المَطلَبُ السَّادِسُ: جَوازُ النَّسخِ عَقلًا، ووُقوعُه شَرعًا
اتَّفقَ المُسلِمونَ على جَوازِ النَّسخِ، وأنَّه واقِعٌ في كَثيرٍ مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ. ومِمَّن نَقَلَ اتِّفاقَهم على ذلك: إمامُ الحَرَمَينِ
[106] قال: (اعلَمْ ما صارَ إليه كافَّةُ المُسلِمينَ: جَوازُ النَّسخِ). ((التلخيص)) (2/467). ، والسَّرَخسيُّ
[107] قال: (المَذهَبُ عِندَ المُسلِمينَ أنَّ النَّسخَ جائِزٌ في الأمرِ والنَّهيِ الذي يَجوزُ أن يَكونَ ثابِتًا، ويَجوزُ أن لا يَكونَ). ((الأصول)) (2/54). ، والآمِديُّ
[108] قال: (اتَّفقَ أهلُ الشَّرائِعِ على جَوازِ النَّسخِ عَقلًا، وعلى وُقوعِه شَرعًا). ((الإحكام)) (3/115). .
قال الجَصَّاصُ: (مَن يُنكِرُ النَّسخَ فريقانِ: أحَدُهما: اليَهودُ، والآخَرُ: فريقٌ مِن أهلِ المِلَّةِ مِنَ المُتَأخِّرينَ لا يُعتَدُّ بهم... فنَقولُ بَعدَ تَقدِمةِ القَولِ في جَوازِ النَّسخِ في الجُملةِ: إنَّ الفِرقةَ المُنكِرةَ للنَّسخِ مِن أهلِ الصَّلاةِ قد خالَفتِ الكِتابَ، والآثارَ المُتَواتِرةَ، واتِّفاقَ السَّلَفِ والخَلفِ جَميعًا فيما صارَت إليه مِن هذه المَقالةِ)
[109] ((الفصول)) (2/215 - 217). .
الأدِلَّةُ على جَوازِ النَّسخ ووُقوعِه: وهيَ كَثيرةٌ، مِنها:
أوَّلًا: منَ القُرآنِ الكَريمُ1- قال اللهُ تعالى:
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106] ، فالآيةُ صَريحةٌ في الدَّلالةِ على جَوازِ النَّسخِ، وأنَّ اللَّهَ تعالى قد أخبَرَ أنَّه إذا شاءَ نَسَخ مِن كِتابِه ما أحَبَّ
[110] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/769)، ((الإحكام)) للآمدي (3/116)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/268). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ [النحل: 101] ، وتَبديلُ حُكمِ الآيةِ أو لَفظِها بغَيرِه، هو النَّسخُ
[111] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 252)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/269). .
3- أخبَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن نَسخِ بَعضِ أحكامِ الشَّرائِعِ المُتَقدِّمةِ، بقَولِه:
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: 50] ، وقال تعالى:
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] ، وقال تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] .
4- ورَد أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد كان يُصَلِّي إلى بَيتِ المَقدِسِ إلى أن نَسَخ اللهُ تعالى الصَّلاةَ إلى تلك الجِهةِ
[112] عنِ البَراءِ، قال: لَمَّا قدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ صَلَّى نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أو سَبعةَ عَشَرَ شَهرًا، وكان يُحِبُّ أن يوجَّهَ إلى الكَعبةِ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة: 144] ، فوُجِّهَ نَحوَ الكَعبةِ، وصَلَّى مَعَه رَجُلٌ العَصرَ، ثُمَّ خَرَجَ فمَرَّ على قَومٍ مِنَ الأنصارِ، فقال: هو يَشهَدُ أنَّه صَلَّى مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه قد وُجِّهَ إلى الكَعبةِ، فانحَرَفوا وهم رُكوعٌ في صَلاةِ العَصرِ. أخرجه البخاري (7252) واللَّفظُ له، ومسلم (525). ، وأمَرَه بالتَّوجُّهِ إلى الكَعبةِ بقَولِه تعالى:
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144] ، وقال تعالى:
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 142] ، فأخبَرَ أنَّهم قد كانوا على قِبلةٍ غَيرِها، ثُمَّ نُقِلوا عنها
[113] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/218)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/771). .
ثانيًا: منَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةُقَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نَهَيتُكُم عن زيارةِ القُبورِ، فزُوروها)) [114] أخرجه مسلم (977) من حديثِ بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقَولُه:
((كُنتُ نَهَيتُكُم عن لُحومِ الأضاحيِّ فوقَ ثَلاثةِ أيَّام، فكَلُّوا وادَّخِروا)) [115] أخرجه أبو داود (2813)، والنسائي (4230)، وابن ماجه (3160) واللَّفظُ له من حديثِ نُبَيشةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2813)، وحَسَّنه ابنُ المُلَقِّنِ في ((البَدر المُنير)) (9/325)، وصَحَّحَ إسناده شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((سنن أبي داود)) (2813). ورُوِيَ بلفظ: عن جابِرٍ، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه نَهى عن أكلِ لُحومِ الضَّحايا بَعدَ ثَلاثٍ، ثُمَّ قال بَعدُ: كُلوا، وتَزَوَّدوا، وادَّخِروا. أخرجه البخاري (1719) بنحوه، ومسلم (1972) واللَّفظُ له. ، فانتَظَمَتِ الأحاديثُ ذِكرَ النَّاسِخِ والمَنسوخِ مَعًا
[116] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/283)، ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 245)، ((الإحكام)) لابن حزم (4/84)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/438). .
ثالِثًا: الإجماعُفقد أجمَعَ الصَّحابةُ والسَّلَفُ على أنَّ شَريعةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ناسِخةٌ لجَميعِ الشَّرائِعِ السَّالِفةِ، وأجمَعوا على نَسخِ وُجوبِ التَّوجُّهِ إلى بَيتِ المَقدِسِ باستِقبالِ الكَعبةِ، وعلى نَسخِ الوصيَّةِ للوالِدَينِ والأقرَبينَ بآيةِ المَواريثِ، ونَسخِ صَومِ عاشوراءَ بصَومِ رَمَضانَ، ونَسخِ وُجوبِ تَقديمِ الصَّدَقةِ بَينَ يَدَي مُناجاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووُجوبِ التَّرَبُّصِ حَولًا كامِلًا عنِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها، ووُجوبِ ثَباتِ الواحِدِ للعَشَرةِ، المُستَفادِ مِن قَولِ اللهِ تعالى:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 65] ، بقَولِه تعالى:
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ [الأنفال: 66] ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الأحكامِ المُتَعَدِّدةِ
[117] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/438)، ((الإحكام)) للآمدي (3/117). .
قال الجَصَّاصُ: (وقد نَقَلَتِ الأمَّةُ النَّاسِخَ والمَنسوخَ، وتَوارَثوهما قَرنًا عن قَرنٍ، لا يتناكَرونه، ولا يَشُكُّونَ فيه)
[118] ((الفصول)) (2/219). .
رابِعًا: دَليلُ الجَوازِ العَقليِّوهذا مِن وجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: جَوازُ دَورانِ الحُكمِ مَعَ المَصالِحِ وجودًا وعَدَمًا، أي: يَجوزُ وُجودُ الحُكمِ لوُجودِ المَصلَحةِ فيه، ويَنتَفي لانتِفائِها، كَغِذاءِ المَريضِ؛ فإنَّه يَختَلِفُ في كَيفيَّتِه وكَمِّيَّتِه وزَمانِه؛ لاختِلافِ المَصالِحِ في ذلك، حتَّى إنَّ الطَّبيبَ يَنهاه اليَومَ عَمَّا يَأمُرُه به غَدًا، ويَأمُرُه بتَقليلِ الغِذاءِ اليَومَ، ويَأمُرُه بتَكثيرِه غَدًا، فكذلك الحُكمُ الشَّرعيُّ، يَجوزُ أن يَكونَ فيه مَصلَحةٌ في وقتٍ، فيُؤمَرَ به تَحصيلًا لها، ويَكونَ فيه مَفسَدةٌ في وقتٍ، فيُنهى عنه نَفيًا لها.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الجَوازَ لازِمٌ للوُقوعِ؛ لأنَّ لازِمَ الشَّيءِ هو ما يَلزَمُ مِنِ انتِفائِه انتِفاءُ ذلك الشَّيءِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ الجَوازَ لازِمٌ للوُقوعِ، وقد وقَعَ النَّسخُ، فيَدُلُّ على جَوازِه عَقلًا دَلالةَ المَلزومِ على اللَّازِمِ.
وقد قال اللهُ تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] ، وتَحريمُ الشَّيءِ بَعدَ تَحليلِه: هو حَقيقةُ النَّسخِ.
وحَيثُ وقَعَت هذه الصُّورةُ وغَيرُها مِنَ النَّسخِ دَلَّ على جَوازِه عَقلًا بالضَّرورةِ
[119] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/772)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/267). .