جَرَت فتنةٌ ببغداد بين الديلم، وكان سببُها أنَّ أسفار بن كردويه، وهو من أكابِرِ القُوَّاد، استنفر من صمصام الدولة، واستمالَ كثيرًا من العسكَرِ إلى طاعة شَرَف الدولة، واتَّفَق رأيُهم على أن يولُّوا الأميرَ بهاءَ الدولة أبا نصر بنَ عضد الدولة العراقَ نيابةً عن أخيه شَرَف الدولة، وكان صمصام الدولة مريضًا، فتمكَّنَ أسفار من الذي عزم عليه، وأظهَرَ ذلك، وتأخَّرَ عن الدار، وراسله صمصامُ الدولة يستميلُه ويُسَكِّنُه، فما زاده إلَّا تماديًا، فلما رأى ذلك من حالِه، راسل الطائِعَ يطلُبُ منه الركوبَ معه، وكان صمصام الدولةِ قد برئَ مِن مرضه، فامتنع الطائِعُ من ذلك، فشرع صمصام الدولة، واستمالَ فولاذ زماندار، وكان موافِقًا لأسفار إلَّا أنَّه كان يأنَفُ مِن مُتابعتِه لكِبَرِ شأنه. فلمَّا راسله صمصام الدولة أجابه، واستحلفه على ما أراد، وخرجَ مِن عنده، وقاتل أسفار، فهَزَمه فولاذ، وأُخِذَ الأميرُ أبو نصر أسيرًا، وأُحضِرَ عند أخيه صمصام الدولة، فرَقَّ له، وعَلِمَ أنَّه لا ذنب له، فاعتقله مُكَرَّمًا، وكان عمرُه حينئذ خمس عشرة سنة, وثبَتَ أمرُ صمصام الدولة، وسُعِيَ إليه بابن سعدان الذي كان وزيرَه، فعَزَله، ومضى أسفار إلى الأهواز، واتَّصَل بالأمير أبي الحُسَينِ بن عضُد الدولة، وخدمه، وسار باقي العسكَرِ إلى شرَفِ الدَّولة.
ورد إسحاقُ وجعفرٌ البحريان، وهما من الستَّة القرامطة الذين يلقَّبون بالسادة، فمَلَكا الكوفةَ، وخَطَبا لشَرَف الدولة، فانزعج النَّاسُ لذلك؛ لِمَا في النفوس من هيبتِهم وبأسِهم، وكان نائبُهم ببغداد يُعرَفُ بأبي بكر بن شاهويه، يتحَكَّمُ تحكُّمَ الوُزَراء، فقَبَضَ عليه صمصام الدولة، فلما ورد القرامطةُ الكوفة كتب إليهما صمصامُ الدولة يتلَطَّفُهما، ويسألهما عن سبَبِ حَرَكتهما، فذكرا أنَّ قَبضَ نائِبِهم هو السَّبَبُ في قصدهم بلادَه، وبثَّا أصحابَهما، وجَبَيا المالَ، ووصل أبو قيسٍ الحسَنُ بنُ المنذر إلى الجامعين، وهو من أكابِرِهم، فأرسل صمصامُ الدولة العساكِرَ، ومعهم العرب، فعَبَروا الفراتَ إليه وقاتلوه، فانهزم عنهم، وأُسِرَ أبو قيس وجماعةٌ مِن قُوَّادِهم، فقُتِلوا، فعاد القرامطةُ وسَيَّروا جيشًا آخر في عددٍ كثيرٍ وعُدَّة، فالتَقَوا هم وعساكِرُ صَمصامِ الدَّولة بالجامعَينِ أيضًا، فأجْلَت الوقعة عن هزيمةِ القرامطة، وقَتْلِ مُقَدَّمِهم وغيره، وأَسْر جماعة، ونَهْب سوادِهم، فلما بلغ المنهزمون إلى الكوفةِ، رحل القرامطة، وتبِعَهم العسكر إلى القادسيَّة، فلم يدركوهم، وزال مِن حينِئذٍ ناموسُهم.
أفرج صَمصامُ الدَّولة عن ورد الروميِّ، وكان قد حبَسَه، وشَرَط عليه إطلاقَ عَدَدٍ كثيرٍ مِن أسرى المسلمين، وأن يسَلِّمَ إليه سبعةَ حُصونٍ مِن بلد الروم برساتيقِها، وألا يقصِدَ بلادَ الإسلامِ هو ولا أحدٌ مِن أصحابه ما عاش، وجهَّزَه بما يحتاجُ إليه مِن مالٍ وغَيرِه.
سار ورد الروميُّ بعد إطلاق صمصام الدَّولةِ سَراحَه إلى بلاد الروم، واستمال في طريقِه خلقًا كثيرًا من البوادي وغيرِهم، وأطمَعَهم في العطاء والغنيمة، وسار حتى نزل بملطيَّة، فتسَلَّمَها، وقَوِيَ بها وبما فيها من مالٍ وغيرِه، وقصَدَ ورديس بن لاون، فتراسَلَا، واستقَرَّ الأمرُ بينهما على أن تكونَ القُسطنطينية وما جاورها من شماليَّ الخليجِ لورديس، وهذا الجانِبُ من الخليج لورد، وتحالفا واجتَمَعا، فقَبَضَ ورديس على ورد وحبَسَه، ثمَّ إنَّه ندم فأطلَقَه عن قريبٍ، وعبَرَ ورديس الخليج، وحصر القُسطنطينية وبها المَلِكان ابنا أرمانوس، وهما بسيل وقسطنطين، وضَيَّقَ عليهما، فراسلا مَلِكَ الرُّوسِ، واستنجداه وزَوَّجاه بأختٍ لهما، فامتَنَعَت من تسليمِ نَفسِها إلى من يخالِفُها في الدين، فتنَصَّرَ، وكان هذا أوَّلَ النَّصرانيَّة بالرُّوسِ، وتزوَّجَها وسار إلى لقاءِ ورديس، فاقتَتَلوا وتحاربوا فقُتِلَ ورديس، واستقَرَّ الملكان في مُلكِهما، وراسلا وردًا وأقرَّاه على ما بيَدِه، فبقي مدةً ثمَّ مات، وقيل إنَّه مات مسمومًا.
قام في المغرب على ابنِ أبي عامرٍ زيري بنُ عطيَّة المغراوي، ونكَثَ طاعتَه بعد الحُبِّ الشديدِ والوَلاءِ الأكيد، وطعن على ابنِ أبي عامرٍ تغَلُّبَه على هشام وسَلْبَه مُلكَه. فأنفذ له ابنُ أبي عامر واضِحًا الفتى في جيشٍ كثيف، فقاومه بالغَربِ، ودارت بينهم حروبٌ عظيمة. ثم أردَفَه ابنُ أبي عامر بوَلَدِه عبد الملك، وهبَطَ ابنُ أبي عامر إلى الجزيرةِ الخَضراءِ، يُمِدُّهم بالقُوَّاد والأجناد، وسار عبدُ الملك بن أبي عامر من طنجةَ إلى زيري بن عطيَّة، ودارت بينهم حربٌ لم يُسمَعْ بمثلها قَطُّ، ثم انهزم زيري ومن معه، ونجا مُثخَنًا بالجِراحِ.
جَرَت فتنةٌ بين الديلم والأتراكِ الذين مع شَرَفِ الدولة ببغداد، وسبَبُها أنَّ الدَّيلمَ اجتمعوا مع شَرَفِ الدولة في خَلق كثيرٍ بَلَغَت عِدَّتُهم خمسةَ عشر ألف رجل، وكان الأتراكُ في ثلاثةِ آلاف، فاستطال عليهم الدَّيلمُ، فجرت منازعةٌ بين بعضهم في دار وإصطبل، ثمَّ صارت إلى المُحاربة، فاستظهر الديلمُ لكَثرتِهم، وأرادوا إخراجَ صمصامِ الدَّولة وإعادته إلى مُلكِه، وبلغ شرفَ الدَّولةِ الخبَرُ، فوكَلَ بصمصام الدولة من يقتُلُه إنْ هَمَّ الديلم بإخراجه، ثم إنَّ الديلم لَمَّا استظهروا على الأتراكِ تَبِعوهم، فتشَوَّشَت صفوفُهم، فعادت الأتراكُ عليهم من أمامِهم وخَلفِهم، فانهزموا، وقُتِلَ منهم زيادةٌ على ثلاثة آلاف، ودخل الأتراكُ البلَدَ، فقتلوا مَن وجدوه منهم، ونَهَبوا أموالهم، وتفَرَّقَ الديلم؛ فبعضُهم اعتصم بشَرَف الدولة، وبعضُهم سار عنه، فلمَّا كان الغدُ دخل شَرَفُ الدولة بغدادَ والديلمُ المعتَصِمونَ به معه، فخرج الطائِعُ لله ولَقِيَه وهَنَّأه بالسلامة، وحَمَل صمصام الدولة إلى فارس، فاعتُقِل في قلعةٍ هناك.
سار شَرَفُ الدولة أبو الفوارِسِ بنُ عَضُد الدولة من الأهواز إلى واسط فمَلَكها، فأرسل إليه صمصامُ الدَّولةِ أخاه أبا نصرٍ يستعطِفُه بإطلاقه، وكان محبوسًا عنده، فلم يتعطَّفْ له، واتسَّعَ الخَرقُ على صمصام الدولة، وشَغَّبَ عليه جُندُه، فسار صمصام الدولةِ إلى أخيه شَرَف الدولة في خواصِّه، فلَقِيَه وطَيَّبَ قَلبَه، فلما خرجَ مِن عنده قبَضَ عليه، وأرسل إلى بغدادَ مَن يحتاطُ على دار المَملكةِ، وسار شرفُ الدولة فوصل إلى بغدادَ في شهر رمضان، فنزل بالشفيعي، وأخوه صمصام الدولة معه تحت الاعتقالِ، وكانت إمارتُه بالعراق ثلاثَ سنين وأحد عشر شهرًا.
أرسل العزيزُ بالله الفاطمي بمصرَ داعيًا له إلى كتامةَ، يقال له أبو الفهمِ، واسمُه حسَنُ بنُ نصر، يدعوهم إلى طاعتِه، وغَرَضُه أن تميلَ كتامة إليه وترسِلَ إليه جندًا يقاتِلونَ المنصور صاحِبَ إفريقيةَ، ويأخذون إفريقيةَ منه، لَمَّا رأى مِن قُوَّتِه، فدعاهم أبو الفهم، فكثر أتباعُه، وقاد الجيوشَ، وعَظُمَ شأنُه، وعزم المنصورُ على قَصدِه، فأرسل إلى العزيزِ بمصرَ يُعَرِّفُه الحال، فأرسل العزيزُ رَسولينِ إلى المنصور ينهاه عن التعرُّضِ لأبي الفهم وكتامة، وأمرهما أن يسيرا إلى كتامة بعد الفراغِ مِن رسالة المنصور، فلمَّا وصلا إلى المنصور وأبلغاه رسالةَ العزيز أغلَظَ القَولَ لهما وللعزيز أيضًا، وأغلَظا له، فأمَرَهما بالمُقامِ عنده بقية شعبان ورمضان، ولم يترُكْهما يَمضِيان إلى كتامة، ثم سارَ إلى كتامة والرَّسولانِ معه، فكان لا يمُرُّ بقصرٍ ولا مَنزلٍ إلا هَدَمه، حتى بلغ مدينة سطيف، وهي كرسيُّ عِزِّهم، فاقتتلوا عندها قتالًا عظيمًا، فانهزمت كتامة، وهرب أبو الفهم إلى جبلٍ وعرٍ فيه ناسٌ مِن كتامة يقال لهم بنو إبراهيم، فأرسل إليهم المنصورُ يتهَدَّدُهم إن لم يسَلِّموه، فقالوا: هو ضيفُنا ولا نسَلِّمُه، ولكن أرسِلْ أنت إليه فخُذْه ونحن لا نمنعُه. فأرسل فأخَذَه، وضربه ضربًا شديدًا، ثم قتَلَه وسلَخَه، وأكَلَت صنهاجةُ وعَبيدُ المنصور لحمَه، وقُتِلَ معه جماعةٌ مِن الدعاة ووجوهُ كتامة، وعاد إلى أشير، ورد الرسولينِ إلى العزيز فأخبَرَاه بما فُعِل بأبي الفهم، وقالا: جئْنا من عند شياطينَ يأكلونَ النَّاسَ، فأرسل العزيزُ إلى المنصورِ يطَيِّبُ قَلبَه، وأرسل إليه هديَّةً، ولم يذكر له أبا الفَهمِ.
تهيأ العزيزُ الفاطميُّ صاحِبُ مِصرَ لِغَزوِ الرُّوم، فاحتَرَقت مراكبُه، فاتَّهَم بها أناسًا. ثمَّ بعد ذلك وصَلَت رسلُ الروم في البحر إلى ساحِلِ القدس، ودخلوا مصرَ يَطلُبونَ الصُّلح، فأجابهم العزيزُ واشترط شروطًا شديدةً التَزَموا بها كلها، منها: أنَّهم يَحلِفونَ أنَّه لا يبقى في مملكتِهم أسيرٌ إلَّا أطلقوه، وأن يُخطَبَ للعَزيزِ في جامع قُسطنطينية كلَّ جمعة، وأن يُحمَلَ إليه من أمتعةِ الرُّومِ كُلَّ ما افترَضه عليهم، ثم رَدَّهم بعقدِ الهدنة سبعَ سِنينَ.
عُقِدَ مجلسٌ بحَضرةِ الخَليفةِ فيه القضاةُ وأعيان الدولة، وجُدِّدَت البيعة بين الطائعِ وبين شَرَف الدولة بن عَضُد الدولة، وكان يومًا مشهودًا، ثمَّ في ربيعها الأوَّل ركب شرف الدولة من داره إلى دارِ الخليفة وزُيِّنَت البلد وضُرِبَت البوقات والطُّبول والدبادب، فخَلَعَ عليه الخليفةُ وسَوَّره وأعطاه لواءَينِ معه، وعقَدَ له على ما وراء دارِه، واستخلفه على ذلك، ولَمَّا قُضِيَت البيعة دخل شرَفُ الدولة على أختِه امرأةِ الخليفةِ، فمكث عندها إلى العَصرِ والنَّاسُ ينتظرونه، ثم خرج وسار إلى داره للتهنئةِ.
هو أبو عليِّ الحسَنُ بنُ أحمد بن عبد الغَفَّار بن سليمان (أبو عليٍّ الفارِسيُّ) أحدُ عُلَماء العربيَّة المعدودينَ، وُلِدَ ببلده فسا, وقَدِمَ بغداد فاستوطَنَها، وكان فيه اعتزالٌ. عَلَت منزلتُه في النحوِ، حتى قال قومٌ مِن تلامذته هو فَوقَ المُبَرِّد، وأعلَمُ منه، وصنَّفَ كُتبًا عجيبةً حسَنة، لم يُسبَقْ إلى مثلِها، منها كتاب "الإيضاح" وكتاب "التكملة" في النحو. واشتهر ذِكرُه في الآفاق، وبَرَع له غِلمانٌ حُذَّاقٌ، مثل: عُثمانَ بنِ جِنِّيٍّ، وعليِّ بنِ عيسى الشيرازي، وغيرهما، وتقدَّمَ عند عَضُد الدولة وقال عنه: "أنا غلامُ أبي عليٍّ النَّحويِّ في النحوِ". توفي ودفن بالشونيزيه، وقد عاش 89 سنة.
جمعَ إنسانٌ يُعرَفُ بالأصفَرِ مِن بني المنتفق جَمعًا كثيرًا، وكان بينه وبين جمعٍ مِن القرامطة وقعةٌ شديدةٌ قُتِلَ فيها مُقَدَّمُ القرامطة، وانهزم أصحابُه وقُتِل منهم وأُسِرَ الكثيرُ، وسار الأصفَرُ إلى الأحساءِ، فتحَصَّنَ منه القرامِطةُ، فعدل إلى القطيفِ فأخذ ما كان فيها مِن عبيدِهم وأموالِهم ومواشيهم، وسار بها إلى البصرةِ.
في محرَّم كثُرَ الغَلاءُ والفَناءُ ببغداد إلى شعبان، وفي شَعبانَ كَثُرَت الرِّياحُ العواصفُ وتتابعت الأمطارُ، وكَثُرَت البروق والرعود، والبردُ الكبار، وسالت منه الأوديةُ، وامتلأت الأنهارُ والآبار ببلاد الجبل، وخَرِبَت المساكن، وامتلأت الأفناءُ طينًا وحجارةً، وانقَطَعَت الطرق، وجاءت وقتَ العَصرِ خامِسَ شعبانَ ريحٌ عظيمةٌ بفم الصلحِ، فهَدَمَت قطعةً مِن الجامع، وأهلكت جماعةً مِن الناس، وغَرَّقَت كثيرًا من السُّفُنِ الكبار المملوءة، واحتَمَلَت زورقًا منحَدِرًا فيه دوابُّ، وعِدَّةً من السفن، وألقت الجميعَ على مسافةٍ مِن موضعها، وفي هذا الوقتِ لَحِقَ أهلَ البَصرةِ حَرٌّ شديدٌ، بحيث سقطَ كثيرٌ مِن النَّاسِ في الطرقات وماتوا من شِدَّتِه.
في المحَرَّم أمَرَ شَرَفُ الدولة بأن تُرصَدَ الكَواكِبُ السَّبعةِ في مسيرها وتنقلُها في بروجِها على مثالِ ما كان المأمونَ يَفعَلُ، وتولَّى ذلك ابنُ رستم الكوهي، وكان له عِلمٌ بالهيئة والهندسة، وبنى بيتًا في دارِ المملكة بسببِ ذلك في آخرِ البُستان، وأقام الرَّصَد لليلتين بقيتا من صفَر.
وقعت الفِتنةُ ببغداد بين الأتراكِ والديلم، واشتَدَّ الأمرُ ودام القتال بينهم خمسة أيامٍ، وبهاءُ الدولةِ في داره يراسِلُهم في الصلح، فلم يسمَعوا قَولَه، وقُتِلَ بَعضُ رُسُلِه، ثمَّ إنَّه خرج إلى الأتراك، وحضَرَ القِتالَ معهم، فاشتَدَّ حينئذ الأمرُ، وعَظُمَ الشَّرُّ، ثم إنَّه شرع في الصلح، ورفَقَ بالأتراك، وراسل الديلم، فاستقَرَّ الحال بينهم، وحلَفَ بعضُهم لبعض، وكانت مُدَّة الحرب اثني عشر يومًا، ثمَّ إن الديلم تفَرَّقوا، فمضى فريقٌ بعد فريق، وأخرج بعضَهم، وقَبَض على البعضِ، فضَعُفَ أمرُهم، وقَوِيَت شوكةُ الأتراك، واشتَدَّت حالُهم.
سار فخرُ الدَّولةِ بنُ ركن الدولةِ مِن الريِّ إلى همذان، عازمًا على قَصدِ العِراقِ والاستيلاء عليها، فلمَّا توفِّيَ شَرَفُ الدولة عَلِمَ أنَّ الفُرصةَ قد أمكَنَت، وكان الصاحِبُ بنُ عَبَّاد قد وضع على فَخرِ الدَّولةِ مَن يُعَظِّمُ عنده مُلكَ العِراقِ، ولم يباشِرْ على ذلك خوفًا من خطر العاقبةِ، إلى أن قال له فخرُ الدولة: ما عندك في هذا الأمرِ؟ فأحال على أنَّ سعادتَه تُسَهِّلُ كُلَّ صَعبٍ، وعَظَّمَ البِلادَ. فتجَهَّزَ فخرُ الدولة وسار إلى همذان، وأتاه بدرُ بنُ حسنويه، وقصَدَه دبيس بن عفيف الأسدي، فاستقَرَّ الأمرُ على أن يسيرَ الصَّاحِبُ بنُ عبَّاد وبدر إلى العراق على الجادَّة، ويسير فخر الدَّولة على خوزستان. فلما سار الصاحِبُ حَذَّرَ فَخرَ الدَّولةِ مِن ناحيته، لكِنَّ فَخرَ الدولة أساء السيرةَ مع جندها، وضَيَّقَ عليهم، ولم يبذُل المال، فخابت ظنونُ النَّاسِ فيه، وكذلك أيضًا عسكَرُه، وقالوا: هكذا يفعَلُ بنا إذا تمكَّنَ مِن إرادته، فتخاذلوا، وكان الصاحِبُ قد أمسَكَ نفَسه تأثرًا بما قيل عنه من اتِّهامِه، فالأمورُ بسُكوتِه غيرُ مُستقيمةٍ. فلمَّا سَمِعَ بهاءُ الدولة بوصولِهم إلى الأهواز سيَّرَ إليهم العساكر، والتَقَوا هم وعساكر فخرِ الدولة، فاتفَقَ أنَّ دجلة الأهواز زادت ذلك الوقتَ زيادةً عظيمةً، وانفتحت البثوق منها، فظَنَّها عسكَرُ فخر الدولة مكيدةً، فانهزموا، فقَلِقَ فَخرُ الدولة من ذلك، وكان قد استبَدَّ برأيه، فعاد حينئذٍ إلى رأي الصَّاحبِ، فأشار ببذل المال، واستصلاحِ الجُند، وقيل له: إنَّ الرأيَ في مثل هذه الأوقات إخراجُ المال وتركُ مضايقة الجُند، فإن أطلَقْتَ المالَ ضَمِنْتُ لك حُصولَ أضعافِه بعد سَنةٍ. فلم يفعَلْ ذلك، وتفَرَّقَ عنه كثيرٌ مِن عَسكَرِ الأهواز، واتسَعَ الخَرقُ عليه، وضاقت الأمورُ به، فعاد إلى الرَّيِّ، وقَبَض في طريقِه على جماعةٍ مِن القُوَّاد الرازيِّينَ، ومَلَك أصحابُ بهاءِ الدَّولةِ الأهوازَ.
نشَبَت فِتنةٌ أثارها أبو الحسَنِ بنُ المعَلِّم الملَقَّب بالشيخ المفيد، فقام الشُّطَّارُ والعيَّارون بالسلب والنهب، فقام الخليفةُ بالقبض على الشَّيخِ المفيد وسجَنَه، ولكِنَّ بهاء الدولة قام بفَكِّه وإخلاء سبيله، فحَنِقَ الشِّيخُ المفيد على الخليفةِ، وأخذ يخطِّطُ ويكيدُ للخليفة.
هو صاحِبُ العِراقِ السُّلطانُ أبو الفوارسِ شَرَفُ الدولةِ, شيرويه بن عَضُد الدولة بن بُوَيه الديلمي الشيعي. تمَلَّكَ وظَفِرَ بأخيه صمصام الدولة فسَجَنَه، وكان فيه خيرٌ, وأزال المُصادرات وتمَلَّك بعده أخوه بهاءُ الدولة، وكان أخوهما الصمصام هو الذي تمَلَّك العراقَ بعد أبيهم عَضُد الدولة ثلاثةَ أعوام, ثم أقبل شرفُ الدولة لحَربِه, فذَلَّ وسَلَّمَ نَفسَه إلى أخيه, فغدر به وحبسه بشيراز إلى أن مات. تعَلَّلَ بالاستسقاءِ, وبَقِيَ لا يحتَمي, حتى مات, لم يبلُغ الثلاثينَ, وحُمِلَ إلى مشهدِ أميرِ المؤمنين علي، فدُفِنَ به، وكانت إمارتُه بالعراق سنتين وثمانية أشهر. لَمَّا اشتَدَّت عِلَّةُ شَرَف الدولة سيَّرَ ولَدَه أبا عليٍّ إلى بلاد فارس، وأصحَبَه الخزائِنَ والعُدَد وجماعةً كثيرةً مِن الأتراك، فلَمَّا أيِسَ أصحابُه منه اجتمع إليه أعيانُهم وسألوه أن يمَلِّكَ أحدًا، فقال: أنا في شُغُلٍ عمَّا تدعونني إليه. فقالوا له ليَأمُرْ أخاه بهاء الدولةِ أبا نصر أن ينوبَ عنه إلى أن يُعافى ليحفَظَ النَّاسَ لئلَّا تثورَ فِتنةٌ، ففعل ذلك، وتوقَّفَ بهاءُ الدولة ثمَّ أجاب إليه، فلما مات جلس بهاءُ الدولة في المملكة، وقعد للعَزاءِ.