موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الرَّابِعُ: شُروطُ حَملِ المُطلَقِ على المُقَيَّدِ


ذَكَر الأُصوليُّونَ لحَملِ المُطلَقِ على المُقَيَّدِ شُروطًا، هيَ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن يَكونَ القَيدُ مِن بابِ الصِّفاتِ، فأمَّا في إثباتِ أصلِ الحُكمِ مِن زيادةٍ خارِجةٍ أو عَدَدٍ فلا يُحمَلُ أحَدُهما على الآخَرِ، وهذا كالإطعامِ في كَفَّارةِ القَتلِ، فإنَّ أظهَرَ القَولَينِ: أنَّه لا يَجِبُ، وإن ذَكَرَه اللهُ في كَفَّارةِ الظِّهارِ. وكذلك إيجابُ غَسلِ الأعضاءِ الأربَعةِ في الوُضوءِ مَعَ الاقتِصارِ على عُضويَنِ في التَّيَمُّمِ؛ فإنَّ الإجماعَ مُنعَقِدٌ على أنَّه لا يُحمَلُ إطلاقُ التَّيَمُّمِ على تَقييدِ الوُضوءِ ليَستَحِقَّ تَيَمُّمَ الأربَعةِ؛ لِما فيه مِن إثباتِ حُكمٍ لَم يُذكَرْ، وحَملُ المُطلَقِ على المُقَيَّدِ إنَّما يَختَصُّ بالصِّفةِ [2243] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/21)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/9)، ((تأويل النصوص)) للذوادي قوميدي (ص: 304)، ((المطلق والمقيد)) للصاعدي (ص: 190). .
الشَّرطُ الثَّاني: أن لا يَكونَ للمُطلَقِ إلَّا أصلٌ واحِدٌ، مِثلُ تَقييدِ ميراثِ الزَّوجَينِ بقَولِ اللهِ تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 12] .
وإطلاقُ بَقيَّةِ المَواريثِ عن ذلك القَيدِ؛ فإنَّ ما أُطلِقَ مِنَ المَواريثِ يَكونُ مُقَيَّدًا بكَونِه بَعدَ تَنفيذِ الوصيَّةِ وقَضاءِ الدَّينِ.
فأمَّا إذا كان المُطلَقُ دائِرًا بَينَ قَيدَينِ مُتَضادَّينِ نُظِر؛ فإن كان السَّبَبُ مُختَلِفًا لَم يُحمَلْ إطلاقُه على أحَدِهما إلَّا بدَليلٍ، فيُحمَلُ على ما كان القياسُ عليه أَولى، أو ما كان دَليلُ الحُكمِ عليه أقوى [2244] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/22)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/9)، ((المطلق والمقيد)) للصاعدي (ص: 192). وقد ذَكَرَ الماوَرديُّ في هذا الشَّرطِ تفصيلًا، فقال: (إذا ورَدَ مُقَيِّدانِ مِن جِنسٍ واحِدٍ بشَرطَينِ مُختَلِفينِ، وأُطلِقَ ثالِثٌ مِن جِنسِهما، وجَبَ حَملُ المُطلَقِ على إطلاقِه، ولَم يَجِبْ حَملُه على أحَدِ المُقَيَّدينِ؛ لأنَّه ليس حَملُه على أحَدِهما بأولى مِن حَملِه على الآخَرِ، وحَملِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُقَيِّدينِ على تَقييدِه. وأمَّا حَملُه على تَقييدِ نَظيرِه فيُنظَرُ في صِفتَي التَّقييدِ فيهما: فإن تَنافى الجَمعُ بَينَهما لَم يُحمَلْ أحَدُهما على الآخَرِ، واختَصَّ كُلُّ واحِدٍ مِنهما بصِفتِه التي قُيِّدَ بها، وذلك مِثلُ تَقييدِ صَومِ الظِّهارِ بالتَّتابُعِ، وتَقييدِ صَومِ التَّمَتُّعِ بالتَّفرِقةِ، ولا يُمكِنُ الجَمعُ بَينَ التَّتابُعِ والتَّفرِقةِ، فيَختَصُّ كُلُّ واحِدٍ مِنهما بصِفتِه. وإن أمكَنَ اجتِماعُ الصِّفتَينِ ولَم يَتَنافيا، ففي حَملِ كُلِّ واحِدٍ مِنهما على تَقييدِ نَظيرِه وجهانِ: أحَدُهما: لا يُحمَلُ إلَّا على ما قُيِّدَ به، إذا قيلَ: إنَّ المُطلَقَ لا يُحمَلُ على المُقَيَّدِ إلَّا بدَليلٍ. والوَجهُ الثَّاني: يُحمَلُ على تَقييدِه وتَقييدِ نَظيرِه، فيَصيرُ كُلُّ واحِدٍ مِنهما مُقَيَّدًا بالصِّفتَينِ، إذا قيلَ بجَوازِ حَملِ المُطلَقِ على المُقَيَّدِ. فعلى هذا يَجوزُ أن يُحمَلَ ما أُطلِقَ مِن جِنسِهما على تَقييدِهما مَعًا، ويَصيرُ كُلُّ واحِدٍ مِنَ النُّصوصِ الثَّلاثةِ المُتَجانِسةِ مُقَيَّدًا بشَرطَينِ). ((الحاوي الكبير)) (16/66). .
الشَّرطُ الثَّالِثُ: أن يَكونَ وُرودُ المُطلَقِ في بابِ الأوامِرِ والإثباتِ، أمَّا في جانِبِ النَّفيِ والنَّهيِ فلا يُحمَلُ المُطلَقُ على المُقَيَّدِ؛ فإنَّه يَلزَمُ منه الإخلالُ باللَّفظِ المُطلَقِ مَعَ تَناوُلِ النَّهيِ. وهو غَيرُ سائِغٍ [2245] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/27)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/9)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 372). .
الشَّرطُ الرَّابِعُ: أن لا يُمكِنَ الجَمعُ بَينَهما إلَّا بالحَملِ، فإن أمكَنَ تَعَيَّنَ إعمالُهما؛ فإنَّه أولى مِن تَعطيلِ ما دَلَّ عليه أحَدُهما [2246] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/30)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/10)، ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 307). .
الشَّرطُ الخامِسُ: أن لا يُذكَرَ مَعَ المُقَيَّدِ قَدرٌ زائِدٌ بحَيثُ يَكونُ القَيدُ لأجلِ ذلك القَدرِ الزَّائِدِ، فلا يُحمَلُ المُطلَقُ على المُقَيَّدِ هاهنا قَطعًا، لأنَّه يَلزَمُ مِن حَملِ المُطلَقِ على المُقَيَّدِ في هذه الحالةِ أن يَكونَ القَدرُ الزَّائِدُ مَعَ المُقَيَّدِ لَغوًا، وهو لا يَليقُ بكَلامِ العُقَلاءِ فضلًا عن كَلامِ أحكَمِ الحاكِمينَ [2247] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/30)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/10)، ((المطلق والمقيد)) للصاعدي (ص: 200). .
الشَّرطُ السَّادِسُ: أن لا يَقومَ دَليلٌ يَمنَعُ مِنَ التَّقييدِ، فإن قامَ دَليلٌ على ذلك فلا تَقييدَ. مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] ، فلَم يُقَيَّدْ بالدُّخولِ، وقُيِّدَ به في عِدَّةِ الطَّلاقِ بقَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب: 49] ، ولَم يَحمِلوا المُطلَقَ هناكَ على المُقَيَّدِ؛ لقيامِ المانِعِ، وهو أنَّ تَقييدَ المُطلَقِ أو تَخصيصَ العامِّ إنَّما يَكونُ بقياسٍ أو مُرَجِّحٍ، وهو هنا مُنتَفٍ؛ لأنَّ المُتَوفَّى عنها زَوجُها أحكامُ الزَّوجيَّةِ باقيةٌ في حَقِّها بدَليلِ أنَّها تُغَسِّلُه، وتَرِثُ منه اتِّفاقًا. ولَو كانت في حُكمِ المُطَلَّقاتِ البوائِنِ لَم تَرِثْ، فلَمَّا ظَهَرَ في الفرعِ ما يَقتَضي عَدَمَ إلحاقِه بالأصلِ امتَنَعَ التَّقييدُ بالقياسِ أوِ التَّخصيصُ به [2248] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/31)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/10)، ((تأويل النصوص)) للذوادي (ص: 308). .

انظر أيضا: