الفرعُ الثَّالِثُ: التَّخصيصُ بالقياسِ
إذا ورَدَ نَصٌّ عامٌّ في كِتابِ اللهِ تعالى أو في سُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ وُجِدَ قياسٌ صحيحٌ يُعارِضُ ما دَلَّ عليه حُكمُ العامِّ على بَعضِ أفرادِه، فهَل يُقضى للقياسِ على النَّصِّ العامِّ، أم يُترَكُ القياسُ ويُطرَحُ في مُقابِلِ العامِّ؟ اختَلَف الأُصوليُّونَ في ذلك
[1852] يُنظر: ((الإمام الخطابي ومنهجه الاجتهادي)) لمحمد عطا (ص:150). .
وهنا أُمورٌ يَنبَغي التَّنبيهُ عليها:أوَّلًا: الخِلافُ في المَسألةِ مَبنيٌّ على القَولِ بالعُمومِ، فمَن أنكَرَه فهو خارِجٌ عن مَحَلِّ النِّزاعِ.
ثانيًا: أنَّ مَن قال بالعُمومِ وأبطَلَ القياسَ في الأحكامِ فقد قال بعَدَمِ جَوازِ تَخصيصِ العُمومِ به؛ لأنَّه ليس بدَليلٍ لَوِ انفرَدَ عنِ العامِّ، فكَيف به إذا قابَلَه ومَنَعَ إعمالَه؟!
ثالِثًا: القياسُ إذا كان قَطعيًّا فلا خِلافَ في جَوازِ تَخصيصِ العُمومِ به عِندَ القائِلينَ به
[1853] قال المردوايُّ نَقلًا عنِ الأبياريِّ في شَرحِ البُرهانِ: (القياسُ القَطعيُّ يَجوزُ التَّخصيصُ به بلا خِلافٍ، وذلك فيما إذا كان حُكمُ الأصلِ الذي يَستَنِدُ إليه الفَرعُ مَقطوعًا به، وعِلَّتُه منصوصةً، أو مُجمَعًا عليها، وهيَ مَوجودةٌ في الفرعِ قَطعًا، ولا فارِقَ قَطعًا؛ فهذا النَّوعُ مِنَ القياسِ لا يُتَصَوَّرُ فيه الخِلافُ. انتَهى. قُلتُ: ظاهرُ كَلامِ كَثيرٍ مِنَ العُلَماءِ إجراءُ الخِلافِ فيه). ((التحبير)) (6/ 2683). ويُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (2/ 215). وقال الزَّركَشيُّ: (هذا النَّوعُ مِنَ القياسِ لا يُتَصَوَّرُ الخِلافُ فيه في أنَّه يُخَصَّصُ به عُمومُ النَّصِّ). ((البحر المحيط)) (3/375). . والقياسُ القَطعيُّ: هو ما كانتِ العِلَّةُ فيه مُحَقَّقةً، أو قُطِعَ بوُجودِها في الفرعِ، وانتَفى الفارِقُ بَينَ الأصلِ والفَرعِ.
رابِعًا: الخِلافُ في المَسألةِ إنَّما هو في التَّخصيصِ بالقياسِ الظَّنِّيِّ
[1854] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/194)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (2/214)، ((نهاية السول)) للإسنوي، ومعه حاشية المطيعي (2/463)، ((التحبير)) للمرداوي (6/2683). .
وهذه المَسألةُ مَبنيَّةٌ على اختِلافِ الأُصوليِّينَ في دَلالةِ العامِّ: هَل هيَ قَطعيَّةٌ أو ظَنِّيَّةٌ؟
فالجُمهورُ الذينَ يَقولونَ بظَنِّيَّةِ دَلالةِ العامِّ على أفرادِه قد ذَهَبوا إلى جَوازِ تَخصيصِ العامِّ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ ابتِداءً بالدَّليلِ الظَّنِّيِّ، كخَبَرِ الواحِدِ والقياسِ الذي ثَبَتَت عِلَّتُه بنَصٍّ أو قياسٍ.
أمَّا الحَنَفيَّةُ الذينَ يَقولونَ بقَطعيَّةِ العامِّ فذَهَبوا إلى أنَّه لا يَجوزُ تَخصيصُ العامِّ ابتِداءً بالدَّليلِ الظَّنِّيِّ، كخَبَرِ الواحِدِ والقياسِ؛ وذلك لأنَّ العامَّ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرةِ قَطعيٌّ في ثُبوتِه ودَلالَتِه، وما كان قَطعيًّا لا يَصِحُّ تَخصيصُه بالظَّنِّيِّ؛ إذِ التَّخصيصُ عِندَهم تَغييرٌ، وتَغييرُ القَطعيِّ لا يَكونُ بالظَّنِّيِّ، والتَّخصيصُ فيه مُعارَضةٌ، والظَّنِّيُّ لا يُعارِضُ القَطعيَّ
[1855] يُنظر: ((سلاسل الذهب)) للزركشي (ص:248)، ((منهج المتكلمين في استنباط الأحكام الشرعية)) لخرابشة (ص:267). .
والرَّاجِحُ: أنَّه يَجوزُ تَخصيصُ عُمومِ الكِتابِ والسُّنَّةِ بالقياسِ مُطلَقًا
[1856] أي: في كُلِّ أنواعِ وأحوالِ العامِّ والقياسِ. يُنظر: ((التخصيص بالقياس)) للعويد (ص: 21). ، وهو مَنقولٌ عن مالِكٍ
[1857] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص:94)، ((الإشارة)) للباجي (ص:243)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (2/325). ، والشَّافِعيِّ
[1858] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/384)، ((المحصول)) للرازي (3/96). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ
[1859] يُنظر: ((العدة)) (2/559)، ((المسائل الأصولية من كتاب الروايتين والوجهين)) (ص:44) كلاهما لأبي يعلى. ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ المالِكيَّةِ
[1860] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/195)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/271)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص:536). ، والشَّافِعيَّةِ
[1861] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/118)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/357). ، وقَولُ أكثَرِ الحَنابِلةِ
[1862] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/386)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/980). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ تَخصيصَ العُمومِ بالقياسِ قد وقَعَ، ومِن ذلك: قَولُ اللهِ تعالى:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] ، ثُمَّ خُصَّتِ الأَمَةُ بنِصفِ الحَدِّ نَصًّا بقَولِ اللهِ تعالى:
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء: 25] ، فدَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الأَمَةَ لَم تَدخُلْ في عُمومِ مَن أُمِرَ بجَلدِها مِائةً مِنَ النِّساءِ، ثُمَّ قيسَ العَبدُ على الأَمَةِ، فجُعِلَ حَدُّه خَمسينَ جَلدةً كحَدِّها، فكانتِ الأَمَةُ مَخصوصةً بالآيةِ، والعَبدُ مَخصوصًا مِن جُملةِ قَولِه:
وَالزَّانِي بالقياسِ على الأَمَةِ، فصارَ بَعضُ الآيةِ مَخصوصًا بالكِتابِ، وبَعضُها مخصوصًا بالقياسِ.
ومِن ذلك أيضًا قَولُ اللهِ تعالى:
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا [الحج: 36] ، ثُمَّ خُصَّ منها بالإجماعِ تَحريمُ الأكلِ مِن جَزاءِ الصَّيدِ، وخُصَّ عِندَ الشَّافِعيِّ تَحريمُ الأكلِ مِن هَديِ المُتعةِ والقِرانِ قياسًا على جَزاءِ الصَّيدِ، فصارَ بَعضُ الآيةِ مَخصوصًا بالإجماعِ، وبَعضُها بالقياسِ على الإجماعِ
[1863] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص:102)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/192)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/364)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/497). .
2- أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم خَصَّصوا العُمومَ بالقياسِ؛ فقدِ اختَلَفوا في ميراثِ الجَدِّ مَعَ الإخوةِ
[1864] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (2/275)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/122). : فبَعضُهم جَعَلَه أَولى مِنَ الأخِ والأُختِ بجَميعِ المالِ، وذَهَبَ في ذلك إلى قياسِه على الأبِ
[1865] عن عبدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيكةَ، قال: كَتَبَ أهلُ الكوفةِ إلى ابنِ الزُّبَيرِ في الجَدِّ، فقال: أمَّا الذي قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَو كُنتُ مُتَّخِذًا مِن هذه الأُمَّةِ خَليلًا لاتَّخَذتُه» أنزَلَه أبًا. يَعني: أبا بَكرٍ. أخرجه البخاري (3658). وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قال: أمَّا الذي قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَو كُنتُ مُتَّخِذًا مِن هذه الأُمَّةِ خَليلًا لاتَّخَذتُه، ولَكِن خُلَّةُ الإسلامِ أفضَلُ، أو قال: خَيرٌ»؛ فإنَّه أنزَلَه أبًا، أو قال: قَضاه أبًا. أخرجه البخاري (6738). ، وخَصَّ به قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء: 176] ، وهذه الآيةُ عامَّةٌ فيمَن له جَدٌّ أو لا جَدَّ له. وبَعضُهم قاسَمَ بَينَ الجَدِّ والإخوةِ، للذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ، واستَدَلَّ بالقياسِ على أنَّه يُقاسِمُ، وخَصَّ الآيةَ أيضًا، فلَم يَجعَلِ للأخِ إرثَ جَميعِ مالِ أُخته إذا لَم يَكُنْ لها ولَدٌ، ولَم يَجعَلْ لأُخته مَعَ الجَدِّ النِّصفَ
[1866] عن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ وعُبَيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُتبةَ وقُبَيصةَ بنِ ذُؤَيبٍ: أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قَضى أنَّ الجَدَّ يُقاسِمُ الإخوةَ للأبِ والأُمِّ، والإخوةَ للأبِ، ما كانتِ المُقاسَمةُ خَيرًا له مِن ثُلُثِ المالِ، فإن كَثُرَ الإخوةُ أُعطيَ الجَدُّ الثُّلُثَ، وكان للإخوةِ ما بَقيَ؛ للذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ، وقَضى أنَّ بَني الأبِ والأُمِّ أَولى بذلك مِن بَني الأبِ ذُكورِهم وإناثِهم، غَيرَ أنَّ بَني الأبِ يُقاسِمونَ الجَدَّ لبَني الأبِ والأُمِّ، فيُرَدُّونَ عليهم، ولا يَكونُ لبَني الأبِ مَعَ بَني الأبِ والأُمِّ شَيءٌ إلَّا أن يَكونَ بَنو الأبِ يُرَدُّونَ على بَناتِ الأبِ والأُمِّ، فإن بَقيَ شَيءٌ بَعدَ فرائِضِ بَناتِ الأبِ والأُمِّ فهو للإخوةِ للأبِ؛ للذَّكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ أخرجه الدارقطني (5/166)، والبيهقي (12562) واللَّفظُ له. صَحَّحَ إسنادَه ابنُ كَثير في ((مسند الفاروق)) (1/385)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (12/22). .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لمَّا توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وكَفَرَ مَن كَفَر مِنَ العَرَبِ، فقال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: كَيف تُقاتِلُ النَّاسَ، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، فمَن قالها فقد عَصَمَ مِنِّي مالَه ونَفسَه إلَّا بحَقِّه، وحِسابُه على اللهِ))؟ فقال: واللهِ لأُقاتِلَنَّ مَن فرَّقَ بَينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ فإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، واللَّهِ لَو مَنَعوني عَناقًا
[1867] الأُنثى مِن ولَدِ المَعْزِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 278). كانوا يُؤَدُّونَها إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقاتَلتُهم على مَنعِها. قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: فواللهِ ما هو إلَّا أن قد شَرَحَ اللهُ صَدرَ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فعَرَفتُ أنَّه الحَقُّ)
[1868] أخرجه البخاري (1399، 1400) واللفظ له، ومسلم (20). .
وقد بَيَّنَ الخَطَّابيُّ وَجهَ الدَّلالةِ بقَولِه: (كان هذا مِن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه تَعَلُّقًا بظاهرِ الكَلامِ قَبلَ أن يَنظُرَ في آخِرِه، ويَتَأمَّلَ شَرائِطَه، فقال له أبو بَكرٍ: (إنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ) يُريدُ أنَّ القَضيَّةَ التي قد تَضَمَّنَت عِصمةَ دَمٍ ومالٍ مُعَلَّقةٌ بإيفاءِ شَرائِطِها، والحُكمُ المُعَلَّقُ بشَرطَينِ لا يَجِبُ بأحَدِهما والآخَرُ مَعدومٌ، ثُمَّ قايَسَه بالصَّلاةِ، ورَدَّ الزَّكاةَ إليها، فكان في ذلك مِن قَولِه دَليلٌ على أنَّ قِتالَ المُمتَنِعِ مِنَ الصَّلاةِ كان إجماعًا مِن رَأيِ الصَّحابةِ؛ ولذلك رَدَّ المُختَلَفَ فيه إلى المُتَّفَقِ عليه، فاجتَمَعَ في هذه القَضيَّةِ الاحتِجاجُ مِن عُمَرَ بالعُمومِ، ومِن أبي بَكرٍ بالقياسِ، ودَلَّ ذلك على أنَّ العُمومَ يُخَصُّ بالقياسِ)
[1869] ((معالم السنن)) (2/5). .
4- أنَّ القياسَ دَليلٌ يُنافي بَعضَ ما شَمِلَه العُمومُ بصريحِه، فوجَبَ أن يُخَصَّ به العُمومُ كاللَّفظِ الخاصِّ، يَدُلُّ عليه أنَّ مَعنى العِلَّةِ مَعنى النُّطقِ، فإذا كان النُّطقُ الخاصُّ يُخَصُّ به العُمومُ، فكذلك مَعناه.
5- أنَّ تَخصيصَ العُمومِ بالقياسِ فيه جَمعٌ بَينَ الدَّليلَينِ في العَمَلِ، وذلك أنَّا إذا خَصَّصنا العُمومَ بالقياسِ فقد عَمِلنا بالعُمومِ والقياسِ مَعًا، وأمَّا إذا لم نُخَصِّصِ العُمومَ بالقياسِ فقد عَطَّلنا القياسَ، والعَمَلُ بالدَّليلَينِ ولَو مِن وجهٍ أَولى مِنَ العَمَلِ بأحَدِهما وإسقاطِ الآخَرِ
[1870] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:139)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/387)، ((الوصول)) لابن برهان (1/269). .
فالقياسُ دَليلٌ شَرعيٌّ، والعُمومُ دَليلٌ شَرعيٌّ، وقد تَعارَضا؛ فإمَّا أن يُعمَلَ بهما فيَجتَمِعَ النَّقيضانِ، أو لا يُعمَلَ بهما فيَرتَفِعَ النَّقيضانِ، أو يُقدَّمَ العامُّ على الخاصِّ، وهو مُحالٌ؛ لأنَّ العامَّ دَلالَتُه على ذلك الخاصِّ أضعَفُ مِن دَلالةِ الخاصِّ على ذلك الخاصِّ؛ لجَوازِ إطلاقِه بدونِ إرادةِ ذلك الخاصِّ، والخاصُّ لا يَجوزُ إطلاقُه بدونِ إرادةِ ذلك الخاصِّ، والأضعَفُ لا يُقدَّمُ على الأقوى، فيَتَعَيَّنُ تَقديمُ الخاصِّ عليه، وهو المَطلوبُ
[1871] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 203). .
6- أنَّ القياسَ دَليلٌ شَرعيٌّ مَعمولٌ به، فوجَبَ أن يَجوزَ التَّخصيصُ قياسًا على خَبَرِ الواحِدِ والكِتابِ
[1872] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 330). .
وقيلَ: لا يَجوزُ تَخصيصُ عُمومِ الكِتابِ والسُّنَّةِ بالقياسِ مُطلَقًا. وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ
[1873] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/562)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/121). ، وقَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ
[1874] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص:37)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1483). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ
[1875] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/562)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/386)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/980). .
وقيلَ: إنَّ ما كان مِن عُمومِ الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ ما هو ظاهرُ المَعنى، بَيِّنُ المُرادِ، غَيرُ مُفتَقِرٍ إلى البَيانِ، مِمَّا لم يَثبُتْ خُصوصُه بالِاتِّفاقِ؛ فإنَّه لا يَجوزُ تَخصيصُه بالقياسِ.
وما كان مِن ظاهرِ القُرآنِ أوِ السُّنَّةِ قد ثَبَتَ خُصوصُه بالِاتِّفاقِ، أو كان في اللَّفظِ احتِمالٌ للمَعاني، أوِ اختَلَف السَّلَفُ في مَعناه، وسَوَّغوا الاختِلافَ فيه، وتَرْكَ الظَّاهِرِ بالِاجتِهادِ، أو كان اللَّفظُ في نَفسِه مجمَلًا مفتقرًا إلى البَيانِ؛ فإنَّه يَجوزُ تَخصيصُه بالقياسِ.
ومَعنى هذا القَولِ: أنَّ العامَّ الذي لم يَثبُتْ خُصوصُه ابتِداءً لا يَجوزُ تَخصيصُه بالقياسِ، أمَّا العامُّ الذي ثَبَتَ تَخصيصُه مِن قَبلُ بقَطعيٍّ؛ فإنَّه يَجوزُ تَخصيصُه بالقياسِ.
وهو مَنقولٌ عن أبي حَنيفةَ
[1876] يُنظر: ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/280). ، وبه قال الحَنَفيَّةُ
[1877] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/155، 211)، ((أصول السرخسي)) (1/142)، ((زبدة الوصول)) للكرماستي (ص:39)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/321)، ((سلم الوصول)) للمطيعي (2/463). .
ومِن أمثِلةِ تَخصيصِ العامِّ المَخصوصِ بالقياسِ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَبِعْ ما ليس عِندَك)) [1878] أخرجه أبو داود (3503)، والترمذي (1232)، والنسائي (4613) من حديثِ حَكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ العَرَبيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (3/193)، والنووي في ((المجموع)) (9/259)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (99)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/448). ؛ ففيه النَّهيُ عن عُمومِ بَيعِ ما ليس عِندَ الإنسانِ، وهذا العُمومُ خُصَّ منه بَيعُ السَّلَمِ -وهو بَيعُ شَيءٍ مَوصوفٍ مُؤَجَّلٍ بثَمَنٍ مُعَجَّلٍ-، وهو مِنَ البَيعِ لِما ليس عِندَ الإنسانِ؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن أسلَف في شَيءٍ، ففي كَيلٍ مَعلومٍ، ووزنٍ مَعلومٍ، إلى أجَلٍ مَعلومٍ)) [1879] أخرجه البخاري (2240) واللفظ له، ومسلم (1604). ، وقد خَصَّ أبو حَنيفةَ هذا العامَّ بالقياسِ، فأجازَ بَيعَ العَقارِ قَبلَ القَبضِ؛ قياسًا على السَّلَمِ للحاجةِ إليه
[1880] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/144)، ((قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها)) لصفوان داوودي (1/440). .
وقيلَ: إن كان القياسُ جَليًّا جازَ التَّخصيصُ به، وإن كان خَفيًّا فلا. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ
[1881] يُنظر: ((أدب القاضي)) للماوردي (1/289)، ((الوصول)) لابن برهان (1/266). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ
[1882] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/981). . مَعَ اختِلافِهم في تَفسيرِ القياسِ الجَليِّ والخَفيِّ
[1883] فقدِ اختَلَفوا في تَفسيرِ القياسِ الجَليِّ والخَفيِّ على أقوالٍ: أوَّلُها: أنَّ القياسَ الجَليَّ هو قياسُ العِلَّةِ، والخَفيَّ قياسُ الشَّبَهِ. وثانيها: أنَّ القياسَ الجَليَّ: ما تُفهَمُ عِلَّتُه مِن لَفظِه، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقضي القاضي بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ)) [أخرجه ابن ماجه (2316)، وأحمد (20389) من حديثِ أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (5064)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/570)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2316). وأخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ البخاري: ((لا يَقضينَّ حَكَمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ). والخَفيُّ: ما ليس كذلك. والمُرادُ بما تُفهَمُ عِلَّتُه: أي: يَسبِقُ إلى الفهمِ مِن كَلامِ الشَّارِعِ ما يُعيِّنُ عِلَّتَه عِندَ سَماعِ اللَّفظِ؛ فإنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقضي القاضي بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ)) يُفهَمُ منه أنَّ المانِعَ: ما يُشَوِّشُ الفِكرَ، فيَتَعَدَّى ذلك للجائِعِ والحاقِنِ وغَيرِهما، بجامِعِ ما يُشَوِّشُ الفِكرَ. وثالِثُها: أنَّ الجَليَّ: هو الذي لَو قَضى القاضي بخِلافِه نُقِضَ قَضاؤُه. والخَفيَّ: هو الذي لا يُنقَضُ قَضاءُ القاضي بخِلافِه. يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/424)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (2/326)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1684)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1484). .
وقيلَ: إن كانتِ العِلَّةُ في القياسِ منصوصةً أو مُجمَعًا عليها جازَ تَخصيصُ العُمومِ به، وإلَّا فلا. وهو قَولُ الآمِديِّ
[1884] يُنظر: ((الإحكام)) (2/337)، ((منتهى السول)) (ص:151). .
وقيلَ: إن تَفاوتَ القياسُ والعامُّ في غَلَبةِ الظَّنِّ رَجَحَ الأقوى، فيُرَجَّحُ العامُّ بظُهورِ قَصدِ التَّعميمِ فيه، ويَكونُ القياسُ المُعارِضُ له قياسَ شَبَهٍ، ويُرَجَّحُ القياسُ بالعَكسِ مِن ذلك؛ فإن تَعادَلَا فالوقفُ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ، كالغَزاليِّ
[1885] يُنظر: ((المستصفى)) (ص:252). ، والأبياريِّ
[1886] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (2/213). ، وصَحَّحه ابنُ التِّلِمسانيِّ
[1887] يُنظر: ((شرح المعالم)) (2/424). ، وقال القَرافيُّ: (هذا مَذهَبٌ حَسَنٌ)
[1888] ((شرح تنقيح الفصول)) (ص:206). ، وقال ابنُ دَقيقِ العيدِ: (إنَّه مَذهَبٌ جَيِّدٌ)
[1889] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/494)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1643)، ((التحبير)) للمرداوي (6/2689). .
وقيلَ بالوقفِ في القَدرِ الذي تَعارَضا فيه، والرُّجوعِ إلى دَليلٍ آخَرَ سِواهما. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ، كالباقِلَّانيِّ
[1890] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/195). ، وإمامِ الحَرَمَينِ
[1891] يُنظر: ((البرهان)) (1/157). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- الجاني على النَّفسِ هَل يُعصَمُ بالِالتِجاءِ إلى الحَرَمِ؟اختَلَف الفُقَهاءُ في الجاني على النَّفسِ خارِجَ الحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأ إلى الحَرَمِ، هَل يُقتَصُّ منه داخِلَ الحَرَمِ؟
والرَّاجِحُ أنَّ مَن وجَبَ عليه حَدٌّ في النَّفسِ، ثُمَّ لَجَأ إلى الحَرَمِ فإنَّه يُقتَصُّ مِنه، وذلك قياسًا على الجاني داخِلَ الحَرَمِ، فإنَّ قَتلَه جائِزٌ؛ لقَولِ اللهِ تعالى:
وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: 191]، وهو قَولُ جُمهورِ الفُقَهاءِ
[1892] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (16/294)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (12/220). .
وقيلَ: لا يُقتَصُّ منه داخِلَ الحَرَمِ، ولَكِن يُلجَأُ إلى الخُروجِ بعَدَمِ إطعامِه وسُقياه ومُعامَلَتِه وكَلامِه، حتَّى إذا خَرَجَ اقتُصَّ مِنه. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
[1893] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (2/304). .
واحتَجُّوا بعُمومِ قَولِ اللهِ تعالى:
وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97] .
والجُمهورُ خَصَّصوا عُمومَ هذا النَّصِّ بالقياسِ؛ لقيامِ مُوجِبِ الاستيفاءِ، وبُعدِ احتِمالِ المانِعِ؛ إذ لا مُناسَبةَ بَينَ اللِّياذِ إلى الحَرَمِ وإسقاطِ حُقوقِ الآدَميِّينَ المَبنيَّةِ على الشُّحِّ والمُضايَقةِ، كَيف وقد ظَهَرَ إلغاؤُه فيما إذا أنشَأ القَتلَ في الحَرَمِ، وفي قَطعِ الطُّرُقِ
[1894] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص:286)، ((المغني)) للخبازي (ص:102)، ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص:213)، ((قواعد أصول الفقه وتطبيقاتها)) لصفوان داوودي (1/440). ؟!
2- حُكمُ المَسبوقِ في صَلاةِ الجِنازةِاتَّفقَ الفُقَهاءُ على أنَّ مَن فاتَه بَعضُ التَّكبيرِ فإنَّه يَقضي ما فاتَه مِنَ التَّكبيرِ.
واستَدَلُّوا بعُمومِ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما أدرَكتُم فصَلُّوا، وما فاتَكُم فأتِمُّوا)) [1895] أخرجه البخاري (636)، ومسلم (602) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
واختَلَفوا في الدُّعاءِ بَينَ التَّكبيرِ المَقضيِّ:القَولُ الأوَّلُ: أنَّه يَدعو بَينَ التَّكبيرِ المَقضيِّ. وهو قَولُ أبي حَنيفةَ
[1896] يُنظر: ((الأصل)) لمحمد بن الحسن الشيباني (1/351)، وفيه: (قُلتُ: أرَأيتَ إمامًا صَلَّى على جِنازةٍ، فكَبَّرَ تَكبيرةً أو تَكبيرَتَينِ، ثُمَّ جاءَ رَجُلٌ فدَخَلَ مَعَه في الصَّلاةِ، أيُكبِّرُ الرَّجُلُ حينَ يَدخُلُ، أم يَنتَظِرُ حتَّى يُكبِّرَ الإمامُ؟ قال: بَل يَنتَظِرُ حتَّى يُكَبِّرَ الإمامُ، فإذا كَبَّرَ الإمامُ كَبَّر مَعَه، فإذا سَلَّم الإمامُ قَضى ما بَقيَ عليه قَبلَ أن تُرفَعَ الجِنازةُ. وهذا قَولُ أبي حَنيفةَ ومُحَمَّدٍ). ، وقَولٌ للشَّافِعيِّ
[1897] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (1/512)، ((النجم الوهاج)) للدميري (3/52). ، وصَحَّحه الرَّافِعيُّ
[1898] قال في ((العزيز)) (2/441): (إذا فاتَه بَعضُ التَّكبيراتِ تَدارَكَ بَعدَ سَلامِ الإمامِ، وهَل يَقتَصِرُ على التَّكبيرِ نَسَقًا، أم يَأتي بالدُّعاءِ والذِّكرِ بَينَها؟ فيها قَولانِ... وأصَحُّهما: أنَّه يَدعو؛ لِما رُويَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((وما فاتَكُم فاقضوا)). وكما فاتَته التَّكبيراتُ فاتَه الدُّعاءُ). .
القَولُ الثَّاني: أنَّه يَقضي التَّكبيرَ نَسَقًا بغَيرِ دُعاءٍ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ
[1899] يُنظر: ((البناية)) للعيني (3/224)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (2/126). ، ومالكٍ
[1900] يُنظر: ((التمهيد)) لابنِ عبدِ البر (4/307)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد الحفيد (1/252). ، وقَولٌ للشَّافِعيِّ
[1901] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/482)، ((عجالة المحتاج)) لابن الملقن (1/429). .
فمَن رَأى أنَّ عُمومَ هذا الحَديثِ يَتَناولُ التَّكبيرَ والدُّعاءَ، قال: يَقضي التَّكبيرَ وما فاتَه مِنَ الدُّعاءِ.
ومَن أخرج الدُّعاءَ مِن ذلك؛ لأنَّه غَيرُ مُؤَقَّتٍ
[1902] أي: أنَّه ليس هناكَ دُعاءٌ مُحَدَّدٌ في هذا المَقامِ، وإنَّما يَدعو الإنسانُ بالدُّعاءِ الذي يُفيدُ في هذا المَقامِ. يُنظر: ((بغية المقتصد)) للوائلي (6/3028). ، قال: يَقضي التَّكبيرَ فقَط؛ لأنَّه هو المُؤَقَّتُ. فكان تَخصيصُ الدُّعاءِ مِن ذلك العُمومِ هو مِن بابِ تَخصيصِ العامِّ بالقياسِ.
فأبو حَنيفة أخَذَ بالعُمومِ، وهؤلاء أخَذوا بالخُصوصِ
[1903] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد الحفيد (1/252). .