المَسألةُ الأولى: تَعريفُ التَّركِ
أوَّلًا: تَعريفُ التَّركِ لُغةًالتَّركُ لُغةً: مَصدَرُ الفِعلِ تَرَكَ، يُقالُ: تَرَكتُ الشَّيءَ تَركًا: خَليَّتُه، ومِنه: تَرِكةُ الرَّجُلِ المَيِّتِ، وهو ما يُخَلِّفُه بَعدَ المَوتِ، ومِنه امرَأةٌ تَريكةٌ، أي: مَتروكةٌ فلا تَتَزَوَّجُ
[291] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/ 133)، ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 606)، ((تاج العروس)) للزبيدي (27/ 91). .
قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (تَرَكَ الشَّيءَ: رَفضَه قَصدًا واختيارًا، أو قَهرًا واضطِرارًا؛ فمِن الأوَّلِ:
وَتَرَكْنَا بَعْضَهمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعضٍ [الكهف: 99] ، وقَولُه:
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا [الدخان: 24] ، ومِن الثَّاني:
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: 25] ، ومِنه: تَرِكةُ فُلانٍ: لِما يُخَلِّفُه بَعدَ مَوتِه، وقد يُقالُ في كُلِّ فِعلٍ يَنتَهي به إلى حالةٍ ما: تَرَكتُه كَذا، أو يَجري مَجرى: جَعَلتُه كَذا، نَحو: تَرَكتُ فُلانًا وحيدًا)
[292] ((المفردات)) (ص: 166). ويُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 298). .
ثانيًا: تَعريفُ التَّركِ اصطِلاحًاالتَّركُ اصطِلاحًا: هو عَدَمُ فِعلِ المَقدورِ
[293] يُنظر: ((المواقف)) للإيجي (2/ 162)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 298)، ((سنة الترك)) للجيزاني (ص: 23)، ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 48- 55). .
وقيل: كَفُّ النَّفسِ عن إيقاعِ الفِعلِ
[294] يُنظر: ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (2/ 223، و254)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/ 179)، ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (11/ 198). .
شَرحُ التَّعريفِ المُختارِ وبَيانُ مُحتَرَزاتِه:- عِبارةُ "عَدَمُ فِعلِ المَقدورِ" تَعني: عَدَمَ فِعلِ ما يَقدِرُ عليه، سَواءٌ كان كفًّا أو استِمرارًا للعَدَمِ الأصليِّ، فكِلاهما يُطلَقُ عليه تَركٌ، فلا يُشتَرَطُ في التَّركِ هنا القَصدُ، ولا يُشتَرَطُ التَّعَرُّضُ للضِّدِّ، بَل هو مُجَرَّدُ عَدَمِ الفِعلِ على أيِّ وجهٍ كان ما دامَ أنَّ الفِعلَ مَقدورٌ عليه
[295] يُنظر: ((المواقف)) للإيجي (2/ 162)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 298)، ((سنة الترك)) للجيزاني (ص: 23)، ((التروك النبوية)) للإتربي (ص: 48- 55). .
- كَلمةُ "المَقدورِ": احتِرازٌ مِمَّا لا قُدرةَ عليه، فلا يُسَمَّى تَركًا؛ ولذلك لا يُقالُ: تَرَكَ فلانٌ خَلقَ الأجسامِ
[296] يُنظر: ((سنة الترك)) للجيزاني (ص: 23). .
مَفهومُ تَركِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (السُّنَّةِ التَّركيَّةِ):بناءً على ما تَقدَّمَ ذِكرُه، فإنَّ المُرادَ بتَركِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو: (ما تَرَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلَه مَعَ وُجودِ مُقتَضيه؛ بَيانًا لأُمَّتِه)
[297] يُنظر: ((سنة الترك)) للجيزاني (ص: 38). .
وقيل: (الأفعالُ التي أعرَضَ عن فِعلِها مَعَ قُدرَتِه على الفِعلِ، كإعراضِه عن الاحتِفالِ بميلادِه، وإعراضِه عن المواظَبةِ على صَلاةِ التَّراويحِ جَماعةً)
[298] يُنظر: ((دليل الترك بين المحدثين والأصوليين)) لأحمد كافي (ص: 32). .
شَرحُ التَّعريفِ وبَيانُ مُحتَرَزاتِه [299] ((سنة الترك)) للجيزاني (ص: 38- 42). :- "ما تَرَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلَه": أي أن يَكونَ هذا الأمرُ المَتروكُ مِن قَبيلِ الأفعالِ؛ فالسُّنَّةُ التَّركيَّة مَخصوصةٌ بتَركِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للفِعلِ دونَ تَركِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للقَولِ. وبهذا القَيدِ يُحتَرَزُ مِن السُّنَّةِ التَّقريريَّةِ؛ فإنَّها مِن قَبيلِ السُّكوتِ، وذلك تَركُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للقَولِ.
- "مَعَ وُجودِ مُقتَضيه": يَخرُجُ ما تَرَكَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَدَمِ وُجودِ ما يَقتَضيه؛ فإنَّ هذا النَّوعَ مِن التَّركِ لم يوجَدْ مَعَه القَصدُ إلى التَّركِ، كتَركِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإتيانَ بالمُستَجَدَّاتِ الواقِعةِ بَعدَ عَصرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كتَركِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دُخولَ الحَمَّاماتِ، وذلك أنَّ هذه الحَمَّاماتِ لم تَكُنْ مَعروفةً ولا مُتَوافِرةَ في بلادِ المُسلمينَ قَبلَ الفُتوحاتِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (ليسَ لأحَدٍ أن يَحتَجَّ على كراهةِ دُخولِها أو عَدَمِ استِحبابِه بكَونِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَدخُلْها ولا أبو بَكرٍ وعُمَرُ؛ فإنَّ هذا إنَّما يَكونُ حُجَّةً لو امتَنَعوا مِن دُخولِ الحَمَّامِ وقَصَدوا اجتِنابَها، أو أمكَنَهم دُخولُها فلم يَدخُلوها، وقد عُلمَ أنَّه لم يَكُنْ في بلادِهم حينَئِذٍ حَمَّامٌ؛ فليسَ إضافةُ عَدَمِ الدُّخولِ إلى وُجودِ مانِعِ الكَراهةِ أو عَدَمِ ما يَقتَضي الاستِحبابَ بأَولى مِن إضافتِه إلى فواتِ شَرطِ الدُّخولِ، وهو القُدرةُ والإمكانُ)
[300] ((مجموع الفتاوى)) (21/ 314). .
وقال أيضًا: (تَركُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعَ وُجودِ ما يُعتَقَدُ مُقتَضيًا، وزَوالِ المانِعِ: سُنَّةٌ، كما أنَّ فِعلَه سُنَّةٌ. فلمَّا أمَرَ بالأذانِ في الجُمُعةِ، وصَلَّى العيدَينِ بلا أذانٍ ولا إقامةٍ، كان تَركُ الأذانِ فيهما سُنَّةً، فليسَ لأحَدٍ أن يَزيدَ في ذلك، بَل الزِّيادةُ في ذلك كالزِّيادةِ في أعدادِ الصَّلواتِ أو أعدادِ الرَّكَعاتِ، أو صيامِ الشَّهرِ، أو الحَجِّ؛ فإنَّ رَجُلًا لو أحَبَّ أن يُصَلِّيَ الظُّهرَ خَمسَ رَكَعاتٍ وقال: هذا زيادةُ عَمَلٍ صالحٍ، لم يَكُنْ له ذلك. وكذلك لو أرادَ أن يَنصِبَ مَكانًا آخَرَ يَقصِدُ لدُعاءِ اللهِ فيه وذِكرِه، لم يَكُنْ له ذلك، وليسَ له أن يَقولَ: هذه بدعةٌ حَسَنةٌ، بَل يُقالُ له: كُلُّ بدعةٍ ضَلالةٌ.
ونَحنُ نَعلمُ أنَّ هذا ضَلالةٌ قَبلَ أن نَعلمَ نَهيًا خاصًّا عنها، أو نَعلَمَ ما فيها مِن المَفسَدةِ. فهذا مِثالٌ لِما حَدَثَ مَعَ قيامِ المُقتَضي له وزَوالِ المانِعِ لو كان خَيرًا)
[301] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/ 103). .
- "بَيانًا لأُمَّتِه": أي: أن يَقَعَ هذا التَّركُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على وَجهِ التَّشريعِ والبَيانِ؛ فيَترُكُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلَ الشَّيءِ ليُبَيِّنَ لأُمَّتِه أنَّ المَشروعَ في هذا الشَّيءِ تَركُه وعَدَمُ فِعلِه.
وبهذا القَيدِ خَرَجَ ما تَرَكَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا على وَجهِ التَّشريعِ، وإنَّما تَرَكَه مِن أجلِ قيامِ مانِعٍ مِن المَوانِعِ: إمَّا لمانِعٍ جِبلِّيٍّ، كتَركِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكلَ الضَّبِّ
[302] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((أهدَت أُمُّ حُفيدٍ خالةُ ابنِ عبَّاسٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقِطًا وسَمنًا وأضُبًّا، فأكَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الأقِطِ والسَّمنِ، وتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرًا، قال ابنُ عبَّاسٍ: فأُكِل على مائِدةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو كان حَرامًا ما أُكِل على مائِدةِ رَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) أخرجه البخاري (2575) واللَّفظُ له، ومسلم (1947). ، أو تَأليفًا للقُلوبِ، كتَركِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَقضَ الكَعبةِ وبناءَها على قَواعِدِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ
[303] لفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لها: يا عائِشةُ، لولا أنَّ قَومَكِ حَديثُ عَهدٍ بجاهليَّةٍ، لأمَرتُ بالبَيتِ فهُدِمَ، فأدخَلتُ فيه ما أُخرِجَ مِنه، وألزَقتُه بالأرضِ، وجَعَلتُ له بابَينِ: بابًا شَرقيًّا، وبابًا غَربيًّا، فبَلغتُ به أساسَ إبراهيمَ)). أخرجه البخاري (1586) واللَّفظُ له، ومسلم (1333). ، أو لغَيرِ ذلك مِن الأسبابِ، فلا يكونُ سُنَّةً إلَّا بالقيدِ الذي تقيَّدَ به.
وخَرَجَ بهذا تَركُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلَ أمرٍ مِن الأُمورِ الدُّنيَويَّةِ المَحضةِ؛ فإنَّ هذا التَّركَ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما يَقَعُ مِن جِهةِ كونِه بَشَرًا، والأصلُ في ذلك الإباحةُ.