةً في سبيل النظام العسكري. أما الأسطولُ الروسي بالبحر الأبيض المتوسط فإن خطره لَمَّا استشرى هناك أرسلت إليه الدولةُ أسطولها تحت قيادة حسين باشا الجزائري ففاز عليه، ثم تقدَّمت سفينتُه لأسرِ سفينة الأميرال الروسي الذي كان يعاونُه كبار رجال البحر من الإنكليز، فأسرع الأميرال بالانتقال إلى سفينة أخرى وأشعل في السفينةِ التي تركها النارَ فاحترقت، وأصيب القبودان حسين باشا بجروجٍ اقتضت أن يُنقَلَ إلى البر، ثم إن القائد العام حسام الدين باشا أمر أن تدخُلَ العمارة إلى ميناء جشمة، وكانت ميناء ضيقة، فنصحه القبودان حسين باشا بأن ذلك لا يجوزُ وربما أفضى إلى ضياع الأسطول كله فلم يُصْغِ إليه. فلما رأى قواد الأسطول الروسي أنَّ العمارة العثمانية دخلت ذلك الميناء حصروها وصَفُّوا بقيةَ السفن وأمروها بالضرب، وساقوا الحرَّاقات للهجوم على السفن العثمانية، فوقعت العمارة العثمانية في حالةٍ سيئة فأُحرِقَت جميعُها إلا سفينتين كبيرتين وخمس سفن صغيرة. فلما شفي حسين باشا الجزائري من جراحِه عاد إلى الأستانة، وطلب من الصدر أن يأذن له في فتح جزيرة ليمنوس التي استولى عليها الروسُ برجال ينتخِبُهم من الفدائيين، فأذن له فانتخب أربعة آلاف رجل، فذهب بهم ونزل في سفن مأجورة حتى نزلوا جميعًا بالجزيرة، فأوقعوا بالروس حتى أجلَوهم عنها. وانتصرت الجيوشُ العثمانية على الروس أيضًا عند طرابزون وكرجستان. ثم أُسندت قيادة السفن لحسين باشا الجزائري لِما اشتُهِر عنه من الحزم والدربة، فأخذ الأسطولَ العثماني وخرج لقتال الأسطولِ الروسي في البحر الأبيض فاضطره للهربِ. أما عساكر روسيا فقد تقدمت بعد أن انتصرت على الجيوش العثمانية في عِدَّة مواقِعَ، واستولت على قلاع إسماعيل وكلي وبندر وآق كيرمان. فاضطرت الدولةُ للجِدِّ في حشد الجنود، ولكن كانت النمسا وبروسيا أسرعَ منها في الوساطة، فرفضت روسيا هذه الوساطةَ وطلبت أن تتفِقَ مع الأتراك مباشرةً، وعرضت مطالِبَ فرفضتها تركيا، فرجعت الحرب إلى ما كانت عليه فاستولت روسيا على قلاع ماجين وطولجي وإيساقجي، ودخلت جنودُها بلاد القرم واستولت على قلاع طومان وكرج وكفه وكرزلوه، فهاجر كثير من التتار إلى الأناضول.
كانت التجارة في البصرة قد تدهورت وخاصةً بعد ظهور مرضِ الطاعون في المدينة فتوقَّفَت الحركة التجارية وسُحِب المركز الإنكليزي المقيم فيها مؤقتًا، ثم لم تلبَثْ أن مرت سنتان حتى أتى الحصارُ والاحتلال الفارسي للعراق، فأصيبت البصرة بالشَّلَلِ التِّجاري، لكن الأمرَ لم يدُمْ طويلًا؛ حيث تخلَّت إيران عن البصرة، فأعاد الإنكليز فورًا فتح مركزهم بدرجة مقيمٍ، وقطع ارتباطه بمقيمه بوشهر في إيران، وأصبحوا تحت إمرةِ مقيمي بومباي مباشرةً، فعادت أهميةُ البصرة تحت نفوذ الإنكليز إلى أهميتها التجارية؛ حيث أصبح يستعمِلُها الإنكليز أيضًا كقاعدة لنقل بريد الشركة من الهند إلى إنكلترا وبالعكس.
كانت الدولةُ الروسيةُ طامحةً إلى بولونيا، وكان ذلك ضِدَّ مصلحة فرنسا, فحرَّضت فرنسا تركيا على محاربة روسيا، وكان الصدر إذ ذاك محسن زاده محمد باشا فعارض هذا الأمرَ أشَدَّ المعارضة؛ لعلمه بضعف تركيا إذ ذاك وعدَمِ استعدادها لإعلانِ حربٍ كبيرة كهذه على روسيا، فعزله السلطان وعيَّنَ بدله سلحدار ماهر حمزة باشا فأعلن الحربَ على روسيا، وقاد باغلقجي محمد أمين باشا جيشًا تركيًّا وتصدى به لعبورِ نهر الدانوب وفي أثناء ذلك عبرت روسيا نهر الدنييستر وحاصرت (خوتن) ولكن مولدواني باشا وخان القرم تمكَّنا من طرد الروس من هناك، وفي هذا الحين وُشِيَ بالصدر فعُزل وقُتل وعُيِّن مكانه مولدواني علي باشا، فتقدم لعبور نهر الدنييستر فنُصِب عليه حرس من السفن، وبينما هو يستعد لمقاتلة الأعداء في أثناء ذلك فاضت مياه النهر فجأةً، فخاف الجنود أن ينكَسِرَ الجسران فمرُّوا بدون نظام وتراكموا على الجسرين فانقلبا في النهرِ وغرق أكثَرُ من كان عليهما. وكان القائدُ التركي قد وضع ستة آلاف جندي في الضفة الأخرى فدافعوا عن أنفسهم حتى قُتلوا جميعًا. ثم إن هذا القائد أخلى خوتين بعد أن جرَّدها من جميع الذخائر فاستولى عليها الروس. أما الجيوش الروسية التي كانت على حدود آسيا فكانت ظافرةً أيضًا فإنها استولت على قبارطاي وكرجستان وجزءٍ كبير من أرمنستان. وكانت روسيا أرسلت رجالَها لإثارة نصارى اليونان والصرب الجبل الأسود وغيرهم في الجهات التي يكثر فيها العنصر الأرثوذكسي، وبذلك صارت تركيا مغلولةَ إحدى اليدين عن مقارعة خصيمتِها؛ فإنها أرسلت جيوشًا كثيرة لقمعِ هذه الثورات الداخلية وأبقتها في تلك البلاد لعدمِ عودةِ أهلها إلى التمرُّد.
هاجم الروسُ مدينةَ طرابزون وفشلوا في احتلالِها، ولكِنَّهم نجحوا في اقتحامِ بلاد القرم والسيطرة عليها, ثم جَرَت مفاوضات الصلحِ، ولكنَّها فَشِلت بسبب مطالبِ روسيا التعسُّفية، وعادت الحربُ وانتصر العثمانيون, وأثناء الحرب القائمة بين الروس والعثمانيين بعثت روسيا البرنس دلفوروكي بجيشٍ لفتح بلادِ القرم، فقابله السلحدار (رتبة عسكرية) إبراهيم باشا وهزمه، فعمد الروسُ إلى إثارة أهل القرم بأنَّها إنما تريد أن تساعِدَهم على استقلالهم عن الأتراك الذين جعلوا أنفُسَهم سادةً عليهم، مع أنهم أعرقُ منهم في السيادة؛ إذ هم أحفادُ جنكيزخان إلى غير ذلك من الأضاليل، فحلَّت هذه الأقوال عروةَ الوَحدةِ بين الترك وبين أهل القرم، ففترت عزائمُهم وقصَّروا في الدفاع عن بلادِهم سنة 1185 هـ
أرسل الشيخُ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز إلى والي مكة الشريفِ أحمد بن سعيد رسولًا بهدايا, وكان الشريفُ قد كاتبهما وطلب منهما أن يرسِلَا إليه فقيهًا وعالِمًا من جماعتهما يُبَيِّن حقيقة ما يدعونَ إليه من الدِّينِ، ويناظر علماءَ مكةَ، فأرسلا إليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين، ومعه رسالة منهما, يقول ابن غنام: "لما وصل الشيخُ عبد العزيز الحصين على الشريفِ الملقب بالفعر، واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي، وعبد الوهاب بن حسن التركي- مفتي السلطان- وعبد الغني بن هلال، وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقعت المناظرة فيها: الأولى: ما نُسِبَ إلينا من تكفير العموم، والثانية: هدمُ القبابِ التي على القبور، والثالثة: إنكار دعوة الصالحين للشَّفاعة. فذكر لهم الشيخ عبد العزيز أنَّ نسبة التكفير بالعموم إلينا زورٌ وبهتان علينا, وأمَّا هدم القباب التي على القبورِ فهو الحقُّ والصوابُ، كما هو وارد في كثيرٍ مِن الكتب، وليس لدى العلماء فيه شَكٌّ, وأما دعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل، فقد نص عليه الأئمة والعلماء وقرَّروا أنَّه مِن الشرك الذي فعله القدماء، ولا يجادِلُ في جوازه إلا ملحِدٌ أو جاهِلٌ, فأحضروا كتب الحنابلة فوجدوا أنَّ الأمر على ما ذكر فاقتنعوا, واعترفوا بأنَّ هذا دينُ الله، وقالوا هذا مذهب الإمام المعظَّم، وانصرف الشيخ عنهم مبجَّلًا معزَّزًا"
حاولت روسيا أن تعقد مع تركيا عهدًا مقتضاه استقلالُ القرم وأن تستولي روسيا على قلعة كرتس وبناء قلعة في مدخل بحر أزوف، وأن تكون الملاحةُ حرَّةً لروسيا في جميع موانئ الدولة التركية في البحر الأسود، وأن يكون لتلك الدولةِ حَقُّ حماية المسيحيين الأرثوذكس في تركيا، فرفضت تركيا هذا الشرطَ الأخير، فعاد الجفاء بين الدولتين على ما كان عليه، فتقدَّم الصدر الأعظم محسن زاده باشا وانتصر على الروسِ بجوار بزارجق ووارنة، وصَدَّهم أيضًا علي باشا الداغستاني أمام روسجق، ودحرهم عثمان باشا دحورًا عظيمًا، وقتل منهم تسعة آلاف وأسرَ الجنرال وينين، وقُتل الجنرال واسمان من جرحٍ أصابه.
جهَّز حاكِمُ مِصرَ علي بك تجريدةً عظيمة لضَمِّ الشام لحُكمِه، وجعل أميرَها محمد بك أبو الذهب زوج بنته, وأرباب المناصب ومماليكهم وطوائفهم وأتباعهم وعساكر كثيرة من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة، وخرجوا في استعدادٍ عظيم ومعهم الطبول والزمور والذخائر. فلما وصلوا إلى الديار الشامية حاصروا يافا حتى ملكوها، ثم حاربوا نواب وولاة الدولة العثمانية، فهزموهم وقتلوهم وفرُّوا من وجوههم، واستولوا على الممالك الشامية إلى حد حلب، ووردت البشائرُ بذلك لمصر، فنودي بالزينة ثلاثة أيام بلياليها، وذلك في شهر ربيع أول من هذه السنة. وتعاظم علي بك في نفسِه ولم يكتَفِ فأرسل إلى محمد بك يأمرُه بتقليد الأمراء والمناصب والولايات على البلادِ التي افتتحوها وملكوها، وأن يستمِرَّ في سيره ويتعدى الحدودَ ويستولي على الممالك إلى حيث شاء، وهو يتابِعُ إليه إرسال الإمدادات واللوازم والاحتياجات. عند ذلك جمع محمد بك أمراءَه وخشداشيته الكبار في خلوةٍ وعرض عليهم الأوامِرَ فضاقت نفوسُهم وسَئِموا الحرب والقتال، فتعاهدوا على خلافِ رأي علي بك والعودة إلى مصر وترْك الغربة والحرب، فلما عادوا إلى مصر دبَّرَ علي بيك مؤامرةً لقتل أبو الذهب, فلما اكتشفها أبو الذهب جمع أمراءَه وخشداشيته الكبار واتَّفقوا على قتال علي بك، ثم أقبل على محمد بك أبو الذهب الأمراء والأجناد المتفرقون بالأقاليم لَمَّا تحققوا الخلافَ بينه وبين سيِّده، كما حضر إليه جميعُ المنفيين وأتباع القاسمية والهوارة الذين شرَّدهم علي بك وسلَب نعمتَهم، فأنعم عليهم أبو الذهب وأكرمهم وتلقَّاهم بالبشاشة والمحبة، واعتذر لهم وواساهم وقلَّدهم الخدم، وبذلوا جهدهم في طاعته. فعند ذلك نزل بعلي بك من القَهرِ والغيظ المكظوم ما لا يوصَفُ، وشرع في تجهيزِ تجريدة عظيمة، وأمَّر عليها إسماعيل بك، وأمَر بجمعِ أصناف العساكر واجتهد، فلما التقى الجمعان خامر إسماعيل بك وانضمَّ بمن معه من الجموع إلى محمد بك، وصاروا حزبًا واحدًا، ورجع الذين لم يميلوا وهم القليل إلى علي بك.
بعد هزيمةِ علي بك أمام أبي الذهب محمد بك اتَّجه علي بك إلى الشامِ، فاتفق مع (ظاهر) ظاهر العمر فاستطاعا أن يسيطرا على صفد، ثم ينطلق منها إلى الجهات الثانية فدخل عكا وتسلَّم ولايتها، واضطر السلطان أن يعترف بذلك لانشغاله بالحربِ مع الروس التي دعمت علي بك وظاهر العمر لمحاربة العثمانيين، فسارا إلى صيدا لاحتلالها والتقيا بالعثمانيين خارجها وانتصرا على جيوش الدولة العثمانية بدعمٍ مِن الأسطول الروسي في البحر المتوسط يتابعُهم ويدعمهم ويضربُ القوات العثمانية حتى ضربت بيروت وخربت جزءًا منها، ثم عاد علي بك إلى مصرَ ليتخلص من أبي الذهب محمد بك، وبذلك يحمي ظهرَه ليتابع مسيرته إلى الأناضول، فسار إلى مصر ومعه أربعمائة جندي روسي، وذلك في مطلع عام 1187هـ فالتقى الطرفان وانتصر أبو الذهب وقَتَل كلَّ من كان مع علي بك الذي توفِّيَ فيما بعد متأثرًا بجراحِه.
أخذت روسيا تبث رجالها في بلاد القرم لإثارة المشاغب الداخلية بها، وبالتالي لابتلاعِها وضَمِّها إلى أملاكها؛ حيث لم يكن قَصدُها من استقلالها السياسي وقطعِ روابط تبعيتها للدولة العثمانية إلا الوصولَ لهذه الغاية، وما زالت مستمرةً في إلقاء الدسائس ونشر الفتن بين الأهالي، حتى عزلوا أمير بلاد دولت كراي الذي انتخبه الأهالي بمقتضى نصوصِ معاهدة كاينارجي، وأقاموا جاهين كراي مكانه، فلم يقبل تعيينَه فريقٌ عظيم من الأعيان، وخيفَ مِن وقوع حروب داخلية؛ ولذا أمرت روسيا الجنرال بوتمكين باحتلالِها، فدخلها بسبعين ألف جندي كانوا منتظرين على الحدودِ لهذه الغاية فتَمَّ لها مقصِدُها الذي كانت تسعى وراءه من مدة، وهو امتلاكُ كافة سواحل البحر الأسود الشمالية في غضون هذه السنة، فهاجت الدولةُ العثمانية وأرادت إشهارَ الحرب على روسيا لإلزامِها باحترام معاهدة كاينارجي القاضية باستقلال بلاد القرم استقلالًا سياسيًّا تامًّا، لكن حوَّلت أنظارَها ثانيًا عن الحرب بمساعي فرنسا التي أقنعتها بأنَّ هذه الحرب مع استعداد كاترين وتأهُّبِها لها لا يكون وراءها إلا الخرابُ والدمار.
بعد أن تمكَّن محمد بك أبو الذهب من مصرَ على إثرِ هزيمة قوات أستاذه علي بك، اشتدَّ الأمر بعلي بك ولاحت على دولتِه لوائح الزوالِ، وكاد يموتُ من الغيظ والقهر, ثم شرع في تجهيزِ تجريدةٍ أخرى وأميرُها علي بك الطنطاوي, ووقعت بينهم معركةٌ قوية هُزِمَت فيها عسكر علي بك, فرَكِبَ إلى داره وحمل حمولَه وأمواله وخرج من مصر وذهب إلى جهة الشامِ، وذلك ليلة الخامس والعشرين من شهر المحرم، وبصحبته علي بك الطنطاوي وباقي صناجقه ومماليكِه وأتباعه وطوائفه. فلما أصبح يوم الخميس سادس عشريه عدَّى محمد بك إلى برِّ مصر، وأوقدوا النارَ في ذلك اليوم في الدير بعد ما نهبوه، ودخل محمد بك إلى مصرَ وصار أميرها.
كانت قلعة بندر قلعةً عثمانية مهمةً على الساحل الجنوبي من تورلا قربَ مدينة كيشنيف، انهزم الصدر الأعظم والسردار الأكرم عوض خليل باشا أمام رومانزوف في موقع كارتال قرب أيساكجي. فتمكَّن الجيش الروسي من الاستيلاء على القلعة، وقد ذبح الروس ُكافة المسلمين الموجودين في القلعة بالسيف، بلغ عددهم 50 ألف جندي عثماني، تمت مطاردتُهم بعد تركهم القتالَ والهروب من القلعة، فذبحهم الروس- الذين تكبدوا خسائر كبيرة على يد هؤلاء الجنود الأتراك- يقول يلماز: "كانت روسيا هي المنتصرةَ في الحرب في بداية خريف هذا العام، وهذه نقطة تحول في التاريخ؛ فلأولِ مرة في التاريخ تغلبُ دولة أوربية لوحدها في حربٍ شاملة مع الدولة العثمانية. إنَّ تركيا كانت حتى هذا التاريخ الدولةَ الأولى في العالَم، سقطت من حيث القدرةُ إلى الدرجة الرابعة بعد إنكلترا وفرنسا وروسيا بالتسلسل".
أبرمت روسيا مع النمسا اتفاقًا سِريًّا تمَّ بين كاترين الثانية وبين الإمبراطور جوزيف الثاني عند مقابلتهما بمدينة كرزن، قاضيًا بمحاربة الدولة العثمانية لإنشاءِ حكومةٍ مُستقلةٍ تكون حاجِزًا بينهما وبين الدولة العثمانية، مكوَّنة من الفلاخ والبغدان وإقليم بساربيا يكون اسمُها مملكة داسي، ويعَّين لها ملكٌ من المذهب الأرثوذكسي، وتأخذ روسيا ميناء أوتشاكوف (مدينة أوزي) وبعض جزائر الروم، وتأخذ النمسا بلادَ الصرب وبوسنه وهرسك من أملاك الدولة العثمانية، وبلاد دلماسيا من أملاك البندقية وتعطيها عِوَضًا عن ذلك بلاد مورة وجزيرتي كريد وقبرص، وأن تعطي باقيَ دول أوروبا أجزاءً أخرى يُتَّفق عليها فيما بعد، وإذا أتيح لهم النصرُ ودخلوا مدينة الأستانة، فيعيدون مملكة بيزانطة الأهلية كما كانت قبل الفتح العثماني، ويعَيَّن الغراندوق الروسي قسطنطينُ بن بولص ملكًا عليها بشَرطِ أن يتنازلَ عن حقوقِه في مملكة روسيا؛ حتى لا يتَّفِقَ وجودُ المملكتين الروسية والبيزنطية الوهمية في قبضة ملكٍ واحدٍ, وخوفًا من وقوع الحرب بسبب القرمِ، مع عدم استعداد الدولة العثمانية في ذاك الوقت على مقاومة روسيا, ففضَّلت قبولَ مشورة فرنسا والاعتراف بضمِّ القرم لروسيا، على أن تتعرَّض لحَربٍ تكونُ عاقبتها وخيمةً، واعترفت بذلك في سنة 1774م.