موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ الأوَّلُ: النَّسخُ قَبلَ عِلمِ المُكَلَّفِ بوُجوبِه


إذا أمَرَ اللهُ سُبحانَه جِبريلَ أن يُعلِمَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بوُجوبِ شَيءٍ على الأمَّةِ، ثُمَّ يَنسَخُه قَبلَ وُصولِه إليه [181] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/220)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/56). .
وقدِ اختَلَف الأصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه لا يَجوزُ. وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [182] قال الأسمنديُّ: (أجمَعنا على أنَّ نَسخَ الحُكمِ قَبلَ عِلمِ المُكَلَّفِ لا يَجوزُ). ((بذل النظر)) (ص: 323). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالماوَرْديِّ، والرُّويانيِّ [183] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) (16/80)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/220). ، والسَّمعانيِّ [184] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/430). ، وهو مَذهَبُ الحَنابِلةِ [185] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/823)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1126)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 137)، ((غاية السول)) لابن المبرد (ص: 87). ، ونَقَل الهنديُّ فيه الِاتِّفاقَ، فقال: (وهو غَيرُ جائِزٍ وِفاقًا) [186] ((نهاية الوصول)) (6/2282)، ((الفائق)) (2/65). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ مِن شَرطِ النَّسخِ أن يَكونَ فيما استَقَرَّ فرضُه؛ ليَخرُجَ به عنِ البَداءِ إلى الإعلامِ بالمُدَّةِ، والنَّسخُ قَبلَ العِلم بالمَنسوخِ يُؤَدِّي إلى البَداءِ؛ لأنَّه يَصيرُ كما لو قال: افعَلْ ولا تَفعَلْ، وهذا يَقبُحُ؛ ألَا تَرى أنَّه إذا كان مُتَّصِلًا يَقبُحُ؟ فإذا كان مُنفصِلًا يَقبُحُ أيضًا [187] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (16/81)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/430)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/220). .
قال الماوَرْديُّ: (فإن قيلَ: فقد رُويَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في لَيلةِ المِعراجِ أنَّ اللَّهَ تعالى فَرَض على أمَّتِه خَمسينَ صَلاةً، فلم يَزَلْ يُراجِعُ رَبَّه فيها ويَستَنزِلُه حتَّى استَقَرَّ الفَرضُ على خَمسٍ [188] عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كان أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه يُحَدِّثُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فُرِجَ عن سَقفِ بَيتي وأنا بمَكَّةَ، فنَزَل جِبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ففرَج صَدري، ثُمَّ غَسَله بماءِ زَمزَمَ، ثُمَّ جاءَ بطَستٍ مِن ذَهَبٍ مُمتَلئٍ حِكمةً وإيمانًا، فأفرَغَه في صَدري، ثُمَّ أطبَقَه، ثُمَّ أخَذَ بيَدي، فعَرَجَ بي إلى السَّماءِ الدُّنيا، فلمَّا جِئتُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، قال جِبريلُ لخازِنِ السَّماءِ: افتَحْ، قال: مَن هذا؟ قال: هذا جِبريلُ، قال: هل مَعَك أحَدٌ؟ قال: نَعَم، مَعي مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أُرسِل إليه؟ قال: نَعَم، فلمَّا فتَحَ عَلَونا السَّماءَ الدُّنيا، فإذا رَجُلٌ قاعِدٌ على يَمينِه أسوِدةٌ، وعلى يَسارِه أسوِدةٌ، إذا نَظَرَ قِبَلَ يَمينِه ضَحِكَ، وإذا نَظَرَ قِبَلِ يَسارِه بَكى، فقال: مَرحَبًا بالنَّبيِّ الصَّالحِ والابنِ الصَّالحِ، قُلتُ لجِبريلَ: مَن هذا؟ قال: هذا آدَمُ، وهذه الأسوِدةُ عن يَمينِه وشِماله نَسَمُ بَنيه؛ فأهلُ اليَمينِ مِنهم أهلُ الجَنَّةِ، والأسوِدةُ التي عن شِمالِه أهلُ النَّارِ، فإذا نَظَرَ عن يَمينِه ضَحِكَ، وإذا نَظَرَ قِبَلَ شِمالِه بَكى حتَّى عَرَجَ بي إلى السَّماءِ الثَّانيةِ، فقال لخازِنِها: افتَحْ، فقال له خازِنُها مِثلَ ما قال الأوَّلُ، ففتَحَ، -قال أنَسٌ: فذَكَر أنَّه وجَد في السَّمَواتِ آدَمَ، وإدريسَ، وموسى، وعيسى، وإبراهيمَ صَلواتُ اللهِ عليهم، ولم يُثبِتْ كَيف مَنازِلُهم غَيرَ أنَّه ذَكَر أنَّه وجَد آدَمَ في السَّماءِ الدُّنيا، وإبراهيمَ في السَّماءِ السَّادِسةِ، قال أنَسٌ:- فلمَّا مَرَّ جِبريلُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإدريسَ، قال: مَرحَبًا بالنَّبيِّ الصَّالحِ والأخِ الصَّالحِ، فقُلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا إدريسُ، ثُمَّ مَرَرتُ بموسى، فقال: مَرحَبًا بالنَّبيِّ الصَّالحِ والأخِ الصَّالحِ، قُلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا موسى، ثُمَّ مَرَرتُ بعيسى فقال: مَرحَبًا بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، قُلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا عيسى، ثُمَّ مَرَرتُ بإبراهيمَ، فقال: مَرحَبًا بالنَّبيِّ الصَّالحِ والابنِ الصَّالحِ، قُلتُ: مَن هذا؟ قال: هذا إبراهيمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال ابنُ شِهابٍ: فأخبَرَني ابنُ حَزمٍ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ  وأبا حبَّةَ الأنصاريَّ، كانا يَقولانِ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ثُمَّ عُرِجَ بي حتَّى ظَهَرتُ لمُستَوًى أسمَعُ فيه صَريفَ الأقلامِ، قال ابنُ حَزمٍ، وأنَسُ بنُ مالِكٍ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ففرَضَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ على أمَّتي خَمسينَ صَلاةً، فرَجَعتُ بذلك، حتَّى مَرَرتُ على موسى، فقال: ما فرَضَ اللهُ لَكَ على أمَّتِكَ؟ قُلتُ: فرَضَ خَمسينَ صَلاةً، قال: فارجِعْ إلى رَبِّكَ؛ فإنَّ أمَّتَكَ لا تُطيقُ ذلك، فراجَعتُ فوضَعَ شَطرَها، فرَجَعتُ إلى موسى، قُلتُ: وضَعَ شَطرَها، فقال: راجِعْ رَبَّكَ؛ فإنَّ أمَّتَكَ لا تُطيقُ، فراجَعتُ فوضَعَ شَطرَها، فرَجَعتُ إلَيه، فقال: ارجِعْ إلى رَبِّكَ؛ فإنَّ أمَّتَكَ لا تُطيقُ ذلك، فراجَعتُه، فقال: هيَ خَمسٌ، وهيَ خَمسونَ، لا يُبَدَّلُ القَولُ لَدَيَّ، فرَجَعتُ إلى موسى، فقال: راجِعْ رَبَّكَ، فقُلتُ: استَحيَيتُ مِن رَبِّي! ثُمَّ انطَلَقَ بي، حتَّى انتَهى بي إلى سِدرةِ المُنتَهى، وغَشيَها ألوانٌ لا أدري ما هيَ؟ ثُمَّ أُدخِلتُ الجَنَّةَ، فإذا فيها حَبايِلُ اللُّؤلُؤِ وإذا تُرابُها المِسكُ. أخرجه البخاري (349) واللَّفظُ له، ومسلم (163). ، فدَلَّ على جَوازِ النَّسخِ قَبلَ العِلمِ بالمَنسوخِ.
قيلَ: هذا إن ثَبَتَ فهو على وَجهِ التَّقريرِ دونَ النَّسخِ؛ لأنَّ الفرضَ يَستَقِرُّ بنُفوذِ الأمرِ، ولم يَكُنْ مِنَ اللهِ تعالى فيه أمرٌ إلَّا عِندَ استِقرارِ الخَمسِ) [189] ((الحاوي الكبير)) (16/81). .
وقال السَّمعانيُّ: (فإن قيلَ: ألَيسَ رُوِيَ أنَّ اللَّهَ تعالى فَرَض خَمسينَ صَلاةً لَيلةَ المِعراجِ، ثُمَّ إنَّه نَسَخَه قَبلَ أن تَعلَمَ به الأمَّةُ، والقِصَّةُ ثابِتةٌ في تَرَدُّدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَسألةِ التَّخفيفِ وحَثِّ موسى إيَّاه على ذلك [190] أخرجه البخاري (349) واللَّفظُ له، ومسلم (163). عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ؟ قُلنا: قد كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عالِمًا بذلك، واعتَقدَ وُجوبَه، فقد نُسِخَ بَعدَ العِلمِ بوُجوبِه واعتِقادِه) [191] ((قواطع الأدلة)) (1/430). .
2- عَدَمُ الفائِدةِ باعتِقادِ الوُجوبِ والعَزمِ على الفِعلِ؛ لأنَّ الأمرَ إنَّما فائِدَتُه الفِعلُ، أوِ العَزمُ على الفِعلِ واعتِقادُ الوُجوبِ، وهما مَنفيَّانِ [192] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/1126)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/146)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/530). .
3- أنَّ نَسخَ الحُكمِ قَبلَ عِلمِ المُكَلَّفِ يَتَضَمَّنُ تَكليفَ المُحالِ، وإلزامَ ما لا يُطاقُ، واللهُ تعالى إذا كَلَّف عَبدَه أباحَ له الطَّريقَ المُفضيَ إلى العِلمِ بما كَلَّفه، وكُلُّ حالةٍ تُنافي العِلمَ فهيَ مُنافيةٌ للتَّكليفِ [193] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (2/65). .
وقيلَ: يَجوزُ النَّسخُ قَبلَ عِلمِ المُكَلَّفِ بوُجوبِه. وهو وجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ [194] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/220). ، واختارَه ابنُ بَرهانَ [195] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) (2/65). ، وهو قَولُ الأشاعِرةِ [196] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/222). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مِنها:
1- أنَّ عَزلَ الوكيلِ لا يَثبُتُ قَبلَ عِلمِه بالعَزلِ، ويُحكَمُ بصِحَّةِ بَيعِه، وكذلك إن ماتَ الموكِّلُ ولم يَعلَمِ الوكيلُ [197] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/824)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/398)، ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (2/65). .
2- إذا حَلَف على زَوجَتِه فقال: إن خَرَجتِ بغَيرِ إذني فأنتِ طالِقٌ. فأذِنَ لها وهيَ لا تَعلَمُ، وخَرَجَت؛ وقَعَ الطَّلاقُ، ولم يَكُن لذلك الإذنِ حُكمٌ [198] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/824). .

انظر أيضا: