موسوعة أصول الفقه

الفَصلُ الرَّابعُ: استِمدادُ أُصولِ الفِقهِ


المُرادُ بالاستِمدادِ: العلوم التي يستقي مادَّته منها [77]  يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/29)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير حاج (1/ 65). قال ابن عاشور: (استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدونيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم، وسمي ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد، والمدد العون والغواث، فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء، وليس كل ما يذكر في العلم معدودا من مدده، بل مدده ما يتوقف عليه تقومه، فأما ما يورد في العلم من مسائل علوم أخرى عند الإفاضة في البيان... فلا يعد مددا للعلم، ولا ينحصر ذلك ولا ينضبط). ((التحرير والتنوير)) (1/18). ، وقد أَولى العُلَماءُ عِنايَتَهم ببَيانِ العُلومِ التي يُستَمَدُّ مِنها كُلُّ عِلمٍ، وعِلمُ أُصولِ الفِقهِ يَستَمِدُّ مادَّتَه مِمَّا يَلي:
1-‌‌ القُرآنُ الكَريمُ والسُّنَّةُ النَّبَويَّةُ:
ووَجهُ استِمدادِ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ مِن هَذَينِ المَصدَرَينِ أنَّ أهَمَّ مَوضوعاتِ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ هيَ أدِلَّةُ الأحكامِ، والقُرآنُ والسُّنَّةُ تَرجِعُ إليهما جَميعُ الأدِلَّةِ التي يَذكُرُها الأُصوليُّونَ، سَواءٌ أكانت نَقليَّةً أم عَقليَّةً، مَحَلَّ اتِّفاقٍ أم مَحَلَّ اختِلافٍ؛ فحُجِّيَّةُ الإجماعِ والقياسِ، والمَصالحِ والاستِحسانِ والعُرفِ، وشَرعِ مَن قَبْلَنا وأقوالِ الصَّحابةِ، كُلُّها راجِعةٌ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، وطُرُقُ الدَّلالةِ، وطُرُقُ دَفعِ التَّعارُضِ بَينَ الأدِلَّةِ، وبَيانُ مَنزِلةِ كُلِّ دَليلٍ، هيَ أيضًا مَسائِلُ راجِعةٌ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ ولهذا فأكثَرُ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ قدِ استُدِلَّ عليها بالقُرآنِ أو بالسُّنَّةِ، أو بهما مَعًا [78] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 21). ويُنظر أيضًا: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 22). .
ومِن أمثِلةِ ذلك:
1- استِدلالُ الأُصوليِّينَ على حُجِّيَّةِ خَبَرِ الآحادِ بقَولِ اللهِ تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122] [79] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (3/ 76)، ((التمهيد)) للكلوذاني (3/46).   .
2- استِدلالُ الأُصوليِّينَ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ بقَولِ اللهِ سُبحانَه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115] [80] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (4/ 1064)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/380). .
3- استِدلالُ الأُصوليِّينَ على حُجِّيَّةِ القياسِ بقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2] [81] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (1/ 41)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/168). .
4- استِدلالُ الأُصوليِّينَ على قاعِدةِ مُراعاةِ المَصالحِ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [82] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (3/ 35). : ((لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ)) [83] أخرجه ابن ماجه (2340)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (22778) من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ ابنِ ماجه: ((أنَّ رسولَ اللهِ قضى أن: لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ)). صحَّحه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/211)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2340)، وحَسَّنه النووي في ((الأذكار)) (502)، وقال الشوكاني في ((الدراري المضية)) (285): مشهورٌ. .
2-‌‌ اللُّغةُ العَرَبيَّةُ:
المُرادُ بعِلمِ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ: مَجموعُ عُلومِ اللِّسانِ العَرَبيِّ، وهيَ: ألفاظُ اللُّغةِ، والنَّحوُ، والصَّرفُ، والمَعاني، والبَيانُ، واستِعمالاتُ العَرَبِ في أساليبِهم؛ في خُطَبِهم وأشعارِهم، وعِباراتِ بُلَغائِهم [84] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (1/18). .
ووجهُ استِمدادِ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ مِنَ اللُّغةِ العَرَبيَّةِ: أنَّ القُرآنَ نَزَلَ بلُغةِ العَرَبِ، والسُّنَّةُ القَوليَّةُ جاءَت بلسانِ الرَّسولِ العَرَبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والاستِدلالُ بهما مَبنيٌّ على مَعرِفةِ طُرُقِ العَرَبِ في الإفهامِ والفَهمِ، ومِن جُملةِ أُصولِ الفِقهِ طُرُقُ دَلالةِ الألفاظِ على المَعاني مِن عُمومٍ وخُصوصٍ، وإطلاقٍ وتَقييدٍ، واشتِراكٍ وإجمالٍ، ومَنطوقٍ ومَفهومٍ، وهذه كُلُّها إنَّما يُتبَعُ فيها ما جَرى عليه عُرفُ أهلِ اللُّغةِ الذينَ نَزَلَ القُرآنُ بلغَتِهم، وتَكَلَّمَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها، إلَّا أن يكونَ للشَّرعِ عُرفٌ حادِثٌ فيُقدَّمَ عِندَ الاحتِمالِ [85] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 21- 22). ويُنظر أيضًا: ((البرهان)) للجويني (1/ 84)، ((الإحكام)) للآمدي (1/ 8)، ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 15)، بحث ((العلاقة الاستمدادية بين اللغة العربية وأصول الفقه)) للعرباوي ((مجلة العلوم الإنسانية- جامعة محمد خيضر)) (العدد: 46/ص: 414). .
3- الأحكامُ الشَّرعيَّةُ:
المَقصودُ تَصَوُّرُ تلك الأحكامِ ومَعرِفةُ حَقائِقِها؛ حَتَّى يُتَصَوَّرَ إثباتُها أو نَفيُها [86] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/ 144)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 22). ، وليس المُرادُ مَعرِفةَ وُجودِها أو نَفيِها في آحادِ المَسائِلِ؛ فإنَّ هذا لا يُعرَفُ إلَّا بمَعرِفةِ أُصولِ الفِقهِ [87] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 21- 22). ويُنظر أيضًا: ((الإحكام)) للآمدي (1/ 8). . فلا بُدَّ أن يُذكَرَ الفِقهُ في الأُصولِ مِن حَيثُ الجُملةُ، فيُذكَرُ الواجِبُ بما هو واجِبٌ، والمَندوبُ بما هو مَندوبٌ؛ لأنَّ هذا القدرَ يُبَيِّنُ حَقيقةَ الأُصولِ. وإنَّما المَحذورُ أن يُذكَرَ جُزئيَّاتُ المَسائِلِ؛ فإنَّ ذِكرَها يُؤَدِّي إلى الدَّورِ [88] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/ 47)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/ 31). .
والأُصوليُّ حينَ يَتَكَلَّمُ عن طُرُقِ الدَّلالةِ مَثَلًا يَحتاجُ إلى ضَربِ أمثِلةٍ فِقهيَّةٍ توضِّحُ مَقصَدَه، وإلَّا كان كَلامُه نَظَريًّا يَصعُبُ استيعابُه وفهمُه، كما أنَّه لا بُدَّ له مِن مَعرِفةِ مَعنى الأحكامِ الفِقهيَّةِ، كالواجِبِ والمَندوبِ، والحَرامِ والمَكروهِ، إلخ؛ لأنَّه حينَ يُقَرِّرُ حُجِّيَّةَ السُّنَّةِ يُقَرِّرُ أنَّ طاعةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واجِبةٌ، وأنَّ مَعصيَتَه حَرامٌ، ولا بُدَّ مِن تَصَوُّرِ مَعنى الواجِبِ والحَرامِ، وهَكَذا سائِرُ القَواعِدِ الأُصوليَّةِ [89] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 22- 23). .
وقد ذَكَرَ الجُوَينيُّ أنَّه لا يُشتَرَطُ أن يكونَ الأُصوليُّ جامِعًا لمَسائِلِ عِلمِ الفِقهِ كُلِّها، بَل يَكتَفي مِنها بأمثِلةٍ، فقال: (مِن مَوارِدِ الأُصولِ: الفِقهُ؛ فإنَّه مَدلولُ الأُصولِ، ولا يُتَصَوَّرُ دَركُ الدَّليلِ دونَ دَركِ المَدلولِ. ثُمَّ يَكتَفي الأُصوليُّ بأمثِلةٍ مِنَ الفِقهِ يَتَمَثَّلُ بها في كُلِّ بابٍ مِن أُصولِ الفِقهِ) [90] ((البرهان)) (1/7). .
مَسألةٌ: استِمدادُ عِلمِ الأُصولِ مِن عِلمِ الكَلامِ
قدِ اختُلِف في استِمدادِ عِلمِ أُصولِ الفِقهِ مِن عِلمِ الكَلامِ [91] استُعمِلَ مُصطَلَحُ عِلمِ الكَلامِ للتَّعبيرِ به عن عِلمِ العَقيدةِ وأُصولِ الدِّينِ. وأوَّلُ مَن سَمَّاه بذلك المُعتَزِلةُ، حينَ طالَعَ شُيوخُهم كُتُبَ الفلاسِفةِ أيَّامَ الخَليفةِ المَأمونِ، والمُتَأمِّلُ في مادَّتَيهما ومَباحِثِهما وتَرتيبِهما يَعلَمُ أنَّهما مُتَغايِرانِ؛ لأنَّ عِلمَ الكَلامِ مَذمومٌ عِندَ السَّلَفِ في الجُملةِ، وأمَّا عِلمُ العَقيدةِ فمَمدوحٌ عِندَهم؛ إذ يُعتَمَدُ في إثباتِ العَقائِدِ على الأدِلَّةِ الصَّحيحةِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ ومَعقولِهما، أمَّا عِلمُ الكَلامِ فيَعتَمِدُ على الدَّلائِلِ العَقليَّةِ المَنطِقيَّةِ، كما أنَّه مُشتَمِلٌ على الألفاظِ البِدعيَّةِ والمَعاني المُجمَلةِ التي لا تَتَعَيَّنُ للدَّلالةِ على الحَقِّ. وبَعضُ المُعاصِرينَ ذَهَبَ إلى أنَّ المُعتَمَدَ في هذا البَحثِ استِعمالُ مُصطَلَحِ عِلمِ الكَلامِ للدَّلالةِ على عِلمِ الاعتِقادِ مُطلَقًا لا تَرجيحًا لاستِعمالِ هذا المُصطَلَحِ، وإنَّما جَرَيا على استِعمالِ الأُصوليِّينَ له. وسَبَبُ تَسميَتِه بعِلمِ الكَلامِ إمَّا لأنَّه بإزاءِ المَنطِقِ للفلاسِفةِ، أو لأنَّ أبوابَه عُنوِنَت أوَّلًا بالكَلامِ في كَذا، أو لأنَّ مَسألةَ الكَلامِ أشهرُ أجزائِه حَتَّى كَثُرَ فيه التَّناحُرُ فغَلَبَ عليه، أو لأنَّه يورِثُ قُدرةً على الكَلامِ في الشَّرعيَّاتِ ومَعَ الخَصمِ بزَعمِ أصحابِه. يُنظر: ((الملل والنحل)) الشهرستاني (1/29)، ((المواقف)) للإيجي (1/ 45)، ((علم الكلام والتأويل)) للبريكان (ص: 281)، بحث ((استمداد علم أصول الفقه من علم الكلام)) للكلثم ((مجلة العلوم الشرعية- جامعة الإمام)) (العدد: 65/ص: 473). ،والرَّاجِحُ أنَّ عِلمَ الأُصولِ لا يَستَمِدُّ مِن عِلمِ الكَلامِ، وهو قَولٌ لبَعضِ الحَنَفيَّةِ، كابنِ الهُمامِ وغَيرِه [92] يُنظر: ((الردود والنقود)) للبابرتي (1/110-111)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/ 67)، ((فتح الغفار)) لابن نجيم (ص: 11)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/ 48). ويُنظر أيضًا: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 22-23)، ((أصول الفقه على منهج أهل السنة)) للسعيدان (1/44-45). ، وذَهَب إليه الأبياريُّ المالِكيُّ [93] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (1/ 256، 271). ؛ وذلك لأنَّ أُصولَ الفِقهِ قد وُجِدَت أصلًا قَبلَ امتِزاجِ العِلمَينِ، فلا يُعرَفُ أنَّ الشَّافِعيَّ مَثَلًا قدِ استَمَدَّ عِلمَ أُصولِ الفِقهِ مِن عِلمِ الكَلامِ، ولا أثَرَ للكَلامِ في كِتابِه الرِّسالةِ، بَل كان يُحَذِّرُ مِن عِلمِ الكَلامِ [94] يُنظر: ((آداب الشافعي)) لابن أبي حاتم (ص: 137- 144)، ((علاقة علم أصول الفقه بالكلام)) للشتيوي (ص: 10). .وأيضًا فإنَّ الاستِمدادَ يُرادُ به أن يكونَ العِلمُ مادَّةً وجُزءًا لعِلمٍ آخَرَ؛ لأنَّ المَدَدَ للشَّيءِ في اللُّغةِ ما يَزيدُ به الشَّيءُ ويَكثُرُ، ومِنه المَدَدُ للجَيشِ، واستِمدادُ العِلمِ يُرادُ به تَوقُّفُه على مَعلوماتٍ سابقٍ وُجودُها على وُجودِ ذلك العِلمِ عِندَ مُدَوِّنيه؛ لتَكونَ عَونًا لهم على إتقانِ تَدوينِ ذلك العِلمِ، وهذا غَيرُ مَوجودٍ بَينَ عِلمِ الكَلامِ وعِلمِ أُصولِ الفِقهِ [95] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/67)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/48). ويُنظر أيضًا: ((استمداد علم أصول الفقه من علم الكلام)) للكلثم ((مجلة العلوم الشرعية جامعة الإمام)) (العدد: 65 /ص: 474- 484، 490). .
ومَسائِلُ أُصولِ الفِقهِ مِن حَيثُ هيَ لا تَفتَقِرُ إلى ذلك النَّظَرِ الكَلاميِّ، ولا تَستَمِدُّ مِن مَسائِلِ عِلمِ الكَلامِ -بمَعنى استِمدادِ الفرعِ مِنَ الأصلِ- بدَليلِ عَدَمِ وُجودِ ذلك الابتِناءِ عِندَ المُتَقدِّمينَ، كالشَّافِعيِّ وغَيرِه. لَكِن إن كان المُتَكَلِّمُ يُريدُ بأُصولِ الفِقهِ ما يَشمَلُ تلك الآراءَ المُخالِفةَ بأن أرادَ بأُصولِ الفِقهِ كُلَّ ما يُذكَرُ في المُدَوَّناتِ الأُصوليَّةِ، فيُسَلَّمُ بالاستِمدادِ حينَها تَنَزُّلًا، وإلَّا فإنَّ حَقيقةَ أُصولِ الفِقهِ لا تَشمَلُ ذلك، فإثمارُ هذه الأُصولِ الكَلاميَّةِ لخِلافٍ أُصوليٍّ مَعَ المُخالفينَ لأهلِ السُّنَّةِ لا يُفيدُ استِمدادًا لذاتِ قَضايا العِلمِ؛ فالأئِمَّةُ الأربَعةُ وأضرابُهم لَم يَمزُجوا أُصولَهم بالكَلامِ بَل ذَمُّوه، فكَونُ الأصلِ الكَلاميِّ يُثمِرُ خِلافًا مَعَ طائِفةٍ مُنحَرِفةٍ عن مَنهَجِ هؤلاء الأئِمَّةِ لا يَعني أنَّه أصلٌ للعِلمِ، ومَن تَبَنَّى تلك الآراءَ الكَلاميَّةَ المُخالِفةَ سيُثبِتُ استِمدادَ الأُصولِ مِنَ الكَلامِ؛ فالمُعتَزِلةُ ومَن تابَعَهم مِنَ الزَّيديَّةِ يَبنونَ على قاعِدةِ الحُسَنِ والقُبحِ مَسائِلَ أُصوليَّةً، وهَكَذا الشَّأنُ في سائِرِ المَدارِسِ الكَلاميَّةِ [96] يُنظر: بحث ((استمداد علم أصول الفقه من علم الكلام)) للكلثم ((مجلة العلوم الشرعية - جامعة الإمام)) (العدد: 65/ص: 488). ويُنظر أيضًا: ((الأثر الكلامي في علم أصول الفقه)) للعيسوي (ص: 49- 51). .
ومَذهَبُ كَثيرٍ مِنَ الأُصوليِّينَ أنَّ أُصولَ الفِقهِ يَستَمِدُّ مِن عِلمِ الكَلامِ [97] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 77)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (1/1-2)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (1/17)، ((فصول البدائع)) للفناري (1/23)، ((إجابة السائل)) للصنعاني (ص: 26). ، وعَلَّلوا ذلك بأنَّ العِلمَ بالأدِلَّةِ الإجماليَّةِ وصِحَّةَ الاستِدلالِ بها مَبنيٌّ على: مَعرِفةِ اللهِ تعالى وصِفاتِه، وما يَجِبُ له سُبحانَه وما يَجوزُ له وما يَمتَنِعُ إطلاقُه عليه، وعَلى العِلمِ بصِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما جاءَ به عن رَبِّه، وما يَجوزُ أن يَقَعَ مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما لا يَجوزُ [98] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 77- 78)، ((المنخول)) للغزالي (ص: 60)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 21). ، قال البِرماويُّ: (فالتَّوقُّفُ إمَّا أن يَكونَ مِن جِهةِ ثُبوتِ حُجِّيَّةِ الأدِلَّةِ؛ فهو عِلمُ الكَلامِ، أي: أُصولُ الدِّينِ؛ فإنَّ حُجِّيَّةَ الأدِلَّةِ تَستَدعي مَعرِفةَ الصَّانِعِ خالقِ الخَلقِ، وباعِثِ الرُّسُلِ إليهم بالشَّرائِعِ؛ حتَّى يَستَدِلَّ بما جاؤوا به على الأحكامِ. وثُبوتُ رِسالتِهم مُتَوقِّفٌ على المُعجِزةِ الدَّالَّةِ على صِدقِهم؛ حتَّى يُعلمَ أنَّ ما جاؤوا به مِن عِندِ اللهِ، ويَتَفرَّعُ مِن ذلك ما يُستَدَلُّ به في شَرعِنا مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ، وما نَشَأ مِن ذلك عِندَ مُثبِتِه، وثُبوتُ ذلك إنَّما هو في أُصولِ الدِّينِ؛ فحَصَل التَّوقُّفُ عليه) [99] ((الفوائد السنية)) (1/126-127). ويُنظر أيضًا: ((المنخول)) للغزالي (ص: 60)، ((الإحكام)) للآمدي (1/7، 8)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (1/8). .
وقد بَيَّنَ الغَزاليُّ وغَيرُه أنَّ الاستِطرادَ في هذه المَسائِلِ أمرٌ خارِجٌ عن حَدِّ هذا العِلمِ، فقال الغَزاليُّ: (اعلَمْ أنَّه لمَّا رَجَعَ حَدُّ أُصولِ الفِقهِ إلى مَعرِفةِ أدِلَّةِ الأحكامِ اشتَمَل الحَدُّ على ثَلاثةِ ألفاظٍ: المَعرِفةُ، والدَّليلُ، والحُكمُ، فقالوا: إذا لم يَكُنْ بُدٌّ مِن مَعرِفةِ الحُكمِ حتَّى كان مَعرِفتُه أحَدَ الأقطابِ الأربَعةِ، فلا بُدَّ أيضًا مِن مَعرِفةِ الدَّليلِ ومَعرِفةِ المَعرِفةِ، أعني العِلمَ. ثُمَّ العِلمُ المَطلوبُ لا وُصولَ إليه إلَّا بالنَّظَرِ، فلا بُدَّ مِن مَعرِفةِ النَّظَرِ، فشَرَعوا في بَيانِ حَدِّ العِلمِ والدَّليلِ والنَّظَرِ، ولم يَقتَصِروا على تَعريفِ صورِ هذه الأُمورِ، ولكِنِ انجَرَّ بهم إلى إقامةِ الدَّليلِ على إثباتِ العِلمِ على مُنكِريه مِنَ السُّوفسطائيَّةِ، وإقامةِ الدَّليلِ على النَّظَرِ على مُنكِري النَّظَرِ، وإلى جُملةٍ مِن أقسامِ العُلومِ وأقسامِ الأدِلَّةِ، وذلك مُجاوَزةٌ لحَدِّ هذا العِلمِ، وخَلطٌ له بالكَلامِ، وإنَّما أكثَرَ فيه المُتَكَلِّمونَ مِنَ الأُصوليِّينَ؛ لغَلبةِ الكَلامِ على طَبائِعِهم، فحَمَلهم حُبُّ صِناعَتِهم على خَلطِه بهذه الصَّنعةِ) [100]  ((المستصفى)) (ص: 9). .

انظر أيضا: