موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ السَّادِسةُ: نَوعُ الدَّلالةِ في مَفهومِ الموافقةِ


اختَلَف الأُصوليُّونَ في نَوعِ الدَّلالةِ في مَفهومِ الموافقةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ دَلالةَ مَفهومِ الموافقةِ لَفظيَّةٌ، أي: أنَّها تَحصُلُ بطَريقِ الفَهمِ مِنَ اللَّفظِ في غَيرِ مَحَلِّ النُّطقِ. وهو مَنقولٌ عن أحمَدَ [2346] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1336)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1061)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/483). ، وهو قَولُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [2347] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (4/100)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 132)، ((مسائل الخلاف)) للصيمري (ص: 272)، ((أصول السرخسي)) (1/241)، ((المغني)) للخبازي (ص: 154)، ((الكافي)) للسغناقي (1/265)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/90). ، وجُمهورِ المالِكيَّةِ [2348] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (2/515). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [2349] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 227). ، والصَّحيحُ عِندَ الحَنابِلةِ [2350] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1333)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/258). .
وقد جَعَلوا الثَّابِتَ بها كالثَّابِتِ بالمَنطوقِ؛ لاستِنادِها إلى المَعنى المَفهومِ مِنَ الكَلامِ لُغةً بطريقِ الانتِقالِ مِنَ الأدنى إلى الأعلى، أو مِن أحَدِ المُتَساويَينِ إلى الآخَرِ.
والثَّابِتُ بمَفهومِ الموافقةِ فوقَ الثَّابِتِ بالقياسِ؛ لأنَّ العِلَّةَ في القياسِ تُدرَكُ بالرَّأيِ والِاجتِهادِ عن طَريقِ تَنقيحِ المَناطِ، وقد تَكونُ العِلَّةُ ظاهرةً تُدرَكُ بأدنى تَأمُّلٍ، وقد تَكونُ خَفيَّةً لا تُدرَكُ إلَّا بمَزيدِ تَأمُّلٍ.
أمَّا المَعنى الذي هو مَناطُ الحُكمِ في المَنطوقِ فيُفهَمُ بمُجَرَّدِ المَعرِفةِ باللُّغةِ، فتَدُلُّ هيَ على الحُكمِ نَفسِه في السُّكوتِ لأجلِ ذلك المَعنى. فكان الثَّابِتُ بمَفهومِ الموافقةِ كالثَّابِتِ بالمَنطوقِ، وفوقَ الثَّابِتِ بالقياسِ [2351] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (1/256)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/90)، ((تفسير النصوص)) للصالح (1/632)، ((أثر القواعد الأصولية اللغوية في استنباط أحكام القرآن)) لعبد الكريم حامدي (ص: 76). .
الأدِلَّةُ:
1- اتِّفاقُ أهلِ اللُّغةِ؛ فإنَّ أهلَ اللُّغةِ لا يَختَلِفونَ في أنَّ مَن نُهيَ عنِ التَّأفيفِ لوالِدَيه عَقَلَ منه تَحريمَ الشَّتمِ والضَّربِ، كما أنَّ مَن أُمِرَ بتَعظيمِ زَيدٍ، عَقَلَ منه تَركَ الاستِخفافِ به. وكما أنَّ مَن وُصِف بالعَجزِ عن حَملِ شَيءٍ يَسيرٍ، عَقَلَ منه عَجزَه عن حَملِه ما هو فوقَه. ومَن حَمَل نَفسَه على دَفعِ ذلك لَم يَكُنْ في حَدِّ مَن يُناظَرُ، وإذا كان هذا مِنَ اللَّفظِ لَم يَجُزْ إطلاقُ اسمِ القياسِ عليه [2352] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1338). .
2- أنَّ مَفهومَ الموافقةِ مِن بابِ إطلاقِ الأخَصِّ وإرادةِ الأعَمِّ، فالنَّهيُ عنِ التَّأفُّفِ لَم يَكُنْ مقصودًا لذاتِه، وإنَّما الغَرَضُ منه التَّنبيهُ على ما فوقَه مِن أنواعِ الأذى.
فإذا كان مِن غَيرِ اللَّائِقِ أن يَتَأفَّفَ الابنُ لوالِدَيه فمِنَ الأَولى أن لا يُؤذيَهما بما فوقَ التَّأفُّفِ مِنَ الضَّربِ والشَّتمِ وغَيرِهما، وهذا يَفهَمُه كُلُّ عاقِلٍ دونَ حاجةٍ إلى اجتِهادٍ في البَحثِ عنِ النَّهيِ عنِ التَّأفُّفِ، فكانتِ الدَّلالةُ فيه لَفظيَّةً يَفهَمُ مَعناها كُلُّ المُخاطَبينَ؛ ليَحصُلَ بذلك بِرُّ الوالِدَينِ [2353] يُنظر: ((أثر القواعد الأصولية اللغوية في استنباط أحكام القرآن)) لعبد الكريم حامدي (ص: 79)، ((سبل استنباط المعاني من القرآن والسنة)) لمحمود توفيق سعد (ص: 383). .
3- أنَّ مَفهومَ الموافقةِ مَوضوعٌ عِندَ أهلِ اللُّغةِ كوَضعِ الأسماءِ للمُسَمَّياتِ، حتَّى إنَّ الواحِدَ مِنهم كان إذا أرادَ النَّهيَ أو رَفعَ المِنَّةِ رَفَعَ قَذاةً مِنَ الأرضِ، فقال: لا تَظلِمْ زَيدًا بمِثلِ هذه، ولا تَتَلَبَّسْ مِن مالِ فُلانٍ بهذه. فيَسبِقُ إلى فَهمِ كُلِّ سامِعٍ أنَّه أرادَ نَهيَه عَمَّا زادَ عليها، ورَفعَ المِنَّةِ بما زادَ عليها، فهذا وَضعُ القَومِ ولُغَتُهم [2354] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/260). .
4- أنَّه يُضافُ إلى الخِطابِ، فيَقولونَ: مَفهومُ الخِطابِ وفحواه وتَنبيهُه يَدُلُّ على ثُبوتِه نُطقًا [2355] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1338). .
وقيلَ: إنَّ دَلالةَ مَفهومِ الموافقةِ قياسيَّةٌ، بمَعنى أنَّها حاصِلةٌ بالقياسِ، وسَمَّوه قياسًا جَليًّا. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ [2356] يُنظر: الرسالة (ص: 512). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [2357] يُنظر: ((أصول الفقه)) للمشي (ص: 51)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 398)، ((كشف الأسرار)) للنسفي (2/384)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/73). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [2358] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/424)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/2040). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [2359] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/1337)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/717)، ((التذكرة)) للمقدسي (ص: 592). .
ومِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ للمَسألةِ:
إثباتُ الكَفَّاراتِ والحُدودِ:
فمَن قال: إنَّ دَلالةَ مَفهومِ الموافقةِ قياسيَّةٌ -وهو لا يُجيزُ إثباتَ الكَفَّاراتِ والحُدودِ به- لا يُمكِنُه أن يَحتَجَّ بمَفهومِ الموافَقةِ على إثباتِها.
ومَن قال: إنَّ دَلالةَ مَفهومِ الموافقةِ لَفظيَّةٌ لا قياسيَّةٌ -وهو لا يُثبِتُ الكَفَّاراتِ والحُدودَ بالقياسِ- يَصِحُّ له أن يَحتَجَّ بها على إثباتِها [2360] يُنظر: ((شرح سمت الوصول)) للأقحصاري (ص: 172)، ((أثر الخلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 153)، ((أثر القواعد الأصولية اللغوية في استنباط أحكام القرآن)) لعبد الكريم حامدي (ص: 81). .
قال السَّرَخسيُّ: (ولهذا جَوَّزنا إثباتَ العُقوباتِ والكَفَّاراتِ بدَلالةِ النَّصِّ، وإن كُنَّا لا نُجَوِّزُ ذلك بالقياسِ، فأوجَبنا حَدَّ قُطَّاعِ الطَّريقِ على الرِّدءِ [2361] الرِّدءُ: المُعينُ، يُقالُ: رَدَأ الشَّيءَ بالشَّيءِ: جَعَلَه له رِدءًا. وأردَأه: أعانَه. وتَرادَأ القَومُ: تَعاوَنوا. يُنظر: ((المحكم)) لابن سيده (9/374)، ((لسان العرب)) لابن منظور (1/84). بدَلالةِ النَّصِّ؛ لأنَّ عِبارةَ النَّصِّ المُحارَبةُ، وصورةَ ذلك بمُباشَرةِ القِتالِ، ومَعناها لُغةً قَهرُ العَدوِّ والتَّخويفُ على وجهٍ يَنقَطِعُ به الطَّريقُ، وهذا مَعنًى مَعلومٌ بالمُحارَبةِ لُغةً، والرِّدءُ مُباشِرٌ لذلك كالمُقاتِلِ؛ ولهذا اشتَرَكوا في الغَنيمةِ، فيُقامُ الحَدُّ على الرِّدءِ بدَلالةِ النَّصِّ مِن هذه الوُجوهِ) [2362] ((أصول السرخسي)) (1/242). .

انظر أيضا: