موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: حُجِّيَّةُ مَفهومِ الموافقةِ


اختَلَف الأُصوليُّونَ في حُجِّيَّةِ مَفهومِ الموافقةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ مَفهومَ الموافقةِ حُجَّةٌ، وهو طَريقٌ صحيحٌ لاستِنباطِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ. وهو مَذهَبُ جُمهورِ العُلَماءِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ [2333] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/183)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/258)، ((المحصول)) لابن العربي (ص: 104)، ((الإحكام)) للآمدي (3/67)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 346)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 163)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1060). ، ومِنهم: أبو يَعلى [2334] يُنظر: ((العدة)) (2/480). ، والسَّرَخسيُّ [2335] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/241). ، وابنُ قُدامةَ [2336] يُنظر: ((روضة الناظر)) (2/111). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ حَيثُ إنَّهم فَهِموا ذلك مِن خِطابِ اللَّهِ تعالى ورَسولِه، ومِن مُخاطَباتِهم فيما بَينَهم؛ وذلك في وقائِعَ كَثيرةٍ، منها:
قَولُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه في شَأنِ مانِعي الزَّكاةِ: (واللَّهِ لَو مَنَعوني عِقالًا [2337] قال النَّوويُّ: (ذَهَبَ كَثيرونَ مِنَ المُحَقِّقينَ إلى أنَّ المُرادَ بالعِقالِ الحَبلُ الذي يُعقَلُ به البَعيرُ). ((شرح مسلم)) (1/ 208). كانوا يُؤَدُّونَه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقاتَلَتهم عليه) [2338] أخرجه البخاري (7284، 7285)، ومسلم (20) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلَفظ: ((لَقاتَلتُهم على مَنعِه)). ؛ فإنَّ الصَّحابةَ قد فَهِموا مِن هذا أنَّه إذا قاتَلَهم على عِقالِ البَعيرِ، فمِن بابِ أَولى أن يُقاتِلَهم على ما فوقَه [2339] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1760). . وقد نَقَل الإجماعَ عليه: ابنُ تيميَّةَ [2340] قال: (قياسُ الأَولى -وإن لَم يَدُلَّ عليه الخِطابُ- لَكِن عُرِف أنَّه أَولى بالحُكمِ مِنَ المَنطوقِ بهذا؛ فإنكارُه مِن بدَعِ الظَّاهريَّةِ التي لم يَسبِقْهم بها أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ). ((مجموع الفتاوى)) (21/207). ، وابنُ مُفلِحٍ [2341] قال: (وهو حُجَّةٌ، ذَكَرَه بَعضُهم إجماعًا؛ لتَبادُرِ فَهمِ العُقَلاءِ). (3/1060). .
ثانيًا: تَبادُرُ فَهمِ العُقَلاءِ إليه؛ فإنَّه إذا قال رَجُلٌ لابنِه: "لا تُعطِ زَيدًا حَبَّةً، ولا تَقُلْ له أُفٍّ، ولا تَعبِسْ في وَجهِه" فإنَّه يَتَبادَرُ إلى الفهمِ مِن ذلك امتِناعُ إعطاءِ ما فوقَ الحَبَّةِ، وامتِناعُ الشَّتمِ والضَّربِ، وامتِناعُ أذيَّتِه بما فوقَ التَّعبيسِ مِن هُجرِ الكَلامِ وغَيرِه. وكذلك لَو حَلَف أنَّه لا يَأكُلُ لفُلانٍ لُقمةً، ولا يَشرَبُ مِن مائِه جُرعةً، كان ذلك موجِبًا لامتِناعِه مِن أكلِ ما زادَ على اللُّقمةِ كالرَّغيفِ، وشُربِ ما زادَ على الجُرعةِ [2342] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/67)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/483). .
ثالِثًا: أنَّ هذا ظاهرٌ مِن لُغةِ العَرَبِ، وأنَّ الابنَ المَنهيَّ عن إعطاءِ زَيدٍ حَبَّةً، لا يَحسُنُ أن يَستَفهمَ أباه النَّاهيَ له: فهَل أُعطيه قيراطًا؟ لِما في القيراطِ مِنَ الحَبَّاتِ، وكذلك إذا قال: لا تَقُلْ لأُمِّك: أُفٍّ، لا يَحسُنُ أن يَقولَ: فهَل تُفسِحُ لي في ضَربِها أوِ انتِهارِها؟ لِما في الضَّربِ والِانتِهارِ مِنَ الأذيَّةِ المُتَضاعِفةِ على أذيَّةِ التَّبَرُّمِ والضَّجَرِ [2343] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/259). .
وقيلَ: إنَّ مَفهومَ الموافقةِ ليس بحُجَّةٍ. وهو مَنقولٌ عن داوُدَ الظَّاهريِّ [2344] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/482)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/258)، ((الإحكام)) للآمدي (3/67). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (قياسُ الأَولى وإن لَم يَدُلَّ عليه الخِطابُ، لَكِن عُرِف أنَّه أَولى بالحُكمِ مِنَ المَنطوقِ بهذا، فإنكارُه مِن بِدَعِ الظَّاهريَّةِ التي لم يَسبِقْهم بها أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، فما زالَ السَّلَفُ يَحتَجُّونَ بمِثلِ هذا وهَذا) [2345] ((مجموع الفتاوى)) (21/207). .

انظر أيضا: