مَلَكَ عَسكرُ المُستَنصِر بالله العُبيديِّ، صاحِبِ مصر، مَدينةَ صور، وسَببُ ذلك ما كان سَنةَ 482هـ أن أَميرَ الجُيوشِ بَدرًا، وَزيرَ المُستَنصِر، سَيَّرَ العَساكِرَ إلى مَدينةِ صور، وغَيرِها، من ساحِلِ الشامِ، وكان مَن بها قد امتَنعَ مِن طاعَتِهم، فمَلَكَها، وقَرَّرَ أُمورَها، وجَعَلَ فيها الأُمراءَ، وكان قد وَلَّى مَدينةَ صور الأَميرَ الذي يُعرَف بمُنيرِ الدولةِ الجُيوشيِّ، فعَصَى على المُستَنصِر وأَميرِ الجُيوشِ، وامتَنعَ بصور، فسُيِّرَت العِساكرُ من مصر إليه، وكان أَهلُ صور قد أَنكَروا على مُنيرِ الدولةِ عِصيانَه على سُلطانِه، فلمَّا وَصلَ العَسكرُ المصريُّ إلى صور وحَصَروها وقاتَلوها ثارَ أَهلُها، ونادوا بشِعارِ المُستَنصِر وأَميرِ الجُيوشِ، وسَلَّموا البلدَ، وهَجمَ العَسكرُ المصريُّ بغَيرِ مانعٍ ولا مُدافِعٍ، ونَهَبَ من البلدِ شَيئًا كَثيرًا، وأُسِرَ مُنيرُ الدولةِ ومَن معه مِن أَصحابِه، وحُمِلُوا إلى مصر، وقُطِعَ على أَهلِ البلدِ سِتُّون ألف دِينارٍ، فأَجحَفَت بهم، ولمَّا وَصلَ مُنيرُ الدولةِ إلى مصر ومعه الأَسرَى قُتِلُوا جَميعُهم ولم يَعفُ عن واحدٍ منهم.
طَلَبَ يوسفُ بن تاشفين من الخَليفَةِ العبَّاسيِّ المُستَظهِر بالله أن يُقَلِّدَهُ البِلادَ التي فَتحَها وبَعثَ إليه بهذا الطَّلَبَ مع عبدِالله بن العربي الإشبيلي ووَلَدِه القاضي أبي بكرِ بن العربي الإمامِ المَشهورِ، فعَهِدَ الخَليفةُ لابنِ تاشفين بما طَلَبَ.
يومَ الجُمعةِ رابع عشر المُحرَّم، خُطِبَ ببغداد للسُّلطانِ بركيارق بن ملكشاه، وكان قَدِمَها أَواخِرَ سَنَةِ سِتٍّ وثَمانين وأربعمائة، وأَرسلَ إلى الخَليفةِ المُقتدِي بأَمرِ الله يَطلُب الخُطبةَ، فأُجِيبَ إلى ذلك، وخَطَبَ له، ولُقِّبَ رُكنَ الدِّين، وحَملَ الوَزيرُ عَميدُ الدَّولةِ بن جَهيرٍ الخِلَعَ إلى بركيارق، فلَبِسَها، وعُرِضَ التَّقليدُ على الخَليفةِ لِيُعَلِّمَ عليه، فعَلَّمَ فيه، وتُوفِّي فَجأَةً، ووُلِّيَ ابنُه الإمامُ المُستَظهِر بالله الخِلافةَ، فأَرسلَ الخِلَعَ والتَّقليدَ إلى السُّلطانِ بركيارق، فأَقامَ ببغداد إلى رَبيعٍ الأَوَّل مِن السَّنَةِ، وسار عنها إلى المَوصِل.
هو أَميرُ المؤمنين المُقتَدِي بالله أبو القاسمِ عبدُ الله بنُ الأَميرِ ذَخيرةِ الدِّين أبي العبَّاس محمدِ بن القائمِ بأمرِ الله عبدِ الله بنِ القادرِ بالله أحمدَ بن إسحاقَ بن جَعفرٍ المُقتَدِر بن المُعتَضِد الهاشميُّ العبَّاسيُّ، تُوفِّي أَبوهُ الذَّخيرَةُ والمُقتدِي حَمْلٌ وأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسمُها: أرجوان، أرمنية عاشَت إلى خِلافَةِ ابنِ ابنِها المُستَرشِد بالله. بُويِعَ المُقتدِي بالخِلافة في ثالث عشر شعبان سَنةَ 467هـ، وهو ابنُ تسع عشرة سَنةً وثلاثة أَشهُر. كان المُقتدِي أَبيضَ حُلْوَ الشَّمائلِ، عُمِّرَت في أَيامِه مَحالٌّ كَثيرةٌ من بغداد، ظَهرَت في أَيامِه خَيراتٌ كَثيرةٌ، وآثارٌ حَسَنةٌ في البُلدان. قال عنه الذهبيُّ: "كانت قَواعِدُ الخِلافَةِ في أَيامِه باهِرَةً، وافِرَةَ الحُرمَةِ. بخِلافِ مَن تَقدَّمَه, ومِن مَحاسِنِه أنه أَمَرَ بنَفيِ المُغَنِّيات والخواطي من بغداد، وأن لا يَدخُل أَحدٌ الحَمَّامَ إلا بمِئزَرٍ. وضرب أَبراجَ الحَمامِ صِيانَةً لِحُرُمِ الناسِ. وكان دَيِّنًا خَيِّرًا، قَوِيَّ النَّفسِ، عاليَ الهِمَّةِ، مِن نُجَباءَ بَنِي العبَّاسِ". وفي يوم الجُمعةِ الرابع عشر المُحرَّم تُوفِّي الخَليفةُ المُقتدِي بأَمرِ الله فَجأَةً، فلمَّا عَلِمَ الوُزراءُ بذلك شَرَعوا في البَيْعَةِ لِوَلِيِّ العَهدِ ووَلَدِه أبي العبَّاسِ أَحمدَ المُستَظهِر بالله، وأُحضِرَ المُستَظهِر بالله لبغداد، وأُعلِمَ بمَوتِ أَبيهِ، وحَضَرَ الوَزيرُ فبايَعَهُ، ورَكِبَ إلى السُّلطانِ بركيارق، فأَعلَمَهُ الحالَ، وأَخَذَ بَيْعَتَه للمُستَظهِر بالله، فلمَّا كان اليومُ الثالث مِن مَوتِ المُقتدِي أُظهِرَ خَبرُ وَفاةِ الخَليفةِ وجُهِّزَ، ثم صَلَّى عليه ابنُه المُستَظهِر، ودُفِنَ، وكانت خِلافَةُ المُقتدِي تِسعَ عشرة سَنةً وثمانية أَشهُر غير يومين.
قُتِلَ قَسيمُ الدَّولةِ أتسز، وسَببُ قَتلِه أن تاجَ الدَّولةِ تتش لمَّا عاد من أذربيجان مُنهزِمًا لم يَزل يَجمَع العَساكرَ، فكَثُرت جُموعُه، وعَظُمَ حَشدُه، فسار في هذا التاريخِ عن دِمشقَ نحوَ حَلَب لِيَطلُب السَّلطنةَ، فاجتَمعَ قَسيمُ الدولةِ أتسز وبوزان، وأَمَدَّهُما رُكنُ الدِّينِ بركيارق بالأَميرِ كربوقا الذي صار بعدَ صاحِبِ المَوصِل، فلمَّا اجتَمَعوا ساروا إلى طَريقِه، فلَقوهُ عند نَهرِ سبعين قَريبًا من تَلِّ السُّلطانِ، بينه وبين حَلَب سِتَّةُ فَراسِخ، واقتَتَلوا، واشتَدَّ القِتالُ، فخامَرَ بَعضُ العَسكرِ الذين مع أتسز، فانهَزَموا، وتَبِعَهم الباقون، فتَمَّت الهَزيمةُ، وثَبَتَ أتسز، فأُخِذَ أَسيرًا، فقَتَلَهُ صَبْرًا، وسار نحوَ حَلَب، وكان قد دَخلَ إليها كربوقا، وبوزان، فحَفِظاها منه، وحَصَرَها تتش وأَلَحَّ في قِتالِها حتى مَلَكَها، وسَلَّمَها إليه المُقيمُ بقَلعةِ الشَّريفِ، ومنها دَخلَ البلدَ، وأَخذَهُما أَسِيرَيْنِ، وأَرسلَ إلى حران والرها لِيُسلِّموهُ مَن بهما وكانتا لبوزان، فامتَنَعوا من التَّسليمِ عليه، فقَتَلَ بوزان، وأَرسلَ رَأسَهُ إليهم وتَسَلَّم البَلدَينِ، وأمَّا كربوقا فإنه أَرسلَه إلى حِمصَ، فسَجَنهُ بها إلى أن أَخرَجهُ المَلِكُ رضوان بعدَ قَتْلِ أَبيهِ تتش، فلمَّا مَلَكَ تتش حران والرها سار إلى الدِّيارِ الجَزريَّةِ فمَلَكَها جَميعَها، ثم مَلَكَ دِيارَ بَكرٍ وخلاط، وسار إلى أذربيجان فمَلَكَ بِلادَها كُلَّها، ثم سار منها إلى همذان فمَلَكَها، وأَرسلَ إلى بغداد يَطلُب الخُطبةَ من الخَليفةِ المُستظهِر بالله، وكان شِحنَتُه –الشحنة يعني القَيِّم لضَبطِ البلد- ببغداد ايتكين جب، فلازَمَ الخِدمَةَ بالدِّيوانِ، وأَلَحَّ في طَلَبِها، فأُجيبَ إلى ذلك، بعدَ أن سَمِعوا أن بركيارق قد انهَزَم من عَسكرِ عَمِّهِ تتش.
انهَزمَ بركيارق مِن عَسكرِ عَمِّهِ تتش. وكان بركيارق بنصيبين، فلمَّا سَمِعَ بمَسيرِ عَمِّهِ إلى أذربيجان، سار هو من نصيبين، وعَبَرَ دِجلةَ مِن بَلدٍ فوقَ المَوصِل، وسار إلى إربل، ومنها إلى بلدِ سرخاب بن بدرٍ إلى أن بَقِيَ بينه وبين عَمِّهِ تِسعةُ فَراسِخ، ولم يكُن معه غيُر ألف رَجُلٍ، وكان عَمُّه في خمسين ألف رَجُلٍ، فسارَ الأَميرُ يعقوبُ بن آبق مِن عَسكرِ عَمِّه، فكَبَسَهُ وهَزَمهُ، ونَهبَ سَوادَه، ولم يَبقَ معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، واليارق، وهُم مِن الأُمراءِ الكِبارِ، فسار إلى أصبهان. فمَنَعَه مَن بِها مِن الدُّخولِ إليها، ثم أَذِنوا له خَديعةً منهم لِيَقبِضوا عليه، فلمَّا قارَبَها خَرجَ أَخوهُ المَلِكُ محمودٌ فلَقِيَهُ، ودَخلَ البلدَ، واحتاطوا عليه، فاتَّفقَ أنَّ أَخاهُ مَحمودًا حُمَّ وجُدِرَ، فأرادَ الأُمراءُ أن يَكحَلوا بركيارق، فماتَ محمودٌ آخر شَوَّال، فكان هذا مِن الفَرَجِ بعدَ الشِّدَّةِ، وجَلسَ بركيارق للعَزاءِ بأَخيهِ، ثم إن بركيارق جُدِرَ، بعدَ أَخيهِ، وعُوفِيَ وسَلِمَ، فلمَّا عُوفِيَ كاتَبَ مُؤَيِّدُ المُلْكِ وَزيرُه أُمراءَ العِراقيِّين، والخُراسانيِّين، واستَمالَهم، فعادوا كُلُّهم إلى بركيارق، فعَظُمَ شَأنُه وكَثُرَ عَسكرُه.
هو المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ بنُ أبي الحَسنِ عليٍّ الظاهر بن الحاكم الفاطِميُّ العُبيديُّ صاحِبُ مصر والشام، وُلِدَ سَنةَ 420هـ, ووَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ الظاهرِ وله سَبعُ سنين، في شعبان سنة 427هـ، وفي وَسطِ دَولتِه خُطِبَ له بإَمْرَةِ المؤمنين على مَنابرِ العِراقِ. قال ابنُ خلكان: "جَرَى في أَيامِه ما لم يَجرِ على أَيامِ أَحَدٍ مِن أَهلِ بَيتِه ممَّن تَقدَّمهُ ولا تَأخَّرهُ: منها قَضيةُ البساسيري فإنه لمَّا عَظُمَ أَمرُه، وكَبُرَ شأنُه ببغداد قَطعَ خُطبةَ الخَليفةِ العبَّاسيِّ القائمِ بأَمرِ الله، وخَطبَ للمُستَنصِر العُبيديِّ سَنةَ 450هـ، ودَعَا له على مَنابِرِها مُدَّةَ سَنَةٍ, ومنها أنه ثار في أَيامِه عليُّ بنُ محمدٍ الصليحيُّ ومَلَكَ بِلادَ اليَمنِ، ودَعَا للمُستَنصِر على مَنابِرِها, ومنها أنه أقامَ في الأَمرِ سِتِّينَ سَنَةً، وهذا أَمرٌ لم يَبلُغه أَحدٌ مِن أَهلِ بَيتِه ولا مِن بَنِي العبَّاسِ, ومنها أنه وَلِيَ الأَمرَ وهو ابنُ سَبعِ سِنين. ومنها أن دَعوتَهم لم تَزل قائمةً بالمَغربِ منذ قام جَدُّهُم المَهديُّ إلى أَيامِ المُعِزِّ ولمَّا تَوَجَّه المُعِزُّ إلى مصر واستَخلَف بلكين بن زيري، كانت الخُطبةُ في تلك النواحي لا زالت للعُبيديِّين، إلى أن قَطَعَها المُعِزُّ بن باديس في أَيامِ المُستَنصِر سَنةَ 443هـ، وفي سَنةِ 449هـ قُطِعَ اسمُ المُستَنصِر واسمُ آبائِه مِن الخُطبةِ في الحَرَمينِ، وذُكِرَ اسمُ المُقتدِي بأَمرِ الله خَليفةِ بغداد، ومنها أنه حَدَثَ في أَيامِه الغَلاءُ العَظيمُ الذي ما عُهِدَ مِثلُه منذ زَمانِ يوسف عليه السلام، وأقامَ سَبعَ سِنينَ، وأَكلَ الناسُ بَعضُهم بَعضًا، حتى قِيلَ: إنه بِيعَ رَغيفٌ واحدٌ بخَمسين دِينارًا، وكان المُستَنصِر في هذه الشِّدَّةِ يَركَب وَحدَه، وكلُّ مَن معه من الخَواصِّ مُتَرَجِّلون ليس لهم دَوابٌّ يَركَبونَها، وكانوا إذا مَشوا تَساقَطوا في الطُّرُقاتِ من الجُوعِ، وآخِرُ الأمرِ تَوجَّهَت أُمُّ المُستَنصِر وبَناتُه إلى بغداد من فَرْطِ الجُوعِ سَنةَ 462هـ، وتَفَرَّق أَهلُ مصر في البِلادِ وتَشتَّتوا"، وتُوفِّي المُستَنصِر لَيلةَ الخميسِ لاثنتي عشرة لَيلةً بَقِينَ من ذي الحجَّةِ سَنةَ 487هـ وكانت مُدَّةُ حُكمِه سِتِّينَ سَنةً وأربعةَ أَشهُر، ولمَّا مات وَلِيَ بَعدَه ابنُه أبو القاسمِ أحمدَ المُستَعلِي بالله، وكان قد عَهِدَ في حَياتِه لابنِه نزار، فخَلَعهُ الأفضلُ أبو القسمِ شاهنشاه بن أَميرِ الجُيوشِ وبايَعَ المُستَعلِي بالله، وسَببُ خَلعِه أن الأفضلَ رَكِبَ مَرَّةً، أَيامَ المُستَنصِر، ودَخلَ دِهليزَ القَصرِ من بابِ الذَّهبِ راكِبًا، ونزار خارِجٌ، والمَجازُ مُظلِمٌ، فلم يَرَهُ الأفضلُ، فصاحَ به نزار: انزِل، يا أرمني، كلب، عن الفَرَسِ، ما أَقَلَّ أَدَبَك! فحَقَدَها عليه، فلمَّا مات المُستَنصِر خَلَعهُ خَوفًا منه على نَفسِه، وبايَعَ المُستَعلي، فهَرَب نزار إلى الإسكندريةِ، وبها ناصِرُ الدولةِ أفتكين، فبايَعَهُ أَهلُ الإسكندريةِ وسَمَّوهُ المُصطفَى لدِينِ الله، فخَطَبَ الناسَ، ولَعنَ الأَفضلَ، وأَعانَه أيضًا القاضي جَلالُ الدولةِ بنُ عَمَّارٍ، قاضي الإسكندريةِ، فسار إليه الأَفضلُ، وحاصَرَهُ بالإسكندريةِ، فعاد عنه مَقهورًا، ثم ازدادَ عَسكرًا، وسار إليه، فحَصَرهُ وأَخَذهُ، وأَخذَ أفتكين فقَتَلهُ، وتَسلَّم المُستعلِي نزارًا فبَنَى عليه حائِطًا فماتَ، وقَتَلَ القاضيَ جَلالَ الدولةِ بنَ عَمَّارٍ ومَن أَعانَه.
لمَّا مَلَكَ بركيارق بعدَ أَبيهِ وكان ما كان مِن قِتالِه مع عَمِّهِ تتش، ومُحاولَةِ بَعضِ العَسكرِ بالتَّحريضِ أن يَكحَلوهُ ويَسمُلوا عَينَيهِ فنَجَّاهُ الله من ذلك، ثم إنه مَرَضَ بالجُدَرِي وعاد عَمُّهُ لقِتالِه ثم شُفِيَ وقَتَلَ عَمَّهُ فأَصبحَ يَعلُو كَعبُه ويَقوَى شَأنُه ويَستَفحِل أَمرُه.
الإمامُ، القُدوَةُ، الأَثَرِيُّ المُتقِنُ، الحافِظُ، شَيخُ المُحَدِّثينَ، أبو عبدِ الله محمدُ بنُ أبي نَصرٍ فتوح بن عبدِ الله بن فتوحِ بن حُميدِ بن يصل الأزديُّ، الحُمَيدِيُّ، الأندلسيُّ؛ الميورقيُّ، الفَقِيهُ، الظاهِريُّ، مُؤَرِّخٌ ومُحَدِّثٌ أَندلسيٌّ من أَهلِ الجَزيرَةِ، صاحِبُ ابنِ حَزمٍ وتِلميذُه. وُلِدَ قبلَ سَنةِ 420هـ، بَدأَ بِطَلَبِ العِلمِ صَغيرًا قال عن نَفسِه: "كُنتُ أُحمَلُ للسَّماعِ على الكَتِفِ، وذلك في سَنةِ 425هـ، فأَوَّلُ ما سَمِعتُ مِن الفَقيهِ أَصبغَ بنِ راشِدٍ، وكُنتُ أَفهمُ ما يُقرأُ عليه، وكان قد تَفَقَّهَ على أبي محمدِ بن أبي زَيدٍ، وأَصلُ أبي من قُرطبة مِن مَحِلَّةٍ تُعرفُ بالرصافة، فتَحوَّل وسَكَنَ جَزيرةَ ميورقة، وميورقة جَزيرةٌ فيها بَلدَةٌ حَصينَةٌ تِجاهَ شَرقِ الأَندلسِ، فوُلِدتُ بها". رَحلَ إلى مكَّةَ ومصر والشامِ والعِراقِ واستَوطَنَ بغداد وفيها تُوفِّي، له تَصانيفٌ أَشهرُها: ((الجَمْعُ بين الصحيحين))، و((تاريخ الأندلس)) المُسَمَّى ((جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس)) و((الذهب المسبوك في وعظ الملوك)) وغَيرُها من المُصنَّفاتِ، قال يحيى بنُ إبراهيمَ السلماسيُّ: قال أبي: "لم تَرَ عَيناي مِثلَ الحُميديِّ في فَضلِه ونُبلِه، وغَزارَةِ عِلمِه، وحِرصِه على نَشرِ العِلمِ، وكان وَرِعًا تَقِيًّا، إمامًا في الحَديثِ وعِلَلِهِ ورُواتِه، مُتَحَقِّقًا بعِلمِ التَّحقيقِ والأُصولِ على مَذهبِ أَصحابِ الحَديثِ بمُوافَقَةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فَصيحَ العِبارَةِ، مُتَبَحِّرًا في عِلمِ الأَدبِ والعَربيَّةِ والتَّرَسُّلِ" قال القاضي عِياض: "محمدُ بنُ أبي نَصرٍ الحُمَيدِيُّ الأَزديُّ الأَندلسيُّ، سَمِعَ بميورقة من ابنِ حَزمٍ قَديمًا، وكان يَتَعَصَّب له، ويَميلُ إلى قَولِه، وأَصابَتهُ فِيه فِتنَةٌ، ولمَّا شُدِّدَ على ابنِ حَزمٍ، خَرجَ الحُميدِيُّ إلى المَشرقِ" تُوفِّي الحُميديُّ: في سابع عشر ذي الحجَّةِ، عن 68 عامًا، وصَلَّى عليه أبو بكرٍ الشاشيُّ، ودُفِنَ بمَقبرَةِ بابِ أبرز، ثم إنهم نَقَلوهُ بعدَ سَنتَينِ إلى مَقبرَةِ بابِ حَربٍ، فدُفِنَ عندَ بِشْرٍ الحافي. وقد اختُلِفَ في تاريخِ وَفاتِه؛ فقِيلَ: في هذه السَّنَةِ. وقِيلَ: 491هـ.
غَدَرَ شاهملك التُّركيُّ بِيَحيى بنِ تَميمِ بنِ المُعِزِّ بنِ باديس، وقَبَضَ عليه، وكان شاهملك هذا من أَولادِ بَعضِ الأُمراءِ الأَتراكِ ببلادِ الشَّرقِ، فنالَهُ في بَلدِه أَمْرٌ اقتَضى خُروجَه منه، فسار إلى مصر في مائةِ فارسٍ، فأَكرَمَهُ الأَفضلُ أَميرُ الجُيوشِ، وأَعطاهُ إِقطاعًا ومَالًا، ثم بَلَغَهُ عنه أَسبابٌ أَوجبَت إِخراجَه من مصر، فخَرجَ هو وأَصحابُه هارِبينَ، فاحتالوا حتى أَخَذوا سِلاحًا وخَيْلًا وتَوجَّهوا إلى المغربِ، فوَصَلوا إلى طرابلس الغَربِ، وأَهلُ البَلدِ كارِهونَ لِوالِيها، فأَدخَلوهُم البَلدَ، وأَخرَجوا الوالي، وصار شاهملك أَميرَ البلدِ، فسَمِعَ تَميمٌ الخَبرَ، فأَرسلَ العَساكِرَ إليها، فحَصَروها، وضَيَّقوا على التُّركِ ففَتَحوها، ووَصَلَ شاهملك معهم إلى المَهدِيَّةِ، فسُرَّ بهِ تَميمٌ وبمَن معه، فخَرجَ يحيى بنُ تَميمٍ إلى الصَّيْدِ في جَماعةٍ من أَعيانِ أَصحابِه نحوَ مائةٍ فارسٍ، ومعه شاهملك، فغَدَرَ به شاهملك فقَبَضَ عليه، وسار به وبمَن أُخِذَ معه مِن أَصحابِه إلى مَدينةِ سفاقس، وبَلغَ الخَبرُ تَميمًا، فرَكِبَ، وسَيَّرَ العَساكرَ في إثرِهِم، فلم يُدرِكوهُم، ووَصلَ شاهملك بِيَحيى بنِ تَميمٍ إلى سفاقس، ثم إن صاحِبَ سفاقس خاف يحيى على نَفسِه أن يَثُورَ معه الجُنْدُ وأَهلُ البَلدِ ويُمَلِّكوهُ عليهم، فأَرسلَ إلى تَميمٍ كِتابًا يَسألُه في إِنفاذِ الأَتراكِ وأَولادِهم إليه لِيُرسِلَ ابنَه يحيى، ففَعلَ ذلك بعدَ امتِناعٍ، وقَدِمَ يَحيى، فحَجَبَهُ أَبوهُ عنه مُدَّةً، ثم أَعادَهُ إلى حالِه، ورَضِيَ عنه، ثم جَهَّزَ تَميمٌ عَسكرًا إلى سفاقس، ويحيى معهم، فساروا إليها وحَصَروها بَرًّا وبَحرًا، وضَيَّقوا على الأَتراكِ بها، وأَقاموا عليها شَهرَينِ، واستَولُوا عليها، وفارَقَها الأَتراكُ إلى قابس.
تَلَقَّى البابا أوربان الثاني نِداءً من الإمبراطورِ البِيزنطي إلكسيس كومنين يَطلُب منه العَوْنَ ضِدَّ السَّلاجِقَةِ الأَتراكِ، فيَعقِد البابا مَجْمَعًا كَنَسِيًّا في مَدينةِ كليرمون فران في فرنسا ويُعلِن الحَربَ الصَّليبيَّة الأُولى على الأَتراكِ، ويَدعُو إلى وَقْفِ الحَربِ بين المُلوكِ والأُمراءِ المَسيحِيِّينَ في أوربا، وتَوَجُّهِهِم بأَسلِحَتِهم لِحَربِ الكَفَرَةِ على حَدِّ تَعبيرِهِم، ويُعلِن أن كلَّ مَن يَشتَرِك في هذه الحَربِ تُغفَر له ذُنوبُه وتَتَوَلَّى الكَنيسةُ حِمايةَ مَمْلَكَتِه، وكان ريمون الرابع أَميرُ تولوز أَوَّلَ مَن لَبَّى النِّداءَ وتَوَلَّى قِيادةَ الحَملةِ الصَّليبيَّة الأُولى، كما طَلَبَ البابا من أَساقِفَةِ الكَنيسَةِ الكاثوليكيَّة الدَّعوةَ للحَربِ الصَّليبيَّة بين العامَّةِ، وكان أَبرزَ مَن تَوَلَّى الدَّعوةَ الأَسقفُ بُطرس النَّاسِك.
هو المَلِكُ أبو سَعيدٍ تاجُ الدَّولةِ تتش بنُ محمد ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق بن دقاق السلجوقي، وَلَدُ سُلطانٍ وأَخو سُلطانٍ. صاحِبُ البِلادِ الشرقيَّةِ. وُلِدَ في رمضان سَنةَ 458هـ. تُركِيٌّ مُحتَشِمٌ، شُجاعٌ، مَهِيبٌ جَبَّارٌ، ذا سَطْوَةٍ، مِن بَيتِ مُلْكٍ، وله فُتوحاتٌ ومصافاتٌ، وتَمَلَّكَ عِدَّةَ مَدائنَ، وخُطِبَ له ببغداد، وصار مِن كِبارِ مُلوكِ الزَّمانِ وتقدم. مَرَّ كَثيرٌ مِن سِيرَتِه وفُتوحاتِه العَظيمةِ في الحَوادثِ. تَمَلَّكَ بِضعَ عَشرةَ سَنةً. وكان يُغالِي في حُبِّ شَيخِ الإسلامِ أبي الفَرجِ الحَنبليِّ، ويَحضرُ مَجلِسَه، فعَقَدَ له ولِخُصومِه في مَسألَةِ القُرآنِ مَجلِسًا، قَدِمَ لبِلادِ الشامِ لمَّا حاصَرَ أَميرُ الجُيوشِ بَدرٌ الجماليُّ مَدينةَ دِمشقَ مِن جِهَةِ صاحبِ مصر العُبيديِّ, وكان صاحِبُ دِمشقَ يَومئذٍ أتسز بن أوق بن الخوارزميَّ التركيَّ, فاستَنجَدَ بتتش فأَنجَدَه وسار إليه بنَفسِه، فلمَّا وَصلَ إلى دِمشقَ خَرجَ إليه أتسز، فقَبَضَ عليه تتش وقَتلَه واستَولَى على مَملَكَتِه وذلك في سَنةِ 471هـ، ثم مَلَكَ حَلَب بعدَ ذلك في سَنةِ 478هـ، ثم استَولَى على مُعظَمِ البلادِ الشاميَّةِ، وجَرَت له أُمورٌ وحُروبٌ مع المِصريِّينَ، ثم جَرَى بينه وبين ابنِ أَخيهِ بركياروق مُنافراتٌ ومُشاجراتٌ بعدَ وَفاةِ ملكشاه أَدَّت إلى المُحارَبَةِ بينهما، فتَوجَّه إليه تتش وتَصافَّا بالقُربِ من مَدينةِ الرَّيِّ في يَومِ الأَحدِ سابع عشر صَفَر سَنةَ 488هـ، فانكَسرَ تتش، وقُتِلَ في المَعركةِ ذلك النهارَ.
هو أبو شُجاعٍ الوَزيرُ محمدُ بن الوَزيرِ حُسينِ بن عبدِ الله بن إبراهيمَ، الروذراوريُّ، أَهوازيُّ الأَصلِ من همذان. كان أبو شُجاعٍ قد قَرأَ الفِقهَ والعَربيَّةَ، وسَمِعَ الحَديثَ من جَماعةٍ منهم: أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وصَنَّفَ كُتُبًا منها كِتابُه الذي ذَيَّلَهُ على ((تجارب الأمم)) ووَزَرَ للمُقتدِي بالله سَليمًا مِن طَمَعٍ، وكان يَملِك حِينئذٍ عَيْنًا ستمائة ألف دِينارٍ، فأَنفَقَها في الخَيراتِ والصَّدقاتِ. قال أبو جَعفرِ بن الخِرقيِّ: "كُنتُ أنا مِن أَحَد عشر يَتَولَّون إِخراجَ صَدَقاتِه، فحَسِبتُ ما خَرَجَ على يَدِي فكان مائة ألف دِينارٍ، ووَقَّفَ الوُقوفَ، وبَنَى المَساجِدَ، وأَكثَرَ الإنعامَ على الأَرامِلِ واليَتامَى، وكان يَبيعُ الخُطوطَ الحَسَنَة، ويَتصدَّق بثَمَنِها ويقول: أَحَبُّ الأَشياءِ إليَّ الدِّينارُ والخَطُّ الحَسَن، فأنا أُخرِجُ للَّه مَحبوبي. ووَقَعَ مَرَضٌ في زَمانِه، فبَعَثَ إلى جَميعِ أَصقاعِ البَلدِ أَنواعَ الأَشرِبَةِ والأَدوِيَةِ، وكان يُخرِج العُشْرَ من جَميعِ أَموالِه النَّباتيَّة على اختِلافِ أَنواعِه. حَكَى حاجِبُه الخاصُّ بهِ قال: استَدعاني لَيلةً، وقال: إنِّي أَمَرتُ بعَمَلِ قَطائفَ، فلمَّا حَضَرَ بين يديَّ ذَكرتُ نُفوسًا تَشتَهيهِ فلا تَقدِرُ عليه، فنَغَّصَ ذلك عليَّ أَكْلَهُ، ولم أَذُق منه شَيئًا، فاحمِل هذه الصُّحونَ إلى أَقوامٍ فُقراءَ. فحَمَلَها الفَرَّاشُونَ معه، وجَعَلَ يَطرُق أَبوابَ المَساجِد ببابِ المَراتِبِ، ويَدفَع ذلك إلى الأَضِرَّاءِ المُجاوِرينَ بها" وكان يُبالِغُ في التَّواضُع، حتى تَرَكَ الاحتِجابَ فيُكَلِّم المَرأَةَ والطِّفلَ، وأَوْطَأَ العَوامَّ والصَّالِحينَ مَجلِسَه، وكان يُحضِر الفُقهاءَ الدِّيوانَ في كلِّ مُشكِلٍ، وكانوا إذا أَفتَوا في حَقِّ شَخصٍ بوُجوبِ حَقِّ القَصاصِ عليه سَأَلَ أَولياءَ الدَّمِ أَخْذَ شَيءٍ من مالِه وأن يَعفُوا، فإن فَعَلوا وإلَّا أَمَرَ بالقَصاصِ، وأَعطَى ذلك المالَ وَرَثَةَ المَقتُولِ الثاني، وفي زَمانِه أُسقِطَت المُكوسُ، وأُلبِسَ أَهلُ الذِّمَّةِ الغِيارَ، وتَقدَّم إلى الخِرَقيِّ المُحتَسِب أن يُؤَدِّبَ كلَّ مَن فَتَحَ دُكَّانَه يَومَ الجُمعةِ ويُغلِقَه يومَ السبتِ مِن البَزَّازينَ وغَيرِهم، وقال: هذه مُشارَكةٌ لليَهودِ في حِفْظِ سَبتِهم. وكان قد سَمِعَ أن النَّفَّاطِينَ والكِلابزيَّة -مَن يَتَولَّى تَربيَةَ الكِلابِ وبَيعَها- يَقِفونَ على دَكاكِين المُتعيِّشين فيَأخُذون منهم كلَّ أُسبوعٍ شَيئًا، فنَفَذَ مَن يَمنعُهم مِن الاجتِيازِ بهم. وحَجَّ في وِزارَتِه سَنةَ ثمانين، فبَذَلَ في طَريقِه الزَّادَ والأَدوِيَةَ، وعَمَّ أَهلَ الحَرمَينِ بصَدَقاتٍ، وساوَى الفُقراءَ في إِقامَةِ المَناسِك والتَّعَبُّد، وكان كَثيرَ البِرِّ للخَلْقِ، كَثيرَ التَّلَطُّفِ بهم، ولمَّا عُزِلَ خَرجَ إلى الجامِعِ يومَ الجُمعةِ فانثالَت عليه العامَّةُ تُصافِحُه وتَدعُو له، فكان ذلك سَبَبًا لالتِزامِه بَيتَه، والإنكارِ على مَن صَحِبَهُ، وبَنَى في دِهليزِ دارِهِ مَسجِدًا وكان يُؤَذِّن ويُصلِّي فيه، ثم وَرَدَت كُتُبُ نِظامِ المُلْكِ بإخراجِه من بغداد، فأُخرِجَ إلى بَلدةٍ، فأَقامَ مُدَّةً، ثم استَأذَنَ في الحَجِّ فأُذِنَ له فخَرجَ, وجاوَرَ بالمَدينَةِ، فلمَّا مَرِضَ مَرْضَ المَوتِ حُمِلَ إلى مَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وتُوفِّي مِن يَومِه ودُفِنَ بالبَقيعِ بعدَ أن صُلِّيَ عليه بمَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، في مُنتَصفِ جُمادَى الآخِرَة من هذه السَّنَةِ وهو ابنُ إحدى وخمسين سَنةً، وكان له شِعْرٌ حَسَنٌ.
هو مَلِكُ الأَندلسِ المُعتَمِدُ على الله أبو القاسمِ محمدُ بنُ المُعتَضِد بالله أبي عَمروٍ عَبَّادِ بنِ الظافرِ المُؤيَّدِ بالله أبي القاسمِ محمدِ قاضي إشبيلية بن أبي الوليدِ إِسماعيلَ بن قُريشِ بن عَبَّاد بنِ عَمرِو بن أَسلمَ بنِ عَمرِو بنِ عَطَّاف بنِ نعيمٍ، اللخميُّ، مِن وَلَدِ النُّعمانِ بن المُنذِر اللخميِّ، آخرِ مُلوكِ الحِيرَةِ؛ كان المُعتَمِدُ صاحِبَ قُرطبةَ وإشبيلية وما والاهُما مِن جَزيرةِ الأندلسِ. كان بِدءُ أَمرِ عائِلَةِ المُعتَمِد في بِلادِ الأندلسِ أن نعيمًا وابنَه عَطَّافًا أَوَّلُ مَن دَخلَ إليها من بِلادِ المَشرقِ، وهُما مِن أَهلِ العريشِ، المَدينَة القَديمَة الفاضِلَة بين الشامِ والدِّيارِ المِصريَّة في أَوَّلِ الرَّملِ من جِهَةِ الشامِ، وأقامَا بها مُستَوطِنين بقَريَةٍ بقُربِ يَومينِ مِن إقليم طشانة من أَرضِ إشبيلية. نَشأَ المُعتَمِدُ بنُ عبَّادٍ في الأَندلسِ كغَيرِه مِن أَبناءِ المُلوكِ على المُيولِ والدِّعَةِ والتَّرَفِ، كان مَوصوفًا بالكَرمِ والأَدَبِ والحِلمِ، حَسَنَ السِّيرَةِ والعِشرَةِ والإحسانِ إلى الرَّعيَّةِ، والرِّفقِ بهم. تُوفِّي والدُه المُعتَضِد سَنةَ 464هـ فخَلَفَهُ في الحُكمِ، فكان فارِسًا شُجاعًا، عالِمًا أَديبًا، ذَكِيًّا شاعِرًا، مُحسِنًا جَوادًا مُمْدَحًا، كَبيرَ الشَّأنِ، خَيرًا مِن أَبيهِ. كان أَندَى المُلوكِ راحَةً، وأَرحَبَهُم ساحَةً، كان بابُه مَحَطَّ الرِّحالِ، وكَعبَةَ الآمالِ, ومَألَفَ الفُضلاءِ، حتى إنه لم يَجتمِع ببابِ أَحدٍ مِن مُلوكِ عَصرِه مِن أَعيانِ الشُّعراءِ وأَفاضِلِ الأُدباءِ ما كان يَجتَمِع ببابِه. قال أبو بكر محمدُ بن اللَّبَّانة الشاعِرُ: "مَلَكَ المُعتَمِدُ مِن مُسَوَّراتِ البِلادِ مائتي مُسَوَّر، ووُلِدَ له مائةٌ وثلاثةٌ وسبعون وَلَدًا، وكان لِمَطبَخِه في اليوم ثَمانيةُ قَناطيرَ لَحمٍ، وكُتَّابُه ثَمانية عشر". ولمَّا قَوِيَ أَمرُ الأذفونش بعدَ أَخذِه طُليطلة، اجتَمعَ العُلماءُ، واتَّفَقوا مع ابنِ عَبَّادٍ على أن يُكاتِبوا الأَميرَ ابنَ تاشفين صاحِبَ مراكش لِيُنجِدَهُم، فقال جَماعةٌ لابنِ عبَّادٍ: نَخافُ عليك من استِمدادِه. فقال: رَعْيُ الجِمالِ خَيرٌ مِن رَعْيِ الخَنازيرِ. فلمَّا عَبَرَ ابنُ تاشفين بجُيوشِه إلى الجَزيرَةِ، اجتَمعَ به المُعتَمِد، وأَقبَلَت المُطَّوِّعَةُ من النَّواحي، وقاتَلَ المُعتَمِدُ بن عبَّادٍ في الزَّلَّاقَةِ وثَبَتَ في ذلك اليوم ثَباتًا عَظيمًا، وأَصابَهُ عِدَّةُ جِراحاتٍ في وَجهِه وبَدَنِه، وشُهِدَ له بالشَّجاعَةِ، وغَنِمَ المسلمون دَوابَّ الفِرنجَةِ وسِلاحَهم، ورَجَعَ ابنُ تاشفين إلى بِلادِه والمُعتَمِد إلى بِلادِه. ثم إن الأَميرَ يوسفَ عادَ إلى الأندلسِ بعدَ أن وَصلَتهُ فَتاوَى العُلماءِ بخَلعِ مُلوكِ الطَّوائفِ قال ابنُ خلدون: "وأَفتاهُ الفُقهاءُ وأَهلُ الشُّورَى من المَغربِ والأَندلسِ بِخَلْعِهِم وانتِزاعِ الأَمرِ مِن أَيدِيهم، وصارَت إليه بذلك فَتاوَى أَهلِ الشَّرقِ الأَعلامِ مثل: الغزاليِّ والطَّرطوشيِّ". فلمَّا أَجازَ ابنُ تاشفين انقَبَضوا عنه إلَّا ابنَ عَبَّادٍ فإنه بادَرَ إلى لِقائِه. استَعانَ بالأذفونش مَلِكُ اشتاله وطَلَبَ منه المَدَدَ، فقَدَّمَ ابنُ تاشفين سيرَ بنَ أبي بكر الأندلسي، فوَصَلَ إلى إشبيلية وبها المُعتَمِدُ فحاصَرَهُ أَشَدَّ مُحاصَرةٍ، وظَهرَ مِن مُصابَرةِ المُعتَمدِ وَشِدَّةِ بَأسِه وتَرامِيه على المَوتِ بنَفسِه ما لم يُسمَع بمِثلِه، والناسُ بالبلدِ قد استَولَى عليهم الفَزَعُ وخامَرَهُم الجَزَعُ, فلمَّا كان يومُ الأَحدِ العشرين من رجب سَنةَ 484هـ هَجَمَ عَسكرُ الأَميرِ ابنِ تاشفين البَلدَ وشَنُّوا فيه بالغاراتِ، وقُبِضَ على المُعتَمِد وأَهلِه، وكان قد قُتِلَ له وَلدانِ قبلَ ذلك، أَحدُهما: المأمون، نائِبُه في قُرطبة والثاني الرَّاضي، كان نائِبًا عن أَبيهِ في رندة، وهي مِن الحُصونِ المَنيعَةِ, ولمَّا أُخِذَ المُعتَمِد قَيَّدوهُ من ساعَتِه، وأُودِعَ سِجْناً في أغمات بالعَدوَةِ وتَشَرَّدَ أَهلُه وافتَقَروا في بلادِ المَغربِ, ودَخَلَ عليه يَومًا بَناتُه السِّجنَ، وكان يَومَ عِيدٍ، وكُنَّ يَغزِلنَ للناسِ بالأُجرَةِ في أغمات، فرآهُنَّ في أَطمارٍ رَثَّةٍ وحالَةٍ سَيِّئَةٍ، فصَدَّعنَ قَلبَه وأَنشدَ:
"فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسور
نرى بناتك في الأطمار جائعةً
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعةً
أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةٌ
كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا"
زالت دَولةُ المُعتَمِد بن عبَّادٍ على يَدِ شَريكِه في النَّصرِ بعدَ أن دَخلَ قُرطبة، ومات غَريبًا في مَنفاهُ بـأغمات بالمغربِ, وقد حَزِنَ الناسُ عليه، وقال في مُصابِه الشُّعراءُ فأَكثَروا, ويُعتَبر مِن أَشهرِ مُلوكِ دَولةِ الطَّوائفِ التي قامَت في الأَندلسِ في القَرنِ الخامسِ الهِجريِّ، بعدَ انهِيارِ دَولةِ الخِلافةِ الأُمويَّة.
هو أَميرُ الجُيوشِ، الوَزيرُ الأَرمَنيُّ، بَدرُ بنُ عبدِ الله الجمالي، اشتَراهُ جَمالُ المُلْكِ بنُ عمَّارٍ الطَّرابلسيُّ، ورَبَّاهُ، فتَرَقَّت به الأَحوالُ إلى المُلْكِ. وَلِيَ نِيابَةَ دِمشقَ للمُستَنصِر الفاطميِّ سَنَةَ 455هـ، إلى أن هاجَ أَحداثُ دِمشقَ وشُطَّارُها سَنةَ 460هـ, فتَحَوَّل إلى مصر, وقِيلَ: لمَّا ضَعُفَ حالُ المُستَنصِر في مصر واختَلَّت دَولتُه وُصِفَ له بَدرٌ الجمالي، فاستَدعاهُ فرَكِبَ البَحرَ ووَصلَ القاهِرةَ عَشِيَّةَ يَومِ الأَربعاءِ للَيلَتَينِ بَقِيَتَا من جُمادَى الأُولى، فوَلَّاهُ المُستَنصِر تَدبيرَ أُمورِه، وقامَت بوُصولِه الحُرمَةُ وأَصلَحَ الدَّولةَ؛ وكان وَزيرَ السَّيْفِ والقَلَمِ، وإليه قَضاءُ القُضاةِ والتَّقَدُّمُ على الدُّعاةِ، وساس الأُمورَ أَحسَنَ سِياسَةٍ، ويُقال: إن وُصولَه كان أَوَّلَ سَعادَةِ المُستَنصِر، وكان يُلَقَّب: أَميرَ الجُيوشِ؛ وأَنشأَ بالإسكندريَّةِ جامِعَ العَطَّارِينَ، وكان بَدرٌ الجمالي بَطَلًا شُجاعًا مَهِيبًا، مِن رِجالِ العالَمِ، قَصَدَهُ عَلقمةُ العليميُّ الشاعِرُ، فعَجَزَ عن الدُّخولِ إليه، فوَقَفَ على طَريقِه، وفي رَأسِه رِيشُ نَعامٍ، ثم أَنشَدَهُ أَبياتًا وَقَعَت منه بمَوقِع، ووَقَفَ له، ثم أَمَرَ الحاشِيةَ أن يَخلَعوا عليه، وأَمَرَ له بعَشرةِ آلافٍ، فذَهَبَ بخِلَعٍ كَثيرَةٍ إلى الغايَةِ، وَهَبَ منها لِجَماعَةٍ من الشُّعَراءِ". مات بَدرٌ بمصر سَنةَ 488هـ وخَلَّفَ أَموالًا عَظيمَةً. وقام بَعدَه ابنُه الأَفضلُ المُلَقَّب أيضًا بأَميرِ الجُيوشِ, ولمَّا مَرِضَ واشتَدَّ مَرَضُه في شَهرِ رَبيعٍ الأَوَّل من سَنةِ 487هـ، وَزَرَ وَلدُه الأَفضلُ مَوضِعَه في حَياتِه، وقِيلَ: عاش بَدرٌ نَحوًا من ثمانين سَنَةً.
أَغارَت خَفاجَةُ على بَلدِ سَيفِ الدولةِ صَدَقَة بنِ مزيد، فأَرسلَ في إِثْرِهِم عَسكَرًا، مُقَدِّمُه ابنُ عَمِّهِ قُريشُ بن بدران بن دبيس بن مزيد، فأَسَرَتهُ خَفاجةُ، وأَطلَقوهُ، وقَصَدوا مَشهدَ الحُسينِ بنِ عليٍّ، فتَظاهَروا فيه بالفَسادِ والمُنكَرِ، فوَجَّهَ إليهم صَدقةُ جَيشًا، فكَبَسوهُم، وقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا في المَشهدِ، حتى عند الضَّريحِ، وأَلقَى رَجلٌ منهم نَفسَه وهو على فَرَسِه من على السُّورِ، فسَلِمَ هو والفَرَسُ.
دَعا البابا أوربان الثاني إلى حَربٍ صَليبيَّةٍ ضِدَّ المسلمين واستَجابَ أُمراءُ أوربا لهذا النِّداءِ فأَوقَفوا الحُروبَ بينهم وأَعَدُّوا حَملَةً صَليبيَّةً مُنَظَّمَةً اشتَركَ فيها الدوق جودفري بويون أَميرُ مُقاطَعَةِ اللورين السُّفلَى، وأَخوهُ بودوان، وريمون أَميرُ تولوز، وبروفانس وبوهمند النورماندي أَميرُ تارانت، وابنُ أُختِه تانكرد، وروبير أَميرُ نورماندي وهو ابنُ وليم الفاتح، وصِهرُه اتيان أَميرُ مُقاطَعةِ بلوا وشارتر، وبَدَأوا بالمَسيرِ من مَدينةِ كولونيا إلى بِلادِ البَلقان. ونُفوسُهم تَسمُوا للوُصولِ للشامِ ثم بَيتِ المَقدِس مَسجِدِ أَنبِيائِهِم ومَطلَعِ دِينِهم، فتَتابَعوا إليه نِهايةَ القَرنِ الخامس الهِجريِّ، وتَواثَبوا على أَمصارِ الشامِ وحُصونِه وسَواحِلِه. ويُقال: "إنَّ المُستَنصِرَ العُبيديَّ هو الذي دَعاهُم لذلك وحَرَّضَهم عليه لِمَا رَجَى فيه مِن اشتِغالِ مُلوكِ السَّلجوقيَّةِ بأَمرِهِم، وإقامَتِهم سَدًّا بينه وبينهم عندما سَمَوا إلى مُلْكِ الشامِ ومصر" وقد ذَكَرَ السيوطيُّ في تاريخِ الخُلفاءِ: "أن صاحِبَ مصر لمَّا رأى قُوَّةَ السَّلجوقيَّةِ واستِيلائِهِم على الشامِ كاتَبَ الفِرنجَ يَدعوهُم إلى المَجيءِ إلى الشامِ لِيَملكُوها، وكَثُرَ النَّفيرُ على الفِرنجِ مِن كُلِّ جِهَةٍ"
في هذه السَّنَةِ مَلَكَ تَميمُ بنُ المُعِزِّ مَدينةَ قابس، وأَخرَجَ منها أَخاهُ عَمْرًا, وسَببُ ذلك أنه كان بها إنسانٌ يُقال له قاضي بن إبراهيمَ بن بلمونه فماتَ، فوَلَّى أَهلُها عليهم عَمرَو بنَ المُعِزِّ، فأَساءَ السِّيرَةَ، وكان قاضي بن إبراهيمَ عاصِيًا على تَميمٍ، وتَميمٌ يُعرِض عنه، فعَصَى عَمرٌو على أَخيهِ كقاضي بن إبراهيم، فأَخرجَ تَميمٌ العَساكِرَ إلى أَخيهِ عَمرٍو لِيَأخُذَ المَدينةَ منه، فقال بَعضُ أَصحابِه: يا مَولانا لمَّا كان فيها قاضي تَوانَيتَ عنه وتَركتَهُ، فلمَّا وَلِيَها أَخوكَ جَرَرتَ إليه العَساكِرَ! فقال: لمَّا كان فيها غُلامٌ مِن عَبيدِنا كان زَوالُه سَهلًا علينا، وأمَّا اليومَ، وابنُ المُعِزِّ بالمَهدِيَّةِ، وابنُ المُعِزِّ بقابس، فهذا ما لا يُمكِن السُّكوتُ عليه.
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بن نِظامِ الدِّينِ نَصرِ بنِ نَصيرِ الدَّولةِ مَروانَ بنِ دوستك الكُرديُّ، صاحِبُ دِيارِ بَكرٍ، تَوَلَّى الحُكمَ بعدَ وَالدِه نِظامِ الدِّين في ذي الحجَّةِ سَنةَ 472هـ، ودَبَّرَ دَولتَهُ ابنُ الأَنبارِيِّ، ولم يَزَل في مُلكِه إلى أن انقَرَضَ أَمرُ بَنِي مَروانَ على يَدِ فَخرِ الدَّولةِ بنِ جَهيرٍ حين حارَبَهُ، وكان جكرمش قد قَبَضَ عليه بالجَزيرَةِ، وتَرَكَهُ عند رَجلٍ يَهوديٍّ، فمات في دارِه، وحَمَلَتهُ زَوجتُه إلى تُربَةِ آبائِه، فدَفَنَتهُ ثم حَجَّت، وعادَت إلى بَلدِ البَشْنَوِيَّة. قال ابنُ الأَثيرِ: " كان مَنصورٌ شُجاعًا، شَدِيدَ البُخْلِ، له في البُخْلِ حِكاياتٌ عَجيبَة، فتَعْسًا لِطالِبِ الدُّنيا، المُعرِض عن الآخِرَةِ، ألا يَنظُر إلى فِعلِها بأَبنائِها، بينما مَنصورٌ هذا مَلِكٌ مِن بَيتِ مَلِكٍ آلَ أَمرُه إلى أن ماتَ في بَيتِ يَهودِيٍّ، نَسألُ الله تعالى أن يُحسِن أَعمالَنا، ويُصلِح عاقِبَةَ أَمرِنا في الدنيا والآخرة، بمَنِّهِ وكَرَمِه".
هو أبو المُظَفَّرِ مَنصورُ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الجَبَّارِ بنِ أَحمدَ بنِ محمدٍ، السَّمعانيُّ، التَّميميُّ المَروَزِيُّ، الفَقِيهُ الحَنفيُّ ثم الشافعيُّ. الحافِظُ، مِن أَهلِ مَرْو، وُلِدَ في ذي الحجَّةِ 426هـ, وتَفَقَّهَ أَوَّلًا على أَبيهِ في مَذهَبِ أبي حَنيفَةَ، حتى بَرَعَ فيه وبَرَزَ على أَقرانِه, ثم انتَقَل إلى مَذهَبِ الشافعيِّ فأَخَذَ عن أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ وابنِ الصَّبَّاغِ. ذَكرَهُ أبو الحَسنِ عبدُ الغافِر فقال: "هو وَحيدُ عَصرِه في وَقتِه فَضلًا، وطَريقَةً، وزُهْدًا، ووَرَعًا، من بَيتِ العِلمِ والزُّهدِ. تَفَقَّه بأَبيهِ، وصار من فُحولِ أَهلِ النَّظَرِ، وأَخَذَ يُطالِع كُتُبَ الحَديثِ، وحَجَّ، فلمَّا رَجَعَ إلى وَطَنِه تَرَكَ طَريقَتَهُ التي ناظَرَ عليها أَكثرَ من ثلاثين سَنةً، وتَحَوَّلَ شافِعِيًّا. أَظهَرَ ذلك في سَنةِ ثَمانٍ وسِتِّين وأربعمائة. واضطَرَبَ أَهلُ مَرو لذلك، وتَشَوَّشَ العَوامُّ، إلى أن وَرَدَت الكُتُبُ مِن جِهَةِ بلكابك من بَلخ في شَأنِه والتَّشديدِ عليه، فخَرجَ مِن مَرو، ورافَقَهُ ذو المَجدَينِ أبو القاسمِ الموسويُّ، وطائِفةٌ من الأَصحابِ، وخَرجَ في خِدمَتِه جَماعةٌ من الفُقهاءِ وصار إلى طُوس، وقَصَدَ نيسابور، فاستَقبَلَهُ الأَصحابُ استِقبالًا عَظيمًا, وكان في نَوبَةِ نِظامِ المُلْكِ وعَميدِ الحَضرَةِ أبي سعدٍ محمدِ بنِ مَنصورٍ، فأَكرَموا مَورِدَه، وأَنزَلوه في عِزٍّ وحِشمَةٍ، وعُقِدَ له مَجلِسُ التَّذكيرِ في مَدرسةِ الشافعيَّةِ", وكان بَحرًا في الوَعظِ، حافِظًا لكَثيرٍ من الرِّواياتِ والحِكاياتِ والنُّكَتِ والأَشعارِ، فظَهرَ له القَبولُ عند الخاصِّ والعامِّ. واستَحكَمَ أَمرُه في مَذهبِ الشافعيِّ. ثم عاد إلى مَرو، ودَرَّسَ بها في مَدرسةِ أَصحابِ الشافعيِّ، وقَدَّمَهُ نِظامُ المُلْكِ على أَقرانِه، وعَلَا أَمرُه، وظَهرَ له الأَصحابُ. وخَرجَ إلى أصبهان، ورَجعَ إلى مَرو. وكان قَبولُه كلَّ يَومٍ في عُلُوٍّ, وتَعَصَّبَ للسُّنَّةِ والجَماعَةِ وأَهلِ الحَديثِ. وكان شَوْكًا في أَعيُنِ المُخالِفين، وحُجَّةً لأَهلِ السُّنَّةِ. قال أبو المعالي الجُويني: "لو كان مِن الفِقْهِ ثَوْبًا طاوِيًا لكان أبو المُظَفَّر بن السمعاني طَرَّازَهُ".قال الإمامُ أبو عليِّ بن أبي القاسمِ الصَّفَّارِ: "إذا ناظَرتَ أبا المُظَفَّر السمعانيَّ، فكأنِّي أُناظِرُ رَجُلًا من أئِمَّةِ التَّابِعين، ممَّا أَرَى عليه من آثارِ الصَّالِحين سَمْتًا، وحُسْنًا، ودِينًا".كانت له يَدٌ طُولَى في فُنونٍ كَثيرةٍ، وصَنَّفَ التَّفسيرَ وكِتابَ ((الانتصار)) في الحَديثِ، و((البرهان)) و((القواطع)) في أصول الفقه، و((الاصطلام)) وغيرَ ذلك، ووَعَظَ في مَدينةِ نيسابور. كان يقول: "ما حَفِظتُ شَيئًا فنَسيتُه، وسُئِلَ عن أَخبارِ الصِّفاتِ فقال: عليكم بِدِينِ العَجائِزِ وصِبيانِ الكَتاتيبِ. وسُئِلَ عن الاستِواءِ فأَنشدَ قائِلًا:
جِئتُماني لِتَعلَما سِرَّ سُعْدَى
تَجِداني بِسِرِّ سُعْدَى شَحيحا
إن سُعْدَى لَمُنْيَةُ المُتَمَنِّي
جَمَعَت عِفَّةً ووَجْهًا صَبيحا"
دُفِنَ في مَقبَرةِ مَرو.