موسوعة أصول الفقه

المَبحَثُ الثَّاني: مَجالاتُ الاجتِهادِ


مَجالاتُ الاجتِهادِ هيَ المَوضوعاتُ التي يَدورُ فيها المُجتَهِدُ بنَظَرِه واجتِهادِه ولا يَجوزُ له أن يَتَعَدَّاها إلى غَيرِها مِنَ المَجالاتِ المَمنوعةِ [6] يُنظَر: ((الزوائد على روضة الناظر)) (2/ 461). .
فما كانَ مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ قَطعيِّ الثُّبوتِ والدَّلالةِ، أو معلومًا مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ، كمَسائِلِ الاعتِقادِ وأركانِ الإسلامِ، والحُدودِ، والفضائِلِ، والمُقدَّراتِ كالمَواريثِ، والكَفَّاراتِ ونَحوِ ذلك؛ فهذه لا مَسرَحَ للاجتِهادِ فيها، وإنَّما يَجري الاجتِهادُ في كُلِّ حُكمٍ شَرعيٍّ ليسَ فيه دَليلٌ قَطعيٌّ [7] يُنظَر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 345)، ((المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد)) لبكر أبو زيد (1/ 82). ، وذلك يَشتَمِلُ على عِدَّةِ أقسامٍ، هيَ [8] يُنظَر: ((تاريخ التشريع الإسلامي)) للقطان (ص: 231)، ((المدخل المفصل)) لبكر أبو زيد (1/82)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (5/2320- 2321)، ((الزوائد على روضة الناظر)) (2/ 447- 448). :
القِسمُ الأوَّلُ: النَّصُّ القَطعيُّ الثُّبوتِ الظَّنِّيُّ الدَّلالةِ
وهذا يَكونُ في الآيةِ التي دَلَّ لفظُها على الحُكمِ دَلالةً ظَنِّيَّةً، والحَديثِ المُتَواتِرِ الذي دَلَّ لفظُه على الحُكمِ دَلالةً ظَنِّيَّةً.
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] ، فهذا قَطعيُّ الثُّبوتِ؛ لأنَّه قُرآنٌ، ولَكِنَّه ظَنِّيُّ الدَّلالةِ؛ لأنَّ لفظَ "القُرءِ" يَحتَمِلُ أن يَكونَ مَعناه "الحَيضَ"، ويَحتَمِلُ أن يَكونَ مَعناه: "الطُّهرَ"، فيَجتَهدُ المُجتَهِدُ للوُصولِ إلى المُرادِ مِن أحَدِ المَعنَيَينِ.
القِسمُ الثَّاني: النَّصُّ الظَّنِّيُّ الثُّبوتِ القَطعيُّ الدَّلالةِ
وهذا يَكونُ في خَبَرِ الواحِدِ الذي دَلَّ على مَعناه دَلالةً قَطعيَّةً.
مِثالُه: قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((في كُلِّ خَمسٍ مِنَ الإبِلِ شاةٌ)) [9] أخرجه البخاري (1454) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ، ولفظُه: ((فإذا بَلَغَت خَمسًا مِنَ الإبِلِ ففيها شاةٌ)). ؛ فإنَّ هذا نَصٌّ قَطعيُّ الدَّلالةِ؛ لأنَّه لا يَدُلُّ إلَّا على مَعنًى واحِدٍ فقَط، ولَكِنَّه ظَنِّيُّ الثُّبوتِ؛ لأنَّه لم يُنقَلْ إلينا بطَريقِ التَّواتُرِ، فيَجتَهدُ المُجتَهِدُ بالبَحثِ عن سَنَدِه، وطَريقِ وُصولِه إلينا، وحالِ رواتِه مِنَ العَدالةِ والضَّبطِ.
القِسمُ الثَّالِثُ: النَّصُّ الظَّنِّيُّ الثُّبوتِ والدَّلالةِ مَعًا
وهذا يَكونُ في خَبَر الواحِد الدَّالِّ على مَعناه دَلالةً ظَنِّيَّةً.
مِثالُه: قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا صَلاةَ لمَن لم يَقرَأْ بفاتِحةِ الكِتابِ)) [10] أخرجه البخاري (756)، ومسلم (394) من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فإنَّ المُجتَهِدَ يَجتَهِدُ هنا في أمرَينِ هما:
الأوَّلُ: البَحثُ في سَنَدِ الحَديثِ، وطَريقِ وُصولِه إلينا، وحالِ رواتِه مِنَ العَدالةِ والضَّبطِ.
الثَّاني: البَحثُ في دَلالةِ الحَديثِ؛ لأنَّ الحَديثَ يَحتَمِلُ مَعنَيَينِ هما: لا صَلاةَ صحيحةً إلَّا بفاتِحةِ الكِتابِ، ولا صَلاةَ كامِلةً إلَّا بفاتِحةِ الكِتابِ.
القِسمُ الرَّابِعُ: ما لا نَصَّ فيه ولا إجماعَ
وهذا يَكونُ في حادِثةٍ لم يَرِدْ حُكمُها في نَصٍّ، ولا إجماعَ فيها، فيَبذُلُ المُجتَهِدُ ما في وُسعِه في تَحصيلِ حُكمٍ لتلك الحادِثةِ، وذلك باستِعمالِ أدِلَّةٍ أرشَدَه الشَّارِعُ إليها، مِثلُ: القياسِ، والاستِحسانِ، وقَولِ الصَّحابيِّ، والمَصالِحِ المُرسَلةِ، والاستِصحابِ، وشَرعِ مَن قَبلَنا، والعُرفِ، وسَدِّ الذَّرائِعِ، ونَحوِ ذلك.

انظر أيضا: