المَسألةُ الثَّانيةُ: أقسامُ الأفعالِ النَّبَويَّةِ ودَلالتُها على الأحكامِ الشَّرعيَّةِ
تَنقَسِمُ أفعالُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باعتِبارِ دَلالتِها على الأحكامِ الشَّرعيَّةِ أقسامًا مُتَنَوِّعةً؛ فمِنها ما يَكونُ بمُقتَضى بَشَريَّتِه وجِبِلَّتِه، ومِنها ما يَرجِعُ إلى عادَتِه ومَألوفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِنها ما يَكونُ مِن مُنطَلقِ التَّشريعِ والامتِثالِ للشَّرعِ.
أقسامُ الأفعالِ النَّبَويَّةِ باعتِبارِ دَلالتِها على الأحكامِ:1- الأفعالُ الجِبِلِّيَّةُ:وهيَ الصَّادِرةُ بمُقتَضى طَبيعَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أصلِ خِلقَتِه، كالقيامِ والقُعودِ والنَّومِ والأكلِ والشُّربِ، فهذه الأفعالُ تَدُلُّ على الإباحةِ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأُمَّتِه
[180] يُنظر: ((المعونة)) (ص: 31)، ((شرح اللمع)) (1/ 454) كلاهما للشيرازي، ((الواضح)) لابن عقيل (2/ 19)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير حاج (2/ 302)، ((شرح الورقات)) للمحلي (ص: 153). .
وممَّن حَكى الاتِّفاقَ على ذلك: الآمِديُّ
[181] قال: (أمَّا ما كان مِن الأفعالِ الجِبِلِّيَّةِ كالقيامِ والقُعودِ والأكلِ والشُّربِ ونَحوِه، فلا نِزاعَ في كَونِه على الإباحةِ بالنِّسبةِ إليه وإلى أُمَّتِه). ((الإحكام)) (1/ 173). ، وابنُ الهُمامِ
[182] قال: (الاتِّفاقُ في أفعالِه الجِبِلِّيَّةِ الإباحةُ لنا وله). يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير حاج (2/ 302). .
2- أفعالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الموافِقةُ لعاداتِ قَومِه:وهيَ ما فعَله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَريًا على عادةِ قَومِه ومألوفِهم، ومِن أمثِلتِها أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَبِسَ المِرطَ المُرَحَّلَ، والمُخَطَّطَ
[183] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى اللهُ عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/ 237). ويُنظر أيضًا: ((التحقيقات على شرح الجلال للورقات)) لمراد (ص: 209). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (فسُنَّتُه أي: النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك تَقتَضي أن يَلبَسَ الرَّجُلُ ويَطعَمَ مِمَّا يَسَّره اللهُ ببَلدِه مِن الطَّعامِ واللِّباسِ. وهذا يَتَنَوَّعُ بتَنَوُّعِ الأمصارِ)
[184] ((مجموع الفتاوى)) (22/ 311). .
وحُكمُ هذه الأُمورِ كنَظائِرِها مِن الأفعالِ الجِبِلِّيَّةِ، والأصلُ فيها جَميعًا أنَّها تَدُلُّ على الإباحةِ لا غَيرُ، إلَّا في حالينِ
[185] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/ 237). :
الحالُ الأولى: أن يَرِدَ قَولٌ يَأمُرُ بها أو يُرَغِّبُ فيها، فيَظهَرُ أنَّها حينَئِذٍ تَكونُ شَرعيَّةً.
الحالُ الثَّانيةُ: أن يَظهَرَ ارتِباطُها بالشَّرعِ بقَرينةٍ غَيرِ قَوليَّةٍ لأنَّ مَجيئَه بقَرينةٍ قَوليَّةٍ تُخرِجُ البَيانَ مِن أن يَكونَ بَيانًا بالفِعلِ إلى أن يَكونَ بَيانًا بالقَولِ، كتَوجيهِ المَيِّتِ في قَبرِه إلى القِبلةِ؛ فإنَّ ارتِباطَ ذلك بالشَّرعِ لا خَفاءَ به.
3- أفعالُه التي ثَبَتَ اختِصاصُها به "الخَصائِصُ النَّبَويَّةُ":المُرادُ بالخَصائِصِ النَّبَويَّةِ: الأحكامُ الشَّرعيَّةُ الخاصَّةُ بأفعالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كوُجوبِ قيامِ اللَّيلِ عليه، وإباحةِ نِكاحِ ما زادَ على أربَعِ نِسوةٍ؛ فالأصلُ في كُلِّ فِعلٍ يَكونُ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَوازُ الاقتِداءِ به إلَّا ما يَثبُتُ فيه دَليلُ الخُصوصيَّةِ، فإذا لم يَأتِ دَليلُ الخُصوصيَّةِ عُلِم أنَّه مِن جُملةِ الأفعالِ التي يَكونُ فيها قُدوةٌ للأُمَّةِ كُلِّها
[186] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/ 89 - 90)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/ 203). .
وحَكى الآمِديُّ الإجماعَ على ذلك
[187] قال: (وأمَّا ما سِوى ذلك مِمَّا ثَبَتَ كَونُه مِن خَواصِّه التي لا يُشارِكُه فيها أحَدٌ، فلا يَدُلُّ ذلك على التَّشريكِ بَينَنا وبَينَه فيه إجماعًا، وذلك كاختِصاصِه بوُجوبِ الضُّحى والأضحى، والوِترِ والتَّهَجُّدِ باللَّيلِ، والمُشاوَرةِ والتَّخييرِ لنِسائِه، وكاختِصاصِه بإباحةِ الوِصالِ في الصَّومِ... ودُخولِ مَكَّةَ بغَيرِ إحرامٍ، والزِّيادةِ في النِّكاحِ على أربَعِ نِسوةٍ، إلى غَيرِ ذلك مِن خَصائِصِه). ((الإحكام)) (1/ 173). ، ونَقَل ابنُ السُّبكيِّ عَدَمَ الخِلافِ فيه
[188] قال بَعدَ أن ذَكَرَ أقسامَ فِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذَكَرَ مِنها ما عُرِف أنَّه مَخصوصٌ به، قال: (... فهذه الأقسامُ كُلُّها ليسَ فيها شَيءٌ مِن الخِلافِ). ((الإبهاج)) (5/ 1756). .
قال أبو شامةَ المَقدِسيُّ: (خَصائِصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُنقَسِمةٌ إلى: واجِباتٍ عليه، ومُحَرَّماتٍ عليه، ومُباحاتٍ له:
فأمَّا المُباحاتُ: فليسَ لأحَدٍ أن يَتَشَبَّهَ به فيها، وإلَّا زالت الخُصوصيَّةُ... نَحوُ نِكاحِه أكثَرَ مِن أربَعٍ، وكالوِصالِ في الصَّومِ، وأنَّ مالَه بَعدَه صَدَقةٌ لا ميراثٌ.
وأمَّا الواجِباتُ عليه: فكُلُّها تَقَعُ مِن غَيرِه مُستَحَبَّةً، كالضُّحى، والأضحى، والوِترِ، والتَّهَجُّدِ، والمُشاوَرةِ، وتَخييرِ المَرأةِ إذا كَرِهَت صُحبةَ زَوجِها؛ فالتَّشَبُّهُ به في ذلك واقِعٌ بلا خِلافٍ، ومَوضِعُ الخُصوصيَّةِ الوُجوبُ عليه دونَ أُمَّتِه.
وأمَّا المُحَرَّماتُ عليه فيُستَحَبُّ أيضًا التَّنَزُّهُ عنها ما أمكَنَ، كَأكلِ الزَّكاةِ، وما له رائِحةٌ كَريهةٌ، والأكلِ مُتَّكِئًا... فهذا الذي ذَكَرناه مِن فِعلِ الأُمَّةِ ما هو مُختَصٌّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على التَّفصيلِ الذي سَبَقَ شَرحُه، لا نِزاعَ فيه لمَن فَهِمَ الفِقهَ وقَواعِدَه، ومارَس أدِلَّةَ الشَّرعِ ومعاقِدَه ومَعانيَه)
[189] ((المحقق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول)) (ص: 204- 211). .
ويُعرَفُ أنَّ الفِعلَ مِن خَصائِصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأُمورٍ؛ مِنها [190] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/ 269- 272). ويُنظر أيضًا: ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 534)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/ 228)، ((الاجتهاد تأثره وتأثيره)) لعبد الرؤوف الإندونيسي (ص: 460)، ((من أصول الفقه على منهج أهل الحديث)) لزكريا غلام قادر (ص: 71). :الأوَّلُ: أن يَرِدَّ في القُرآنِ النَّصُّ على الخُصوصِ والمَنعُ مِن الاشتِراكِ.وذلك كقَولِ اللهِ تعالى:
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ [الأحزاب: 50] .
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللَّهَ تعالى خَصَّه بالحُكمِ المَذكورِ وأخبَرَ أنَّ غَيرَه لا يُشارِكُه فيه؛ لأنَّه لو لم يَخُصَّه لعَقَلت الأُمَّةُ مُساواتَها له فيه
[191] يُنظر: ((الفصول)) (3/ 226). .
الثَّاني: أن يَقولَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك.
وذلك كنَهيِه لهم عن الوِصالِ لمَّا واصَل، وقال: ((إنِّي لستُ كهَيئَتِكُم، إنِّي أبيتُ يُطعِمُني رَبِّي ويَسقيني)) [192] أخرجه البخاري (7299)، ومسلم (1103) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تُواصِلوا، قالوا: إنَّكَ تواصِلُ، قال: إنِّي لستُ مِثلَكُم؛ إنِّي أبيتُ يُطعِمُني رَبِّي ويَسقيني)). وفي لفظٍ: عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا تُواصِلوا، فأيُّكُم أرادَ أن يواصِلَ، فليواصِلْ حتَّى السَّحَرِ، قالوا: فإنَّكَ تواصِلُ يا رَسولَ اللهِ، قال: لستُ كَهَيئَتِكُم، إنِّي أبيتُ لي مُطعِمٌ يُطعِمُني، وساقٍ يَسقينِ)) أخرجه البخاري (1963). ، وقال في دُخولِ مَكَّةَ مُقاتِلًا: ((إنْ أحَدٌ تَرَخَّص بقِتالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقولوا: إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لرَسولِه ولم يَأذَنْ لكم)) [193] أخرجه البخاري (140)، ومسلم (1354) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي شُرَيحٍ العَدَويِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلمٍ: ((فإنْ أحَدٌ تَرَخَّصَ بقِتالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها، فقولوا له: إنَّ اللَّهَ أذِنَ لرَسولِه، ولم يَأذَنْ لكُم)). .
الثَّالِثُ: الإجماعُ على الخُصوصيَّةِ
وذلك كإجماعِهم على تَحريمِ الزِّيادةِ على أربَعِ نِسوةٍ، واختِصاصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإباحةِ ذلك [194] قال البَغويُّ: (... وهذا إجماعٌ أنَّ أحَدًا مِن الأُمَّةِ لا يَجوزُ له أن يَزيدَ على أربَعِ نِسوةٍ، وكانت الزِّيادةُ مِن خَصائِصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لا مُشارَكةَ مَعَه لأحَدٍ مِن الأُمَّةِ فيها). ((تفسير البغوي)) (2/161). وقال ابنُ كَثير: (قال الشَّافِعيُّ: وقد دَلَّت سُنَّةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُبيِّنةُ عن اللهِ أنَّه لا يَجوزُ لأحَدٍ غَيرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَجمَعَ بَينَ أكثَرَ مِن أربَعِ نِسوةٍ. وهذا الذي قاله الشَّافِعيُّ رَحِمَه اللهُ مَجمَعٌ عليه بَينَ العُلماءِ، إلَّا ما حُكيَ عن طائِفةٍ مِن الشِّيعةِ أنَّه يَجوزُ الجَمعُ بَينَ أكثَرَ مِن أربَعٍ إلى تِسعٍ). ((تفسير ابن كثير)) (2/209). .
أنواعُ الخُصوصيَّةِ:
تُقسَّمُ الخَصائِصُ النَّبَويَّةُ بحَسَبِ ما يلي [195] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى اللهُ عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/263-265). :
أوَّلًا: بحَسَبِ مَن عناه الاختِصاصُ
تَنقَسِمُ الخَصائِصُ النَّبَويَّةُ بحَسَبِ مَن عناه الاختِصاصُ، ثَلاثةَ أقسامٍ:
1- ما تُشارِكُه فيه أُمَّتُه، ويَنفرِدُ به هو وأُمَّتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن سائِرِ الأنبياءِ وأُمَمِهم.
وذلك مِثلُ ما ورَدَ في الحَديثِ: ((أُعطِيتُ خَمسًا لَم يُعطَهُنَّ أحَدٌ قَبلي: نُصِرْتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا، فأيُّما رَجُلٍ من أمَّتي أدرَكَته الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّت لي المَغانِمُ ولَم تَحِلَّ لأحَدٍ قَبلي، وأُعطِيتُ الشَّفاعةَ، وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً وبُعِثتُ إلى النَّاسِ عامَّةً)) [196] أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُ البخاريِّ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطيتُ خَمسًا لم يُعطَهنَّ أحَدٌ قَبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شَهرٍ، وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا، فأيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدرَكَته الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّت لي المَغانِمُ ولم تَحِلَّ لأحَدٍ قَبلي، وأُعطيتُ الشَّفاعةَ، وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً وبُعِثتُ إلى النَّاسِ عامَّةً)). .
2- ما يَنفرِدُ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَمَّن ليسَ بنَبيٍّ، لكِن يُشارِكُه فيه كُلُّ الأنبياءِ أو بَعضُهم.
ومِن أمثِلةِ ذلك: تَأييدُهم بالمُعجِزاتِ، وبالعِصمةِ، ونُزولِ الوَحيِ عليهم، وكَونِهم لا يُورَثونَ.
3- ما يَنفرِدُ به مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن جَميعِ البَشَرِ مِن الأنبياءِ وغَيرِهم.
وذلك مِثلُ كَونِه خاتَمَ النَّبيِّينَ وإمامَ المُرسَلينَ، وأنَّه مَبعوثٌ إلى جَميعِ العالَمينَ إنسِهم وجِنِّهم، وشَفاعَتِه العُظمى يَومَ الحِسابِ.
ثانيًا: بحَسَبِ زَمانِ الاختِصاصِ
تَنقَسِمُ الخَصائِصُ النَّبَويَّةُ بحَسَبِ بحَسَبِ زَمانِ الاختِصاصِ، قِسمَينِ:
1- في الدُّنيا، كالإسراءِ به، وكإباحةِ نِكاحِ أكثَرَ مِن أربَعِ نِسوةٍ.
2- في الآخِرةِ، ككَونِه ((أوَّلُ مَن يُبعَثُ)) [197] أخرجه البخاري (2412)، ومسلم (2374) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((لا تُخَيِّروا بَينَ الأنبياءِ؛ فإنَّ النَّاسَ يَصعَقونَ يَومَ القيامةِ، فأكونُ أوَّلَ مَن تَنشَقُّ عنه الأرضُ، فإذا أنا بموسى آخِذٌ بقائِمةٍ مِن قَوائِمِ العَرشِ، فلا أدري أكان فيمَن صَعِقَ، أم حوسِبَ بصَعقةِ الأولى)). وفي لفظٍ: عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنا سَيِّدُ ولدِ آدَمَ يَومَ القيامةِ، وأوَّلُ مَن يَنشَقُّ عنه القَبرُ، وأوَّلُ شافِعٍ وأوَّلُ مُشَفَّعٍ)) أخرجه مسلم (2278). و((أوَّلُ شافِعٍ وأوَّلُ مُشَفَّعٍ)) [198] أخرجه مسلم (2278) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ يَومَ القيامةِ، وأوَّلُ مَن يَنشَقُّ عنه القَبرُ، وأوَّلُ شافِعٍ وأوَّلُ مُشَفَّعٍ)). و((أوَّلُ مَن يَقرَعُ بابَ الجَنَّةِ)) [199] أخرجه مسلم (196) من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: ((أنا أكثَرُ الأنبياءِ تَبَعًا يَومَ القيامةِ، وأنا أوَّلُ مَن يَقرَعُ بابَ الجَنَّةِ)). .
ثالثًا: بحَسَبِ ما فيه الاختِصاصُ
تَنقَسِمُ الخَصائِصُ النَّبَويَّةُ بحَسَبِ بحَسَبِ ما فيه الاختِصاصُ، قِسمَينِ:
- ما ليسَ بحُكمٍ شَرعيٍّ:
ومِن أمثِلتِه ما كان في خِلقَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كخاتَمِ النُّبوَّةِ بَينَ كَتِفيه [200] عن السائب بن يزيد يقول: ((ذَهَبَتْ بي خَالَتي إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنَ أُخْتي وجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي ودَعَا لي بالبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِن وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إلى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بيْنَ كَتِفَيْهِ، مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ)) أخرجه البخاري (190) واللفظ له، ومسلم (2345) ، وأنَّ اللهَ لا يُعذِّب الأُمَّةَ ما دَامَ فيهِم [201] عن أنس بن مالك يقول: (قالَ أبو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ هذا هو الحَقَّ مِن عِندِكَ، فأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أوِ ائْتِنَا بعَذَابٍ ألِيمٍ، فَنَزَلَتْ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الأنفال: 33 - 34] الآيَةَ.) أخرجه البخاري (4648)، ومسلم (2796) .
- ما هو حُكمٌ شَرعيٌّ:
وهذا القِسمُ إمَّا: حُكمٌ شَرعيٌّ لفِعلِ غَيرِه بسَبَبِه كَرامةً له، كتَحريمِ نِسائِه على غَيرِه، وما نُسِخَ مِن وُجوبِ الصَّدَقةِ على المُؤمِنينَ عِندَ مُناجاتِه، وتَحريمِ أخذِ الزَّكاةِ على آلِ بَيتِه، وأنَّه لا يُورَثُ، وأنَّ الكَذِبَ عليه عَمدًا كَبيرةٌ، وتَحريمِ رَفعِ الصَّوتِ فوقَ صَوتِه.
وإمَّا حُكمٌ شَرعيٌّ لفِعلِه هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كوُجوبِ قيامِ اللَّيلِ، وتَحريمِ الصَّدَقةِ عليه، وإباحةِ نِكاحِ ما زادَ على أربَعِ نِسوةٍ.
4- أفعالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي جاءَت للبَيانِ:
إذا جاءَ فِعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيانًا لحُكمٍ شَرعيٍّ، لم تَدُلَّ أفعالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على شَيءٍ غَيرِ البَيانِ، ويَكونُ حُكمُها مَأخوذًا مِن المُبَيِّنِ؛ فإن كان المُبَيِّنُ واجِبًا فقد بَيَّنَ الواجِبَ، وإن كان نَدبًا فقد بَيَّنَ النَّدبَ [202] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/ 314)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/ 734)، ((الإشارة)) للباجي (ص: 226)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/ 454)، ((الضروري)) لابن رشد (ص: 133). .
وحَكى الآمِديُّ [203] قال: (أمَّا ما عُرِف كَونُ فِعلِه بَيانًا لنا فهو دَليلٌ مِن غَيرِ خِلافٍ، وذلك إمَّا بصَريحِ مَقالِه، كقَولِه: "صَلُّوا كما رَأيتُموني أُصَلِّي". أخرجه البخاري (631) من حديثِ مالكِ بنِ الحُوَيرِثِ رَضِيَ اللهُ عنه و: "خُذوا عنِّي مَناسِكَكُم" أخرجه مسلم (1297) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما بلفظِ: (لتَأخُذوا مَناسِكَكُم فإنِّي لا أدري لعَلِّي لا أحُجُّ بَعدَ حَجَّتي هذه). أو بقَرائِنِ الأحوالِ، وذلك كما إذا ورَدَ لفظٌ مُجمَلٌ أو عامٌّ أُريدَ به الخُصوصُ، أو مُطلَقٌ أُريدَ به التَّقييدُ، ولم يُبَيِّنْه قَبلَ الحاجةِ إليه، ثُمَّ فَعَل عِندَ الحاجةِ فِعلًا صالحًا للبَيانِ، فإنَّه يَكونُ بَيانًا حتَّى لا يَكونَ مُؤَخِّرًا للبَيانِ عن وقتِ الحاجةِ، وذلك كقَطعِه يَدَ السَّارِقِ مِن الكوعِ بَيانًا لقَولِه تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، وكتَيَمُّمِه إلى المَرفِقَينِ بَيانًا لقَولِه تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ، ونَحوِه. والبَيانُ تابعٌ للمُبَيِّنِ في الوُجوبِ والنَّدبِ والإباحةِ). ((الإحكام)) (1/ 174). ، وابنُ السُّبكيِّ [204] قال: (ما عُلمَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعَله بَيانًا لشَيءٍ، نَحوُ: قَطعِه يَدَ السَّارِقِ مِن الكوعِ؛ إذ فعَله بَيانًا لقَولِه تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا... فهذه الأقسامُ كُلُّها ليسَ فيها شَيءٌ مِن الخِلافِ). ((الإبهاج)) (5/ 1754- 1756). أخرج ابنُ عديٍّ في ((الكامل في الضعفاء)) (3/38)، والبيهقي (17330) عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو قال: ((قَطَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سارِقًا مِن المَفصِلِ)) ذَكَر ابنُ عَديٍّ أنَّ فيه: خالِدَ بنَ عبدِ الرَّحمَنِ الخُراسانيَّ، في بَعضِ أحاديثِه إنكارٌ، وأرجو أنَّ ما يُنكَرُ من حديثِه إنَّما هو وَهمٌ أو خَطَأٌ، وذَكَر ابنُ القَطَّانِ في ((الوهم والإيهام)) (3/241) أنَّ فيه عَبدَ الرَّحمَنِ بنَ سَلمةَ، ولا أعرِفُ له حالًا، وذَكَر الألبانيُّ في ((إرواء الغليل)) (8/81) أنَّ فيه ليثَ بنَ أبي سليمٍ، ضَعيفُ الحِفظِ. عَدَمَ الخِلافِ في ذلك.
والبَيانُ نَوعانِ:
الأوَّلُ: بَيانُ المُجمَلِ
وذلك نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] ، ثُمَّ أخْذِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ الحَصادِ العُشرَ [205] ومِقدارُ ما يَجِبُ إخراجُه، وهو العُشرُ، لفظُه: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فيما سَقَتِ السَّماءُ والعُيونُ أو كان عَثَريًّا العُشرُ، وما سُقيَ بالنَّضحِ نِصفُ العُشرِ)) أخرجه البخاري (1483). وفي لفظٍ: عن جابِرِ بنِ عبدِ الله يَذكُرُ أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فيما سَقَتِ الأنهارُ والغَيمُ العُشورُ، وفيما سُقيَ بالسَّانيةِ نِصفُ العُشرِ)) أخرجه مسلم (981). ، فكان فِعلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيانًا لذلك المُجمَلِ، وفِعلُه هذا لا يَدُلُّ على غَيرِ البَيانِ [206] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/ 734). .
الثَّاني: تَخصيصُ العامِّ
وذلك نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] ، فهذا نَصٌّ عامٌّ في كُلِّ سارِقٍ سَرَقَ قَليلًا أو كَثيرًا، ولكِن ثَبَتَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لم يَقطَعْ في أقَلَّ مِن رُبُعِ دينارٍ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تُقطَعُ اليَدُ في رُبُعِ دينارٍ فصاعِدًا)) [207] أخرجه البخاري (6789) واللفظ له، ومسلم (1684) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، فكان هذا بَيانًا وقَعَ به التَّخصيصُ [208] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/ 735)، ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 214- 215). .
5- أفعالُه الامتِثاليَّةُ:
والمُرادُ بها كُلُّ فِعلٍ قُصِدَ به مُجَرَّدُ الامتِثالِ لطَلبٍ مَعلومٍ، ولم يَثبُتْ أنَّه مِن خَصائِصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وذلك مِثلُ أداءِ الصَّلاةِ، والصَّومِ والحَجِّ، وما كان يَفعَلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن القُرُباتِ إلى اللهِ تعالى، وما كان يَفعَلُه مِن المُعامَلاتِ والعُقودِ مُلتَزِمًا فيها ما شَرَعَ تعالى، وكافًّا عَمَّا نَهى عنه.
وكُلُّ فِعلٍ مِن أفعالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صادِرٍ عن الأوامِرِ الإلهيَّةِ العامَّةِ للمُكَلَّفينَ، إذا لم يَكُنْ فيها إجمالٌ ولا خَفاءٌ، أو كان فيها إجمالٌ أو خَفاءٌ، ولكِن لم يَفعَلْه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للتَّبيينِ؛ فهو امتِثاليٌّ [209] ((أفعال الرسول صلى اللهُ عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/ 304). .
6- أفعالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُجَرَّدةُ:
المُرادُ بها الأفعالُ الأُخرى التي لم تَتَقدَّمْ في الأنواعِ السَّابقةِ، فليسَت جِبِلِّيَّةً ولا موافِقةً لعادةِ قَومِه، ولا خاصَّةً به، ولا بَيانًا ولا امتِثالًا، ولم يَقتَرِنْ بها قَرينةٌ يَتَبَيَّنُ مِنها حُكمُه بالنِّسبةِ إلينا. والفِعلُ المُجَرَّدُ قد يَكونُ في الحَقيقةِ واحِدًا مِن الأنواعِ السَّابقةِ، لكِنْ لم يَظهَرْ دَليلٌ نُلحِقُه به؛ فمَثَلًا قد يَكونُ في الحَقيقةِ خاصًّا ولكِن لم نَطَّلعْ على دَليلِ خُصوصيَّتِه، فظَهَرَ لنا الفِعلُ مُجَرَّدًا. والفِعلُ المُجَرَّدُ قد يَكونُ أيضًا فِعلًا فَعَله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابتِداءً مِن ذاتِ نَفسِه مُطابِقًا لِما فوَّضَه اللَّهُ تعالى له مِن إنشاءِ بَعضِ الأحكامِ، أو مِن تَصَرُّفِه في حُدودِ مَرتَبةِ العَفوِ [210] ((أفعال الرسول صلى اللهُ عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/ 317). .
والأفعالُ المُجَرَّدةُ على نَوعَينِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: المَعلومُ الصِّفةِ بالنِّسبةِ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وهو ما عَلِمنا بدَليلٍ أنَّه فعَله واجِبًا، أو فعَلَه نَدبًا، أو أنَّه مُباحٌ؛ فالجُمهورُ على أنَّنا مُتَعَبَّدونَ بذلك، إلَّا أن يَدُلَّ دَليلٌ على اختِصاصِه به، فيَجِبُ علينا فِعلُه إن كان واجِبًا، ويُندَبُ إن كان مَندوبًا، ويُباحُ إن كان مُباحًا مَعَ وُجوبِ اعتِقادِ الصِّفةِ التي تَثبُتُ له [211] قال مَجدُ الدِّينِ ابنُ تَيميَّةَ: (فِعلُه حُجَّةٌ شَرعًا فيما ظَهَرَ وَجهُه: إن كان واجِبًا وجَبَ علينا، وإن كان نَدبًا نُدِب لنا، وإن كان مُباحًا أُبيحَ لنا، وهو قَولُ الجُمهورِ). ((المسودة)) (ص: 186). وقال أمير بادشاه: ("وما لم يَظهَرْ فيه ذلك" أي: البَيانُ والخُصوصيَّةُ "وعُرِف صِفتُه" في حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "مِن وُجوبٍ ونَحوِه" مِن نَدبٍ وإباحةٍ؛ "فالجُمهورُ" و"مِنهم الجَصَّاصُ أُمَّتُه مِثلُه" فإن وجَبَ عليه وجَبَ عليهم: وهَكَذا). ((تيسير التحرير)) (3/ 121). ، وحُكيَ فيه الإجماعُ [212] قال ابنُ السُّبكيِّ: (أن يَدُلَّ دَليلٌ آخَرُ أو قَرينةٌ مَعَه على أنَّه للوُجوبِ، كَقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((صَلُّوا كَما رَأيتُموني أُصَلِّي))، وقَولِه عليه السَّلامُ: ((خُذوا عنِّي مَناسِكَكُم))؛ فإنَّ هَذَين الحَديثَينِ يَدُلَّانِ على وُجوبِ اتِّباعِه في أفعالِ الصَّلاةِ، وأفعالِ الحَجِّ إلَّا ما خَصَّه الدَّليلُ. والقَولُ في هذا القِسمِ مُتَّضِحٌ، فإنَّه على حَسَبِ ما يَقومُ الدَّليلُ أو القَرينةُ عليه وِفاقًا). ((الإبهاج)) (5/ 1754). وقال الزَّركَشيُّ عن الفِعلِ المُجَرَّدِ: (فإن ورد بَيانًا، كقَوله: ((صَلُّوا كَما رَأيتُموني أُصَلِّي))، و((خُذوا عنِّي مَناسِكَكُم))، أو لآيةٍ كالقَطعِ مِن الكوعِ، المُبيِّنِ لآيةِ السَّرِقةِ، فهو دَليلٌ في حَقِّنا، ولا خِلافَ أنَّه واجِبٌ، وحَيثُ ورَدَ بَيانًا لمُجمَلٍ، فحُكمُه حُكمُ ذلك المُجمَلِ؛ إن كان واجِبًا فواجِبٌ، وإن كان مَندوبًا فمَندوبٌ، كأفعالِ الحَجِّ والعُمرةِ، وصَلاةِ الفَرضِ والكُسوفِ). ((البحر المحيط)) (6/ 29). .
مِثالُه [213] يُنظر: ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 121). :
الاعتِكافُ فهو مُستَحَبٌّ عِندَ جَميعِ الفُقَهاءِ، مَعَ أنَّه لم يَثبُتْ فيه إلَّا فِعلُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [214] لفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أرادَ أن يَعتَكِفَ صَلَّى الفَجرَ، ثُمَّ دَخَل مُعتَكَفَه، وإنَّه أمَرَ بخِبائِه فضُرِبَ، أرادَ الاعتِكافَ في العَشرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ، فأمَرَت زَينَبُ بخِبائِها فضُرِبَ، وأمَرَ غَيرُها مِن أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخِبائِه فضُرِبَ، فلمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الفجرَ نَظَرَ، فإذا الأخبيةُ فقال: آلبِرَّ تُرِدنَ؟ فأمَرَ بخِبائِه فقُوِّضَ، وتَرَكَ الاعتِكافَ في شَهرِ رَمَضانَ، حتَّى اعتَكَف في العَشرِ الأوَّلِ مِن شَوَّالٍ)) أخرجه البخاري (2041)، ومسلم (1173) واللَّفظُ له. .
وقيل: يُتَوقَّفُ في هذا النَّوعِ، ولا يُحمَلُ على الوُجوبِ أو النَّدبِ إلَّا بدَليلٍ، وهو اختيارُ أبي المَعالي الجُوَينيِّ [215] يُنظر: ((البرهان)) (1/185). .
النَّوعُ الثَّاني: المَجهولُ الصِّفةِ
وهو قِسمانِ:
القِسمُ الأوَّلُ: ما ظَهَرَ فيه قَصدُ القُربةِ
فهذه الأفعالُ تُحمَلُ على النَّدبِ، وهو قَولُ الأكثَرينَ [216] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 33). ، والمُحَقِّقينَ مِن أهلِ الآثارِ [217] يُنظر: ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 239). ، واختارَه أبو المَعالي الجُوَينيُّ [218] يُنظر: ((البرهان)) (1/184). ، وقال: (وإليه صارَ أصحابُ الشَّافِعيِّ) [219] ((التلخيص)) (2/ 230- 231). ويُنظر أيضًا: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 306)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق (1/ 249). .
واستَدَلُّوا على ذلك بعَدَمِ وُجودِ الدَّليلِ الذي يَدُلُّ على الوُجوبِ، فيُحمَلُ على أنَّ فِعلَه أرجَحُ مِن تَركِه، وهو النَّدبُ [220] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (2/ 831). ، وأيضًا فإنَّ مُجَرَّدَ ظُهورِ قَصدِ القُربةِ دَليلٌ على رُجحانِ الفِعلِ؛ لأنَّ المُباحَ لا يَقصَدُ به القُربةُ [221] يُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (2/ 199). .
قال أبو شامةَ المَقدِسيُّ: (كُلُّ فِعلٍ ظَهَرَ فيه قَصدُ القُربةِ، وكان مَعلومَ الصِّفةِ مِن وُجوبٍ أو نَدبٍ أو لم يَكُنْ، فالأُمَّةُ مَندوبونَ إلى إيقاعِ مِثلِ ذلك الفِعلِ مُطلقًا، وما لم يَظهَرْ فيه قَصدُ القُربةِ، وكان مُحتَمِلًا للقُربةِ وإن خَفِيَتْ عنَّا فكذلك، مِثالُه: رَفعُ اليَدَينِ عِندَ التَّحَرُّمِ بالصَّلاةِ، وعِندَ الرُّكوعِ والرَّفعِ منه، وعِندَ القيامِ مِن الرَّكعَتَينِ. ونُزولُه في حَجَّتِه بذي طوًى، ومَبيتُه بمِنًى ليلةَ يَومِ عَرَفةَ، فهذا ونَحوُه أفعالٌ صَدَرَت مِنه لا تَحتَمِلُ القُربةَ، وإن لم تَظهَرْ لنا، فاستَحَبَّ عُلماءُ المَذاهِبِ مُتابَعَتَه والتَّأسِّيَ به فيها، وهيَ في هذا البابِ بمَثابةِ الأوصافِ الشَّبَهيَّةِ في بابِ القياسِ، إلَّا أنَّها مَحطوطةُ الدَّرَجةِ عَمَّا ظَهَرَ فيه قَصدُ القُربةِ، فيَكونُ الاستِحبابُ فيها آكَدَ مِمَّا لم يَظهَرْ فيه قَصدُ القُربةِ، ويَكونُ الاستِحبابُ فيما وجَبَ عليه آكَدَ؛ لأنَّ مَصلحَتَه أتَمُّ، بدَليلِ تَحَتُّمِه عليه، فهذه ثَلاثُ دَرَجاتٍ، أعلاها مُتابَعَتُه فيما وجَبَ عليه. وبَعدَها: مُتابَعَتُه فيما نُدِبَ إليه، أو فيما لم تُعلَمْ صِفتُه، لكِن ظَهَرَ فيه قَصدُ القُربةِ. والدَّرَجةُ الثَّالثةُ: ما احتَمَل القُربةَ وإن لم تَظهَرْ) [222] ((المحقق)) (ص: 265- 266). .
مثاله: مثَّلوا له [223] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى اللهُ عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/324). بحديثِ لُبسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَعلَيه في الصَّلاةِ [224] لفظُه: عن سَعيدِ بنِ يَزيدَ الأزديِّ قال: (سَألتُ أنَسَ بنَ مالكٍ: أكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي في نَعليه؟ قال: نَعَم) أخرجه البخاري (386) واللَّفظُ له، ومسلم (555). ، فهذا اللُّبسُ يَظهَرُ فيه قَصدُ القُربةِ، كما في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خالِفوا اليَهودَ؛ فإنَّهم لا يُصَلُّونَ في نِعالِهم ولا في خِفافِهم)) [225] أخرجه أبو داود (652)، وابن حبان (2186)، والطبراني (7/290) (7165) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ أبي داود: ((خالِفوا اليَهودَ؛ فإنَّهم لا يُصَلُّونَ في نِعالهم ولا خِفافِهم)). ذَكَرَ عبدُ الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوُسطى)) (1/315) أنَّ فيه يَعلى بنَ شَدَّادٍ، لم أرَ فيه تَعديلًا ولا تَجريحًا، وقال ابنُ القَطَّان في ((الوهم والإيهام)) (4/18): فيه يَعلى بنُ شَدَّادٍ، لم أرَ فيه تَعديلًا ولا جَرحًا، وقال الصَّنعانيُّ في ((التنوير)) (6/595): رَمَزَ المُصَنِّفُ لصِحَّتِه، وليسَ كما قال؛ ففيه يَعلى بنُ شَدَّادٍ، قال في الميزانِ: تَوقَّف بَعضُهم في الاحتِجاجِ بخَبَرِه (صَلُّوا...) إلى آخِرِ ما هنا، وهو شَيخٌ مَحَلُّه الصِّدقُ، انتَهى. قال: [ويَعلى] لم أرَ فيه تَعديلًا ولا تَجريحًا. وأخرجه البَزَّار (7230) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((خالِفوا اليَهودَ وصَلُّوا في خفافِكم ونِعالِكُم؛ فإنَّهم لا يُصَلُّونَ في خفافِهم ولا في نِعالِهم)). ذَكَرَ عبدُ الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوُسطى)) (1/315) أنَّ فيه عُمَرَ بنَ نَبهانَ ضَعيفٌ، وقال الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (2/57): مَدارُ الحَديثَينِ على عُمَرَ بنِ نَبهانَ، وهو ضَعيفٌ، وقال الألبانيُّ في ((أصل صفة الصلاة)) (1/109): فيه عُمَرُ بنُ نَبهانَ، وهو ضَعيفٌ. .
وقيل فيما ظَهَرَ فيه قَصدُ القُربةِ: يُحمَلُ على الوُجوبِ [226] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/ 1762)، ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 228- 230). .
وقيل: يُحمَلُ على الإباحةِ [227] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/ 1762)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/ 122- 123). .
القِسمُ الثَّاني: ما لم يَظهَرْ فيه قَصدُ القُربةِ
اختَلف الأُصوليُّونَ في فِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُجَرَّدِ الذي لم يَظهَرْ فيه قَصدُ القُربةِ؛ فقيل: لا يَدُلُّ بعَينِه على شَيءٍ، لكِن يَجِبُ حَملُه على نَفيِ الحَرَجِ فيه عن الأُمَّةِ [228] يُنظر: ((البرهان)) (1/ 185). ويُنظر أيضًا: ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 249)، ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق (1/ 249). . ومِمَّن ذَهَبَ إليه الجُوَينيُّ [229] ((البرهان)) (1/ 185). ويُنظر أيضًا: ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 249). ، والآمِديُّ [230] ((الإحكام)) (1/ 174). ويُنظر أيضًا: ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 250). .
قال الجُوَينيُّ: (مُستَنَدُ هذا الاختيارِ إلى عِلمِنا بأنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو اختَلفوا في حَظرٍ أو إباحةٍ فنَقَل النَّاقِلُ في مَوضِعِ اختِلافِهم فِعلًا عن المُصطَفى، لفَهِموا مِنه أنَّه لا حَرَجَ على الأُمَّةِ في فِعلِه، وجاحِدُ هذا جاهلٌ بمَسالِكِ النَّقلِ فَضلًا عن المَعنى واللَّفظِ، وأمَّا ادِّعاءُ اعتِقادِهم أنَّ فِعلَه واجِبٌ على غَيرِه أو مَندوبٌ مُستَحَبٌّ، فدَعوى عَرِيَّةٌ لا تَستَنِدُ إلى قَضيَّةِ المُعجِزةِ، ولا إلى عادَتِهم، ولا إلى صِفةِ الفِعلِ) [231] ((البرهان)) (1/ 185). ويُنظر أيضًا: ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 249). .
وقال الآمِديُّ: (وما لم يَظهَر فيه قَصدُ القُربةِ فهو دَليلٌ في حَقِّه على القَدرِ المُشتَرَكِ بَينَ الواجِبِ والمَندوبِ والمُباحِ، وهو رَفعُ الحَرَجِ عن الفِعلِ لا غَيرُ، وكذلك عن أُمَّتِه) [232] ((الإحكام)) (1/ 174). ويُنظر أيضًا: ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 250). .
مِثالُه [233] يُنظر: ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 265)، ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/342). :
رَفعُ اليَدَينِ عِندَ الإحرامِ بالصَّلاةِ، وعِندَ الرُّكوعِ والرَّفعِ منه، وعِندَ القيامِ مِن الرَّكعَتَينِ [234] لفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا قامَ إلى الصَّلاةِ يُكَبِّرُ حينَ يَقومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَركَعُ، ثُمَّ يَقولُ: سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه، حينَ يَرفعُ صُلبَه مِنَ الرَّكعةِ، ثُمَّ يَقولُ وهو قائِمٌ: رَبَّنا لكَ الحَمدُ. قال عَبدُ اللهِ بنُ صالحٍ، عنِ اللَّيثِ: ولكَ الحَمدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَهوي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَرفعُ رَأسَه، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَسجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَرفعُ رَأسَه، ثُمَّ يَفعَلُ ذلك في الصَّلاةِ كُلِّها حتَّى يَقضيَها، ويُكَبِّرُ حينَ يَقومُ مِنَ الثِّنتَينِ بَعدَ الجُلوسِ)) أخرجه البخاري (789) واللَّفظُ له، ومسلم (392). ، وكنُزولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَجَّتِه بذي طوًى [235] لفظُه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَنزِلُ بذي طوًى، ويَبيتُ حتَّى يُصبحَ، يُصَلِّي الصُّبحَ حينَ يَقدَمُ مَكَّةَ، ومُصَلَّى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك على أكَمةٍ غَليظةٍ، ليسَ في المَسجِدِ الذي بُنيَ ثَمَّ، ولكِن أسفَلَ مِن ذلك على أكَمةٍ غَليظةٍ)) أخرجه البخاري (491) واللَّفظُ له، ومسلم (1259) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما. ، ومَبيتِه ليلةَ يَومِ عَرَفةَ بمِنًى [236] لفظُه: ((فحَلَّ النَّاسُ كُلُّهم وقَصَّروا إلَّا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن كان مَعَه هَديٌ، فلمَّا كان يَومُ التَّرويةِ تَوجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ، ورَكِبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصَلَّى بها الظُّهرَ والعَصرَ، والمَغرِبَ والعِشاءَ، والفَجرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَليلًا حتَّى طَلعَتِ الشَّمسُ، وأمَرَ بقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ تُضرَبُ له بنَمِرةَ)) أخرجه مسلم (1218) من حديثِ جابر بن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وقيل فيما لم يَظهَرْ فيه قَصدُ القُربةِ: يُحمَلُ على النَّدبِ [237] يُنظر: ((الحاوي)) للماوردي (16/ 100)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/ 1761)، ((المحقق)) لأبي شامة (ص: 266- 267). قال أبو شامةَ: (مُتابَعَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأفعالِ التي يَكادُ يُقطَعُ فيها بخُلوِّها مِن القُربةِ، كهَيئةِ وَضعِ أصابعِ اليَدِ اليُمنى في التَّشَهُّدِ، فتُستَحَبُّ المُحافظةُ عليها والأخذُ بها ما أمكَنَ؛ تَدريبًا للنَّفسِ الجَموحِ، وتَمرينًا لها على أخلاقِ صاحِبِ الشَّرعِ لتَعتادَ ذلك، فلا تُخِلُّ بَعدَه بشَيءٍ مِمَّا فيه قُربةٌ وإن خَفِيَت فإنَّ النَّفسَ مَهما سومِحَت في اليَسيرِ تَشَوَّقَت إلى المُسامَحةِ فيما فوقَه، فهذا ونَحوُه هو الذي يَظهَرُ لي أنَّ عَبدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما كان يُلاحِظُه ويُراقِبُه، فأخَذَ نَفسَه بالمُحافظةِ على جَميعِ آثارِه. قال نافِعٌ: "لو نَظَرتَ إلى ابنِ عُمَرَ إذا اتَّبَعَ آثارَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقُلتَ: هذا مَجنونٌ". قال أبو الحَسَنِ القاضي الماوَرْديُّ: "في هذا النَّوعِ: التَّأسِّي به أبركُ مِن المُخالَفةِ"). ((المحقق)) (ص: 266- 267). ويُنظر أيضًا: ((الحاوي)) للماوردي (16/ 100). وقال ابنُ دَقيقٍ: (لقائِلٍ أن يَقولَ: ما وقَعَ في الصَّلاةِ فالظَّاهِرُ أنَّه مِن هَيئَتِها، لا سيَّما الفِعلِ الزَّائِدِ الذي تَقتَضي الصَّلاةُ مَنعَه. وهذا قَويٌّ، إلَّا أن تَقومَ القَرينةُ على أنَّ ذلك الفِعلَ كان بسَبَبِ الكِبَرِ أو الضَّعفِ يَظهَرُ بتلك القَرينةِ أنَّ ذلك أمرٌ جِبِلِّيٌّ. فإن قَوِيَ ذلك باستِمرارِ عَمَلِ السَّلَفِ على تَركِ ذلك الجُلوسِ، فهو زيادةٌ في الرُّجحانِ). ((إحكام الأحكام)) (1/ 249). ، وهو مَنسوبٌ إلى الشَّافِعيِّ [238] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/1761). .
وقيل: يُحمَلُ على الوُجوبِ [239] يُنظر: ((البرهان)) للجويني (1/ 185)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/ 1761). ، وهو مَنسوبٌ إلى ابنِ سُرَيجٍ، وأبي سَعيدٍ الإصطَخريِّ، والحَنابلةِ [240] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/ 1763). ويُنظر أيضًا: ((العدة)) لأبي يعلى (3/ 749)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/32). .
وقيل بالتَّوقُّفِ: وهو قَولُ جُمهورِ المُحَقِّقينَ مِن الشَّافِعيَّةِ، كالصَّيرَفيِّ [241] يُنظر: ((التلخيص)) للجويني (2/ 232)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (5/ 1763)، ((البحر المحيط)) للزركشي (6/34). .