موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بالحَرامِ


أوَّلًا: ما لا يَتِمُّ تَركُ الحَرامِ إلَّا به
ما لا يَتِمُّ تَركُ الحَرامِ إلَّا به يَنقَسِمُ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: ما كان مِن أجزائِه، كالزِّنا؛ فإنَّ النَّهيَ عنه نَهيٌ عن أجزائِه، وهي الإيلاجُ والإخراجُ، ولا فَرقَ بينَ أن يَقولَ: لا تَزنِ، وبينَ أن يَقولَ: لا تُولِجْ ولا تُخرِجْ.
والثَّاني: ما كان مِن شُروطِه وأسبابِه، كمُقدِّماتِ الوَطءِ مِنَ المفاخَذةِ، والقُبلةِ، وسائِرِ الدَّواعي بَعدَ ذلك، ومِنه العَقدُ على الأُمِّ؛ فإنَّه لمَّا كان سَبَبَ الوطءِ، وهو مَنهيٌّ عنه، كان العَقدُ -الذي هو سَبَبٌ إليه- مَنهيًّا عنه.
والثَّالثُ: ما كان مِن ضَروراتِه، كما إذا اختَلَطَت أُختُه بأجنَبيَّاتٍ في بَلدةٍ صَغيرةٍ، حَرُمَ عليه نِكاحُهنَّ، وإن كُنَّا نَعلَمُ أنَّ نِكاحَ الأجنَبيَّاتِ ليس بحَرامٍ، لَكِن لَمَّا اختَلَطَت بهنَّ الأُختُ، وعَسُرَ التَّمييزُ كان تَحريمُ الأجنَبيَّاتِ مِن ضَروراتِ تَحريمِ نِكاحِ الأُختِ؛ ولهذا لَو تَعيَّنَت حَرُمَ نِكاحُها على الخُصوصِ.
فإذا لَم يُمكِنِ الكفُّ عنِ المَحظورِ إلَّا بالكفِّ عَمَّا ليس بمَحظورٍ، كما إذا اختَلَطَ النَّجِسُ بالطَّاهِرِ، كالدَّمِ والبَولِ يَقَعُ في الماءِ القَليلِ، أوِ الحَلالِ بالحَرامِ:
فإمَّا أن يَختَلطَ ويَمتَزِجَ بحيثُ يَتَعَذَّرُ التَّمييزُ: فيَجِبُ الكفُّ عنِ استِعمالِه، ويُحكَمُ بتَحريمِ الكُلِّ [561] يُنظر: ((التلخيص)) للجويني (1/297)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/104)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/339). .
وأمَّا إذا لَم يَختَلطْ بدُخولِ أجزاءِ البَعضِ في البَعضِ فهو على ثَلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّل: ما يَجِبُ فيه الكفُّ عنِ الكُلِّ، كالمَرأةِ التي هي حَلالٌ تَختَلِطُ بالمُحَرَّماتِ، والمُطَلَّقةُ بغيرِ المُطَّلَقةِ، والمُذَكَّاةُ بالمَيتةِ، فيَحرُمُ إحداها بالأصالةِ، وهي المُحَرَّمةُ والأجنَبيَّةُ والمَيتةُ، والأُخرى بعارِض الاشتِباه، وهي الزَّوجةُ، والمُذَكَّاةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ بالأصالةِ يَجِبُ اجتِنابُه، ولا يَتِمُّ اجتِنابُه إلَّا باجتِنابِ ما اشتَبَهَ به، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ.
ومِن ذلك: لَو قال لزَوجَتَيه: إحداكُما طالِقٌ. ولَم يَنوِ مُعيَّنةً، حَرُمَتا جَميعًا إلى حينِ التَّعيينِ؛ لأنَّ كُلًّا مِنهما يُحتَمَلُ أن تَكونَ المُطلَّقةَ وغيرَها، وإذا اجتَمَعَ الحَلالُ والحَرامُ غَلَبَ الحَرامُ [562] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 58)، ((المحصول)) للرازي (2/195)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/339). .
الثَّاني: ما يُسقِطُ حُكمَ التَّحريمِ، كما إذا اختَلَطَت مَحرَمٌ بنِساءِ بَلدةٍ عَظيمةٍ، فيُجعَلُ كالعَدَمِ، ويُباحُ لَه نِكاحُ أيِّ امرَأةٍ أرادَ.
الثَّالثُ: ما يُتَحَرَّى فيه، كالثِّيابِ والأواني [563] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/339). .
ثانيًا: هل الحَرامُ والواجِبُ مُتَناقِضانِ؟
الحَرامُ والواجِبُ لا يَجتَمِعانِ؛ فالحَرامُ بالشَّخصِ لا يَكونُ حَرامًا وواجِبًا مِن جِهةٍ واحِدةٍ، إلَّا إذا جَوَّزنا تَكليفَ المُحالِ لذاتِه.
والواحِدُ يُطلَقُ على الواحِدِ بالنَّوعِ، وعلى الواحِدِ بالشَّخصِ:
فأمَّا الواحِدُ بالنَّوعِ، كمُطلَقِ السُّجودِ، فاختَلَفوا: هل يَجوزُ أن يَكونَ مَأمورًا به ومَنهيًّا عنه، بمَعنى أنَّ بَعضَ أفرادِه واجِبٌ، وبَعضَها حَرامٌ؟
فجوَّز الجمهورُ ذلك، واحتَجُّوا بوُقوعِه؛ فإنَّ السُّجودَ للهِ واجِبٌ، وللصَّنَمِ حَرامٌ بَل كُفرٌ؛ قال اللهُ تعالى: ‌لَا ‌تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ [فصلت: 37] ؛ فالسُّجودُ نَوعٌ واحِدٌ قَد أُمِرَ ببَعضِه، ونُهيَ عن بَعضِه [564]قال الزَّركشيُّ: (لا يُقالُ: إنَّ المَنهيَّ عنه تَعظيمُ الصَّنَمِ لا نَفسُ السُّجودِ؛ لأنَّ ذلك مُحالٌ؛ لنَصِّ الآيةِ، ولأنَّ الأُمَّةَ مُجتَمِعةٌ على أنَّ السَّاجِدَ للصَّنَمِ عاصٍ بنَفسِ السُّجودِ والقَصدِ جَميعًا، على ما حَكاه إمامُ الحَرَمينِ. وحُكيَ عن أبي هاشِمٍ أنَّه قال: لا يَحرُمُ السُّجودُ بَل المُحَرَّمُ القَصدُ إلى ذلك؛ بناءً على أصلِه أنَّ أفرادَ النَّوعِ لا تَختَلفُ بالحُسنِ والقُبحِ). ((البحر المحيط)) (1/339). .
وأمَّا الواحِدُ بالشَّخصِ: أيِ الواحِدُ المُعَيَّنُ: فإمَّا أن يَكونَ ليس لَه إلَّا جِهةٌ واحِدةٌ، أو لَه جِهاتٌ مُختَلِفةٌ:
فإن لَم يَكُنْ لَه إلَّا جِهةٌ واحِدةٌ فلا خِلافَ في امتِناعِ كَونِه مَأمورًا به مَنهيًّا عنه، إلَّا على رَأيِ مَن يُجَوِّزُ التَّكليفَ بالمُحالِ.
وإن كان لَه جِهاتٌ مُختَلِفةٌ، فهل يَجوزُ أن يُؤمَرَ به مِن جِهةٍ، ويُنهى عنه مِن جِهةٍ، كالصَّلاةِ في الدَّارِ المَغصوبةِ؟
اختَلَفوا فيها على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: يَجوزُ، وتَصِحُّ الصَّلاةُ؛ لأن تَعَدُّدَ الجِهاتِ يوجِبُ التَّغايُرَ؛ لتَعَدُّدِ الصِّفاتِ والإضافاتِ، وذلك يَدفعُ التَّناقُضَ؛ لأنَّ الصَّلاةَ مِن حيثُ هي صَلاةٌ مَأمورٌ بها، ومِن حيثُ إنَّها في البُقعةِ المَغصوبةِ مَنهيٌّ عنها، فهما مُتَعَلِّقانِ مُتَغايِرانِ، وجَعَلوا اختِلافَ الجِهَتينِ كاختِلافِ المَحَلَّينِ؛ لأنَّ كُلَّ واحِدةٍ مِنَ الجِهَتينِ مُنفَكَّةٌ عنِ الأُخرى، واجتِماعُهما إنَّما وقَعَ باختيارِ المُكلَّفِ، فليسا مُتَلازِمَينِ، فلا تَناقُضَ. وهو قَولُ الجُمهورِ [565] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/96)، ((الوصول)) لابن برهان (1/189)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/73)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/346)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/85). .
وهو الرَّاجِحُ؛ لأنَّ الجِهةَ مُتَعَدِّدةٌ حَقيقةً وحُكمًا، بحيثُ يُمكِنُ الافتِراقُ مِن أحَدِهما، فالصَّلاةُ في الأرضِ المَغصوبةِ واجِبٌ حَرامٌ مَعًا، فالآتي بها يَستَحِقُّ ثَوابَ الصَّلاةِ وعِقابَ الغَصبِ [566] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/85). .
القَولُ الثَّاني: أنَّها غيرُ صَحيحةٍ ولا مُسقِطةٍ للقَضاءِ. وهو قَولُ أحمَدَ [567] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/441)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 52). ، وحَكاه القاضي حُسينٌ وجهًا عن بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [568] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/346). .
القَولُ الثَّالِثُ: أنَّها غيرُ صَحيحةٍ، ولَكِن يَسقُطُ القَضاءُ عِندَها لا بها، كما يَسقُطُ التَّكليفُ بالأعذارِ الطَّارِئةِ مِنَ الجُنونِ وغيرِه. وهو قَولُ الباقِلَّانيِّ [569] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/356). ، واختاره الرَّازيُّ [570] يُنظر: ((المحصول)) (2/290). .
وَمنشَأُ الخِلافِ: النَّهيُ: هل عادَ لعينِ الصَّلاةِ، أو لأمرٍ خارِجٍ عنها؟ فمَن قال بالأوَّلِ أبطَلَها [571] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/349). .

انظر أيضا: