موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ السَّادِسُ: الباءُ


الباءُ: حَرفُ جَرٍّ يُفيدُ مَعنى الإلصاقِ، وهو تَعلُّقُ أحَدِ المَعنَيَينِ بالآخَرِ؛ فإذا قُلتَ: "مَرَرتُ بزَيدٍ"؛ فقد عَلَّقتَ المُرورَ به؛ فـ "زَيدٌ" مُتَعَلِّقُ المُرورِ [2578] يُنظر: ((شرح المفصل)) لابن يعيش (4/474)، ((همع الهوامع)) للسيوطي (2/416). ، أو هو أن يُضافَ الفِعلُ إلى الاسمِ ويُلصَقَ به بَعدَ ما كان لا يُضافُ إليه لَولا دُخولُها [2579] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/109). ، والإلصاقُ أصلُ مَعاني الباءِ، ولَم يَذكُرْ سِيبويهِ له إلَّا هذا المَعنى [2580] قال سِيبَويهِ: (وباءُ الجَرِّ إنَّما هيَ للإلزاقِ والِاختِلاطِ، وذلك قَولُك: خَرَجتُ بزَيدٍ، ودَخَلتُ به، وضَرَبتُه بالسَّوطِ: ألَزقتَ ضَربَك إيَّاه بالسَّوطِ. فما اتَّسَعَ مِن هذا في الكَلامِ فهذا أصلُه). ((الكِتاب)) (4/217). ، وهو ضَربانِ:
إلصاقٌ حَقيقيٌّ: نَحوُ: أمسَكتُ بالحَبلِ، أي: قَبضتُه.
وإلصاقٌ مَجازيٌّ: نَحوُ: مَرَرتُ بزَيدٍ، أي: ألصَقتُ مُروري بمَكانٍ يَقرُبُ مِن زيدٍ [2581] يُنظر: ((أصول الشاشي)) (ص: 240)، ((الفصول)) للجصاص (1/94)، ((أصول السرخسي)) (1/228)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/43)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/112)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/308)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/439))، ((ارتشاف الضرب)) (4/1695)، ((التذييل والتكميل)) كلاهما لأبي حيان (11/190). .
ومِنَ المَعاني التي ذُكِرَت للباءِ:
1- التَّعديةُ:
أي: تَدخُلُ الباءُ على فِعلٍ لا يَتَعَدَّى فتَجعَلُه يَتَعَدَّى بنَفسِه، وبذلك تُصَيِّرُ الفاعِلَ مَفعولًا، وتُسَمَّى أيضًا باءَ النَّقلِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] ، وأصلُه: ذَهَبَ نورُهم [2582] يُنظر: ((المنخول)) للغزالي (ص: 144)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/439))، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (11/191)، ((التحبير)) للمرداوي (2/ 666)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 197). .
2- الاستِعانةُ:
وهيَ الدَّاخِلةُ على آلةِ الفِعلِ، نَحوُ: "ضَرَبتُ بالسَّيفِ"، ومِن ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام: 38] [2583] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/43)، ((الإحكام)) للآمدي (1/62)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/439)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (11/193). .
3- السَّبَبيَّةُ:
وهيَ التي تَحسُنُ غالِبًا في مَوضِعِ (اللَّامِ)، ومِن ذلك قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة: 54] [2584] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/62)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/439)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (11/193). .
4- المُصاحَبةُ:
وهيَ التي تَحسُنُ في مَوضِعِها (مَعَ)، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: اهْبِطْ بِسَلامٍ [هود: 48] [2585] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/62)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/439)، ((التذييل والتكميل)) لأبي حيان (11/194). .
5- التَّوكيدُ:
قد تُزادُ الباءُ في خَبَرِ النَّفيِ مِن أجلِ التَّوكيدِ، نَحوُ: ليس زَيدٌ بقائِمٍ، ومِنه قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] ، وجاءَت أيضًا زائِدةً للتَّوكيدِ كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] [2586] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/44)، ((الإحكام)) للآمدي (1/62)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/439). .
6- التَّبعيضُ [2587] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/94)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/308)، ((العدة)) لأبي يعلى (1/200)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 237)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/44). :
أي: بمَعنى (مِن)، وفي هذا المَعنى خِلافٌ بَينَ جُمهورِ أهلِ اللُّغةِ والأُصوليِّينَ؛ فأثبَتَ هذا المَعنى الأصمَعيُّ، والفارِسيُّ، وابنُ مالِكٍ [2588] يُنظر: ((شرح الكافية)) لابن مالك (2/807)، ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/32). ، ومثَّلوا له بقَولِ اللهِ تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] ، وأثبَتَه بَعضُ الشَّافِعيَّةِ [2589] قال الشِّيرازيُّ: (الباءُ إذا دَخَلَت على فِعلٍ يَتَعَدَّى مِن غَيرِ باءٍ، اقتَضَتِ التَّبعيضَ في قَولِ بَعضِ أصحابِنا). ((التبصرة)) (ص: 237). وقال الرَّازيُّ: (الباءُ إذا دَخَلَت على فِعلٍ يَتَعَدَّى بنَفسِه، كقَولِه تعالى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ تَقتَضي التَّبعيضَ، خِلافًا للحَنَفيَّةِ). ((المحصول)) (1/379). .
ومَنَعَ ابنُ جِنِّي أن تَأتيَ الباءُ للتَّبعيضِ، فقال: (فأمَّا ما يَحكيه أصحابُ الشَّافِعيِّ -رَحِمَه اللهُ- عنه مِن أنَّ الباءَ للتَّبعيضِ فشَيءٌ لا يَعرِفُه أصحابُنا ولا وَرَد به ثَبَتٌ) [2590] ((سر صناعة الإعراب)) (1/134). ، وكَذا مَنَعه الحَنَفيَّةُ [2591] قال البَزْدَويُّ: (أمَّا القَولُ بالتَّبعيضِ فلا أصلَ له في اللُّغةِ، والمَوضوعُ للتَّبعيضِ كَلِمةُ (مِن)، وقد بَيَّنَّا أنَّ التَّكرارَ والِاشتِراكَ لا يَثبُتُ في الكَلامِ أصلًا، وإنَّما هو مِنَ العَوارِضِ، فلا يُصارُ إلى إلغاءِ الحَقيقةِ والِاقتِصارِ على التَّوكيدِ إلَّا بضَرورةٍ. بَل هذه الباءُ للإلصاقِ). ((أصول البزدوي)) (ص: 277)، ويُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/170). ، والمالِكيَّةُ [2592] قال المازَريُّ: (وقال أصحابُنا: بَلِ الواجِبُ إيعابُ جَميعِ الرَّأسِ، بناءً مِنهم على إنكارِ القَولِ بأنَّ الباءَ تُفيدُ التَّبعيضَ). ((إيضاح المَحصول)) (ص: 167). ، والحَنابِلةُ [2593] قال أبو يَعلى: (مَنَع أصحابُنا الاحتِجاجَ بقَولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ على جَوازِ مَسحِ بَعضِ الرَّأسِ، وقالوا: الباءُ تُفيدُ الإلصاقَ دونَ التَّبعيضِ؛ لأنَّ الباءَ تُستَعمَلُ فيها فيما لا يَصلُحُ فيه التَّبعيضُ، وهو قَولُهم: استَعنتُ باللهِ، وتَزَوَّجتُ بامرأةٍ). ((العدة)) (1/201). وقال ابنُ عَقيلٍ: (وهيَ عِندَ أصحابِنا للإلصاقِ، فإذا قُلتَ: مَرَرتُ بزَيدٍ، وكَتَبتُ بالقَلَمِ، ومَسَحتُ برَأسي، فإنَّ الباءَ تُلصِقُ المُرورَ بزَيدٍ، والكِتابةَ بالقَلَمِ، والمَسحَ بالرَّأسِ، ولا تَدخُلُ للتَّبعيضِ). ((الواضح)) (3/308). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ:
يَظهَرُ أثَرُ الاختِلافِ في مَعنى الباءِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
المِقدارُ الواجِبُ مَسحُه مِنَ الرَّأسِ في الوُضوءِ؛ حَيثُ اختَلَف العُلَماءُ في ذلك، فيَرى المالِكيَّةُ [2594] قال القاضي عبدُ الوهَّابِ: (الفَرضُ مِنَ الرَّأسِ إيعابُه، خلافًا لأبي حَنيفةَ والشَّافِعيِّ). ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) (1/119). ويُنظر: ((عيون الأدلة)) لابن القصار (1/176). ، وهو رِوايةٌ عنِ الحَنابِلةِ [2595] قال البُهوتيُّ: ("و" الثَّالِثُ "مَسحُ الرَّأسِ كُلِّه"؛ لقَولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، والباءُ فيه للإلصاقِ، فكَأنَّه قال: امسَحوا رُءوسَكُم). ((شرح منتهى الإرادات)) (1/50). ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/93). : أنَّه يَجِبُ مَسحُ جَميعِ الرَّأسِ، ويَرى الشَّافِعيَّةُ [2596] قال الشَّافِعيُّ: (قال اللهُ تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، وكان مَعقولًا في الآيةِ أنَّ مَن مَسَحَ مِن رَأسِه شَيئًا فقد مَسَحَ برَأسِه، ولَم تَحتَمِلِ الآيةُ إلَّا هذا -وهو أظهَرُ مَعانيها- أو مَسْحَ الرَّأسِ كُلِّه، ودَلَّتِ السُّنَّةُ على أنْ ليس على المَرءِ مَسحُ الرَّأسِ كُلِّه، وإذا دَلَّتِ السُّنَّةُ على ذلك فمَعنى الآيةِ أنَّ مَن مَسَحَ شَيئًا مِن رَأسِه أجزَأه). ((الأم)) (1/41). ويُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (1/93). أنَّ الواجِبَ مَسحُ بَعضِ الرَّأسِ، وسَبَبُ الاختِلافِ هو مَعنى الباءِ الوارِدُ في قَولِ اللهِ تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] [2597] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/19). .
وقد ذَهَبَ الحَنَفيَّةُ إلى رَأيِ الشَّافِعيِّ لَكِن لمَعنًى آخَرَ [2598] قال القُدوريُّ: (قال أصحابُنا: الواجِبُ في مَسحِ الرَّأسِ مِقدارُ النَّاصيةِ، وفي رِوايةٍ أُخرى: ثَلاثةُ أصابِعَ، ورُوِيَ: الرُّبعُ، وقال الشَّافِعيُّ: ما يُسَمَّى مَسحًا. لَنا: قَولُه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ والباءُ للإلصاقِ عِندَ أهلِ اللُّغةِ، وذلك يُفيدُ الأكثَرَ، أوِ المَقصودَ مِنَ الشَّيءِ). ((التجريد)) (1/118). ويُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/63). .
قال المازَريُّ: (حَرفُ الباءِ: وقدِ اختَلَف النَّاسُ فيه؛ فالشَّافِعيُّ يَراه للتَّبعيضِ؛ ولهذا لَم يوجِبْ إيعابَ مَسحِ الرَّأسِ في الوُضوءِ، بَل رَأى الإجزاءَ يَحصُلُ بمَسحِ بَعضِه؛ لقَولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، والباءُ هاهنا تُفيدُ التَّبعيضَ.
وقال أصحابُنا: بَلِ الواجِبُ إيعابُ جَميعِ الرَّأسِ، بناءً مِنهم على إنكارِ القَولِ بأنَّ الباءَ تُفيدُ التَّبعيضَ، والذي قاله أصحابُنا مِن إنكارِ كَونِها مُفيدةً للتَّبعيضِ هو الذي عليه أئِمَّةُ النُّحاةِ) [2599] ((إيضاح المحصول)) (ص: 167). .
وقال الطُّوفيُّ: (وكذلك الباءُ في قَولِه عَزَّ وجَلَّ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائِدة: 6] تَرَدَّدَ بَينَ الإلصاقِ والتَّبعيضِ، على ما ادَّعاه الشَّافِعيَّةُ، ونَقَلوه عنِ الشَّافِعيِّ، فانبَنى عليه الخِلافُ في وُجوبِ استيعابِ الرَّأسِ بالمَسحِ) [2600] ((شرح مختصر الروضة)) (2/652). .

انظر أيضا: