موسوعة أصول الفقه

الفَصلُ الثَّاني: مَوضوعُ أُصولِ الفِقهِ


كُلُّ عِلمٍ له مَوضوعٌ ومَسائِلُ، ومَوضوعُ كُلِّ عِلمٍ هو: ما يُبحَثُ في ذلك العِلمِ عن أحوالِه العارِضةِ لذاتِه، دونَ العَوارِضِ اللَّاحِقةِ لأمرٍ خارِجٍ عنِ الذَّاتِ، وأمَّا مَسائِلُه فهيَ مَعرِفةُ تلك الأحوالِ؛ فمَوضوعُ عِلمِ الطِّبِّ مَثَلًا: هو بَدَنُ الإنسانِ؛ لأنَّه يُبحَثُ فيه عنِ الأمراضِ اللَّاحِقةِ له، ومَسائِلُه: هيَ مَعرِفةُ تلك الأمراضِ، ومَوضوعُ عِلمِ النَّحوِ: الكَلِماتُ؛ فإنَّه يُبحَثُ فيه عن أحوالِها مِن حَيثُ الإعرابُ والبناءُ، ومَسائِلُه: هيَ مَعرِفةُ الإعرابِ والبناءِ، ومَوضوعُ عِلمِ الفرائِضِ: التَّرِكاتُ؛ فإنَّه يُبحَثُ فيه مِن حَيثُ قِسمَتِها، ومَسائِلُه: هيَ مَعرِفةُ حُكمِ قِسمَتِها [41] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/ 7)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/ 114)، ((التحبير)) للمرداوي (1/ 139- 142)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/ 18)، ((شرح مختصر التحرير)) لابن النجار (1/ 33). .
واختَلَف العُلَماءُ في مَوضوعِ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ على أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ مَوضوعَ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ هو: الأدِلَّةُ.
وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ، ومِنهم: الآمِديُّ [42] يُنظر: ((الإحكام)) (1/ 7). ، وابنُ تيميَّةَ [43] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/ 401- 402). ، والرَّهونيُّ [44] يُنظر: ((تحفة المسؤول)) (1/ 166). ، والبِرْماويُّ [45] ((الفوائد السنية)) (1/ 114). ، وابنُ الهُمَامِ [46] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/ 32)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/ 18- 20). ، والمَرداويُّ [47] يُنظر: ((التحبير)) (1/ 142). ، وابنُ النَّجَّارِ [48] ((شرح الكوكب المنير)) (1/ 36). .
فمَوضوعُ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ عِندَهم هو: الأدِلَّةُ الموصِلةُ إلى الأحكامِ الشَّرعيَّةِ العَمَليَّةِ، مَعَ أقسامِها، واختِلافِ مَراتِبِها، وكَيفيَّةِ استِثمارِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ مِنها على وَجهٍ كُلِّيٍّ؛ وذلك لأنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ ثَمَرةُ الأدِلَّةِ، وثَمَرةُ الشَّيءِ تابعةٌ له. فالأُصوليُّ يَبحَثُ في حُجِّيَّةِ الأدِلَّةِ الإجماليَّةِ، ثُمَّ يَبحَثُ عنِ العَوارِضِ اللَّاحِقةِ لهذه الأدِلَّةِ مِن كَونِها عامَّةً أو خاصَّةً، أو مُطلَقةً أو مُقَيَّدةً، أو مُجمَلةً أو مُبَيَّنةً، أو ظاهِرةً أو نَصًّا، أو مَنطوقًا أو مَفهومًا، وكَونِ اللَّفظِ أمرًا أو نَهيًا، ومَعرِفةُ هذه الأُمورِ هيَ مَسائِلُ أُصولِ الفِقهِ، فيَبحَثُ الأُصوليُّ هذه الأُمورَ وما تُفيدُه [49] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 38- 39). .
القَولُ الثَّاني: مَوضوعُ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ، هو: الأحكامُ.
فمَوضوعُ الأُصولِ هو الأحكامُ مِن حَيثُ ثُبوتُها بالأدِلَّةِ [50] يُنظر: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/ 18). .
القَولُ الثَّالثُ: مَوضوعُ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ هو الأدِلَّةُ والأحكامُ جَميعًا
وهو اختيارُ صَدرِ الشَّريعةِ المَحبوبيِّ [51] يُنظر: ((التوضيح)) للمحبوبي - مطبوع مع ((التلويح)) للتفتازاني (1/ 37- 38). ، والتَّفتازانيِّ [52] ((التلويح)) (1/ 41). ، والشَّوكانيِّ [53] ((إرشاد الفحول)) (1/ 23). .
فجَميعُ مَباحِثِ أُصولِ الفِقهِ راجِعةٌ إلى إثباتِ أعراضٍ ذاتيَّةٍ للأدِلَّةِ والأحكامِ، مِن حَيثُ إثباتُ الأدِلَّةِ للأحكامِ وثُبوتُها بها.
قال صَدرُ الشَّريعةِ المَحبوبيُّ: (وإذا عُلمَ أنَّ جَميعَ مَسائِلِ الأُصولِ راجِعةٌ إلى قَولنا: كُلُّ حُكمِ كَذا يَدُلُّ على ثُبوتِه دَليلُ كَذا، فهو ثابتٌ، أو كُلَّما وُجِدَ دَليلُ كَذا دالًّا على حُكمِ كَذا، يَثبُتُ ذلك الحُكمُ؛ عُلمَ أنَّه يُبحَثُ في هذا العِلمِ عنِ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ والأحكامِ الكُليَّتَينِ مِن حَيثُ إنَّ الأولى مُثبِتةٌ للثَّانيةِ، والثَّانيةَ ثابتةٌ بالأولى، والمَباحِثُ التي تَرجِعُ إلى أنَّ الأولى مُثبِتةٌ للثَّانيةِ، والثَّانيةَ ثابتةٌ بالأولى بَعضُها ناشِئةٌ عنِ الأدِلَّةِ، وبَعضُها ناشِئةٌ عنِ الأحكامِ؛ فمَوضوعُ هذا العِلمِ الأدِلَّةُ الشَّرعيَّةُ والأحكامُ؛ إذ يُبحَثُ فيه عنِ العَوارِضِ الذَّاتيَّةِ للأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ، وهيَ إثباتُها الحُكمَ، وعنِ العَوارِضِ الذَّاتيَّةِ للأحكامِ، وهيَ ثُبوتُها بتلك الأدِلَّةِ) [54] ((التوضيح)) لصدر الشريعة المحبوبي- مطبوع مع ((التلويح)) للتفتازاني (1/ 37- 38). ويُنظر أيضًا: ((أصول الفقه الإسلامي)) لوهبة الزحيلي (1/27). .
نَوعُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ:
الخِلافُ في هذه المَسألةِ لَفظيٌّ؛ لأنَّ جَميعَهم قد ذَكَرَ الأدِلَّةَ والأحكامَ، وضَرورةَ بَحثِها في عِلمِ أُصولِ الفِقهِ، ولَكِنَّ أصحابَ المَذهَبِ الأوَّلِ قد بَحَثوا الأحكامَ على أنَّها تابعةٌ، وأصحابَ المَذهَبِ الثَّاني قد بَحَثوها على أنَّها أصليَّةٌ [55] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/ 40). . وأصحابُ المَذهَبِ الثَّالثِ نَظَروا إلى الأحكامِ على أنَّها قَسيمةٌ للأدِلَّةِ، فكِلاهما يُمَثِّلُ مَوضوعَ عِلمِ الأُصولِ.
فالواقِعُ أنَّ مَباحِثَ الأُصولِ مُتَّفَقٌ عليها، ولَكِنَّ الاختِلافَ في اعتِبارِ أحَدِ الأبوابِ أصلًا، والآخَرِ تَبَعًا، أو أنَّ أحَدَها جَوهَرٌ والآخَرَ تَقديمٌ له، أو أنَّ بَعضَها يُدرَسُ مِنَ النَّاحيةِ الذَّاتيَّةِ، والآخَرَ مِنَ النَّاحيةِ العَرَضيَّةِ، وهَكَذا [56] ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 31). .
المَباحِثُ الرَّئيسةُ المُكَوِّنةُ لعِلمِ الأُصولِ:
1- الأدِلَّةُ الشَّرعيَّةُ: وتَشتَمِلُ على الأدِلَّةِ المُتَّفَقِ عليها والمُختَلَفِ فيها، وحُجِّيَّتِها وشُروطِها وما يَتَعَلَّقُ بها.
2- الأحكامُ الشَّرعيَّةُ: وهيَ تابعةٌ للأدِلَّةِ وثَمَرةٌ لَها، ويَدخُلُ فيها الحَديثُ عنِ الأحكامِ التَّكليفيَّةِ، والأحكامِ الوضعيَّةِ، والحاكمِ، والمحكومِ عليه، والمحكومِ فيه.
3- كَيفيَّةُ استِفادةِ الأحكامِ مِنَ الأدِلَّةِ: ويَدخُلُ في ذلك عِدَّةُ مَباحِثَ، مِثلُ: الأمرِ والنَّهيِ، والعامِّ والخاصِّ، والمُطلَقِ والمُقَيَّدِ، والمُجمَلِ والمُبَيَّنِ، والمَنطوقِ والمَفهومِ.
4- مَسائِلُ التَّعارُضِ والتَّرجيحِ بَينَ الأدِلَّةِ
5- مَباحِثُ الاجتِهادِ، ومِن ذلك شُروطُ المُجتَهدِ وصِفاتُه، وكَذلك ما يَتَعَلَّقُ بالتَّقليدِ والإفتاءِ [57] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/ 31)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 21). قال الغزالي: (جملةُ الأُصولِ تَدورُ على أربعةِ أقْطابٍ: القُطْبُ الأوَّلُ: في الأحكامِ، والبُداءَةُ بها أولَى لأنَّها الثَّمَرَةُ المطلوبَةُ. القُطْبُ الثَّاني: في الأدِلَّةِ، وهي الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ، وبها التَّثْنِيَةُ؛ إذْ بعدَ الفراغِ مِن معرِفَةِ الثَّمَرَةِ لا أهَمَّ مِن مَعرِفةِ المُثْمِرِ. القُطْبُ الثَّالِثُ: في طريقِ الاستِثْمارِ، وهو وُجوهُ دَلالَةِ الأدِلَّةِ، وهي أربعةٌ: دلالةٌ بالمنظومِ، ودلالةٌ بالمفهومِ، ودلالةٌ بالضرورةِ والاقتضاءِ، ودلالةٌ بالمعنى المعقولِ. القُطبُ الرَّابعُ: في المُسْتَثْمِرِ وهو المُجْتهِدُ الَّذي يَحكُمُ بظَنِّه، ويُقابِلُه المُقَلِّدُ). ((المستصفى)) (ص:7). .

انظر أيضا: