موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الرَّابِعةُ: أقسامُ مَفهومِ الموافقةِ


أوَّلًا: أقسامُ مَفهومِ الموافقةِ مِن حَيثُ كَونُه أَولى أو مُساويًا
يَنقَسِمُ مَفهومُ الموافقةِ مِن هذه الحَيثيَّةِ إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: مَفهومُ الموافقةِ الأولَويُّ [2325] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (2/640)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/715)، ((شرح العضد)) (3/163)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/984)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1756). : هو ما كان المَسكوتُ عنه أولى بالحُكمِ مِنَ المَنطوقِ به، أي: أنَّ المُناسَبةَ بَينَ المَسكوتِ عنه وبَينَ الحُكمِ أقوى وأشَدُّ منها بَينَ المَنطوقِ وبَينَ هذا الحُكمِ، فيَكونُ المَسكوتُ عنه أَولى منه بالحُكمِ، وهو يُسَمَّى بالتَّنبيهِ بالأدنى على الأعلى.
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران: 75] ؛ فإنَّ في عَدَمِ أدائِه للدِّينارِ تَنبيهًا على الأعلى، وهو عَدَمُ أدائِه للأكثَرِ مِنَ الدِّينارِ، أي: أنَّه إذا كان لا يُؤَدِّي الدِّينارَ مَعَ قِلَّتِه فإنَّه مِن بابِ أَولى أن لا يُؤَدِّيَ ما هو أكثَرُ مِنه.
وكذلك قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ، يُفهَمُ منه بطَريقٍ أَولى أنَّه يَرى مِثقالَ الجَبَلِ مِنَ الخَيرِ.
القِسمُ الثَّاني: مَفهومُ الموافقةِ المُساوي [2326] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (6/2878)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 32)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/96)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1756). ، وهو: ما كان المَسكوتُ عنه مُساويًا للمَنطوقِ به في الحُكمِ. أي: أنَّ المُناسَبةَ بَينَ المَسكوتِ عنه وبَينَ الحُكمِ على قَدرِ المُناسَبةِ المَوجودةِ بَينَ المَنطوقِ وبَينَ هذا الحُكمِ.
ومِثالُ ذلك: تَحريمُ إحراقِ مالِ اليَتيمِ أو تَبذيرِه؛ لأنَّه مُساوٍ لأكلِه المُحَرَّمِ.
ثانيًا: أقسامُ مَفهومِ الموافقةِ مِن حَيثُ القَطعيَّةُ والظَّنِّيَّةُ:
يَنقَسِمُ مَفهومُ الموافقةِ مِن هذه الحَيثيَّةِ إلى قِسمَينِ [2327] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/323)، ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (2/20)، ((شرح العضد)) (3/166)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/499)، تحفة المسؤول)) للرهوني (3/327)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/126)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1757). :
1- مَفهومُ الموافقةِ القَطعيُّ: وهو ما كان فيه المَعنى المَقصودُ مِنَ الحُكمِ المَنصوصِ عليه مَعلومًا جَزمًا؛ لكَونِ المَعنى أشَدَّ مُناسَبةً في المَسكوتِ قَطعًا.
2- مَفهومُ الموافقةِ الظَّنِّيُّ: وهو ما كان فيه المَعنى المَقصودُ مِنَ الحُكمِ المَنصوصِ عليه راجِحًا على غَيرِه.
وبَيانُ ذلك: أنَّ إلحاقَ المَسكوتِ عنه بالمَنطوقِ بطَريقِ مَفهومِ الموافقةِ إمَّا أن يَكونَ قَطعيًّا أو ظَنِّيًّا، وفي كُلٍّ مِنهما إمَّا أن يَكونَ المَسكوتُ عنه أَولى بالحُكمِ مِنَ المَنطوقِ، أو مُساويًا له، فكان مَجموعُ ذلك أربَعةَ أقسامٍ، بَيانُها كما يَلي [2328] يُنظر: ((نثر الورود)) (1/83)، ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 388) كلاهما لمحمد الأمين الشنقيطي، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1757). :
القِسمُ الأوَّلُ: مَفهومُ مُوافقةٍ أولَويٌّ قَطعيٌّ: هو ما كان المَسكوتُ عنه فيه أَولى بالحُكمِ مِنَ المَنطوقِ، مَعَ القَطعِ بنَفيِ الفارِقِ.
مِثالُه: فَهمُ المُجازاةِ على مِثقالِ الجَبَلِ مِنَ المُجازاةِ على مِثقالِ الذَّرَّةِ المَنصوصِ في قَولِ اللهِ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7-8] ؛ فإنَّه يُفهَمُ مِن ذلك قَطعًا ومِن بابِ أَولى أنَّ مَن عَمِل مِثقالَ جَبَلٍ خَيرًا أو شَرًّا فإنَّه سَيراه، وهذا مِمَّا لا شَكَّ فيه، ولا يَتَطَرَّقُ إليه احتِمالٌ.
القِسمُ الثَّاني: مَفهومُ موافَقةٍ أولَويٌّ ظَنِّيٌّ: وهو ما كان المَسكوتُ عنه فيه أَولى مَعَ نَفيِ الفارِقِ بالظَّنِّ الغالِبِ.
مِثالُه: فَهمُ النَّهيِ عنِ التَّضحيةِ بالعَمياءِ مِن نَهيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ التَّضحيةِ بالعَوراءِ، كما في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَجوزُ مِنَ الضَّحايا: العَوراءُ البَيِّنُ عَوَرُها)) [2329] أخرجه أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (4371) واللفظ له. صَحَّحه الترمذي، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (4/168)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5921)، والنووي في ((المجموع)) (8/399). ؛ فهو نَصٌّ على مَنعِ التَّضحيةِ بالعَوراءِ، وبما أنَّ العَمى عَوَرٌ مَرَّتَينِ؛ فإنَّ العَمياءَ أَولى بالحُكمِ المَذكورِ في العَوراءِ، بجامِعِ أنَّ هذا العَوَرَ يُسَبِّبُ نَقصًا في القيمةِ، فالعَمياءُ أحرى بهذا المَعنى. ولَم يَكُنْ هذا قطعيًّا؛ لأنَّ العَوراءَ توكَلُ في المَرعى إلى نَفسِها، وهيَ ناقِصةُ البَصَرِ، فلا تَرى كُلَّ المَرعى، ونُقصانُ بَصَرِها مَظِنَّةٌ لنُقصانِ أكلِها، وذلك مَظِنَّةٌ لهُزالِها، والعَمياءُ يُقدَّمُ لها الأكلُ فيُختارُ لها مِثلُ ما تَختارُه البَصيرةُ لنَفسِها، فلَم يَكُنْ عَماها مَظِنَّةً لهُزالِها كالعَوراءِ، إلَّا أنَّ هذا الاحتِمالَ بَعيدٌ، ولَكِنَّه يَمنَعُ القَطعَ رَغمَ بُعدِه.
القِسمُ الثَّالِثُ: مَفهومُ موافقةٍ مُساوٍ قَطعيٌّ: وهو ما كان المَسكوتُ عنه فيه مُساويًا للمَنطوقِ مَعَ القَطعِ بنَفي الفارِقِ.
مِثالُه: فَهمُ حُرمةِ إحراقِ مالِ اليَتيمِ وإغراقِه مِنَ النَّهيِ عن أكلِه المَنصوصِ في قَولِ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] ؛ حَيثُ توعَّد الشَّارِعُ مَن أكَلَ مالَ اليَتيمِ ظُلمًا بالوعيدِ الشَّديدِ، وعَلِمنا بطَريقِ المَفهومِ: أنَّ مَن أحرَقَ مالَ اليَتيمِ أو أتلَفَه بأيِّ صورةٍ مِن صُوَرِ الإتلافِ؛ فإنَّ عليه ذلك الوعيدَ، وهذا المَفهومُ الموافِقُ المَسكوتَ عنه مُساوٍ للمَنطوقِ به في الحُكمِ جَزمًا.
وكفَهمِ النَّهيِ عنِ البَولِ في إناءٍ وصَبِّه في الماءِ الرَّاكِدِ مِن نَهيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ البَولِ فيه [2330] عن جابِرٍ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنَّه نَهى أن يُبالَ في الماءِ الرَّاكِدِ. أخرجه مسلم (281). .
القِسمُ الرَّابِعُ: مَفهومُ موافقةٍ مُساوٍ ظَنِّيٌّ: وهو ما كان المَسكوتُ عنه فيه مُساويًا للمَنطوقِ به مَعَ كَونِ نَفيِ الفارِقِ مَظنونًا لا مَقطوعًا.
مِثالُه: ثُبوتُ حَدِّ قَطعِ الطَّريقِ على مُعاوِنِ المُحارِبِ، وذلك مِن قَولِ اللهِ تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] ؛ فإنَّه يَدُلُّ بمَنطوقِه على ثُبوتِ حَدِّ قَطعِ الطَّريقِ على المُحارِبِ الذي يَعرِضُ للنَّاسِ بالسِّلاحِ، ويُفهَمُ منه ثُبوتُ حَدِّ قَطعِ الطَّريقِ على مُعاوِنِ المُحارِبِ.
قال السَّرَخسيُّ: (أوجَبنا حَدَّ قُطَّاعِ الطَّريقِ على الرِّدءِ بدَلالةِ النَّصِّ؛ لأنَّ عِبارةَ النَّصِّ المُحارَبةُ، وصورةَ ذلك بمُباشَرةِ القِتالِ، ومَعناها لُغةً قَهرُ العَدوِّ والتَّخويفُ على وجهٍ يَنقَطِعُ به الطَّريقُ، وهذا مَعنًى مَعلومٌ بالمُحارَبةِ لُغةً، والرِّدءُ مُباشِرٌ لذلك كالمُقاتِلِ؛ ولهذا اشتَرَكوا في الغَنيمةِ، فيُقامُ الحَدُّ على الرِّدءِ بدَلالةِ النَّصِّ مِن هذه الوُجوهِ) [2331] ((أصول السرخسي)) (1/242). .
وهذا المَفهومُ مُساوٍ ظَنِّيٌّ، ووجهُ الظَّنِّيَّةِ فيه: عَدَمُ القَطعِ بكَونِ التَّخويفِ وَحدَه هو المَعنى المُراعى؛ لاحتِمالِ زيادةِ المُحارِبِ بالمُباشَرةِ [2332] يُنظر: ((مفهوم الموافقة)) للرسيني (ص: 425). .

انظر أيضا: