استطاع إبراهيم باشا أن يستوليَ على بلاد الشام جميعِها ويهزِمَ جيشَ حسين باشا من قِبَلِ الخليفة العثماني، فتابع إبراهيمُ سيرَه باتجاه الأناضول فجهَّز الخليفةُ أيضًا جيشًا آخر بقيادة رشيد باشا الذي التقى مع إبراهيم قرب قونية بعد أن اجتاز إبراهيم جبالَ طوروس، واحتَلَّ أضنة، وانتصر إبراهيم باشا وأخذ القائِدَ رشيد باشا أسيرًا، وأصبحت أبوابُ استانبول مفتوحةً أمامه، فخَشِيَت الدول الأوربية أن يتوغَّلَ أكثر من ذلك خوفًا على مصالحِهم، وكان أكثرُهم خوفًا روسيا التي عَرَضت الدعمَ، فأرسلت خمسة عشر ألفَ مقاتل لحمايةِ استانبول، فخافت إنكلترا وفرنسا أيضًا من أن تحظى روسيا بمفردها بالنفوذِ، فطلبوا من الخليفة التفاهُمَ مع محمد علي باشا، فكانت معاهدة كوتاهية في عام 1248هـ التي أوقفت تقَدُّمَ إبراهيم باشا عن دخولِ الأناضول.
وقع الطاعونُ العظيم الذي عَمَّ العراق والسواد والمجرة وسوق الشيوخ والبصرة والزبير والكويت وما حولها، وليس هذا مِثلَ الوباء الذي قبله المسمى العقاص (أبو زويعة)، بل هذا هو الطاعونُ المعتاد -نعوذ بالله من غضبه وعقابه- وحَلَّ بهم الفَناءُ العظيم الذي انقطع منه قبائل وحمائل، وخلت من أهلها منازلُ، وإذا دخل في بيتٍ لم يخرج منه وفيه عينٌ تطرفُ، وجثا الناسُ في بيوتهم لا يجِدون من يدفنهم، وأموالهم عندهم ليس لها والٍ، وأنتنت البلدانُ مِن جِيَف الناسِ، وبقيت الدواب والأنعام سائبةً في البلدان ليس عندها من يعلِفُها ويسقيها حتى مات أكثَرُها! ومات بعض الأطفال عطشًا وجوعًا، وخر أكثرهم في المساجد صريعًا، لأنَّ أهاليهم إذا أحسُّوا بالألم رموهم في المساجِدِ، رجاء أن يأتيَهم من ينقِذُهم، فيموتون فيها؛ لأنه لا يأتيها أحدٌ ولا يقام فيها جماعةٌ!! وبقيت البلدان خاليةً لا يأتي إليها أحدٌ، وفيها من الأموال ما لا يحصى عَدُّه إلَّا اللهُ.
هو الشاعرُ المشهور محمد بن جمد بن محمد ابن لعبون بن مدلج الوايلي البكري العنزي، أمير شعراء النبط، ولِدَ في بلدة حرمة بنجد سنة 1205هـ وحَفِظَ بها القرآن وتعَلَّم الكتابة، وكان خطُّه فائقًا. ونَظَم الشعرَ في صغرِه. ومال إلى اللهوِ والبطالة. ورحل إلى الزبير في العراق، ساعده ذكاؤه الشِّعري وشخصيتُه المَرِحة الطَّرِبة في توطيدِ علاقاته مع كثيرٍ مِن وجهاءِ وأعيان نجد والزبير والكويت والأحساء والبحرين والهند، وورد في شعره ذِكرُ كِبارِ شخصيات عصره، كان شعره جيدًا إلَّا أن فيه تخبيطًا في العقيدةِ، وقيل: إنه أنشأ قصيدةً تاب فيها وتضَرَّع إلى الله. قصَدَ الكويت فمات فيها بالطاعون.
سار الإمامُ تركي بن عبد الله غازيًا من الرياض بجميعِ غَزوِه من نواحي رعاياه، ونزل الرمحية -الماء المعروف في العرمة- وأقام فيها نحو 40 يومًا ووفد عليه كثيرٌ من رؤساء العُربان من أهل الشمال، وأتاه كثيرٌ مِن الهدايا من رؤساءِ الظفير والمنتفق وغيرهم، وأتى إليه مكاتباتٌ من علي باشا والي بغداد، ثم بعث الإمام عمالَه لعُربان نجد يقبِضون منهم الزكاةَ، فكُلُّهم سَمِعوا وأطاعوا وأدَّوا الزكاة سوى العجمان، ثم رحل إليهم من موضِعِه الذي كان فيه، فلما بلغهم قدومُه عليهم، دفعوا الزكاةَ لعُمَّالِه.
حصل في السماء تغييرٌ عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ ففي آخر صفر ليلة خمس وعشرين وست وعشرين منه، صار في السماء والأرض نورٌ قريبٌ من نور القمر، واستمَرَّ إلى آخر الشهر، فلما كان سابع ربيع الأول صار قَترٌ في السماء وتغيرت الشمسُ، وفي أول العشر الأواخر من هذا الشهر ظهرت الشمسُ مِن المشرق خضراءَ كأنَّها قطعةُ زجاج وصارت تلك الخُضرةُ في الجدران والأرض، وحسبها الناس كسوفًا! وفي هذا الشهر صار في الأُفقِ حُمرةٌ زائدة بعد غروب الشمس وقبل طلوعها، واستمَرَّ أيامًا، وشوهِدَ قبل انفلاق الصبح حمرةٌ بادية من جهة الشمال ليس من جهة الفجر نحو ثلاثة أيام، وفي النصف من هذا الشهر بعد صلاة المغرب ظهر من الأفق حمرةٌ عظيمة من جهة الجَدْي، ثم سارت إلى المغرب وأضاءت الأرض والجدران، واخضرَّت واحمَرَّت، حتى ظن الناسُ أن الشمس لم تغرب. وفي ربيعٍ الثاني في أوله اجتمع من السياراتِ خمسةٌ في برج الأسد (الشمس والقمر، والمريخ وزحل وعطارد).
نجح إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في فتح عكا بعد حصار دام ستة أشهر، وكان لسقوطِها دويٌّ هائِلٌ على الدول الأوروبية، ولفتت الأنظارَ إلى عبقرية إبراهيم باشا وأركان حَربِه سليمان باشا الفرنساوي. وتجدُرُ الإشارةُ هنا إلى أن نابليون بونابرت القائِدَ الفرنسي كان قد عجز عن اقتحامِها قبل ذلك أثناء حملتِه على مصر والعالمِ الإسلاميِّ.
وقَعَ بردٌ شديدٌ في نجدٍ أضَرَّ بالنخلِ وقطرت العسبان دبسًا مِن شدة البرد، فلما جاء الصيفُ بان الخَلَلُ في النخيل ويَبِس أكثر عسبانها، وأما الزرع والقتُّ والنبات فضرَرُه قليل، ثم حصل في السنة التالية بردٌ أعظم من الأول حتى تجمَّد الماء في السواقي والزروع وبين الميزاب والأرض، وأضَرَّ بالنخل، وفي هاتين السنتين ما اختَلَّ حمل النخل، بل كان على معتاده، فلما كانت سنة الخمسين لم يحمِل النخلُ إلا بنصفِ حملِه.
هو فَيصلُ بن وطبان بن محمد الدويش الملقَّب بالأكوخ، شيخ قبيلة مطير. تولى المشيخة من عام 1205هـ. انضَمَّ مع القوات العثمانية بقيادةِ إبراهيم باشا في الاستيلاءِ على مدن القصيم والعارض وحصار الدرعية، وكان سببُ انضمامه قتل 12 رجلًا من شيوخ مطير وأقربائه من قِبَلِ عبد الله بن سعود، وكان له مراسلات عديدةٌ مع إبراهيم باشا
قال ابن بشر: "في ليلة الثلاثاء 19 جمادى الآخرة بعدما مضى نصفُ الليل تطايرت النجومُ في السماء كأنها الجرادُ، وكأنها شُعَل النار وقدح الزند من جميع جهاتِ السماء كلها شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، وصار فيها شهبٌ عظيمة تنقض وتضيء بالأرضِ، ويبقى موضع الشهاب ساعةً لا يزول، وانزعج الناس لذلك، واستمر إلى بعد اسفرارِ الصبحِ حتى ستره النهارُ، وأخبرني من أثِقُ به أنه رأى شهبًا تنقض بعدما طلعت الشمسُ يراها كأنَّها الدخان".
سار الإمامُ تركي بن عبد الله بجنودِه من جميع الرعايا من أهلِ نجدٍ باديها وحاضرها، وعدا على فلاح بن حثلين وعُربانه من العجمان وأخلاطِ مَن معهم من العربان، فسبق إليهم النذيرُ، فانهزم ابن حثلين ومن معه من منزلهم قربَ أم الربيعة، فنزل الإمام تركي في نفس المكان فرجع إليه المرضف شيخُ آل مرة وأتباعه، وصالحه على نفسه ومن تَبِعَه من العُربان، فلما عَلِمَ ابن حثلين بذلك داخَلَه الرُّعبُ، فركب قاصدًا تركيًا، وألفى عليه بلا ذمَّةٍ ولا عهدٍ، فقَيَّده الإمام بالحديدِ، ثم أرسله في قيوده إلى الرياض واعتقَلَه فيه.
لما رجع الإمامُ تركي من بعض غزواته وخرج من الدهناء ونزل غدير وثيلان، أمَرَ على رؤساء النواحي وأمرائهم أن يجتمعوا عنده، فلما حضروا قام فيهم مذكِّرًا بنعمة الاجتماع بعد الفُرقةِ، ثم أغلظ الكلام على الأمراء وتهدَّدهم وتوعَّدَهم عن ظلم الرعايا وقال: " اسمَعوا يا أمراء البلدان، اسمعوا يا أمراء المسلمين، إياكم وظلمَ الرعايا والأخذ منهم غير الحقِّ، فإذا ورد عليكم أمري بالمغزى حملتموهم زيادةً لكم إياكم، وذلك فإنه ما منعني أن أجعل على أهل البلدان زيادة ركاب لغزوهم إلَّا من أجل الرفقِ بهم، وإني ما حمَّلتُهم إلا بعضَ ما حمَّلهم الذي قبل... ثم تكلم للرعايا فقال لهم: أيُّما أمير ظلمكم فأخبروني، فقام أمير بريدة عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن حسن فقال: يا إمامَ المسلمين خُصَّ بقولك ولا تعُمَّ به، فإن كنت نقمت على أحدٍ مِنَّا فأخبره بفِعلِه, فقال: إنما القولُ فيك وأمثالك، تحسبون أنكم ملكتم البلد بسيوفِكم، وإنما أخذها لكم وذَلَّلها سيفُ الإسلامِ والاجتماع على الإمام".
تمَّ توقيعُ اتفاقية "كوتاهية" بين محمد علي باشا والدولة العثمانية بعد حروبٍ دامية بينهما، بتدخُّلٍ من روسيا وبريطانيا وفرنسا؛ للحِفاظِ على مصالحِهم، واتفق الطرفان على أن تتخلى الدولةُ العثمانيةُ لمحمد علي عن سوريا وإقليم أضنة، ونَصَّت المعاهدة على أن تتراجَعَ جيوش محمد علي عن إقليمِ الأناضول إلى ما بعد جبالِ طوروس، مع تثبيت محمَّد علي في ولاية مصر مدَّةَ حياته له ولنَسلِه، ويُعطى معها الشام وكريت والحجاز، فيُعَيِّن محمد علي واليًا مِن قِبَلِه على ولاياتِ الشام الأربع: عكا وطرابلس ودمشق وحلب، وعلى جزيرة كريت أيضًا، ويعين إبراهيم بن محمد علي واليًا على إقليم أضنة، وهو الإقليم المتاخِم للأناضول.
تمكَّن محمد علي أن يبنيَ في مصر دولةً عصرية على النَّسَق الأوروبي، واستعان في مشروعاتِه الاقتصادية والعِلميَّةِ بخبراء أوروبيين، ومنهم بصفة خاصة السان سيمونيون (أتباع سان سيمون الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي) الفرنسيون، الذين أمضَوا في مصر بضعَ سنوات في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وكانوا يَدعُون إلى إقامة مجتمع نموذجيٍّ على أساسِ الصناعة المعتَمِدة على العلم الحديث. وكانت أهمُّ دعائِمِ دولة محمد علي العصرية: سياستُه التعليميَّة والتثقيفية الحديثة؛ فإنَّه طَفِقَ منذ 1809م بإرسالِ بعثات تعليمية إلى مدن إيطالية (ليفورنو، ميلانو، فلورنسا، وروما) لدراسةِ العلوم العسكرية، وطُرُق بناء السفن، والطباعة. وأتبعها ببعثاتٍ لفرنسا، ولأول مرة أصبح التعليمُ منهجيًّا. فأنشأ المدارسَ التقنيةَ ليلتَحِقَ خرِّيجوها بالجيش. وأوجد زراعاتٍ جديدة، كالقطن، وبنى المصانع واعتنى بالريِّ، وشيَّد القناطِرَ الخيرية على النيل عند مصَبَّي فرعي دمياط ورشيد. ولما استطاع محمد علي القضاءَ على المماليك ربط القاهرة بالأقاليمِ، ووضع سياسةً تصنيعية وزراعية موسَّعة، وضبط المعاملاتِ الماليةَ والتجاريةَ والإدارية والزراعية لأولِ مرة في تاريخ مصرَ.
سار أهلُ عسير وألمع وجنودُهم من أهلِ اليمن على بلدة المخا في اليمن، وقد أخذها التركُ ومَلَكوها، فلَبِسَ من عسير وأتباعهم قدرُ ألفي رجلٍ أكفانَهم وقصدوا أسوارَها وتسوَّروا جدرانها، وقُتِلَ كثيرٌ فوق السور، فلم يَثنِ عَزمَ الباقين، فأخذوا البلدَ عَنوةً من أيدي الترك وغنموا أموالًا لا تحصى.